تفسير سفر التثنية ٣٣ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثالث والثلاثون

مباركة الشعب

بعد ترنم موسى النبي بالنشيد ليختم حياته متهللاً بالرغم من إدراكه ما سيحل بالشعب حيث يجحدون الإيمان ويسقطون تحت التأديب الإلهي قدَّم البركة للشعب ككل، كما قدمها لكل سبط. لم نسمع عن زوجة موسى ولا عن أولاده أو بناته حسب الجسد، ولم يوصِ أحدًا منهم بشيء، ولا اهتم بتدبير أمورهم المادية، لكنه حسب الشعب كله أولاده، فأبى أن ينطلق من هذا العالم دون أن يباركهم.

هذا وقد بدأ البركة بالشعب ككل وختمها بهم أيضًا كجماعة واحدة مقدسة. فمع اهتمامه بكل سبطٍ على حده، لكن لن يتمتع سبط ما بالبركة ما لم يتحد مع اخوته بوحدانية الروح والفكر ويصير الكل شعبًا واحدًا للهالواحد.

بعد أن تحدث موسى النبي كأب وقائد في صراحة ووضوح أمام كل الشعب خلال النشيد النبوي الذي كشف عما سيحل بهم بسبب ارتدادهم عن الإيمان لم يرد أن يكون هذا النشيد هذا خاتمة أحاديثه. فإنه وإن امتلأ حزنًا على ما سيحل بشعبه الذي كرّس كل قلبه وإمكانياته في الرب لبنيانه لكنه قدَّم بركته لكل سبط من الأسباط. لم يرد أن يظهر أنه راحل في العالم مملوء غضبًا، وإنما يخرج مستريحًا مشتهيًا أن يكون شعبه مباركًا في الرب.

قبل مغادرة موسى شعبه قدَّم لهم وصيته وباركهم في أسلوب شعري كما بارك يعقوب أولاده (تك 49: 2-27). البركة التي نطق بها يعقوب استعرضت أعمال أولاده التي منها ما هو مخجل. أما البركة هنا فتستعرض تصرفات النعمة الإلهية من حيث ارتباطهم بعهدٍ مع الله. لقد شكر إله الخلاص والعهد [2-5]، وذكر الأسباط بأسمائهم مقدمًا بركة نبوية لكل سبط [6-25]، ثم ختم حديثه بمديح لرب إسرائيل [26-28]، ووعد بأن مختاري الرب ينالون نصرة على أعدائهم [29].

يتضح من العدد الأول أن البركة كُتبت بعد موت موسى، وربما كتب موسى بنفسه الجزء الذي سبق البركة، أو كتبه شخص سمع موسى يتكلم. هذه البركة حديث نبوي ممزوج بالصلاة والشكر (لو 2: 28).

حُذف اسم شمعون، ربما لحفظ عدد الأسباط 12. ولقد استوعب سبط يهوذا سبط

شمعون فيما بعد. حملت البركات الموجهة إلى الأسباط (عدا شمعون) كلمات معزية، تعلن أفكار الله ونعمته التي يسبغها على شعبه.

1. مباركة الشعب:

“وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني إسرائيل قبل موته” [1].

تعتبر هذه الآية عنوانًا للأصحاح كله. تكشف عن حب موسى الأبوي واشتياقه نحو نموهم وخلاصهم، مع أنه يموت دون أن يشاركهم فيما ينالونه.

“موسى رجل الله [1] هذا يظهر أن موسى ليس الكاتب نفسه. ولقد أطلق كالب هذا اللقب على موسى (يش 14: 6) ثم في عنوان مزمور 90 فقط.

2. مجد الله وسط شعبه:

أظهر موسى النبي الأساس الذي عليه يتبارك اخوته ألا وهو إعلان مجد الله من أجلهم في مناطق متنوعة: في سيناء وفي سعير وفي جبل فاران وفي ربوات القدس.

فقال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لهم من سعير،

وتلألأ من جبل فاران، وأتى من ربوات القدس.

وعن يمينه نار شريعة لهم” [2].

يبدأ البركة برؤيته للرب القادم من سيناء، كالشمس عند إشراقها بمجدٍ. يرى الله الذي يسلم شعبه شريعته أو وصيته، لكي يسلكوا بالقانون السماوي، فيتمتعوا بطبيعة ملائكية ويكون لهم شركة في الحياة السماوية المطوّبة. لقد وهبهم الشريعة النارية ليجعل منهم أشبه بكائنات نارية تتشبه بالله النار الآكلة.

جاء في ترجوم أورشليم أن الله نزل ليقدم الشريعة، فقدمها على جبل سعير للأدوميين لكنهم رفضوها، لأنه جاء فيها وصية: “لا تقتل”. ثم قدمها على جبل فاران للإسماعيليين فرفضوها، لأنه جاء فيها وصية: “لا تسرق”. وإذ جاء إلى جبل سيناء لإسرائيل قالوا: “كل ما يقوله الرب نفعل”.

لقد تنازل الله ليقدم شريعته، ويتحدث مع شعبه في مجد وبهاء، إذ قيل: “أشرق” و”تلألأ“. يرى البعض أيضًا الله إذ تنازل وقدم شريعته النارية لموسى على جبل سيناء أعلن بهاء مجده، فأشرق على جبل سعير وتلألأ على جبل فاران، وهما جبلان بعيدان عن بعضهما البعض. وكأن حلول مجد الله على جبل سيناء قد أبرق على كل المنطقة حتى صارت الجبال البعيدة مشرقة ومتلألئة.

