تفسير سفر إشعياء ٦٤ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الرابع والستون
تضرع من أجل مجيء المسيّا
يحاول بعض الدارسين أن يفسروا حديث إشعياء النبي هنا – كما في كثير من الأصحاحات – على أنه يخص مجيء السيد المسيح الثاني ليملك ألف سنة قبل حدوث الضيقة العظيمة. لكن من الواضح أن النبي يتحدث هنا عن مجيء المسيح للخلاص الذي تحقق على الصليب، ولا يزال يتحقق عمليًا في قلب كل مؤمن جائع إلى الرب.
نزول المسيا من السماء [1-3].
“ليتك تشق السموات وتنزل، من حضرتك تتزلزل الجبال؛ كما تشعل النار الهشيم وتجعل النار المياه تغلي لتعرَّف أعداءك اسمك، لترتعد الأمم من حضرتك” [1-2].
يرى بعض المفسرين أن الحديث هنا خاص بالسيد المسيح عندما ينزل من السماء علانية ليُقيم مملكته على الأرض ألف عام، يملك ويهزم مقاوميه وأعداءه وكل الأمم الخ… على خلاف مجيئه الأول الذي كان مخفيًا في أحشاء البتول، لا يصيح ولا يسمع أحد صوته الخ…
لست أريد الحديث هنا عن الملك الألفي إذ تعرضت له في تفسير الأصحاح 19 من سفر الرؤيا، إنما ما أود تأكيده أن نصوص إشعياء النبي لا تُفهم بطريقة حرفية، لأن مسيحنا ملك روحي، رفض أن يملك ماديًا، حاسبًا تجسده الإلهي نزولاً كما من السماء ليلتقي بنا؛ كنا كالجبال في قسوة حياتنا فتزلزلت أعماقنا، أشعل ما في داخلنا من هشيم الشر، وجعل المياه الباردة فينا تغلي بالحب، واهبًا إيانا نصرة على أعداء اسمه، لا خلال حروب منظورة وإنما خلال الإيمان العامل بالمحبة.
من أجل الخلاص من السبي أو الضيقات يكفي أن يطلب الإنسان من الله أن يتطلع من السموات وينظر من مسكن قدسه ومجده (إش 63: 15)، وإن كان الله مالئ السموات والأرض بلاهوته… أما من أجل خلاصنا من خطايانا وعودتنا إلى الأحضان الأبوية فالأمر
يحتاج إلى شق السموات ونزول كلمة الله إلى أرضنا [1]. وكما قال السيد المسيح عن نفسه.
* “لأني قد نزلت من السماء ليس لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني… أن كل من يرى الابن ويؤمن به تكون له حياة أبدية وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يو 6: 38: 40). نزل من السماء ليحقق الطاعة عوض آدم الساقط في العصيان، مقدمًا مشيئة الآب التي هي واحدة مع مشيئته. أما مشيئة الآب فهي تحقيق الخلاص والقيامة برؤية الابن إيمانيًا والثبوت فيه.
* “ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء” (يو 3: 13).
وقال عنه القديس يوحنا المعمدان: “الذي يأتي من السماء هو فوق الجميع” (يو 3: 31).
يسبح القديس مار افرآم السرياني كلمة الله الذي شقّ السموات ونزل قائلاً:
[مبارك هذا الذي بتجسده اشترى لطبيعتنا البشرية حياة!
مبارك هذا الذي ختم نفوسنا وزينها وخطبها لنفسه عروسًا!
مبارك هذا الذي جعل جسدنا خيمة لطبيعته غير المنظورة!…
المجد لذاك الذي نظر إلينا كيف إننا قبلنا أن نشابه الوحوش في هياجنا وجشعنا، فنزل إلينا وصار واحدًا منا حتى نصير نحن سمائيين!…[663]].
تطلع داود النبي إلى التجسد الإلهي فقال: “طأطأ السموات ونزل” (مز 18: 9).
يرى البعض أن بقوله “ليتك تشق السموات وتنزل، من حضرتك تتزلزل الجبال” [1] يعني أن الشعب وسط ضيقته شعر كأن الله قد حجب وجهه عنهم بالسحاب: “الرب سكن في الضباب” (2 إى 6: 1)؛ “السحاب ستر له فلا يُرى” (أى 22: 14). وكأنهم يصرخون أن كانت خطايانا قد حجبتك وراء السحاب، وحجبت عنا إدراك أسرار مقاصدك؛ فإنه ليس من يقدر أن يُصلح الأمر سواك. نحن لا نقدر أن نصعد إليك، أما أنت فتشق الحجاب وتنزل إلينا. لا يكفي أن تنظر إلينا من سمواتك، نحن في حاجة إلى حلولك وسطنا.
“تتزلزل الجبال” [1]، إن كانت الجبال الصلدة قد ارتجفت في سيناء حين التقى الله بموسى (خر 19: 17-18)، وانشقت الجبال وانكسرت الصخور أمام الرب لما كلم ايليا (1 مل 19: 11)، فمن يقدر أن يقف أمامه؟! الله وحده القادر أن يحل كل مشاكلنا، فيزلزل إنساننا القديم ويُحطم جبروت شرّنا ليُقيم مملكته في داخلنا. إن كان إبليس وكل جنوده وملائكته بأعمالهم الشريرة وخداعاتهم كالجبال، فإن الرب يُزلزل مملكتهم بالصليب، وإن كانوا كالهشيم (أشبه بالقش الهش الجاف الذي لا يصلح إلاَّ وقيدًا) فان الله يُهلكهم بالنار.
إننا في حاجة إلى نزول الرب إلينا لأن أعداءنا الذين كالجبال هم أعداء إسمه، يقاوموننا لينتزعونا عن ملكوته أو ينتزعوا اسمه وملكوته من داخلنا.
مقاومة الأعداء – إبليس وجنوده – مهما بلغ عنفها تصير كهشيم يحرقه الله بالنار لا ليُبدد المقاومة فحسب وإنما ليحولها للخير، إذ يستخدم هذه النيران في تسخين مياه قلبنا الباردة فتغلي حبًا وغيرة مقدسة [2]. يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [حتى إبليس يمكن أن يكون سبب نفع لن إن فهمناه… هذا واضح في حالة أيوب. ويمكن أن نتعلم هذا أيضًا من بولس، إذ يكتب بخصوص الزاني قائلاً: “أن يُسلم هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي يخلص الروح” (1 كو 5: 5). انظروا حتى الشيطان قد صار سبب خلاص، لا بطبيعته، ولكن بمهارة الرسول كالطبيب الذي بحية ليستخرج منها دواء[664]].
-
بركات انتظار المسيا [4-5].
كما عاش الأنبياء مترقبين مجيء المسيا للخلاص، نحن نبقى دومًا ننتظره ليملك لا على الأرض إنما في قلوبنا على حياتنا الداخلية كي يحملنا إلى شركة مجده؛ نرى ما أعده الله لنا، نمتلئ فرحًا ببره العامل فينا. يقول النبي: “منذ الأزل لم يسمعوا ولم يصغوا. لم تَر عينٌ إلهًا غيرك يصنع لمن ينتظره الفرِحَ الصانع البرّ…” [4-5].
إن كانت أعمال الله منذ القدم عجيبة لكنه لم يُسمع قط ولم يُر مثلما صنع الرب مع البشرية خلال اعماله الخلاصية، فقد خرج كما من السماء ليلاقي الخطاة بالفرح صانعًا البر في حياتهم، واهبًا إياهم أمجادًا داخلية كعربون للمجد الأبدي.
يعلق القديس هيبوليتس على هذه العبارة النبوية قائلاً على لسان السيد المسيح: [ادخلوا إلى الملكوت المعد لكم منذ تأسيس العالم. تمتعوا إلى الأبد بما يوهب لكم بواسطة أبي الذي في السموات والروح القدس المحيي. أي فم يقدر أن يخبر عن هذه البركات التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن ولم تخطر على قلب إنسان، الأمور التي أعدها الله لمحبيه (إش 64: 4؛ 1 كو 2: 9)؟ لقد سمعتم عن الفرح غير المنقطع! لقد سمعتهم عن الملكوت غير المتغير! لقد تعلمتم الآن عن وليمة البركات التي بلا نهاية! [665]].
-
اعتراف بالخطايا [6-12].
تبقى نفوسنا دائمًا متهللة من أجل أعمال الله الخلاصية الفائقة، منتظرين دائمًا التلاقي المستمر معه لينزع عار خطايانا ويعلن مجد بره فينا. أما طريق هذا اللقاء فهو:
أ. الاعتراف بالخطايا: “ها أنت سخطت إذ أخطأنا” [5]. يقول القديس كبريانوس: [حسنة هي التوبة! فإن لم يكن لها موضع في قلبك فستخسر نعمة الغسل التي نلتها في المعمودية منذ أمد بعيد، فإنه من الأفضل أن يكون لنا ثوب نصلحه عن ألا يكون لنا ثوب نرتديه، ولكن إذ أُعد لنا الثوب مرة فيجب أن يتجدد…[666]]. ويقول القديس يوحنا الدرجي: [التوبة تُجدد المعمودية، ابرام عقد مع الله على حياة ثانية[667]]. ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [هل أخطأت؟ قل لله: “أني أخطأت” أي تعب في هذا؟…[668]].
ب. إدراكنا عجز البر الذاتي عن خلاصنا: “وقد صرنا كلنا كنجس وكثوب عِدة كل أعمال برنا وقد ذبلنا كورقة وآثامنا كريح تحملنا” [6]. وكما يقول الأب مرتيروس السرياني: [كل كياننا الداخلي مُبتلع عند رؤيتنا له (دا 10: 8)، بسبب مهابته تصمت أفواهنا. عندما ننال قليلاً من القوة للتحدث معه تلومنا ضمائرنا، وإذ نرى أننا قد أخطأنا وأثمنا في حضرته (مز 106: 6). إن تصورنا أننا صرنا في موضع الأبرار فكل برنا كخرقة الطامث (خر 36: 17)، فله تُنسب الغلبة أما لنا فخزى الوجوه والعار (باروخ 1: 15) [669]].
يوضح لنا الأب ثيوناس كيف تتحول اعمالنا الصالحة إلى رداءة إن أتكلنا على برنا الذاتي، فأن برنا يُحسب كخرقة الطامث إن قوبل بالبر الإلهي[670].
ج. إدراك أبوة الله الحانية والغافرة للخطايا: “والآن يارب أنت أبونا؛ نحن الطين وأنت جابلنا وكلنا عمل يديك. لا تسخط كل السخط…” [8-9].
يقدم الله نفسه لنا أبًا وعريسًا وصديقًا وراعيًا باذلاً… لكي يجتذب كل نفس بالتوبة إليه. وتحمل كنيسته ذات السمة لكي تحتضن الكل بالحب لينعموا بخلاص الله العجيب. ففي رسالة إلى راهب ساقط يقول القديس باسيليوس الكبير:
[إنني أحزن عليك، لأنه أي كاهن لا ينتحب عندما يسمع هذا؟!…
أي خادم للمذبح لا يقرع صدره؟!
أي “علماني” لا ينكسر خاطره؟!
أي ناسك لا يحزن؟!…
إنك حطمت الجميع دفعة واحدة، دفعة واحدة استهنت بالكل…
تذكر الراعي الصالح الذي يتبعك ويناجيك…
أرجوك ألا تتردد في أن تأتي إليّ بسبب أي اعتبار أرضي، فإني أنتحب إذ أجد ميّتي، أُلازمه وأبكيه من أجل “خراب بنت شعبي” (إش 22: 4).
هوذا الكل مستعد للترحيب بك! الكل يُساهمون معك في جهادك فلا تتراجع…
إنه وقت للخلاص، إنه زمن للاصلاح!
كن منبسط الأسارير ولا تيأس، فإنها ليست (الكنيسة) شريعة لتُدين الخاطئ بلا رحمة، بل (لها) شريعة رحمة تنزع العقوبة وتنتظر الإصلاح.
هوذا الأبواب لم تُغلق بعد، العريس يسمع…
أشفق على نفسك وعلينا نحن جميعًا في ربنا يسوع المسيح[671]].
د. تُذكرنا أننا شعبه المنتسب إليه [9].
هـ. اعترافنا بما حل بنا من خراب، فقد صرنا برية قاحلة، واشتعلت النيران في داخلنا، وتشوهت كل المقادس الداخلية.