القديس بسوثى أسقف بتولومايس
إنه لمن دواعى الغبطة أن يقف المصريون ثابتين في كل مكان ففى بلادهم تحملوا العذاب كما تحملوا خارجها. ومن بين أبناء مصر الذين واجهوا الشدائد وهم خارج بلادهم المحبوبة بسوثى أسقف بتولومايس[1]. ولا يروى لنا التاريخ شيئاً عن طفولة هذا الأسقف العظيم ولا عن شبابه وأين انقضى. ولكن الذى يرويه التاريخ هو جهاده الروحى العنيف في سبيل أبنائه من أهالي بتولومايس. ذلك أنه أدرك تمام الادراك أن الأسقفية أبوة روحية فوجه كل عنايته إلى تعليم شعبه وتثبيته في الايمان . وكان حين يعلم شعبه – يصور لهم أمجاد السماء فى صورة جذابة خلابة تفتنهم وتجعلهم يدركون أن الام الحاضر لا توازي المجد المعد لجميع الذين يرضون الله. ولما سمع أريان والى المنطقة بتعليم بسوثى أقسم بأن يضع حدا له. فأرسل على الفور رسالة إلى الامبراطور ديو قلديانوس الذي بعث برده مع الرسول عينه بقول فيه: « من ديوقلديانوس الامبراطور إلى بسوثى : سلام. إن رضيت أن تخضع للأوامر الصادرة منى إليك بأن تبخر لالهتي فإني أعطيك سلطانا أوسع ، وأمر جنودى بحراستك حيثما سرت . أما إن رفضت الاذعان فليس أمامك سوى الموت”.
وحين وصل رسول الامبراطور إلى بتولومايس كان الأنبا يصلى صلاة القداس الإلهى فعلم بالروح مضمون الرسالة . وحالما انتهى من الصلاة استدعى إليه الرسول وقال له : “هل في وسعك أن تصنع معى معروفاً ؟” أجابه الرسول : “إن كان في حدود سلطتي أصنعه معك بكل سرور” : قال له الأسقف : “أمهلنى أربعا وعشرين ساعة “. وقبل الرسول هذا الطلب فجمع الأسقف كهنته وشعبه ، وأخذ يوضح لهم عظم المسئولية الملقاة عليهم ، وشرف الثبات على الايمان المسيحى حتى النهاية . فبدأوا يبكون ويرجون منه أن يجد مخرجاً لنفسه من الموت المحقق الذي ينتظره . فقال لهم : “يا أولادى – كل منا سيموت حتماً إن عاجلاً أو آجلاً ، لذلك كان من دواعى مجدى أن أموت الآن على اسم السيد المسيح مخلصي – فذلك خير لي من أن أعيش مدة قد لا تتجاوز يومًا وقد تطول أعواماً . وهذه المدة أعيشها وأنا خجل منخفض الجبين لأننى خنت عهد سيدى الفادي الذي بذل نفسه لأجلى. فتعالوا لنصلي جميعاً القداس الإلهى ولنشترك معا في التناول من السر المقدس كى تتحصن به نفوسنا فنستطيع أن نطير إلى العلى بأكثر سرعة ) . وقد تعزت قلوب الشعب بهذه الكلمات فجفت دموعهم وانفرجت شفاهم عن ابتساماتهم ، واشتركوا معاً بقلب واحد في الصلاة وارتفعت أصواتهم في قوة وحرارة. ولما انتهى القداس الالهى رأى الشعب وجه الأنبا بسوثى يضئ بلمعان ساطع فامتلأت قلوبهم سكينة وعزاء ، وساروا معـه إلى حيث ينتظره الجند مهللين مسبحين كأنهم سائرون في موكب عرس بهيج . وما أن أوصلوه إليهم حتى ودعوه من غير أهة واحدة . واقتاده الجند إلى الاسكندرية وسلموه إلى واليها الذي حاول بشتى الوسائل أن يقنع الأنبا بسوتي بالتبخير للآلهة. ولكنه أصر على الرفض. ثم زعم الوالي أنه قد يستطيع ارهاب الأسقف إلى الخضوع فرمى به فى السجن وختم باب السجن بالختم الامبراطورى ، وتركه خمسة عشر يوماً. ثم عاد إليه بعد هذه المدة وقاده إلى قاعة المحكمة ، وقد ذهل الوالى حين رأى الأنبا بسوئى مضئ الوجه تشيع منه النضارة والبشاشة كما يشيع العطر من زهر الربيع فقال له : لا بد أنك ساحر – لأنني ختمت الباب بالختم الامبراطوري وفضضته بنفسي الآن . وهذا يعني أنك بقيت في السجن الضيق القذر خمسة عشر يوماً محروما من كل طعام وشراب . وكنت أتوقع أن أراك نحيلاً شاحب الوجه لا تقوى على الوقوف . أما وقد وجدتك على غير ما توقعت فأظن أن لديك قوى سحرية تقهر بها الجوع والعطش » . وابتسم الأنبا بسوتي في هدوء تام وقال له : هانى أشفق عليك يا صديقي العزيز لأنك لم تعرف بعد أنه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان » . وكانت الجماهير إذ ذاك قد تجمعت في دار المحاكمة وسمعت الحديث الذي دار بين الأسقف والوالي ، فهتفوا : “يا أبانا القديس بسوثى – ان إله المسيحيين هو الإله الحق”. فهمس الوالي في أذن القاضي قائلاً : “أسرع باصدار الحكم قبل أن تتزايد الجماهير ويفلت الزمام من أيدينا”. فصرخ القاضى بأعلى صوته : “خذوا هذا الرجل خارج المدينة وأقطعوا رأسه”. فساقه الجند إلى الخارج وتبعته الجماهير . وفي الطريق اقترب شاب شماس من الأنبا بسوئى يسأله : “يا أبي – لماذا ارتديت الثياب البيضاء التي ترتديها حين تقدم القرابين ؟ ، فالتفت إليه الأسقف وهو مشرق الوجه وقال : يا بني أنا ذاهب إلى حفلة العرس فكيف لا البس الملابس البيضاء ؟ وسأقابل ربى والهى فى مجده . ولقد عشت السنين الطوال مشتاقاً إلى هذه المقابلة . أما أنت يا ابنى فانضم إلى الجموع قبل أن يلحظ الجند أنك تحدثني . وإلى اللقاء في النور الأعظم”.
ولما وصلوا إلى مكان الاعدام رفع الأنبا بسوثى عينه نحو السماء ورفع يديه إلى فوق وصلى بصوت عال قائلاً : “ياربي وإلهى أحرس هذا الشعب ، واحفظه في الايمان القويم. وأرسل ملائكتك ليحيطوا به ، وتقبل روحي بين يديك”. ولم يكد ينتهى من صلاته هذه حتى رأت الجموع السيف يلمع في أشعة الشمس ثم يهوى على رجل الله . فسقط جسمه على الأرض بينما طارت روحه مع جمهور الملائكة إلى مساكن النور.
- هي احدى المدن الخمس الواقعة في شمال أفريقيا وتعرف الآن باسم : تولميتا ، وكانت قبل عصر البطالسة قرية صغيرة فحولها بطليموس سوتير إلى عاصمة المنطقة ودعاها بتولومايس.