ويرى آخرون أن مجد الله نزل على جبل سيناء حيث استلم موسى النبي الشريعة، وهذا له الأولوية بكونه أهم حدث في تاريخ العهد القديم. كما أعلن مجده على جبل سعير، كما جاء في سفر القضاة: “يا رب بخروجك من سعير لصعودك من صحراء أدوم الأرض ارتعدت، السماوات أيضًا قطرت، كذلك السحب قطرت ماءً. تزلزلت الجبال من وجه الرب وسيناء هذا من وجه الرب إله إسرائيل” (قض 5: 4). كما ظهر مجد الرب في فاران حيث قيل: “ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع لكل بني إسرائيل” (عد 14: 10).

أتى من ربوات القدس [2] تترجم السبعينية كلمة “القدس” إلى “ملائكة“، وهذا غالبًا هو المعنى الحقيقي (أع 7: 53). اختلف البعض في تفسير “ربوات القدس“، هل هي منطقة رابعة أعلن فيها الرب مجده، أم تشير إلى مجيء الرب في كل مرة هذا الذي يحوط به ربوات الملائكة القديسين، كما جاء في رسالة يهوذا عن مجيئه (يه 14). وقيل في المزامير: “مركبات الله ربوات ألوف مكررة” (مز 68: 17).

ظهر الله لشعبه ليقدم لهم “الشريعة النارية” [2]، لأنها قدمت في وسط النار (تث 4: 33)، وهي تعمل كالنار تأكل الشر، تبغي تنقية النفس من الفساد. وقد حلّ الروح القدس على كنيسة العهد الجديد في شكل ألسنة نارية (أع 2) ليقدموا الإنجيل الناري، ويحولوا النفوس إلى نيران حب متقدة نحو الله والناس.

أما قوله “عن يمينه نار شريعة لهم“، فإن اليمين تشير إلى القوة كما إلى البركة، فبالشريعة نتمتع بقوة الله وننال يمين البركة.

فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك،

وهم جالسون عند قدميك يتقبلون من أقوالك” [3].

تشير اليد إلى الرعاية الإلهية، ففي سفر الرؤيا تظهر الكنائس السبع في يد الرب يسوع (رؤ 1: 16). يمينه متسعة تضم الكنيسة الجامعة منذ آدم إلى آخر الدهور، وكما يقول عن خرافه: “لا يخطفها أحد من يدي” (يو 10: 28). أما عن جلوس شعبه عند قدميه يتقبلون أقواله فيُشير إلى بقاء الشعب عند سفح الجبل ينتظر موسى النبي الذي ارتفع إلى القمة ليلتقي مع الله ويستلم الشريعة ويسلمها للشعب. بقاؤهم عند سفح الجبل حيث مجد الله العجيب، والجبل يدخن، أشبه بجلوس التلاميذ عند قدمي معلمهم يسمعون له بروح التواضع والرغبة في التعلم.

ظهور الله المجيد (33: 2-5) بكونه الملك الحقيقي لكل الأسباط؛ عن يمينه دستوره شريعة نارية، قانونه “حبه لشعبه”، يحمل شعبه المقدس في يده، فلا يُحرم أحد من رعايته. هم يشتهون الجلوس عند قدميه أما هو فيحملهم في أحضانه بالحب. هذا والجلوس عند القدمين إشارة إلى الرغبة في التعلم والتلمذة. لقد أحب شعبه وأراد أن يقدم لهم شريعته، فلاق بهم أن يجلسوا عند قدميه بتواضع ليتمتعوا بها كميراث لهم، إذ يقول:

بناموسٍ أوصانا موسى ميراثًا لجماعة يعقوب.

وكان في يشرون ملكًا حين اجتمع رؤساء الشعب أسباط إسرائيل معًا[4-5].

ناموس الرب هو ميراثنا وكنزنا وغنانا. وكما يقول المرتل: “ورثت شهاداتك إلى الدهر، لأنها هي بهجة قلبي” (مز 119: 111).

إذ اجتمع رؤساء الشعب كان موسى في وسطهم كملك أو قائد عام لكل إسرائيل، يقدم لهم شريعة ملك الملوك، لكن للأسف فيما بعد رفضوه. يقول الرب: “قلتم لي لا، بل يملك علينا ملك والرب إلهكم ملككم” (1 صم 12: 12).

“كان في يشورون ملكًا” [5] قد تشير إلى يهوه (قارن 1 صم 12: 12) أو الملك المسيا المذكور في عدد 3، أو عن موسى.

3. بركة رأوبين:

“ليحيي رأوبين ولا يمت،

ولا يكن رجاله قليلين” [6].

ربما تضائل عدد هذا السبط بسبب خطية داثان وأبيرام (عد 16: 1، 30). لقد اشترك من أبناء رأوبين داثان وأبيرام مع قورح في مقاومة موسى (عد 16: 1-3)، لكن قلب موسى المتسع لا يحمل الذكريات المُرّة بل يطلب البركة للسبط. رأوبين هو الابن البكر بين أولاد يعقوب، فإنه وإن كان قد فقد كرامة البكورية لكن موسى النبي بدأ به حتى لا تتحطم نفسيته. لقد تحدد ميراثه في شرق الأردن، لكن كان لزامًا على رجاله أن يعبروا الأردن مع بقية الأسباط ويحاربوا في المقدمة (عد 32: 27) حتى ترث بقية الأسباط. لهذا طلب لهم موسى أن يحيوا ولا يموتوا، وأن يزداد عددهم وإن كانوا لا يتمتعون بكرامة البكورية. إذ كان ميراثه على الحدود لذلك أكد له أن الله يحميه ويسند رجاله فلا تبتلعهم الأمم المجاورة لهم (عد 32: 27).

هذه هي بداية كل بركة أن نتمتع مع رأوبين بأن نحيا “الحياة الأبدية” ولا نموت “الموت الثاني“، فلا تكون إمكانياتنا وأمجادنا قليلة، بل ننعم بالمجد الأبدي ونُحسب في عيني السماء جيشًا عظيمًا جدًا جدًا (حز 37: 10).

4. بركة يهوذا:

“وهذه عن يهوذا، قال:

اسمع يا رب صوت يهوذا، وآت به إلى قومه.

بيديه يقاتل لنفسه، فكن عونًا على أضداده” [7].

جاءت بركة يهوذا سابقة لبركة لاوي، لأنه في العهد القديم كرامة الملك (سبط يهوذا الملوكي) أعظم من كرامة الكهنوت، وإن كان الاثنان يتحدان معًا في شخص السيد المسيح بكونه الملك والكاهن. يهوذا يسبق لاوي، لأن كهنوت العهد الجديد المرتبط بكهنوت المسيح أعظم من الكهنوت اللاوي.

أدرك يهوذا ضعفه وهو السبط الملوكي لهذا يلجأ إلى الله كسندٍ له.

بركة يهوذا موجهة إلى داود رمز السيد المسيح؛ يبرز داود كرجل صلاة يسمع الله صوته، وكرجل عمل يجاهد بيديه ليغلب العدو. مسيحنا يشفع بدمه ويحب عمليًا بالصليب. ما هو صوت يهوذا الذي يسمع له الرب من أجل قومه، إلا صوت السيد المسيح، الوسيط بين الله والناس، من أجل غفران خطايا شعبه. لقد نزل إلى المعركة ليقاتل بنفسه نيابة عن البشرية، وفي تواضع لجأ إلى الآب مع أنه واحد معه، لكي فيه نتمتع بالعون الإلهي. مع رأوبين نطلب أن نتمتع بالحياة الأبدية، فلا يكون للموت سلطان علينا. ومع يهوذا نتمتع بقبولنا لدى الآب فنحسب أبناء صلاة، مقبولين لديه، حاملين قوته في جهادنا الروحي ضد العدو.

5. بركة لاوي:

“وللاوي قال: تُميمك وأوريمك لرجلك الصديق الذي جربته في مسّة،

وخاصمته عند ماء مريبة.

الذي قال عن أبيه وأمه لم أرهما،

وباخوته لم يعترف،

وأولاده لم يعرف،

بل حفظوا كلامك وصانوا عهدك.

يعلمون يعقوب أحكامك، وإسرائيل ناموسك.

يضعون بخورًا في أنفك، ومحرقاتك على مذبحك.

بارك يا رب قوته، وارتضِ بعمل يديه.

حطّم متون مقاوميه ومبغضيه حتى لا يقاوموا” [8-11].

يتحدث موسى النبي عن السبط الذي ينتمي إليه، لكنه لم يشر إلى ذلك، ولا إلى دوره، بل أشار إلى دور هرون أخيه رئيس الكهنة ومن يحل محله. إنه حامل الأوريم والتميم على صدره (خر 28: 30) لكي يتعرف على إرادة الله، ويقدمها للشعب. الأوريم يشير إلى الاستنارة أو الرؤيا أو الحكمة، والتميم إلى الكمال أو التكامل. مسيحنا هو رئيس الكهنة الذي فيه ننعم بالحياة المتكاملة والاستنارة أبديًا.

“تميمك وأوريمك” [8] تترجمها السبعينية “نورك وحقك” (مز 43: 3).

دعاه الصديق أو القديس، الممسوح رئيس كهنة الله، رمز للسيد المسيح القدوس وحده. مع ما تمتع به من حياة مقدسة لكنه في ضعف سقط عند ماء مريبة مع موسى النبي وحُرم الاثنان من دخول أرض الموعد. لهذا صارت الحاجة إلى رئيس كهنة الخيرات العتيدة الذي وحده بلا ضعف، ربنا يسوع المسيح.

لقد كرس هرون نفسه للرب، فصار كمن لا يرى أباه وأمه ولا يحابي اخوته حسب الجسد، ولا أولاده، إذ صار أبًا للشعب كله بلا تمييز. خدمة اللاويين ألزمتهم بالاهتمام بالشعب أكثر من عائلاتهم، أما مسيحنا فأخلى ذاته لأجلنا. هم قدموا بخورًا ومحرقات وذبائح، أما السيد المسيح فهو الرائحة الذكية لدى الآب يشفع فينا، وهو المحرقة والذبيحة القادرة على الخلاص.

غاية هذا السبط: التكريس لله، وحفظ الوصية، وصيانة العهد، والتعليم، وتقديم العبادة النقية. لذلك قيل: “كان عهدي معه (لاوي) للحياة والسلام، وأعطيته إياهما للتقوى، فإتقاني ومن اسمي ارتاع هو” (ملا 2: 5).

كانت البركة بالنسبة للاوي هامة للغاية، إذ لم يكن له نصيب في الأرض، بل الرب هو نصيبه، يُشبع كل احتياجاته. لذلك طلب موسى من الله أن يبارك في قوته (إمكانياته).

6. بركة بنيامين:

“ولبنيامين قال: حبيب الرب يسكن لديه آمنًا.

يستره طول النهار، وبين منكبيه يسكن” [12].

قد يكون معنى هذا أن الله حمل بنيامين على كتفيه كما يفعل الراعي. أو أن الهيكل سيكون على حدود أرض هذا السبط، كنبوّة. جاء بنيامين بعد لاوي مباشرة لأن الهيكل الذي يعمل فيه الكهنة على حدود نصيب بنيامين. وقد جاء بنيامين قبل يوسف (إفرايم ومنسى)، لأن بنيامين ملاصق لبيت داود والهيكل وأكثر كرامة من السامرة التي في نصيب إفرايم. كانت أورشليم من نصيب هذا السبط (يش 18: 28). ومع أن صهيون مدينة داود تابعة لسبط يهوذا، إلا أن جبل المريّا الذي بُنيَ عليه الهيكل كان من نصيب بنيامين. لهذا فإن الهيكل فوق الجبل كالرأس بين كتفين أي يسكن الرب بهيكله بين كتفي بنيامين. إقامة الهيكل على جبل المريّا التابع لبنيامين يشير إلى أن بنيامين يعيش في ظل الهيكل، تحت حماية هيكل الرب نفسه. وكما يقول المرتل: “المتوكلون على الرب مثل جبل صهيون الذي لا يتزعزع بل يسكن إلى الدهر، أورشليم الجبال حولها والرب حول شعبه من الآن وإلى الدهر” (مز 125: 1-2).

بنيامين” معناها “ابن اليمين”. وكأنه إذ يطلب الإنسان أن يحيا إلى الأبد ولا يخضع للموت الثاني (سبط رأوبين)، وأن يمارس الحياة الملوكية خلال الصلاة الدائمة مع الجهاد في المعركة الروحية (سبط يهوذا)، مكرسًا حياته للطاعة للوصية والعبادة لله (سبط لاوي)، يحق له أن يكون ابنًا لليمين، يُحسب للرب، يثبت فيه، ويستتر تحت ظلاله، ويستقر بين منكبيه (سبط بنيامين). دعي بنيامين “حبيب الرب”، وقد كان بنيامين الابن المحبوب ليعقوب، ابن يمينه (تك 49: 27). وقد جاء شاول الملك من هذا السبط وأيضًا الرسول بولس. من يلتصق بالرب يصير حبيبه ويتمتع بالأمان فيه، ويجد راحة بين كتفيه، أي في أحضانه.

7. بركة يوسف (سبطيْ إفرايم ومنسى):

“وليوسف قال: مباركة من الرب أرضه بنفائس السماء بالندى وباللجة الرابضة تحت.

ونفائس مُغلات الشمس ونفائس منبتات الأقمار.

ومن مفاخر الجبال القديمة،

ومن نفائس الآكام الأبدية.

ومن نفائس الأرض وملئها ورضى الساكن في العليقة.

فلتأتِ على رأس يوسف، وعلى قمة نذير اخوته.

بكر ثوره زينة له، وقرناه قرنا رئم، بهما ينطح الشعوب معًا إلى أقاصي الأرض.

هما ربوات إفرايم وألوف منسى” [13-17].

في بركة يعقوب أعطى النصيب الأكبر ليوسف (تك 49)، وهكذا فعل موسى النبي.

تتركز قوة يوسف في كونه نذير اخوته، وقدرته على تحطيم الأعداء والغلبة عليهم. دعاه موسى النبي “نذير اخوته” [16]، ولما كان النذير أو المكرس هو الشخص الذي ينفصل عن الآخرين ليكرس حياته وإمكانياته لحساب ملكوت الله هكذا فُصل يوسف عن اخوته وبيع عبدًا وعاش شبابه في مصر بعيدًا عنهم لأجلهم، إذ قال لهم: “لا تخافوا، لأنه هل أنا مكان الله؟! أنتم قصدتم لي شرًا، أما الله فقصد به خيرًا لكي يفعل كما اليوم، ليحيي شعبًا كثيرًا. فالآن لا تخافوا أنا أعولكم وأولادكم” (تك 50: 19-21). كان الله قد سمح بعزله إلى حين لأجل استبقاء حياة اخوته، فحُسب نذير اخوته.

جاءت بركة السبطين الخارجين من يوسف عظيمة في الكمية، وعظيمة في القوة. جاءت المدن الخصبة في ميراثهما؛ هنا يعلن أن سرّ الخصوبة أو البركة هو نعمة اللهنفائس السماء[13]. عظيمة هي بركته حتى في أرضه التي ترتوي ببركات الرب من السماء وبالينابيع التي تنفجر من تحت. هكذا يبارك الرب الإنسان في جسده (أرضه) حيث يمطر عليه بمياه الروح، وتفيض فيه ينابيع الروح في الأعماق، فيحمل الجسد ثمار الروح القدس، ويصير جنة الله المثمرة والمحبوبة لديه. يقول المرتل: “تعهدت الأرض وجعلتها تفيض. تغنيها جدًا. سواقي الله ملآنة ماءً” (مز 65: 9).

بجوار مباركة الأرض ومباركة الأمطار وأيضًا الينابيع يبارك في عمل الشمس والقمر والكواكب بالنسبة له. بحرارة الشمس تقدم الأرض أفضل أنواع الغلات، ورطوبة القمر تسندها لتأتي بكل نفيس. يفهم البعض الآية [14] بأن الله يسخر فصول السنة التي ترتبط بالشمس والقمر والكواكب لكي يتمتع الإنسان بالثمار المتكاثرة كل في حينه. هكذا يبارك الرب في جنة النفس الداخلية، يشرق عليها شمس البر نوره ويمدها بحرارته الروحية فتتمتع بالثمر الفريد المتكاثر. وتبسط الكنيسة (القمر) نورها عليها، ويحوط بها القديسون كنجوم السماء، فتكون دائمة الإثمار، تقدم الثمر المناسب في الوقت اللائق به.

بينما تئن بعض البلاد من الجفاف بسبب الجبال والتلال القفراء، إذ بهذا السبط يتمتع بأفضل أنواع الأشجار المثمرة التي تنبت على الجبال والآكام. هكذا ترتفع النفس كما على جبال كلمة الله وتلالها، فلا تعيش عند السفح مع الجماهير بل تصعد كما مع التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا في معية المسيح حيث تتمتع بالتجلي، وتدرك أسرار العهد القديم من الشريعة (موسى) والأنبياء (إيليا) وتحيا على جبل تابور في مجد الرب الفائق. فيعيش المؤمن كجبل الله الثابت الذي لن يتزعزع.

كما يتمتع السبط بثمار الجبال والتلال هكذا تحمل له الأراضي السفلية والوديان غلات كثيرة، فيفرح بعطايا الله النفسية من محاصيل غلال وخضراوات ونباتات صغيرة تكون كالعليقة. هكذا أينما وُجدت النفس لا تعرف إلا الإثمار الدائم، تتمتع بالبركات السماوية النازلة من فوق، وتشكر الله على بركاته الزمنية الأرضية لإشباع احتياجات جسده واحتياجات اخوته. بهذا تحل البركة على رأسه ويُحسب نذيرًا لاخوته، إذ يرى كل البركات التي بين يديه ليس لأجله وحده بل من أجل بنيان اخوته ونموهم الدائم.

لعله يقصد بنفائس الأرض، ما تقدمه له من معادن ثمينة وحجارة كريمة، كقول أيوب: “أرض يخرج منها الخبز، أسفلها ينقلب كما بالنار. حجارتها هي موضع الياقوت الأزرق وفيها تراب الذهب” (أي 28: 5-6). كما تقدم الأرض الخبز لإشباع الجسد، تقدم أيضًا المعادن النفيسة الحجارة الكريمة للعمل والزينة. هكذا يجد المؤمن بركات فائقة فتشبع نفسه بالخبز السماوي، وتتزين ببهاء مجد الله.

يكلل موسى النبي هذه البركات التي تحل على هذا السبط سواء خلال مياه الأمطار وينابيع الأرض، وثمار الجبال والتلال، ونفائس الأرض من حجارة كريمة ومعادن ثمينة بما هو أعظم ألا وهو تلاقي إرادته مع الإرادة الإلهية، فيحمل فيه إرادة مقدسة مقبولة لدى الله. “ورضى الساكن في العليقة” عند دعوته للخدمة، فكانت ملتهبة نارًا دون أن تحترق (خر 3: 2).

هذه هي البركة الفائقة حين يسحب الله القلب والفكر والأحاسيس إليه، ويدخل بالمؤمن إلى أسراره الفائقة، خاصة أعماله الخلاصية من تجسد وصلب وقيامة، فينطلق حاملاً شهادة حيّة إنجيلية، مشتاقًا أن يسحب كل نفس من عبودية فرعون وينطلق بها في البرية نحو كنعان السماوية.

إذ يبلغ موسى النبي إلى التمتع بالإرادة المقدسة كأعظم بركة يقول: “فلتأتِ على رأس يوسف وعلى قمة نذير اخوته” [16].

هذه عن بركات الثمار الروحية المتزايدة أما عن بركة القوة فيراه النبي كالثور البكر الذي كان رمزًا للعظمة الملوكية. إنه قوي وقادر أن ينال النصرة على الشعوب إلى أقاصي الأرض. لقد جاء يشوع بن نون قائد الشعب إلى أرض الموعد وعلى يديه تمت النصرات المتوالية حيث طرد كل الكنعانيين واستلم أرض الموعد، وهو من سبط إفرايم بن يوسف. في إفرايم وجدت المدينة الملوكية لمملكة إسرائيل أو مملكة الشمال. ومن منسى خرج جدعون ويفتاح ويائير القضاة، الذين كانوا زينة بلدهم ومملوءين بالبركة والقوة.

يرى البعض أنه شبه بالثور البكر، لأن يوسف نال البكورية التي فقدها رأوبين (1 أي 1: 2)، ولأن باشان التي هي من نصيب منسى كانت مشهورة بالثيران والبقر (مز 22: 12). كان الثور عند اليهود من أهم الحيوانات من أجل أنه كان مقبولاً لدى الله من بين الحيوانات التي تقدم ذبيحة لله، ولأجل نفعه في الأعمال الزراعية، خاصة في حرث الأرض.

قرناه يشبهان قرني الرئم لينطح ويغلب. فقد اتسم سبط إفرايم بالقوة. هذا ومن جانب آخر فإن قرناه يحملان جمالاً خاصًا، ويشيران إلى القوة والسلطة (مز 75: 5، 10؛ 89: 17، 24؛ 112: 9؛ دا 8: 3؛ لو 1: 96؛ رؤ 17: 3).

أعطى لإفرايم الربوات ولمنسى الألوف وذلك كما تنبأ يعقوب أن الأصغر إفرايم يكون أعظم من الأكبر (تك 48: 19)، وقد تحقق ذلك كما جاء في تعداد الشعب (عد 1: 33-35).

  1. بركة زبولون ويسّاكر:

“ولزبولون قال: افرح يا زبولون بخروجك، وأنت يا يسّاكر بخيامك.

إلى الجبل يدعوان القبائل.

هناك يذبحان ذبائح البر،

لأنهما يرتضعان من فيض البحار، وذخائر مطمورة في الرمل” [18-19].

ذكر السبطان معًا لأن زبولون ويسّاكر هما ابنا يعقوب من ليئة، وفي تقسيم الأرض كانا جارين. اشتهر سبط زبولون بوجود مواني بحرية في نصيبه (تك 49: 13)، لهذا كان كثير من الأمم يعبرون بأرضه، ودخل بعضهم إلى الإيمان بالله تاركين عبادة الأوثان. أنهما يدعوان القبائل إلى الجيل ليقدما ذبائح البرّ عوض الذبائح للأوثان. فتشير البركة هنا إلى انفتاح القلب على الغير والكرازة والشهادة الإنجيلية أمام الآخرين. لقد اغتنوا جدًا خلال التجارة البحرية، كرمز للغنى في العمل الروحي.

ماذا يقصد بالذخائر المطمورة في الرمل؟

يرى يوناثان بن عزوئيل أن رمال زبولون كانت من أجود الأنواع التي تصلح في صناعة الزجاج، فكانت أشبه بكنوز بين أيديهم. ويرى آخرون أن من صدف السمك الذي كان في رمال السواحل هناك استخرجوا صباغة الأرجوان الثمينة، فصارت ككنزٍ مخفيٍ في الرمل. ويرى فريق ثالث أن هذه الكلمات هي تعبير مجازي عن الغنى العظيم الذي ينالونه من التجارة البحرية.

كما يفرح يسّاكر بتجارته خلال الخيام يفرح زبولون بتجارته البحرية، هكذا وهب الله لكل شخص أو أمة ما يشبع احتياجاتها، البعض بالعمل في البر، والآخرون في البحر. يفرحنا الله أينما وُجدنا، سواء كنا في البر أو البحر. ليس لنا أن ننتفخ على الغير بسبب مواهبنا ولا أن نُصاب بصغر نفس بسبب مواهب الآخرين. إنما ليعمل كل واحد حسبما وُهب له. ليشكر زبولون الله من أجل المواني البحرية، ويسّاكر من أجل نجاحتجارته خلال الخيام. “أيضًا كل إنسانٍ أعطاه الله غنى ومالاً وسلطة عليه حتى يأكل منه ويأخذ

نصيبه ويفرح بتعبه، فهذا هو عطية الله” (جا 5: 19).

بالتجارة البحرية كما بالعمل من خلال الخيام يدعون الأمم إلى الجبل، حيث هيكل الرب قائم. فيستخدمون العمل فرصة للشهادة للرب ودعوة الآخرين لخدمة الرب.

لقد بدأت خدمة السيد المسيح في أرض زبولون (مت 4: 14-15)، دُعي بعد ذلك الشعب للجبل أي لمملكة المسيح التي تُدعى جبل بيت الرب (إش 2: 2).

يرى البعض أن يسّاكر بسكناه في الخيام كان مدركًا لأيام الأعياد أكثر من غيره فكان يدعو الغير للاحتفال بها. ويرى آخرون أن الخيام هنا يقصد بها خيام مدرسية حيث كان بعضهم يهوون الدراسة والمعرفة، لذا كان لهم دورهم القيادي مع أنهم ليسوا بالسبط الملكي ولا الكهنوتي. لهذا يرمزون إلى عمل الشعب الإيجابي والشعور بالمسئولية.

وهبهم الله غنى حتى متى دعوا الغير للصعود إلى جبل بيت الرب يرونهم قادمين حاملين عطايا كثيرة وبفيض، فيكونون مثالاً حيًّا لهم. يتحدث إشعياء النبي عن مجد كنيسة العهد الجديد وغناها الروحي فيقول: “تتحول إليك ثروة البحر، ويأتي إليك غنى الأمم” (إش 60: 5).

تحوّل تجارتها لمجد الله: “وتكون تجارتها وأجرتها قدسًا للرب. لا تُخزن ولا تكنز، بل تكون تجارتها للمقيمين أمام الرب لأكل إلى الشبع واللباس الفاخر” (إش 23: 18).

  1. بركة جاد:

“ولجاد قال: مبارك الذي وسع جاد.

كلبوة سكن، وافترس الذراع مع قمة الرأس.

ورأى الأول لنفسه، لأنه هناك قسم من الشارع محفوظًا،

فأتى رأسًا للشعب يعمل حق الرب وأحكامه مع إسرائيل” [20-21].

كان جاد أحد الأسباط التي نالت نصيبها من أرض الموعد، إذ كان نصيبه شرقي الأردن. وقد تنبأ موسى النبي عن البركة التي لجاد وهي:

أولاً: وسع جاد، حقًا كان جاد قد نال نصيبه، لكن أرضه اتسعت أكثر. قيل عنهم أنهم متعلمون القتال وأنهم دخلوا في حرب مع الهاجريين وانتصروا عليهم، ونهبوا

غنائم كثيرة وسكنوا مكانهم (1 أي 5: 18-22).

بروح الغلبة والنصرة سكنوا كلبوة يمزقون الذراع مع إكليل الرأس، أي يحطمون قوة العدو (الذراع) وينتزعون كرامتهم ومجدهم (إكليل الرأس). في أيام داود كان بعض الجاديين وجوههم كوجوه الأسود “من الجاديين انفصل إلى داود إلى الحصن في البرية جبابرة البأس رجال جيش للحرب صافوا اتراس ورماح، وجوههم كوجوه الأسود، وهم كالظبي على الجبال في السرعة” (1 أي 12: 8).

ثانيًا: “ورأى الأول لنفسه“، أي بحكمة اهتم جاد بأن ينال نصيبه أول الجميع، في شرقي الأردن قبل العبور مع يشوع إلى الضفة الغريبة. وكما يقول المرتل: “ويحمدونك إذا أحسنت إلى نفسك” (مز 49: 18). هكذا من يهتم بخلاص نفسه، ويعطي الأولوية لميراث النفس عن متطلبات الجسد يكون مستحقًا للمديح. لم يأخذ ما لنفسه في أنانية إذ انطلق يحارب من أجل بقية الأسباط، “فأتى رأسًا للشعب يعمل حق الرب” [21]. كان يعمل في طاعة ليشوع بن نون، إذ أجابوه قائلين: “كل ما أمرتنا به نعمله، وحينما ترسلنا نذهب” (يش 1: 16)، وقد نفذوا ذلك (يش 4: 12-13). لقد انهوا عملهم “وعندما صرفهم يشوع أيضًا إلى خيامهم باركهم” (يش 22: 7-9).

كانوا سريعي الحركة، وقد أُشير إليهم في التوزيع قبل رأوبين (عد 32: 2). بينما قام يشوع بتوزيع الأراضي على الأسباط نال جاد وأصحابه نصيبهم من موسى مقدم الشريعة.

الشارع“، استقروا فيها حسب الشريعة أو بعناية الله [21].

  1. بركة دان:

“ولدان قال: دان شبل أسد يثب من باشان” [22].

تربط التقاليد اليهودية سبط دان بالارتداد. شبههم يعقوب بالحية (تك 49: 17)، وموسى بشبل الأسد، إذ كان لهم رأس الحية وقلب الأسد.

يرى المفسرون اليهود أن باشان موضع كان تنتشر فيه الأسود تبحث عن فريسة. فقد عرف سبط دان بالقوة. “وخرج تخم بني دان منهم وصعد بنو دان وحاربوا لشم وأخذوها وضربوها بحد السيف وملكوها وسكنوها ودعوا لشم دان كاسم دان أبيهم” (يش 19: 47).

لقد نشا في سبط دان كشبل ونما وصار يبحث عن فريسة له بين الفلسطينيين.

  1. بركة نفتالي:

“ولنفتالي قال: يا نفتالي اشبع رضى وامتلئ بركة من الرب،

واملك الغرب والجنوب” [23].

أعطى هذا السبط الأرض الجميلة الخصبة الواقعة جنوب وغرب بحر الجليل.

تطلع إلى هذا السبط بدهشة ممتدحًا إياهم. ربما تشير البركة هنا إلى إرادة الشعب المحصنة أمام الله. أما سرّ الرضى والامتلاء بالبركة وأنه يملك في الغرب والجنوب فلأن السيد المسيح ملك الملوك قد أشرق ببهائه هناك. وكما يقول الإنجيلي: “وترك الناصرة وأتى فسكن في كفر ناحوم التي عند البحر في تخوم زبولون وأرض نفتالي طريق البحر عبر الأردن جليل الأمم. الشعب الجالس في ظلمة أبصر نورًا عظيمًا. والجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور” (مت 4: 13-16). كان السيد المسيح يعتبر كفر ناحوم مدينته (مت 9: 1؛ مر 2: 1).

الامتلاء من البركة هنا ربما يشير إلى خصوبة أراضيها. يرى اليهود أنه بسبب خصوبتها كان هذا السبط أول من يقدم البكور للهيكل، كما اشتهر سكان كفر ناحوم وبيت صيدا بالغنى.

  1. بركة أشير:

ولأشير قال: مبارك من البنين أشير.

ليكن مقبولاً من اخوته،

ويغمس في الزيت رجله.

حديد ونحاس مزاليجك وكأيامك راحتك” [24-25].

كانت أرضه مشهورة بالزيتون. يقدم موسى النبي أربع نبوات عن أشير تحمل في ذاتها علامات البركة، فإن ليئة دعت ابنها أشير قائلة أنها سعيدة (تك 30: 13).

أولاً: زيادة العدد “مبارك من البنين أشير“، ليتمتع بكثرة عدد البنين الذين يدخلون في عهد مع الرب ويتمتعون به كمصدر بركة وليس كثقلٍ عليهم.

ثانيًا: الاهتمام بالاخوة “ليكن مقبولاً من اخوته”؛ أي ليكون معهم في اتحاد واتفاق. ليكونوا مملوءين محبة ونية صالحة من جهة الذين يعيشون في وسطهم.

ثالثًا: يتمتعون بخيرات كثيرة “ويغمس في الزيت رجله“. كأنه بسبب كثرة الخيرات ليس فقط يدهن جسمه بالزيت، بل يغمس رجله فيه، إي يغسلون أقدامهم بالزيت أو بالعطور.

v     يقول الرب أن الكاهن واللاوي عبرا بالجريح ولم يكن لديهما زيت ولا خمر لتضميد

جراحات ذاك الذي جرحه اللصوص (لو 10: 31-32)، إذ لم يكن لهما ما يسكبانه على جراحاته.

يعلن إشعياء: لم تُعصر ولم تُعصب ولم تُليّن بالزيت” (إش 1: 6). أما الكنيسة فلها زيت به ترطب جراحات أبنائها، لئلا تنتشر قسوة الجرح وتتعمق. لقد صار لها الزيت الذي تقبلته سرًا. بهذا الزيت غسل أسور قدميه [24] [317].

القديس أمبروسيوس

رابعًا: فيض من المعادن المستخرجة من أراضيهم حتى أنهم يصنعون أحذيتهم من الحديد والنحاس. من الجانب الرمزي تشير الأحذية المعدنية إلى القوة والبهاء، والقدرة على السير في الطرق الوعرة. “حديد ونحاس مزاليجك”.

كأيامك قوتك” يعني استمرارية القوة في حياتهم فلا يخوروا قط في الطريق.

  1. بركة عامة لكل إسرائيل:

“ليس مثل الله يا يشورون.

يركب السماء في معونتك والغمام في عظمته” [26].

يستحق الله كل حمد، فإنه فوق شعبه وتحته وخلفه وأمامه وحوله، يقف شخصه خلف الطبيعة ووراء الأسرار ربًا ومخلصًا لشعبه. كل أمة تفتخر بإلهها، لكنه ليس مثل إله يشورون.

دعي الشعب كله “يشورون” أي “الشعب المستقيم”، أو كما جاءت في الترجمة السبعينية “المحبوبون”. يسرع الله إلى معونته راكبًا السماء كمركبة إلهية: “يركب السماء في معونتك والغمام في عظمتك”. يشير الغمام إلى السرية وعدم القدرة على إدراك عظمة الله في رعايته لشعبه. إنه يركب السحاب لكي يعين شعبه ويسنده، معلنًا عظمة حبه واهتمامه في الغمام. إنه صاحب سلطان على كل الطبيعة، التي يسخرها لحساب شعبه.

“الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت.

فطرد من قدامك العدو وقال: أهلك.

فيسكن إسرائيل آمنًا وحده.

تكون عين يعقوب إلى أرض حنطة وخمر، وسماؤه تقطر ندى.

طوباك يا إسرائيل.

من مثلك يا شعبًا منصورًا بالرب ترس عونك وسيف عظمتك.

فيتذلل لك أعداؤك وأنت تطأ مرتفعاتهم” [27-29].

من جهة الإمكانيات والسرعة يستخدم السحاب ليعين شعبه. ومن جهة الخبرة فهو الإله الأزلي القديم غير المتغير، يبسط ذراعيه من تحت شعبه كي لا يسقطوا. أذرعه لن تنهزم، ولا يقدر عدو أن يحطمها ليخطف شعبه من بينها، بل يبقى شعبه محمولاً على الأذرع الأبدية. إذ تبقى الأذرع الأبدية تحت الكنيسة لن تغرق مطلقًا، إذ هي محمولة على صخر الدهور، ولا تقدر أبواب الجحيم عليها (مت 16: 18). “هو في الأعالي يسكن، حصون الصخور ملجأه، يعطي خبزه ومياهه مأمونة” (إش 33: 16).

إنه أزلي قبل الدهور ولن يخضع للزمن. وكما جاء في حبقوق “ألست أنت منذ الأزل يا رب إلهي قدوسي. لا نموت!” (حب 1: 12).

لا يحتاج الشعب إلى سلاح يحميه، بل يصير الرب نفسه سلاحه، هو ترسه وسيفه. جعل الله من نفسه ملجأ لشعبه [27]، يسكن فيه الشعب آمنًا. فالنفس إذ تثبت في الله تدرك أنها في بيتها في آمان حقيقي. يقول المرتل: “ارجعي يا نفسي إلى راحتك، لأن الرب قد أحسن إليك” (مز 116: 7). “أنت ستر لي، من الضيق تحفظني” (مز 32: 7). يعطي الله شعبه النصرة على العدو ليحطمه، فيصير مهوبًا.


 

من وحي تثنية 33

افتح فمي للبركة

v     وهبتني فمًا ولسانًا لأبارك ولا ألعن.

لتكن أنت في فمي، فأبارك كل من يلتقي بي.

لأتمتع أيضًا ببركتك على لسان نبيك موسى.

اجلس عند قدميك مع الذين عند سفح الجبل.

أتأمل جبل الله المتقد نارًا. فتمتلئ نفسه من بهاء مجدك.

وتشرق كلمتك في داخلي.

v     مع رأوبين أراك واهب الحياة.

لا أخاف الموت ما دمت أنت ساكن فيّ.

v     مع يهوذا أدرك أن أذنيك تميلان نحوي.

تنصتان إلى صلوات قلبي الخفية.

وتستجيبان لطلبات نفسي.

تحطم عدوي وتقاتل خطاياي.

فأنال بك نصرات متوالية.

v     مع لاوي أكرس كل حياتي لك.

أنت وحدك نصيبي.

لا انشغل بأبٍ أو بأمٍ أو زوجةٍ أو أولادٍ. أنت هو الكل لي.

أحبهم فيك، وأخدمك فيهم.

قدسني، فأصير شاهدًا لك يا أيها القدوس.

اقبل كهنوتي، ولتشتم صلاتي رائحة بخور ذكية.

استلم ذبائح الشكر والتسبيح.

علمني أن أحفظ عهدك إلى التمام.

v     مع بنيامين هب لي موضعًا عن يمينك.

تدعوني حبيبك فتطمئن نفسي بك.

استتر تحت ظل جناحيك،

وأسكن آمنًا بين منكبيك.

v     مع ابني يوسف إفرايم ومنسى هب لي من خيرات حبك.

تبارك أرضي، فتقدم ثمارًا متزايدة.

تحول أعماقي إلى جبال راسخة تحمل ثمارًا عظيمة،

تملأ أرضي بالمعادن النفيسة.

تهبني مع الغنى الروحي قوة وجمالاً وجلالاً.

أنت غناي وقوتي ومجدي!

v     مع زبولون أخدمك في البحار،

ومع يسّاكر أشهد لك في الخيام!

اقبل خدمتي في البحار كما في البر!

v     مع جاد تهبني أن اهتم أولا بخلاص نفسي.

توسع أرض قلبي لتقبل كل غريب ومحتاج!

v     مع دان تجعلني كشبل أسد،

مملوء شبابًا وحيوية وقوة في الروح!

v     مع نفتالي تهبني بركة خصوبة أرضي، فلا أوجد عقيمًا قط.

بل أحمل دومًا ثمر الروح المتزايد.

v     مع أشير أغمس في الزيت رجلي.

تفيض عليّ بالبركات فأغسل قدمي بالعطور الروحية.

ألبس أحذية من حديد، فأسير في الطرق الوعرة بلا خوف.

هكذا تتعطر قدمي بالحب، وتسلك بروح الحزم والقوة.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى