تفسير سفر الجامعة ٨ للقمص أنطونيوس فكري

الإصحاح الثامن

آية(1): “من كالحكيم ومن يفهم تفسير أمر حكمة الإنسان تنير وجهه وصلابة وجهه تتغير.”

من كالحكيم = الجامعة يكشف عن أهمية الحكمة في حياة الإنسان. ومن يفهم تفسير أمر=الحكيم يدرك ما وراء الأحداث، والحكمة تهبه تفسيراً لمعاملات الله معه ومع غيره فيصبح نافعاً لكل من حوله. حكمة الإنسان تنير وجهه= يُعرف الحكيم من وجهه وهناك من قال “إن وجه الإنسان هو شباك النفس يرى منه النور الداخلي” ونفهم أن الحكمة هو الأقنوم الثاني (اللوغوس) أي السيد المسيح، فمن يقبل السيد المسيح ساكناً فيه، يعطيه المسيح عذوبة وإتساع قلب ويرفع الفكر فوق كل المتاعب والصغائر فيسلك بحكمة علوية يفهم بها ويتعرف الإنسان بها على خطة الله فَيُدْرِكْ لماذا يسمح بالفرج أحياناً وبالضيق أحياناً فيستنير وجهه بالفرح والرجاء تحت كل الظروف، بل يبعث هذا الرجاء فيمن حوله. وهكذا موسى استنار وجهه حينما نزل من على الجبل. وصلابة وجهه تتغير= صلابة الوجه تأتي من الغيظ والغضب والطبيعة العنيفة والضيق. ومن يملأ سلام المسيح قلبه تتغير طبيعته هذه، بل تكون له النظرة الحانية حتى على الخطاة، وبهذا تتميز الحكمة الروحية عن الحكمة العالمية. ومن يملك الحكمة يكون مالكاً لروح الاتضاع التي بها يخضع لمن هم أعلى منه.

 

آية(2): “أنا أقول احفظ أمر الملك وذاك بسبب يمين الله.”

هنا يعطي نموذج لما تعمله الحكمة الروحية، فالحكيم يخضع للملك فلا يناله أذى، الاتضاع يلزم أن يكون مع الجميع، ويجب أن يكون للسلطات المرتبة من الله، فالله ضابط الكل هو الذي سمح بها. حتى وإن كان الحاكم ظالم. أنا أقول أحفظ أمر الملك= هنا دعوة للخضوع للقوانين وأن نلتزم باحترامها (طبعاً لو كانت هذه القوانين ليست ضد وصايا الله) “إعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله” + (رو1:13،2). وذاك بسبب يمين الله= كان هناك عهد بين الملك والله وبين الملك والشعب، والله شاهد على كليهما. الملك يقسم أن لا يخون أمانة الله والشعب يقسم أن لا يخون أمانة الملك. والحكيم يخضع للملك لأنه يؤمن أن يمين الله أي قوته هي التي سمحت بقيامه كملك حتى لو كان ظالماً، فالله هو ضابط الكل، لذلك يخضع الحكيم للملك فهو معين من قبل الرب. وقيل ملكوا شاول أمام الرب (1صم15:11) وراجع (1أي3:11+ 2أي16:23+ 2صم1:5-3+ 2مل17:11+ 1أي24:29) (هذا ما حدث مع داود/ سليمان/ يوآش). ولذلك إن خالف الملك وصايا الله ودعانا أن نترك الله علينا أن نطيعه. وإذا كان احترام الملك وطاعته واجبة، فكم بالأولى طاعة الله ملك الملوك.

 

آية(3): “لا تعجل إلى الذهاب من وجهه لا تقف في أمر شاق لأنه يفعل كل ما شاء.”

إذا ثار الملك في وجه أحد، وقال كلاماً لا يرضى من يسمعه فنصيحة سليمان أن لا يثور الشخص في وجه الملك ويخرج من أمام الملك في حالة عصيان وثورة وغضب وذلك لسلامة الشخص= لا تعجل إلى الذهاب من وجهه. لا تقف في أمر شاق (شرير) أي لا تتآمر وتعصى الملك، لأن له سلطان أن يفعل ما يشاء.

 

الآيات (4،5): “حيث تكون كلمة الملك فهناك سلطان ومن يقول له ماذا تفعل. حافظ الوصية لا يشعر بأمر شاق وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم.”

الحكيم ينصح كل إنسان أن يفهم أن الملك له سلطان وهو يعطي أوامر علينا أن ننفذها ولا أحد له الحق أن يقول له ماذا تفعل. وحافظ الوصية= أي من يلتزم بأوامر الملك. لا يشعر بأمر شاق= أي يحيا حياة هادئة (رو3:13). وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم= يسلم الحكيم للظلم ويحتمله بالصبر فهو يعرف أن الله يسمح بالظلم لوقت محدود ثم ينهى حكم الظالم. ولكن أحكام الله لها وقت= الوقت والحكم= والحكيم لا يتعجلها ويصبر. وما دمنا نحفظ وصية الرب ونقبل ونحترم أوامر الرؤساء في الرب يلزمنا أن لا نخاف السلطان.

 

آية(6): “لأن لكل أمر وقتاً وحكماً لأن شر الإنسان عظيم عليه.”

لأن لكل أمر وقتاً وحكماً= الحكيم يدرك أن الله يتدخل في الوقت الذي يحدده هو فكل شئ محسوب عند الله وفق خطة إلهية وبسماح إلهي. لأن شر الإنسان عظيم عليه جهل الإنسان أن الله له خطة فيثق في الله، وجهل الإنسان بعناية الله الفائقة شر عظيم عليه إذ حينما يقع عليه الظلم سيتصور أن الله تخلى عنه ويصطدم مع الله، وجهل الإنسان بأن الله له وقت مناسب يتدخل فيه (ملء الزمان) سيجعله يشعر أن الله غير عادل وبهذا يخطئ الإنسان ويكون شره عظيماً عليه. وشر الظالم عظيم عليه لأن الله سيحاسبه عما فعله بسلطانه، والحكيم يعرف أن الله لابد وسيحاسبه. الروح القدس يهب الإنسان استنارة فيعرف بها أننا كأبناء لله، موضوع حبه، يهتم بنا وسط الأحداث والمظالم.

 

الآيات (7،8): “لأنه لا يعلم ما سيكون لأنه من يخبره كيف يكون. ليس لإنسان سلطان على الروح ليمسك الروح ولا سلطان على يوم الموت ولا تخلية في الحرب ولا ينجي الشر أصحابه.”

لأنه لا يعلم ما سيكون= المستقبل مجهول بأحداثه وظروفه. من يخبره كيف يكون= فلسنا نعرف الشر قبل حدوثه لنتجنبه. ولا نعرف متى سيأتي الموت= ليس لإنسان سلطان على الموت= وهذه موجهة للظالم ليعلم أنه سيموت ربما فجأة فيخشى الله وموجهة للمظلوم فيعلم أن حياته ليست في يد الظالم بل في يد الله “لم يكن لك علىّ سلطان إن لم تكن قد أعطيت من فوق (يو11:19). ولا تخلية في الحرب= هل يقدر الجندي أن يهرب من المعركة أو يستعفى من الخدمة والحرب أمامه، هكذا وُضِعَ على الإنسان أن يكون طرفاً في معركة دائرة بين الله وإبليس، ولكن إبليس له أعوانه من أمثلة الحكام الظالمين وغيرهم من الأشرار الذين يسببون آلاماً لشعب الله، والله يزودنا بأسلحة للحروب الروحية والحكيم يعرف أن الله لابد وسيغلب (2كو3:10-5+ أف10:6-20).بل أحد أسلحة إبليس هو الموت والمسيح غلبه فنقول “أين شوكتك يا موت”.

 

آية(9): “كل هذا رأيته إذ وجهت قلبي لكل عمل عمل تحت الشمس وقتما يتسلط إنسان على إنسان لضرر نفسه.”

على كل ظالم أن يعلم أنه إذ يمارس أعمال ظلمه فإنما هذا لضرره. فقلب الظالم يتقسى وضميره يموت، وهو يبتعد عن الله، فيفقد الفرح في هذا العالم، بل يفقد حياته الأبدية.

 

الآيات (10-13): “وهكذا رأيت أشراراً يدفنون وضموا والذين عملوا بالحق ذهبوا من مكان القدس ونسوا في المدينة هذا أيضاً باطل. لأن القضاء على العمل الرديء لا يجرى سريعاً فلذلك قد امتلأ قلب بني البشر فيهم لفعل الشر. الخاطئ وأن عمل شراً مئة مرة وطالت أيامه إلا أني اعلم انه يكون خير للمتقين الله الذين يخافون قدامه. ولا يكون خير للشرير وكالظل لا يطيل أيامه لأنه لا يخشى قدام الله.”

الذين عملوا بالحق ذهبوا من مكان القدس ونسوا= هذه تفهم بطريقتين:

  1. الذين عملوا بالحق هم الأشرار الذين كان عملهم أن يحكموا بالحق في مكان القدس أي مكان القضاء (تث17:1 + مز1:82). ولكنهم لم يحكموا بالحق، بل ظلموا المساكين. هؤلاء وإن كان لهم كرامة وهيبة في حياتهم وكرامة في زمنهم، إلا أنهم بعد موتهم نساهم الناس أن تناسوهم بسبب ظلمهم، فهم كرموهم في حياتهم خوفاً من سلطتهم. والآن هم ذهبوا للقبر، وهم أمام الله، فأين كرامتهم إذ نساهم الناس، بل هم في خوف ينتظرون عدل الله.
  2. الذين عملوا بالحق= الذين كانوا يحكمون بالحق طردهم الأشرار من أماكنهم ليتسلطوا هم بالظلم. لأن القضاء على العمل الردئ لا يجري سريعاً= الله يصبر على الظالمين والأشرار، ولا يجري الحكم عليهم سريعاً، لعلهم يتوبون، ولكن كثيرين عوضاً عن التوبة يستهينون بطول أناة الله. ولكن الله وإن أبطأ في القصاص فهو حتماً سيعاقب وبصرامة. وربما يسأل أحد وما ذنب المظلومين خلال هذه الفترة التي فيها يتأنى الله؟ والإجابة إني أعلم أنه يكون خير للمتقين الله فالله قادر أن يحول الشر إلى خير لخائفي الرب، حدث هذا مع أيوب، بل يكون الله مع المظلوم مرافقاً له أثناء فترة تنقيته، فترة الشر هي شر بالمفهوم البشري، لكن بالمفهوم الإلهي “كل الأمور تعمل معاً للخير” ونعود لبداية الإصحاح فالحكيم يفهم تفسير أمرٍ (آية1). وسيفهم لماذا سمح الله بالضيق له. بل سيرافقه الله ويعزيه، فلن تهتز سعادة أولاد الله وسط الضيقة، ولا شئ يفصل شركتهم مع الله، فهم واثقين أنهم في يد الله محفوظين وأن الله سينجيهم فيتهللون وسط الضيقة وتنير وجوههم (آية1) (رو35:8) أما الأشرار فعلي العكس وإن بدوا يانعين لكن أعماقهم مملوءة بؤساً، واللعنة تكون ثمرة طبيعية لأفعالهم، تحل بهم حتماً ما لم يتوبوا (إش10:3،11). وكالظل لا يطيل أيامه= حياته تنتهي بلا منفعة، فالظل لا نفع له، وهي كالظل غير حقيقية ومائلة للزوال، إذا غربت شمس حياتهم سيصيرون لا شيء وبلا نفع كالظل الذي سيختفي، لن يتركوا وراءهم إسماً صالحاً. ونلاحظ الترمومتر الذي به نتعرف على الأبرار والأشرار، فالحكيم يدعو الأبرار متقيا الله وعن الشرير يقول أنه لا يخشى الله. فخوف الله هو الترمومتر.

 

آية(14): “يوجد باطل يجري على الأرض أن يوجد صديقون يصيبهم مثل عمل الأشرار ويوجد أشرار يصيبهم مثل عمل الصديقين فقلت أن هذا أيضاً باطل.”

بعد أن كان النور الإلهي قد أضاء ذهن سليمان، فإكتشف أن الله قد يسمح للشرير بأن يظلم ولكن إلى حين، وأن الله سيحول الشر للخير للمظلوم البار، عاد إلى حكمته الإنسانية فعاد وتساءل، وعاد للحيرة قائلاً أن ما يحدث هو باطل= أي أن يُظلم البار وأن الشرير يجد خيراً.

 

الآيات (15،16): “فمدحت الفرح لأنه ليس للإنسان خير تحت الشمس إلا أن يأكل ويشرب ويفرح وهذا يبقى له في تعبه مدة أيام حياته التي يعطيه الله إياها تحت الشمس. لما وجهت قلبي لأعرف الحكمة وانظر العمل الذي عمل على الأرض وأنه نهاراً وليلاً لا يرى النوم بعينيه.”

ما قاله سليمان هنا واجب على كل مؤمن بالله أن لا يفقد فرحه الداخلي، بل يشكر الله على كل الظروف حاسباً أكله وشربه وتعبه عطية الله، واثقاً في حياة أبدية فيها الفرح الحقيقي للأبرار، حيث العدل مكان الظلم والراحة عوضاً عن التعب، ومثل هذه الحياة تمدح= فمدحت الفرح الناشئ عن الإيمان والثقة بالله. ولكن سليمان هنا كان في حيرته لا يقصد هذا. وقوله فمدحت الفرح= يقصد به أنه طالما أن الأبرار لا يكافأون بعدل والأشرار في سعادة. إذن فلينعم الإنسان بأفراحه الزمنية قدر ما يستطيع، وهذا التفسير يتفق مع باقي الإصحاح. فهو إذ عاد لتفسير الأمور في ضوء حكمته الإنسانية تعب وطار النوم من عينيه= إنه نهاراً وليلاً لا يرى النوم بعينيه. والسبب أنه عاد للتفكير البشري لما وجهت قلبي لأعرف الحكمة. والسبب أن الحكمة البشرية عاجزة عن فهم كل أسرار معاملات الله مع البشر وعنايته الفائقة بأولاده. فهذه الأمور لا يجدي فيها التفكير بالعقل البشري بل بروح الصلاة والحكمة الإلهية نعرف إرادة الله فيستضئ الوجه ونسلم لله كل الأمور.

 

آية(17): “رأيت كل عمل الله أن الإنسان لا يستطيع أن يجد العمل الذي عمل تحت الشمس مهما تعب الإنسان في الطلب فلا يجده والحكيم أيضاً وأن قال بمعرفته لا يقدر أن يجده.”

لا يجد العمل= أي يفهم كل ما يعمله الله ويوفق بين عدل الله وصلاحه وألام الأبرار. والحكيم أيضاً. وإن قال بمعرفته= أي إن إدّعى الحكيم الحكمة والمعرفة= لا يقدر أن يجده أي لا يستطيع أن يجدها ويفهمها. فأسرار الله أعمق من أن يكتشفها الإنسان بعقله. أما الروح القدس روح الحكمة فيشرح لنا كل شئ (1كو6:2-16).

فاصل

سفر الجامعة: 123456789101112

تفسير سفر الجامعة: مقدمة123456789101112

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى