تفسير سفر التكوين ١٦ للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح السادس عشر
إبرام وهاجر
دخل إبرام في صداقة مع الله نفسه الذي أكد له الوعد بأن نسله الخارج من صلبه يكون وارثًا للأرض التي أخرجه إليها، وإذ مرت سنوات دون حدوث تغير ظنت ساراى أنها تتمتع ببنين لها خلال هاجر جاريتها، فقدمتها لرجلها، وقبل إبرام الأمر حاسبًا أن الله يحقق وعوده خلال نسله من هاجر… لكنه إذ سلكت ساراى بتفكير بشري بحت خارج دائرة الإيمان نالت مرارة وخسارة.
ساراى تسلم هاجر لرجلها ١–٥
إذ بقيت ساراى عشر سنين مع إبرام في أرض كنعان ولم تنجب بل كانت عاقرًا، استخدمت التفكير البشري المحض لتحقيق وعود الله، إذ طلبت من رجلها أن يدخل على جاريتها المصرية هاجر، وإذ حبلت هاجر صغرت مولاتها في عينيها، فألقت ساراى باللوم على إبرام الذي أسلم هاجر بين يديها فأذلتها حتى هربت. هذا العمل يمثل اتكال الإنسان على ذاته يخطط لنفسه دون الرجوع إلى الله وطلب مشورته.
يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن ساراى ظنت أن عدم الإنجاب يرجع إلى رجلها لذلك سلمته لتمتحن الأمر، وإذ رأتها قد حبلت اغتمت للغاية إذ أدركت أن سرّ العقم هو فيها…
على أي الأحوال، إن كان إبرام وساراى يسلكان بالإيمان فإنه حتى ضعفهما يستخدمه الله لمجد أسمه، إذ صارت ساراى تمثل كنيسة الأمم (العهد الجديد) التي كانت قبلاً عاقرًا لا تنجب أولادًا لله وهاجر تشير إلى اليهود الذين انجبوا عبيدًا برفضهم البنوة لله في المسيح يسوع… وفي ملء الزمان أنجبت ساراى إسحق إذ أتت بأبناء كثيرين الله. ولدت سارى ابنها ليس حسب الطبيعة إذ كانت عاقرًا وإنما حسب وعد الله فجاء ابنًا مباركًا، أما هاجر فأنجبته حسب الطبيعة فجاء عبدًا. هذا الفكر أعلنه الرسول بولس بوضوح، إذ قال للمسيحيين الذين يريدون العودة إلى الفكر اليهودي (حركة التهود)؛ “قولوا لي أنتم الذين تريدون أن تكونوا تحت الناموس ألستم تسمعون الناموس؟! فإنه مكتوب أنه كان لإبراهيم ابنان واحد من الجارية والآخر من الحرة، لكن الذي من الجارية ولد حسب الجسد، وأما الذي من الحرة فبالموعد، وكل ذلك رمز، لأن هاتين هما العهدان، أحدهما من جبل سيناء الوالد للعبودية الذي هو هاجر، لأن هاجر جبل سيناء في العربية، ولكنه يقابل أورشليم الحاضرة، فإنها مستعبدة مع بنيها. وأما أورشليم العليا التي هي أمنا (جميعًا) فهي حرة، لأنه مكتوب: “افرحي أيتها العاقر التي لم تلد، اهتفي واصرخي أيتها التي لم تتمخض فإن أولاد الموحشة أكثر من التي لها زوج، وأما نحن أيها الأخوة فنظير إسحق أولاد الموعد، ولكن كما كان حينئذ الذي ولد حسب الجسد يضطهد الذي حسب الروح هكذا الآن أيضًا، لكن ماذا يقول الكتاب، أطرد الجارية وابنها لأنه يرث ابن الجارية مع ابن الحرة، إذا أيها الأخوة لسنا أولاد جارية بل أولاد الحرة” (غلا ٤: ٢١– ٣١).
كانت ساراى أو سارة عاقرًا تمثل الأمم الذين عجزوا عن تقديم أولاد الله؛ لكنها أنجبت إسحق ليس ثمرة قانون الطبيعة ولا خلال الزواج الشرعي إذ كانت في عقرها كمن هي تحت حكم الموت، لكنها أنجبت ابنًا خلال وعد الله لها مع رجلها إبراهيم فأنجبت ابنًا في الرب. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ولد إسحق لا حسب قانون الطبيعة ولا بزواج شرعي ولا بقوة الجسد ومع ذلك فهو أبنه حقًا. لقد جاء عن جسدين كانا ميتين، جاء عن رحم ميت، فلم يكن الحبل به حسب الجسد، ولا كان مولده عن زرع لأن الرحم كان ميتًا بسبب الشيخوخة والعقم لكن كلمة الله (الوعد الإلهي) شكله (خلال اتحاد إبراهيم وسارة كثمرة للوعد وهو أبنهما من زرعهما). لم يكن الأمر هكذا في ابن الجارية، إذ جاء ثمرة قوانين الطبيعة وخلال اقتران. ومع ذلك فإن الذي كان ليس حسب الجسد كان أكثر كرامة من الذي وُلد حسب الجسد[262]].
ومن كلماته أيضًا: [لم تكن الكنيسة عاقرًا فقط كسارة وإنما أيضًا صارت مثلها أمًا لأبناء كثيرين، وحبلت بهم بذات الطريقة كما حدث مع سارة، إذ لم تحبل خلال الطبيعة بل خلال وعد الله الذي جعل من سارة أمًا]. [من هذه التي كانت عاقرًا وموحشة؟ إنها كنيسة الأمم التي كانت محرومة من معرفة الله. ومن هي التي لها زوج؟ إنها مجمع اليهود. لكن العاقر فاقتها في عدد البنين إذ جمعت اليونانيين والبرابرة في البحر والبر وكل أرجاء المسكونة]. [وما دمنا أولاد العاقر فنحن أحرار، ولكن أية حرة هذه إن كان اليهود يقبضون على المؤمنين ويضطهدونهم؟ ليتنا لا ننزعج من هذا الأمر فمنذ البداية كان ابن الجارية يضطهد ابن الحرة[263]].
يرى القديس أكليمنضس الاسكندري أن هاجر تمثل الحكمة الزمنية وساراى تمثل الحكمة الإلهية أو معرفة الله، وأن ساراى سلمت هاجر لرجلها إشارة إلى معرفة الله التي تسلم الحكمة الزمنية أو الثقافة كصبية أو جارية تخدم الإنسان، أما حكمة الله فنكرمها كزوجة ورفيقة. لقد طردت ساراى هاجر إلى حين لتأديبها حتى تخضع لها، إشارة إلى الإنسان الذي يرفض حكمة العالم إن كانت ليست في الرب.
أخيرًا يقدم لنا القديس أغسطينوس تبريرًا لتصرف إبراهيم مع هاجر، إذ يقول: [لم يكن إبراهيم مذنبًا بخصوص السارية، فقد استخدمها لا لتحقيق شهوة بل من أجل الإنجاب فقط، لا ليسئ إلى زوجتهوإنما في طاعة لها، هذه التي ظنت في هذا التصرف ما ينزع عنها عقرها باستخدام رحم جاريتها المثمر عوض طبيعتها (العاقرة). خلال الشرع يقول الرسول: “كذلك الرجل أيضًا ليس له تسلط على جسده بل للمرأة” (١ كو ٧: ٤)، فكزوجة استخدمت رجلها للإنجاب بواسطة أخرى حينما عجزت هي عن تحقيق هذا. هنا لا يوجد مجال للشهوة ولا للدنس الدنيء. لقد سُلمت الجارية للزوج بواسطة الزوجة لأجل الحمل، كل منهما لا يود أن يرتكب ذنبًا إنما يطلبان الثمر المتزايد. لذلك عندما احتقرت الجارية الحامل سيدتها العاقر ألقت سارة بغيرتها النسائية على رجلها إبراهيم لم يظهر حبًا أنانيًا بل أظهر أنه كان يطلب طفلاً وهو حرّ (من الشهوة) لذلك وإن كان قد التصق بهاجر ليس على حساب سارة امرأته محققًا إرادتها… لذا قال لها: “هوذا جاريتك في يدك، افعلي بها ما يحسن في عينيك” [٦][264]].
هكذا يبرر القديس أغسطينوس تصرف إبراهيم أب الآباء أنه لم يطلب الالتصاق بهاجر لشهوة جسدية وإنما لطلب الذرية وكطلب زوجته، وقد أظهر تمام حبه لزوجته بترك الجارية بين يديها تفعل بها ما تشاء، لكننا لا نقدر أن نقبل مثل هذا التصرف خاصة في ظل النعمة الإلهية، فإن كان إبراهيم وسارة قد سلكا هكذا من أجل الإنجاب انتظارًا لمجيء المخلص من نسلهما، لكننا الآن لا نطلب نسلاً أو أولادًا حسب الجسد. هذا من جانب آخر إن كان ليس للرجل تسلط على جسده بل لزوجته فإنه ليس من حقها تسليم جسد رجلها لأخرى أيًا كان الدافع، فقد تسلمت رجلها من الرب كما يتسلم الرجل امرأته من الرب ليعيش الاثنان جسدًا واحدًا في الرب، لا يدخل جسد غريب في الوسط!
هروب هاجر من وجه ساراى ٦–٧
يرى القديس أغسطينوس[265] أن “هاجر” أو “غريب” تشير إلى النفس الغريبة غير المواطنة بين شعب الله، وتمثل كل فكر غريب عن الإيمان. لقد حبلت هاجر واحتقرت مولاتها، لذا استحقت التأديب، حتى متى خضعت لها قلبيًا ترجع إليها.
ما أكثر هاجر في حياتنا الداخلية، إي ما أكثر الأفكار الغريبة عن الإيمان التي تحتقر مولاتها (الفكر الإيماني) أو (معرفة الله)… لنطرد عنا هاجر، أي كل فكر غريب ونذله حتى يتأدب فيرجع خاضعًا للحياة الإيمانية التقوية.
هربت هاجر، “فوجدها ملاك الرب على عين الماء في البرية، على العين التي في طريق شور“[٧]. لعلها كانت متجهة إلى مصر موطنها الأصلي، فنزلت إلى برية فاران حيث لاقاها ملاك الرب عند عين ماء، ربما “عيون موسى” القريبة من السويس، في طريق شور أي سور، وهو طريق قوافل في البرية…
لم يكن ممكنًا لهاجر أن ترجع إلى ساراى وإبرام وتنجب ابنًا ما لم تلتق بملاك الرب عند عين ماء في طريق شور، فإن كان ملاك الرب يشير إلى السيد المسيح فقد نزل إلينا في بريتنا القاحلة لكي يلتقي بنا عند مياه المعمودية ويكون لنا سورًا “شور” فيردنا من الاتجاه نحو مصر أي محبة العالم إلى كنعان السماوية. لقد طُردنا من كنعان أي الفردوس بسبب خطايانا، وصرنا في مرارة وعزلة، في برية هذا العالم، لكن الرب لا يتركنا بل يردنا إليه بتجديدنا في المعمودية. وكما يقول القديس يعقوب السروجي في ميمر المعمودية: [المعمودية باب يردنا إلى الفردوس، فيها يدخل الإنسان إلى الله ليكون معه. المعمودية سفينة جديدة حاملة للأموات، بها يقومون ويعبرون إلى بلد الخالدين. وُضعت المعمودية في العالم الجديد، فيها يعبر الإنسان من عند الأموات إلى بلد الحياة[266]].
عودة هاجر إلى ساراى ٨–١٤
طلب ملاك الرب من هاجر أن ترجع إلى مولاتها ساراى، وكأنها تشير إلى الحكمة الزمنية التي إن تقدست تخدم الإيمان بخضوعها له. إنها تمثل الفلسفات الزمنية إن قبلها المؤمن بروح تقوى وبفكر إيماني، فإنها تصير خادمة له في الرب وليست محطمة لإيمانه بروح الكبرياء والعجرفة…
لعل هاجر أيضًا تشير إلى الإنسان الجسداني، إن احتقر الروح (ساراى) كان محطمًا لنفسه، لكنه إن تقدس في مياه المعمودية، وقبل عمل الروح القدس فيه، وعاد إلى ساراى خاضعًا للروح، يكون خادمًا للرب. في هذا يقول القديس أغسطينوس: [“أرجعي إلى سيدتك” أيتها النفس الجسدانية، كجارية متعجرفة. إن كنت قد احتملتي شيئًا من التعب إنما لأجل التأديب، فلماذا تثورين؟ أرجعي إلى سيدتك وتمتعي بسلام الكنيسة[267]].
طالبها ملاك الرب بالخضوع والطاعة لسيدتها [٩] التي يبدو أنها لم تظلمها في طردها بل هاجر كانت عنيفة في ازدرائها بسيدتها. مقابل هذا الخضوع وعدها بكثرة النسل لكنه يكون ابنها وحشيًا لا يتوقف عن مقاومة اخوته، وهم أيضًا يقاومونه.
رأت هاجر “ملاك الرب“، وكما يرى كثير من المفسرين أنها إحدى رؤى ابن الله، وقد وعدته هاجر “أنت إيل رئى” أي “إله رؤية، إله يرى“، بمعنى أنه الرب الذي ظهر لها ورأى مشقتها. وأما البئر التي توقف عندها فدعتها “بئر لحى رئى” وتعني البئر التي رؤى فيها الله الحيّ.
ميلاد إسمعيل ١٥–١٦
ولدت هاجر ابنها ودعته “إسمعيل” كقول ملاك الرب، ويعني “الله سمع” ودعاه إبرام بذات الاسم إذ حسب أن الله سمع له وأعطاه ابنا يرثه (١٧: ١٨)… إذ لم يكن يظن أن سارة تلد له ابنًا.
كان إبرام ابن ٨٦ سنة حين ولدت هاجر إسمعيل، وكان ابن مئة سنة حين ولد إسحق، وكأن إسمعيل يكبر إسحق بحوالي ١٤ عامًا.
سفر التكوين – أصحاح 16
تفاسير أخرى لسفر التكوين أصحاح 16
تفسير تكوين 15 | تفسير سفر التكوين القمص تادرس يعقوب ملطي |
تفسير تكوين 17 |
تفسير العهد القديم |