تفسير سفر الخروج ٢٤ للقمص تادرس يعقوب

 الأصحاح الرابع والعشرون
العهد الإلهي والتحرك الكنسي

في الأصحاحات السابقة نرى تحرك الله المستمر نحو شعبه، هو الذي هيأ لهم موسى منقذًا، وهو الذي حرك قلب فرعون، وهو الذي عبر بهم البحر الأحمر وأهلك عدوهم (إبليس وجنوده) وعالهم بالمن السماوي وحولّ مرارة المياه إلى عذوبة إلخ… وأخيرًا قدم لهم وصاياه وشرائعه سندًا لهم، والآن تلتزم الكنيسة بالتحرك نحو الله وبمساندته، فقد جاء هذا الأصحاح يكشف عن العمل الكنسي في الله، والذي يمكن تلخيصه فى النقاط التالية:

1. الروح الجماعية:

إن كان موسى “يقترب وحده إلى الرب” [2]، والشعب لا يصعد معه، لكن الله أمر موسى أن يصعد ومعه هرون وناداب وأبيهو وسبعون من الشيوخ [1]. فالكنيسة لا تعرف الإنفرادية، إنما يلزم أن تلقى القيادات الروحية بمواهبها المتعددة وأعمالها المتباينة بروح واحدة يلتقي موسى مستلم الشريعة مع هرون رئيس الكهنة وإبنيه ناداب وأبيهو ممثلين للكهنة واللاويين ومع السبعين شيخًا يمثلون أراخنة الشعب. في هذا يقول الرسول: “فإنه كما في جسد واحد لنا أعضاء كثيرة ولكن ليس جميع الأعضاء لها عمل واحد، هكذا نحن الكثيرين جسد واحد في المسيح وأعضاء بعضًا لبعض كل واحد للآخر. ولكن لنا مواهب مختلفة بحسب النقمة المعطاة لنا. أنبوة فبالنسبة للإيمان، أم خدمة ففي الخدمة، أم المعلم ففي التعليم، أم الواعظ ففي الوعظ. المعطي فبسخاء، المدبر فباجتهاد، الراحم فبسرور” (رو 12: 4-8).

هكذا يعمل الكل معًا بروح واحد مع اختلاف المواهب، ليس لأحد يفتخر بموهبته على الآخرين، ولا يزدري أيضًا بما وهبه الرب من وزنات! ليعمل لا بروح الكبرياء ولا بصغر نفس! وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليتنا نأخذ هذه الأمور في اعتبارنا فلا نحسد ولا نحقد على الذين لهم مواهب أعظم، وفي نفس الوقت لا نحتقر الذين لديهم مواهب أقل[326]].

2. رباط روحي لا جسدي:

لم يأخذ واحدًا من ابنيه، بل ولا سمعنا عن ابنيه أنهما تسلما مسئواية معينة، إنما أخذ معه هرون وابنيه ناداب وأبيهو [1]. هنا تظهر القيادة الروحية الحية التي تعمل من أجل الله وحده، فلا يسلم ابنيه حسب الجسد أي مسئولية هم غير قادرين عليها، لكنه إذ أمره الله أن يعمل أخوه هرون معه لم يمتنع.

ناداب هو ابن هرون البكر، واسمه يعني “كريم”، وكان أحد الذين كرسوا كهنة للرب، وأبيهو تعني “أب هو”. وللأسف مات الإثنان عندما قدما نارًا غريبة أمام الرب (لا 10: 1، عد 26: 61)، ربما لأنهما في حالة سكر، على أي الأحوال صار هذان الرجلان مثلين مرعبين لكهنة الرب، فإنهما وإن صحبا موسى وهرون مع السبعين شيخًا ورأوا الرب [9] وتحت رجليه أمجاد سماوية، واشتركا في العمل الكهنوتي منذ بدء قيامه لكنهما حرما نفسيهما من التمتع بالله خلال تقديمهما نارًا غريبة. لهذا لا نعجب إن كان الرسول يحذرنا: “من يظن أنه قائم فلينظر أن لا يسقط” (1 كو 10: 12)، كما يقول: “أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضًا” (1 كو 9: 27).

3. دور الشعب:

إن كان قد صعد موسى قائد الشعب وهرون كاهنه وإبناه، والسبعون شيخًا أراخنة الشعب، لكن لا يمكن أن تقوم الحياة الكنسية على سلبية الشعب، فقبل أن يقدم موسى المحرقات وذبائح السلامة للرب وقبل أن يرش الدم على المذبح والشعب تحدث معهم عن “كل الأقوال التي تكلم بها الرب” وقبلوها بكل رضى [3]. من أجل الشعب جاء موسى، ومن أجلهم أقيم الكهنوت والأراخنة… لذلك فلهم الكلمة الأولى والمباشرة في علاقتهم مع الله.

في الكنيسة يقوم الشعب بدور إيجابي، فلا تعرف الكنيسة القداسات السرية، وإنما يلزم إشتراك الشعب علانية مع الكهنة في الخدمة. وكما يصلي الكاهن من أجل الشعب، يطلب الشماس من الشعب أن يصلوا عن الأب البطريرك وكل طغمات الكهنوت. ويلتزم الشعب بالشهادة أو الكرازة بالإنجيل بكونهم رسالة المسيح المقرؤة من جميع الناس[327].

4. دور الفتيان:

“وأرسل فتيان بني إسرائيل فأصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة للرب من الثيران” [5].

ليس فقط يقوم الشعب بدور إيجابي في الحياة الكنسية، وإنما أعطى موسى إهتمامًا بالفتيان الذين أرسلوا لإصعاد محرقات وذبائح سلامة للرب. فدور الفتيان لا يقف عند الإستماع والطاعة لكنهم يحملون عملاً أساسيًا في حياة الكنيسة.

الله يطلب محرقات الحب وذبائح السلامة منك في أيام شبابك، لذا يقول الكتاب: “أذكر خالقك في أيام شبابك” (جا 12: 1).

5. روح التلمذة:

“قام موسى ويشوع خادمه، وصعد موسى إلى جبل الله” [13].

رأى القديس أمبروسيوس في التصاق يشوع بموسى صورة حية للتلمذة، فإن القائد الناجح هو الذي يُقدم للكنيسة تلاميذ للرب، ويعرف نجاحه بعد رحيله إن كان قد ترك من يكمل الرسالة الإلهية أم انتهى عمله برحيله.

يقول القديس أمبروسيوس عن يشوع: [كان ملاصقًا لموسى الطوباوي في كل موضع، وسط كل الأعمال العجيبة والأسرار الرهيبة… ما أجمل الوحدة بين الشيخ والشاب. أعطى الأول شهادة (لوحي الشريعة) وقدم الآخر راحة (أرض الموعد). قدم الواحد قيادة والآخر سعادة… أحدهما تحكم في البحر والآخر في السماء (يشوع 10: 12)[328]].

6. العمل بروح الصلاة مع الحكمة:

التصق هرون بحور[329]، فكانا يعملان معًا حين كانا يسندان يديّ موسى أثناء حرب يشوع ضد عماليق (17: 12)، وها هما يعملان الآن في القضاء لدعاوي الشعب أثناء غياب موسى.

هرون يمثل الكهنوت، أما حور فهو من سبط يهوذا جد بصلئيل الذي قال عنه موسى: “دعا الرب بصلئيل بن أوري بن حور… وملأه من روح الله بالحكمة والفهم والمعرفة” (خر 35: 30-31). فكأن حور يمثل الحكمة الإلهية. فإن كان موسى يبسط يديه كان يمثل الصليب، فإن هذا الصليب قام على عمل المسيح الكهنوتي وحكمة الله لخلاصنا. هنا أيضًا في غياب موسى يترك هرون وحور للقضاء في دعاوي الشعب، وكأن الكنيسة يلزمها في رعايتها للشعب أن يجتمع العمل الكهنوتي المملوء حنوًا وترفقًا مع الحكمة في التدبير.

7. التقديس بالدم:

لا يمكن أن يقدم العمل الكنسي إلاَّ خلال المذبح والذبيحة، لهذا بكر موسى في الصباح وبنى مذبحًا في أسفل الجبل واثنى عشر عمودًا لأسباط إسرائيل الاثنى عشر، فلا وجود لهذه الأسباط إلاَّ خلال المذبح… ولا تقديس لهم إلاَّ برش نصف الدم على المذبح والنصف الآخر على الشعب. خلال دم الذبيحة الحقيقية، دم السيد المسيح يدخل الشعب إلى الأقداس، وكما يقول معلمنا بولس الرسول: “فإذ لنا أيها الأخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع، طريقًا كرسه لنا حديثًا حيًا بالحجاب أي جسده، وكاهن عظيم على بيت الله. لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشه قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي…” (عب 10: 19، 21).

8. ربط الحياة السماوية بالواقع الزمني:

ظهر لهم الرب وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة [10]، كأن الله أراد من العاملين في الكنيسة جميعًا أن يحملوا الطبيعة السماوية والفكر السماوي، لكن دون تجاهل لواقعهم الزمني واحتياجات أجسادهم، إذ يكمل الكتاب قائلاً: “فرأوا الله وأكلوا وشربوا” [11].

هكذا يليق بنا كخدام الله أن نراه ونتشبه له ونحمل أفكاره فينا، دون أن نتجاهل أحتياجات جسدنا الضرورية من مأكل ومشرب في حضرة الرب!!!

9. موسى على الجبل أربعين يومًا:

تحدثنا قبلاً عن السحاب وظهور مجد الله كنار آكلة، لكننا لننظر الآن إلى موسى وهو على الجبل “أربعين نهارًا وأربعين ليلة” [18].

يرى القديس أغسطينوس أن رقم 40 يُشير إلى كمال حياتنا الأرضية أو الزمنية، وكأنه يليق بالمؤمن أن يقضي كل أيام حياته على جبل الله، أي في شريعة الله ووصاياه، يتأمل مجد الرب وينعم باللقاء معه وجهًا لوجه. وكما صام موسى الأربعين يومًا هكذا يعيش المؤمن الحقيقي في حياة الزهد كل أيام غربته، ليس من أجل الزهد في ذاته إنما لأجل ارتفاع قلبه لحياة الشركة مع الله والتطلع المستمر له. أو بمعنى أدق نقول مع العلامة ترتليان: [صام موسى وإيليا أربعين يومًا وعاشا على الله وحده[330]]، أي صار طعامهما المشبع!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى