تفسير سفر دانيال ٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث

الثلاثة فتية في الأتون

تحدث الله مع نبوخذنصَّر خلال لغة الأحلام التي يؤمن بها، فقد انزعجت روحه (دا 2: 3). وقام دانيال بتفسيره له محذرًا إياه من الكبرياء، إذ صار كرأسٍ ذهبيٍ (دا 2: 8) لتمثال معدني ينتهي بالتحطيم. خرّ الملك أمام دانيال وشهد لله إله الآلهة ورب الملوك (دا 2: 46-47)، لكن سرعان ما نسي الملك هذا كله، وأقام تمثالاً غالبًا لشخصه هو، ليس رأسه ذهبيًا، وإنما التمثال كله من الذهب (تمثال من الخشب أو المعدن المطلي بطبقة من الذهب)، وطلب أن يسجد الكل له، وإلاَّ تعرض الممتنعون لحرقهم في أتون نار متقدة (دا 3: 6).

كان قلب نبوخذنصَّر أشبه بالأرض المملوءة أشواكًا، فقد سمع تفسير الحلم بواسطة دانيال ومجد الله، وقدم دانيال على جميع حكماء بابل، كما عيَّن أصدقاءه الثلاثة على أعمال ولاية بابل، ومع هذا سرعان ما خنق الشوك الكلمة.

  1. إقامة تمثال ذهب                  [1-7].
  2. شكوى ضد الثلاثة فتية            [8-12].
  3. حوار مع نبوخذنصَّر               [13-18].
  4. الفتية في الأتون                  [19-23].
  5. خلاص الفتية                      [24-30].
  6. تسبحة الثلاثة فتية.
  7. إقامة تمثال ذهب:

 “نبوخذنصَّر الملك صنع تمثالاً من ذهب، طوله ستُّون ذراعًا وعرضه ست أذرع،

ونصبه في بقعة دورا في ولاية بابل” [1].

يرى بعض الحاخامات أن نبوخذنصَّر أراد أن يزيل أثر الحلم على الشعب في كل مملكته، إذ شعر أن كثيرين مجدوا إله إسرائيل، لذلك أقام هذا التمثال ليشغل أذهان الناس. هل كان هذا التمثال لشخص نبوخذنصَّر ليقيم نفسه في مصاف الآلهة أم للإله بعل، الإله الرئيسي للدولة، أم لإله جديد؟ لم يذكر دانيال النبي. لكن الرأي الغالب أنه أراد تأليه ذاته. فإن كان قد اتضع إلى حين أمام دانيال النبي، سرعان ما ثار فيه حب المجد الباطل والكبرياء.

ربما خشي الملك بعد انتشار موضوع حلمه أن يثير اليهود الأمم ألاَّ يعبدوا آلهة الملك، لذا أقام الملك هذا التمثال كاختبار لكل الشعوب التي سباها إن كانت خاضعة له ولعبادته أم لا. لقد نصبه في سهل دورا أو في المدينة المفتوحة.

بسبب ضخامة التمثال ظن بعض النقاد أن القصة غير تاريخية. لكن يُرد على ذلك بأنه ليس من الضروري أن يكون التمثال كله من الذهب الخالص، إنما مغطى بالذهب. وأن أبعاد التمثال تحوي القاعدة الضخمة التي عليها التمثال.

“ثم أرسل نبوخذنصَّر الملك ليجمع المرازبة والشحن والولاة والقضاة والخزنة، والفقهاء والمُفتين وكل حُكام الولايات، ليأتوا لتدشين التمثال الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك.

حينئذ اجتمع المرازبة والشحن والولاة والقضاة والخزنة، والفقهاء والمُفتون وكل حكماء الولايات لتدشين التمثال الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك،

ووقفوا أمام التمثال الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك ونادى مُنادٍ بشدةٍ:

قد أُمرتم أيها الشعوب والأمم والألسنة عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير والمزمار وكل أنواع العزف أن تخرُّوا وتسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك.

ومن لا يخر ويسجد ففي تلك الساعة يُلقى في وسط أتون نارٍ متقدة.

لأجل ذلك وقتما سمع كل الشعوب صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير وكل أنواع العزف خرّ كل الشعوب والأمم والألسنة وسجدوا لتمثال الذهب الذي نصبه نبوخذنصَّر الملك” [2-7].

كانت أبعاد التمثال تُشير إلى النقص، فنحن نعلم أن رقم 7 يُشير إلى الكمال، بينما رقم 8 يُشير إلى ما بعد الكمال الزمني (لأن الزمن يتكون من 7 أيام الأسبوع)، وكأن رقم 8 يعني تعدي الزمن، وقد قام السيِّد المسيح في اليوم الأول من الأسبوع الجديد، أو الثامن من الأسبوع السابق. أما رقم 6 فيُشير إلى النقص لهذا فإن اسم الدجال 666 (رؤ 13: 13-18)، أي النقص الأكيد. والتمثال هنا طوله ستُّون ذراعًا وعرضه ست أذرع [1].

استخدم نبوخذنصَّر كل وسيلة لكي يتعبد الكل لتمثاله. استخدم الجيش مع العظماء يتقدمون الصفوف لكي يرهب عامة الشعب، كما استخدم كل أنواع الموسيقى في ذلك الحين لإثارة المشاعر. هكذا في كل جيل يستخدم عدو الخير كل وسيلة ليسحبنا إلى التعبُّد له بوسيلة أو أخرى، أو ينحرف بالبشر نحو طريق الخطية، واعتبار الحياة المقدسة حياة عصيان على المجتمع.

سجدت الشعوب للتمثال، سواء كان للبعل أو للملك أو لإله آخر، ليس بروح التقوى وإنما بناء على أمر الملك، الذي هدد لا بالموت فحسب بل وبالتعذيب، حيث يُلقى العصاة في أتون نارٍ.

  1. شكوى ضد الثلاثة فتية:

تحدث الأشرار مع الملك بتملُّقٍ ورياءِ، ناسبين للفتية الأمناء الأتقياء الجحود والعصيان للملك وأوامره، أما الفتيان فتعلموا أنه ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس (أع 5: 29).

“لأجل ذلك تَقدَّم حينئذٍ رجال كلدانيُّون واشتكوا على اليهود.

أجابوا وقالوا للملك نبوخذنصَّر:

أيُّها الملك عش إلى الأبد.

أنت أيُّها الملك قد أصدرت أمرًا بأن كل إنسان يسمع صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير والمزمار وكل أنواع العزف يخرّ ويسجد لتمثال الذهب.

من لا يخُر ويسجد يُلقى في وسط أتون نارٍ متقدةٍ.

وجد رجال يهود الذين وكَّلْتهم على أعمال ولاية بابل شدرخ وميشخ وعبدنغو.

هؤلاء الرجال لم يجعلوا لك أيها الملك اعتبارًا.

آلهتك لا يعبدون ولتمثال الذهب الذي نصبت لا يسجدون” [8-12].

يلاحظ هنا استخدام بعض آلات موسيقية يونانيَّة، فقد أثرت الثقافة اليونانيَّة على المنطقة، وذلك بانتشار التجار اليونان ووجود مستعمرات يونانيَّة قبل قيام الإمبراطورية اليونانيَّة.

واضح من النص أن تحركات الفتية كانت تحت رقابة شديدة، خاصة بعد صدور الأمر بالتعبُّد للتمثال. ربما بعض مشيري الملك أخبروه بأن هؤلاء الغريبي الجنس لا يشتركون مع بقية رجال القصر في الطقوس الدينية البابلية، هؤلاء الذين رفعهم الملك من العبودية لاحتلال مراكز كبيرة في الدولة. فبسبب الحسد وُجه الاتهام لهؤلاء الأتقياء أنهم جاحدون وعصاة وغير متعبدين للآلهة.

لا نعجب إن تقدم الكلدانيُّون الذين أنقذهم دانيال ورفقاؤه الثلاثة من موت محقق (دا 2: 2)، إلى الملك يشتكون من خلصهم لكي يُلقي بالثلاثة فتية في أتون النار، وهكذا يردُّون لهم الحب بالكراهية، والإحسان بالحسد والرغبة في التخلص منهم. فالجحود هو طبيعة الإنسان الساقط، والاضطهاد هي سمة الأشرار، يضايقون الأبرار بلا سبب.

يقول القدِّيس أكليمنضس الروماني: [إنكم لا تجدون في الكتب المقدسة صديقين يطردهم قديسون. حقًا نجد فيها صديقين اُضطهدوا بواسطة أشرار، وصالحين سجنهم أشقياء، وأبرارًا رجمهم عصاة وقتلهم أناس مغضوب عليهم، حملوا لهم حسدًا وغيظًا؛ أما هم فتحملوا مثل هذه الآلام بمجد. ماذا أقول يا اخوة؟ هل أُلقى دانيال في جب الأسود بواسطة رجال يخافون الله؟! هل أُلقى حنانيا وعزرا وميصائيل في أتون النار بواسطة أناس عبدوا العليّ بطريقة مجيدة وعظيمة؟! حاشا أن يكون لنا هذا الفكر![84]].

  1. حوار مع نبوخذنصَّر:

“حينئذٍ أمر نبوخذنصَّر بغضبٍ وغيظٍ بإحضار شدرخ وميشخ وعبدنغو.

أتوا بهؤلاء الرجال قُدام الملك.

أجاب نبوخذنصَّر وقال لهم:

تعمدَّا يا شدرخ وميشخ وعبدنغو لا تعبدون آلهتي ولا تسجدون لتمثال الذهب الذي نصبت.

إن كنتم الآن مُستعدين عندما تسمعون صوت القرن والناي والعود والرباب والسنطير والمزمار وكل أنواع العزف إلى أن تَخُرُّوا وتسجدوا للتمثال الذي عملته.

إن لم تسجدوا ففي تلك الساعة تُلقون في وسط أتون النار المتقدة.

من هو الإله الذي يُنقذكم من يدي؟” [13-15].

ليس شيء يثير أصحاب السلاطين مثل الشعور بأن سلطانهم مُحتقر. أنهم يطلبون طاعة الكل لأوامرهم حتى وإن كانت غير عادلة.

إذ هدأ قليلاً أعطاهم فرصة أخيرة لإنقاذ حياتهم، إن سجدوا للتمثال مرة واحدة!

ما يشغله ليس السجود للتمثال أم عدمه بل تحديهم لسلطانه، لهذا سخر بإلههم، وانه لا يقدر أن يخلصهم من يده.

“فأجاب شدرخ وميشخ وعبدنغو وقالوا للملك:

يا نبوخذنصَّر لا يلزمنا أن نُجيبك عن هذا.

هوذا يوجد إلهنا الذي نعبدهُ يستطيع أن يُنجينا من أتون النار المتقدة، وأن يُنقذنا من يدك أيها الملك.

وإلاَّ فليكن معلومًا لك أيها الملك أننا لا نعبد آلهتك ولا نسجد لتمثال الذهب الذي نصبتهُ” [16-18].   

يتحدث العلامة ترتليان عن الطاعة للملوك والرؤساء (رو 13: 1؛ 1 بط 2: 13-14) في كل شيء فيما عدا ما يمس الإيمان، قائلاً: [لهذا السبب أيضًا وُضع الثلاثة اخوة كمثالٍ سابق لنا، هؤلاء الذين كانوا مطيعين لنبوخذنصَّر في الأمور الأخرى، وبكل إصرار رفضوا تكريم التمثال[85]].

كان يمكن للفتية أن يجدوا لهم أعذارًا يبررون بها السجود للتمثال منها:

أ. كانوا صغارًا في السن، ومسبيِّين.

ب. كانوا تحت سلطان ملكٍ عنيف.

ج. كان الملك صاحب سلطان مطلق، خاصة عليهم كأسرى حرب. مطلوب منهم السجود ولو مرة واحدة دون منعهم من عبادة الله.

د. قدمت كل أنواع الموسيقى للتأثير عليهم.

هـ. دخل الملك نفسه الذي وهبهم النعم التي يعيشون فيها في القصر معهم في الحوار وصار يهددهم.

و. كانوا في أرض غريبة، معرضين بسهولة للاتهام. وفي الغربة ما أسهل تطبيق المثل القائل: “حينما تكون في روما اصنع ما يفعله الرومان When in Rome do as the Romans do.

ز. عبد سلفاؤهم في أورشليم وكل يهوذا وإسرائيل الأوثان حتى في داخل هيكل الرب عينه، كما جاء في إرميا وحزقيال، ودون ضغط خارجي بينما أصر هؤلاء الغرباء ألاَّ يسجدوا لتمثالٍ في أرض غريبة.

ح. برفضهم السجود للأوثان يتعرضون للموت فيفقدون كل فرصة للقيام بأي دور للعمل لحساب شعبهم. هذا مقياس بشري بحت رفضه الشبان بروح الإيمان، واثقين في الله الذي يعمل لخيرهم وقادر أن ينقذهم إن شاء ذلك.

كان الأتون من الطوب الأحمر له فوهة من فوق، كما كان له باب جانبي من خلاله رأى الملك الفتية ومعهم الشبيه بابن الآلهة.

في الحوار تحدى الملك نبوخذنصَّر إلههم، أما هم فتحدوا الموت من أجل أمانتهم لله. لقد آمنوا أن إلههم قادر أن يُخلصهم، وإن لم يخلصهم من النار الزمنية فلا يعني هذا خيانتهم له. لم يبالوا بتهديدات الملك معتمدين في مثابرتهم على إيمانهم الحيّ:

أ. آمنوا أن الله قادر أن يخلصهم، وهو الحارس لحياتهم، وأنه لن يسمح بموتهم إن كان في ذلك نفع لهم.

ب. آمنوا أنه إن سمح لهم بالموت يقبلون ذلك بشجاعة، مقدمين حياتهم ذبيحة حب لله.

بهذا يُحسب هؤلاء الفتية شهداء، لأنهم شهدوا للحق الإلهي، مقدمين حياتهم ثمنًا للشهادة، بغض النظر إن كانوا يقتلون أو ينقذهم الرب من الموت. وكما يقول القدِّيس أغسطينوس إن الاستشهاد لا يتحقق بوسيلة الموت، وإنما بحالة المؤمن. فالاستشهاد يقوم على مبدأين: الأول الإيمان بالله كحافظ لحياتنا وقائدها إلى حيث يريد، والثاني انفتاح باب في السماء أمام أعيننا لنرى المجد المُعد لنا، متطلعين إلى حياتنا هنا كفترة عبور مؤقتة.

v   تطلعوا إلى إيمانهم! أنهم يقولون: إننا نؤمن أنه قادر أن يُخلصنا، ولكن إن منعته خطايانا فإننا نؤمن بالذي لا يُريد أن يسلمنا (للموت الأبدي). لسنا نؤمن بهذه الحياة بل بالحياة العتيدة. ولسنا نؤمن به لكي نهرب من الحرق هنا، وإنما لكي لا نهرب من العبور من هذه النار فنسقط في نارٍ أخرى. إذن لتفعل ما تريد، أعدد أتونك، بحرارته هذه وبناره، فإنه لتنقيتنا[86].

القدِّيس جيروم

ربما يتساءل البعض: لماذا لم يُشتكَ ضدّ دانيال أنه لم يسجد للتمثال؟

 الإجابة على ذلك هي:

 أولاً: ربما كان دانيال في إرسالية خارج المنطقة.

ثانيًا: ربما خشي المشتكون أن يقف الملك ضدهم، لأنهم يعلمون تقديره لدانيال، وكيف سجد له، لذلك أرادوا التركيز على الثلاثة فتية بكونهم معينين لدانيال، ولعلهم كان في خطتهم أن يشتكونه بعد الخلاص من هؤلاء الفتية.

ثالثًا: ربما لم يُطلب من دانيال ذلك، لأن الملك شعر بأن دانيال نفسه ينبغي له السجود، فهو أعظم من التمثال أو في درجته.

  1. إلقاء الفتية في الأتون:

“حينئذٍ امتلأ نبوخذنصَّر غيظًا،

وتغيَّر منظر وجههُ على شدرخ وميشخ وعبدنغو.

فأجاب وأمر بأن يُحموا الأتون سبعة أضعاف أكثر مما كان معتادًا أن يُحمى.

وأمر جبابرة القوة في جيشه بأن يُوثقوا شدرخ وميشخ وعبدنغو ويلقوهم في أتون النار المتقدة.

ثم أُوثق هؤلاء الرجال في سراويلهم وأقمصتهم وأرديتهم ولباسهم، وأُلقوا في وسط أتون النار المتقدةِ.

ومن حيث إن كلمة الملك شديدة والأتون قد حُمى جدًا قَتَلَ لهيب النار الرجال الذين رفعوا شدرخ وميشخ وعبدنغو.

وهؤلاء الثلاثة الرجال شدرخ وميشخ وعبدنغو سقطوا مُوثقين في أتون النار المتقدة” [19-23].

اُلقوا في الأتون من الفوهة العليا.

بتطلعهم إلى النار الأبدية لم يخافوا النار الزمنية ولا رهبوا الموت (لو 12: 4-5). إذ ماذا فعلت بهم نيران الاضطهاد؟

أ. ظهر كلمة الله (شبيه بابن الآلهة)، هذا الذي كان في داخلهم، ظهر ليحتضنهم ويحميهم.

ب. حلَّت النيران القيود، لكنها لم تستطع أن تمس شعرة من جسمهم أو طرف ثوبٍ لهم.

ج. اعترف الملك بإلههم المخلص لمؤمنيه، وكرمهم في ولاية بابل [30].

يرى القدِّيس يوحنا كاسيان أن ملك بابل هنا يُشير إلى الشيطان الذي يثير في داخلنا أتون نار الشهوات خلال النهم.

v     إذ نُحفظ بغيرة الذهن هذه، والندامة المستمرة، نضرب شهوات الجسد الخطيرة بحرمانه (من الأطعمة التي تثيره نحو العجرفة والكبرياء)؛ وهكذا ننجح بغزارة دموعنا وبكاء قلوبنا في إطفاء لهيب أتون جسدنا الذي يشعله الملك البابلي (3: 6)، والذي يمده باستمرار بفرص الخطية والرذائل المدمرة. بهذا يمكننا بنعمة الله أن يحلّ الندى في قلوبنا بروحه، ويمكن لحرارة الشهوات الجسدية أن تُباد تمامًا[87].

القدِّيس يوحنا كاسيان

  1. خلاص الفتية:

“حينئذٍ تحيَّر نبوخذنصَّر الملك، وقام مُسرعًا، فأجاب وقال لمُشيريه:

ألم نُلقِ ثلاثة رجال مُوثقين في وسط النار؟

فأجابوا وقالوا للملك: صحيح أيها الملك.

أجاب وقال: ها أنا ناظر أربعة رجال محلولين يتمشون في وسط النار ومابهم ضرر،

ومنظر الرابع شبيه بابن الآلهة.

ثم اقترب نبوخذنصَّر إلي باب أتون النار المتقدة وأجاب فقال:

يا شدرخ وميشخ وعبدنغو، يا عبيد الله العلي، اُخرجوا وتعالوا.

فخرج شدرخ وميشخ وعبدنغو من وسط النار.

فاجتمعت المرازبة والشحن والولاة ومشيرو الملك ورأوا هؤلاء الرجال الذين لم تكن للنار قوة على أجسامهم، وشعرة من رؤوسهم لم تحترق، وسراويلهم لم تتغيَّر، ورائحة النار لم تأتِ عليهم.

فأجاب نبوخذنصَّر وقال:

تبارك إله شدرخ وميشخ وعبدنغو الذي أرسل ملاكه وأنقذ عبيده الذين اتكلوا عليه، وغيَّروا كلمة الملك، وأسلموا أجسادهم لكيلا يعبدوا أو يسجدوا لإله غير إلههم.

فمنيَّ قد صدرَ أمر بأن كل شعبٍ وأمةٍ ولسانٍ يتكلَّمون بالسوء على إله شدرخ وميشخ وعبدنغو فإنهم يصيرون إربًا إربًا، وتجعل بيوتهم مزبلة، إذ ليس إله آخر يستطيع أن يُنجي هكذا.

حينئذٍ قدم الملك شدرخ وميشخ وعبدنغو في ولاية بابل” [24-30].         

كان للأتون باب جانبي، وقف عنده الملك من بعيد ليراهم وهم يُلقون، الواحد تلو الآخر، وينظرهم وهم يحترقون. لكن ماذا رأى؟

أولاً: زكتهم النيران في عينيْ الله وعينيْ الملك، فظهر شبيه بابن الله يمجدهَم.

ثانيًا: حلَّت النيران القيود الحديدية ولم تؤثر في ثياب الفتية.

ثالثًا: بينما مات بعضًا من الجند الذين ألقوا الفتية بسبب شدة الحرارة كان الفتية يتمشون.

رابعًا: تحولت النيران إلى ندى، وربما اشتهى الملك أن يتمتع بما يتمتعون به، لكنه لم يستطع الدخول إليهم، إنما ناداهم ليخرجوا إليه.

لم يخرج الفتية من الأتون بل كانوا يتمشون، حتى صدر لهم الأمر من الملك. أنهم مطيعون له في الرب.

لقد عرف الكلدانيُّون قصة إلقاء الثلاثة فتية في الأتون. لقد صاروا شهادة حية، في ولايات بابل أمام الكل، عن الله مخلص أتقيائه وقوة الالتجاء إليه. ولكن ماذا فعل الملك بخصوص أبديته؟!

v   (بالصلاة) تأهل حنانيا وعزاريا وميشائيل أن يُسمع لهم، وأن يُحصنوا بهبوب ريحٍ يقدم ندى، ويمنع تأثير لهيب النار عليهم. وكُممت أفواه الأسود في جب البابليِّين بصلوات دانيال[88].

v   نزل حنانيا ورفقاؤه إلى بركة روحية توهب لجميع القدِّيسين والتي نطق بها اسحق عندما قال ليعقوب: “ليعطك الله ندى من السماء” (تك 27: 28)، أعظم من الندى المادي الذي أطفأ لهيب نبوخذنصَّر؟![89]

v   الآن أيضًا ينطق نبوخذنصَّر بنفس الكلمات التي لنا فإننا نحن العبرانيون الحقيقيون عبرانيو الحياة العتيدة (عب 11: 13)، نختبر الندى السماوي الذي يطفئ كل النيران عنا وبنفس الجانب الأسمى لنفوسنا نقتدي بهؤلاء الفتية[90].

العلامة أوريجينوس

v   حقًا اُستخدمت الصلاة في العالم القديم لتحرر من النيران (دا 3)، ومن الوحوش (دا 6)، ومن المجاعة (1 مل 18؛ يع 5: 17-18)؛ ومع ذلك لم تكن قد نالت شكلها من المسيح. كم بالأكثر يكون عمل الصلاة المسيحية أعظم؟![91]

 العلامة ترتليان

v   صار هؤلاء الفتية الثلاثة مثالاً لكل المؤمنين، فإنهم لم يخافوا جمهور الولاة، ولا ارتعبوا عند سماعهم كلمات الملك ولا انقبضوا عندما رأوا لهيب الآتون يتوهج، بل حسبوا كل البشر والعالم أجمع كلا شيء، محتفظين بخوف الله وحده أمام عيونهم.

إن كان دانيال قد وقف بعيدًا في صمت، لكنه شجعهم ليكونوا متهللين، صالحين، وابتسم لهم. بل هو نفسه ابتهج من أجل الشهادة التي حملوها، والفهم الذي صار لهم كما صار له، لكي ينال الفتية الثلاثة إكليل النصرة على الشيطان[92].

v   دعي (الملك) الثلاثة فتية بأسمائهم، لكنه لم يجد اسمًا للرابع ليدعوه به، لأنه لم يكن بعد (قد تجسد)، وصار يسوع المولود من العذراء[93].

v   لقد كُرِّموا ليس فقط بواسطة الله بل وبواسطة الملك.   لقد علموا الأمم الغريبة والأجنبية أن يعبدوا الله[94].        

القدِّيس هيبوليتس الروماني

v   عندما أُغلق عليهم الأتون هربت النيران، وقدم اللهيب انتعاشًا، وكان الرب حاضرًا معهم، مؤكدًا أنه ليست قوة تقف ضد المعترفين به وشهدائه، فإن الذين يتكلون على الله لا يصيبهم أذى، بل يكونوا دائمًا في أمان من المخاطر[95].

v   لقد أضافوا أن الله قادر على كل شيء، لكنهم لم يتكلموا هكذا من أجل طلب إنقاذٍ زمني، بل للتمتع بمجد الحرية الأبدية والضمان الأبدي[96].

v   بقولهم “إن لم يكن…” يُعرفون الملك أنهم قادرون أيضًا على الموت من أجل الله الذي يعبدونه. فإن هذه هي قوة الشجاعة والإيمان. ومع الإيمان ومعرفة قدرة الله على الإنقاذ من الموت الحاضر لا تعني الخوف من الموت ولا الهروب منه. بهذا يتزكى الإيمان بأكثر قوة[97].

v   كان الفتية الثلاثة حنانيا وعزريا وميشائيل متساوين في العمر، متفقين في الحب، ثابتين في الإيمان، مثابرين في الفضيلة، أقوى من اللَّهب والعقوبات التي وُضعت عليهم، يعلنون أنهم يطيعون الله وحده، ويعرفونه ويعبدونه وحده[98].

 القدِّيس كبريانوس

v   أظهر الثلاثة فتية القدِّيسون أنفسهم أسمى من ملذات الشهوة، واحتقروا غضب الملك، واتسموا بشجاعة بلا خوف من أهوال أتون النار الذي أمر نبوخذنصَّر بإيقاده. لقد برهنوا أن التمثال الذهبي المعبود كإله بلا نفع[99]

v   كيف انتصر الثلاثة فتية على قوة النار؟ ألم يكن بالمثابرة ؟[100]

القدِّيس باسيليوس الكبير

v   اشتهر الثلاثة فتية في بابل بواسطة النيران[101].

القدِّيس أغسطينوس

اجتمع العظماء، غالبًا الذين اشتكوا ضد الفتية، لكنهم قبل مناقشة الأمر فيما بينهم لعلهم يجدون ما يبرِّرون به وشايتهم أصدر الملك قراره بإبادة كل من يقف ضد إلههم، مقدمًا لهم كرامات زمنية أيضًا. لكنه لم يشجب العبادة الوثنية ولا تخلى عنها. لقد خلط بين تكريمه لله الحيّ وبين العبادة الوثنية ورجاساتها. لم يهتم أن يسأل عن ذاك الذي كان مع الثلاثة فتية في الأتون ليرتبط به ويتمتع به.

  1. تسبحة الثلاثة فتية:

حينئذ أخذ الثلاثة بفم واحد يسبحون الله ويمجدونه ويباركونه في الأتون. سنتحدث عن هذه التسبحة الرائعة التي تستخدمها الكنيسة يوميًا عندما نتحدث عن الأسفار القانونية الثانية إن شاء الرب.

v   الله في موقعه حتى الآن، إنه في وسطنا، الذي من القديم جعل نار الأتون في بابل بردًا[102].

 القدِّيس باسيليوس الكبير

v   كان الفتية الثلاثة صدِّيقين، صرخوا إلى الرب وهم في الأتون، وإذ سبحوا صارت النار بردًا. لم يستطع اللهيب أن يقترب ليؤذي الفتية الأبرياء المستقيمين إذ سبحوا الله، وهو نجاهم من اللَّهيب[103].

v   واضح أنه لم يترك الثلاثة فتية الذين سبحوا في الأتون، لم تستطع النيران أن تمسهم[104].

القدِّيس أغسطينوس

 

من وحي دانيال 3

لأتمشى معك في وسط الأتون!

v   لتتقد النيران، وليتوهج اللهب، وليزمجر العدو،

مادمت في داخلي لا أرتعب!

تحول النيران إلى ندى!

عوض الأنين تتحول حياتي إلى تسبحة!

لتتجلى في أعماقي، ولتتمجد في ضعفي يا إله المستحيلات!

لتعلن ذاتك لأجل خلاص كل نفسٍ بشرية، يا مخلص العالم!

هب ليّ روح الصلاة مع التسبيح،

فأتحدى بك نيران الضيق،

بل ونيران إبليس وأعماله الشريرة!

لا أعود أخاف حتى الخطية فأنت واهب النصرة عليها!

فاصل

سفر دانيال: 1234567891011121314

تفسير سفر دانيال: مقدمة123456789101112 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى