الأسرة وتسليم الإيمان

 

كانت كلمات الرسول بولس إلى تلميذه تيموثاوس غاية في العجب. حين قال له:الأسرة والكنيسة “إِذْ أَتَذَكَّرُ الإِيمَانَ الْعَدِيمَ الرِّيَاءِ الَّذِي فِيكَ، الَّذِي سَكَنَ أَوَّلاً فِي جَدَّتِكَ لَوْئِيسَ وَأُمِّكَ أَفْنِيكِي، وَلكِنِّي مُوقِنٌ أَنَّهُ فِيكَ أَيْضًا.” (2تى 5:1). فهل الإيمان يورث؟! إن نفس الإيمان عدم الرياء الموجود في قلب تيموثاوس الأبن، هو نفسه الإيمان الذي كان ساكناً في قلب أمه افنيكي، وجدته لوئیس. إنه الإيمان الذي تسلمه الأسرة لأبنائها كميراث مقدس، ومع أن الإيمان لا ينتقل خلال الأجيال بطريقة ميكانيكية، إلا أن تأثر “التسليم” و “التربية المسيحية”، لا يمكن إنكاره.

وهذه هي الوظيفة الرئيسية والجوهرية للأسرة في المسيحية: “تسليم الإيمان”. فقد نسلم أولادنا میراثاً دنيوياً ضخماً كالأموال والممتلكات، وهذا مقبول، لكن الخطر، يكمن في الفشل في تسليمنا إياهم الإيمان المسلم مرة من القديسين. “لأنه ماذا و ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟ أو ماذا يعطى الإنسان فداء عن نفسه؟” (مت26:16 )

ولذلك أكد لنا الرسول بولس دور الولدين في خلاص أولادهم خصوصاً دور الأم فقال عنها: “ولكنها ستخلص بولادة الأولاد، إن ثبتن في الإيمان والمحبة والقداسة مع التعقل” (1تي 15:2 )، إذن فخلاص الأم متوقف على أسلوب تربيتها لأولادها، ولذلك بكت القديسة مونيكا بمرارة من أجل انحراف ابنها القديس أغسطينوس،  شاعرة بخطورة مسئوليتها أمام الله عن مصير ابنها. وهكذا استحقت تشجيع القديس امبروسيوس لها: “ثقي يا ابنه لن يهلك ابن هذه الدموع”.

فما هي القنوات التي يتسلم من خلالها أولادنا الإيمان؟

1- حياة العبادة

هذه هي القناة الأولى والرئيسية التي يتسلم من خلالها أبناؤنا الإيمان، لأن وقفة الصلاة أمام أيقونة السيد المسيح أو للعذراء حاملة الطفل الإلهي لاشك أنها تطبع في ذهن الطفل أثرا لا يمحى، إذ يعرف “بابا” يسوع و “ماما” العذراء.. وهكذا تسهم هذه الوقفة – مع المعمودية… في ولادة جديدة للطفل من بطن الكنيسة. 

إن الطفل الذي أحس أن كنيسة البيت هي امتداد للكنيسة التي يذهب إليها مع الأسرة المسيحيةأسرته أكثر من مرة أسبوعياً.. سيصير هو نفسه كنيسة صغيرة… وسيكون بيته في المستقبل كنيسة أيضا. ونحن نلاحظ كيف يحول الطفل البيت إلى كنيسة، إذا ما واظب مع أسرته على حضور القداس الإلهي… كيف يقلد المرتل والشماس، والكاهن وهو يطوف بالشورية أو يرش الماء على الشعب.

وما أجمل أن يصير الطفل “ابسالتس” في الكنيسة، والشاب “اغنسطس” في بيت الله، لأن بصمات المذبح في حياته لن تمحى إلى الأبد، وكما قال القديسون: “من كان بعيداً عن المذبح فهو محروم من خبز الله”.

2- التعليم المسيحي

وهو قناة ثانية لتسليم الإيمان، “الإِيمَانُ بِالْخَبَرِ، وَالْخَبَرُ بِكَلِمَةِ اللهِ.” (رو 17:10 )، وينبغي هنا أن نسترجع دور الجد والجدة وهما يقصان على الأحفاد قصص الكتاب المقدس، من الخليقة إلى بابل والطوفان والأسباط.. حتى إلى ميلاد السيد المسيح بالجسد، وصلبه وقيامته وصعوده، وتأسيس كنيسته. إن الآباء والأمهات أكثر إنشغالا من الجد والجدة، ولكن قصص الكتاب وعمل الكلمة أمران هامان في تربية الأولاد، بل أن كثيراً من الآباء أتقن الكتاب المقدس حين بدأ يحكي لأطفاله بعضاً من قصصه. إنها بركة عظمى لكل الأجيال، فالكتاب خير مدرسة وخير دستور.

و كذلك فإهتمام الوالدين بانتظام الأطفال في فصول التربية الكنسية وفي حضور القداس. والتناول من الأسرار المقدسة… كلها وسائل تضيف إلى الرصيد الإيماني والتعليمى للأجيال الصاعدة. 

3- السلام الأسري

“لاسلام قال الرب للأشرار” (إش 22:48)، وهذه حقيقة، فالزوجان البعيدان عن الرب، والمنغلقان كل في ذاته أو ملذاته يستحيل أن يعيشا في سلام. أما الزوجان المرتبطان بالرب، المؤمنان بتدخله الإلهي في كل المشكلات، وبقيادته الحكيمة للأسرة، فهما في سلام حقیقی، وهذا السلام – ثمرة إيمانهما- ملحوظ ومحبوب من أولادهما، وقناة هامة يتسلم من خلالها الأولاد روح المسيح وفكره وحلمه.

4- التصرف في المواقف

لاشك أن الأسرة المسيحية الصادقة في إيمانها، تنقل هذا الإيمان إلى أولادها في سهولة، من خلال سلوكها في المواقف المختلفة.

 فهي أسرة مُحبة تحب الجميع بصدق ودون رياء… والأطفال يلاحظون ويمتصون ذلك.

 وهي أسرة حكيمة تعالج المشكلات في هدوء، ولا تتدنى إلى مشاجرات ومنازعات ليست من روح الله.
 وهي أسرة خادمة تقدم الخدمة ببشاشة لكل من حولها، في فرح العطاء.
كما أنها أسرة ملتزمة بمبادئ المسيح فيه ” يُخَاصِمُ وَلاَ يَصِيحُ، وَلاَ يَسْمَعُ أَحَدٌ فِي الشَّوَارِعِ صَوْتَهُ.” (مت 19:12 ). بل تسلك حسب وصايا الرب ومحبته وفكره.
ما أكثر الدمار الذي يصيب الأبناء من خلافات الآباء، سواء داخل أو خارج الأسرة. ومن أضخم المسئوليات الملقاة على عاتق الوالدين، في تنشئة أولادهم التنشئة الصالحة.

5- مكتبة الأسرة

من المقبول أن تضم الأسرة الصحف اليومية والمجلات العامة المناسبة للأطفال والشبان، لكن من الضروري أن يهتم الوالدين بإنشاء مكتبة صغيرة مناسبة للأولاد حسب أعمارهم. وما أكثر المطبوعات المسيحية المتاحة الآن.  كقصص الكتاب المقدس، أو سير القديسين، أو شرح طقوس القداس، أو الكتب الشبابية أوالمناسبة لهذه المرحلة.

إن “القراءة تقوم العقل الطواف” كما يقول أحد القديسين، لهذا يجب أن نركز على دور الكتاب في حياة الأبناء، خصوصاً بعد أن أضعف التليفزيون من قدرة الناس على القراءة، إذ جلسوا أمامه في استسلام يمتصون بعض البرامج الجيدة، لكن غالبية البرامج السلبية. كذلك يجب أن تشتمل مكتبة الأسرة على الأسفار المقدسة وكتبها التفسيرية، مما ينشط ذهن الشباب، ويشحنه بأفكار مقدسة لا تعطي فرصة لأفكار شريرة.

6- الرحلات التعليمية

كزيارة الأديرة المقدسة. أو المتحف القبطى، أو تبادل الزيارات مع كنائس داخل أو خارج المنطقة. هذه كلها يتشربها الطفل والفتي والشاب، إذ يلتقي بأباء رهبان زهدوا العالم، أو آباء كهنة يقدمون له فكر المسيح وعمل الروح، أو بأخوة وأخواتم يسيرون معه في نفس الطريق، طريق الملكوت، وهكذا ينمو الفتى في الروح مرتبطاً بالله، وفي النفس سعيداً بالجماعة، وفي الذهن نامياً في المعرفة، وفي الجسد متريض، ورياضياً، وتكون له الشخصية المتكاملة التي لا تبرز في جانب وتضعف في جانب آخر، بل يكون نموها متناسقاً في كل الزوايا.

هذه بعض القنوات التي يمكن أن تستخدمها الأسرة في تسليم الإيمان لأبنائها . ليزداد عدد بنى الملكوت وليخلصوا من دينونة اليوم الأخير .

الرب يبارك حياة الجميع لمجد اسمه.

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى