كتاب قصة الإنسان - القمص متى المسكين
الشيطان كما وصفه الكتاب قبل السقوط
الفرق بين خلقة الملائكة وخلقة الإنسان :
بالنسبة للملائكة عامةً، نسمع أن الله خلقهم من نسمة فيه، لذلك فهم أرواح حاملة لإرادة الله خاضعة له كالتزام «بكلمة الرب صنعت السموات، وبنسمة فيه كل جنودها» (مز 33: 6). وهنا يظهر فارق كبير بين خلقة الإنسان وخلقة الملائكة، فالإنسان مكتوب عنه بكل دقة ووضوح وتكرار أنه خُلق ذكراً وأنثى ، على صورة الله «على صورتنا كشبهنا». هذه الميزة تفتقدها كل الأجناد السماوية الروحية بكل أنواعها. هذه الميزة أعطت الإنسان فرصة النمو والترقي، لأن الصورة والشبه بالنسبة لله هي حتماً على المستوى الأقل جداً ؛ وبما أنها صورة حية الله فهي تتضمن بالضرورة الحتمية عنصر الترقّي الذي يقوم على العنصر المشابه للخلق والإبداع عند الله والـذي يـعـتـمـد على روح الله الذي نفخه في نفس الإنسان. فالإنسان له قدرة الخلق والإبداع المحدود، وذلك بتجميل صفاته الذاتية وتطويرها ، سواء في نفسه أو في غيره لتزداد شبهاً الله بلا حدود: «ونحن جميعاً ناظرين مجد الرب (الأصل الذي أخذت عنه الصورة بوجه مكشوف، كما في مرآة (الأصل أمام الصورة)، نتغير إلى تلك الصورة (الأصلية) عينها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح ( عنصر التغيير هنا هو أيضاً إلهي أي الروح القدس).» (2کو 3: 18)
دور الملائكة وطبيعة عملهم، وإمكانية عصيانهم:
أما الملائكة، فليسوا مخلوقين على صورة الله ولا على شبهه، فهم خليقة محددة لا تنمو ولا تتغير وكل منها مخلوق على حدود عمله لا يتعداه. ولكن لأن نسمة القدير ــ التي هي الأصل الذي منه خُلقوا – كاملة الحرية، لذلك أخذت الخليقة الروحية، ضمناً، قدراً من الحرية لتحفظ رئاساتها وتلتزم بأماكنها بحرية ؛ وكل حرية يعطيها الله لأتي من مخلوقاته، إنما تكون في صميم طبيعة خلقته، و يترتب عليها حتماً إطاعة الله والخضوع له ، التي يترتب عليها بالتالي المحاسبة والعقاب، على أن كل حرية في صميم معناها ومبناها ــ بالنسبة لأي مخلوق ـــ تحتمل الخطأ والصواب، وإلا لا تحسب حرية. فإذا استخدم الملاك حريته ليتعالى فوق حدوده، سقط حالاً في العصيان والتمرد. من هنا، ومن صميم طبيعة خلقة الملائكة، برز عنصر إمكانية عدم الطاعة لله ، كإمكانية الطاعة تماماً، سواء بسواء . وهذا يبرر ويؤكد و يشرح قول الكتاب :«إن كان الله لم يشفق على ملائكة قد أخطأوا…» (2بط 2: 4)، والملائكة الذين لم يحـفـظـوا رئاستهم، بل تركوا مسكنهم، حفظهم إلى دينونة اليوم العظيم ) ( يه 6) . وهذا يشير بكل وضوح إلى أنه كانت لهم وظائف عامة وخاصة، مثل رعايتهم للأمم ، فكل ملاك مكلف بقطاع أو مملكة ، أو شعب، أو مدينة ؛ بل نقرأ أن للأطفال ملائكة تحرسهم وترعاهم، كما عرفنا من فم المسيح نفسه : « أنظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار، لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات» (مت 18: 10)، وملائكة تختص بالناس : «فلما عرفت صوت بطرس لم تفتح الباب من الفرح، بل ركضت إلى داخل وأخبرت أن بطرس واقف قدام الباب ؛ فقالوا لها أنتِ تهذين، وأما هي فكانت تؤكد أن هكذا هو، فقالوا إنه ملاكه.» ( أع 12: 14 و15).
الملائكة الذين سقطوا:
أما الترأس على الأراضى والأمم ، فثل ما جاء عن ملاك فارس وهو أحد الملائكة الساقطين: « ورئيس مملكة فارس وقف مقابلي واحداً وعشرين يوماً (المتكلم هنا هو الملاك جبرائيل)، وهوذا ميخائيل واحد من الرؤساء الأولين جاء لإعانتي » ( دا 10: 13) ؛ وكذلك ما جاء عن ملاك مملكة اليونان صاحب الأصنام : «… فالآن أرجعُ وأحارب رئيس فارس، فإذا خرجت هوذا رئيس اليونان يأتى » ( دا 10: 20)؛ وكما جاء عن الملاك المختار حامي أرض إسرائيل الذي كان يعمل تحت إمرة الرب نفسه ورئيس إسرائيل : « ولا أحد يتمسك معي : على هؤلاء إلا ميخائيل رئيسكم . » (دا 10: 21).
هذا يوضح عمل الملائكة كجنود ، سواء في عالم النور أو عالم الظلمة، والذي يُحدث أحياناً تصارعاً مرعباً مخيفاً بين المملكتين : «وحدثت حرب في السماء ، ميخائيل وملائكته حاربوا التنين وحارب التنين وملائكته، ولم يقووا ، فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء . فطرح التنين العظيم – الحية القديمة ـ المدعو إبليس والشيطان الذي يضل العالم كله، طرح إلى الأرض ، وطرحت معه ملائكته . » (رؤ 12: 7-9).
و بطرس الرسول و بولس الرسول يصفاتهم بأقسامهم، سواء التي في خدمتها المقدسة الصحيحة ( 2بط 3: 22)، أو التي سقطت وصارت إلى عالم الظلمة : «فوق كل رياسة وسلطان وقوة وسيادة» (أف 1: 21) ، «ما يُرى وما لا يُرى ، سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين.» (كو 1: 16).
طبيعة واحدة غزتها الخطيئة وانتشرت فيها:
يلاحظ أن مواصفات عصيان الله وقبول مشورة الشيطان وإتمام الخطيئة بالفعل، قبلتها حواء ثم آدم على السواء، وإن كانت حواء هي التي أغويت أولاً ، لكن الأمر والوصية كانا موجهين إلى آدم ؛ وهذا يكشف عن عمومية الخطيئة كفعل سریع الإنتشار مخرب، لا يترك أية قوة في الإنسان دون أن يؤثر عليها؛ فطبيعة كل من آدم وحواء واحدة، ونحن كلنا منها، فهي أصل واحد.
إن أصعب ما يواجه الإنسان في البحث عن مواصفات الخطيئة وأسبابها وحدودها، هو كونها تصدر عن فعل حر، وحتى نتائجها تعزى إلى إرادة فاعلة حرة ؛ وهذا لا ينعكس طبعاً ـ كما قلنا سابقاً ـ على الخالق كأن هناك عيباً في الخلقة ، بل على النقيض، فإن حرية الإرادة في فعل الخطيئة تكشف عن اقتدار إلهي في كيفية إبطالها عن حرية إرادة أيضاً، كما سنرى.
فالشيطان، إذن، أخذ إذناً منا أولاً بالدخول ، وذلك بالإذعان إلى مشورته (عصيان الله ) باقتراف الخطيئة التي هي من اختصاصه، بعد ذلك أعطي فرصة يملك بالفعل و يتسلط على الإنسان، أي على كافة قدراته وملكاته من فكر وخيال و منطق وفلسفة ورؤيا وإرادة وعاطفة وأحاسيس هذه يصبغها كلها بصبغة خاصة تشتم منها الخطيئة إذ تنتشر الخطيئة في طبيعته انتشاراً في كل ركن. لهذا ـ وهذا غريب حقاً ـــ لا يشعر الإنسان الذي يمارس الخطيئة عن إدمان ، بقوة الشيطان المتسلطة عليه، لأنه حينذاك لا يعود للإنسان – في طبيعته – رقيب خارج دائرة تأثير الشيطان، بل يفتخر الإنسان الخاطىء أنه حر ولا يرى شخصاً ولا أحداً في الوجود يؤثر عليه، وأنه بمحض إرادته واختياره الشخصي يتصرف، وهذا هو الوهم وعمى البصيرة الذي يصيب الشيطان به فريسته بسبب قدرته المخادعة في الإنتشار والتسلط على كل قوى الإنسان.
من أين أتت الخطية؟
لكن السؤال الذي يلح علينا هو «ولكن من أين أتت الخطيئة، وما هو مصدرها قبل آدم ؟ »
معروف ـ كما قلنا قبلاً ـ أن الله خلق العالم حسناً، ولما خلق الإنسان فيه سـيـداً عليه، وجده «حسناً جداً ، ولكن هذا الإنسجام المتقن بين العالم والإنسان اهتز کیـانه بعد عصیان آدم لأوامر الله ، إذ لم تقع العقوبة على الإنسان وحده «موتاً تموت » ، بل أصابت الأرض كلها بكل ما فيها وعليها : «ملعونة الأرض بسببك»، أي عالم النبات وعالم الحيوان اللذان دخل فيها الشيطان بمعصية آدم وحواء، وكذلك تراب الأرض وقدرته على الإنبات، وهذا يؤكده بولس الرسول بالروح قائلاً: «فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا ، لأن انتظار الخليقة يتوقع استعلان أبناء الله . إذ أخضعت الخليقة للباطل، ليس طوعاً ، بل بسبب الذي أخضعها (آدم) على الرجاء، لأن الخليقة نفسها أيضاً ستعتق من عبودية الفساد إلى حرية مجد أولاد الله . فإننا نعلم أن كل الخليقة تئن وتتمخض معاً إلى الآن.» (رو 8: 18-22).
وهكذا صارت الأرض تحت اللعنة والفساد والخراب والتخريب، بسبب خطيئة آدم.
ولكن في السماء أيضاً و بين صفوف الجنود السمائيين، حدث قبل ذلك ــ كما ينص الكتاب المقدس ـ سقوط بين صفوفهم، وذلك قبل سقوط آدم. ولكن كيف أمكن ذلك، وما هو موقف الله تماماً ؟ هذا أجاب عنه الكتاب المقدس، وإنما في غموض كثير.
الشيطان رئيس هذا العالم:
أما الشيطان فهو مُملَّك على جميع أ أقطار هذا العالم ، كقول الرب نفسه : «الآن دينونة هذا العالم ؛ الآن يُطرح رئيس هذا العالم خارجاً» (يو 12: 31)، وأيضاً : «رئيس هذا العالم يأتي، وليس له في شيء » ( يو 14: 30)؛ وأيضاً : « وأما على دينونة ، فلأن رئيس هذا العالم قد دين.» (يو 16: 11).
ومعروف من حوار التحدي بين الرب والشيطان، في وقت الصوم الأربعيني على الجبل، حين كان الرب وحده عندما جاءه الشيطان يعرض تنازله عن العالم للمسيح. هكذا : « ثم أصعده إبليس على جبل عال، وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان، وقال له إبليس لك أعطي هذا السلطان كله ومجدهنَّ، لأنه إلي قد دفع ( وظيفته الأصلية التي أخذها من الله ، وأنا أعطيه لمن أريد ؛ فإن سجدت أمامي يكون لك الجميع» (لو 4: 5-7). وواضح أن المسيح لم يعترض على ادعاء الشيطان هذا، بل إن بولس الرسول يصفه بأن له السيادة على الهواء: «وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا التي سلكتم فيها قبلاً، حسب دهر هذا العالم، حسب رئيس سلطان الهواء ، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية .» (أف 2: 1 و2).
و يلاحظ أن في نهاية أزمنة العالم ، عند استعلان نصرة المسيح وغلبته الأخيرة، يعلن الكتاب: «ثم بوّق الملاك السابع، فحدثت أصوات عظيمة في السماء قائلة: قد صارت ممالك العالم لربنا ومسيحه ، فسيملك إلى أبد الآبدين» (رؤ 11: 15)، مما يوضح أنها انتزعت من ملك آخر كان متسلطاً عليها بغير وجه حق . إذن ، فالرئاسة على هذا العالم وكل الأمم ، ستظل قائمة في يد الشيطان (بصورة محدودة) إلى استعلان غلبة المسيح ونصرته الأخيرة عند مجيئه الثاني المخوف، لهذا نسمع أنه عند مجابهة الملاك ميخائيل للشيطان حين أراد الأول أخذ جسد موسى لإخفائه عن أعين الشعب لئلا يعبدوه ـ هاجمه الشيطان بصفته المالك للأرض وما تحتها، فلم يستطع رئيس الملائكة مواجهته ، لأن الشيطان صاحب هذا السلطان : « وأما ميخائيل رئيس الملائكة فلما خاصم إبليس محاجًا عن جسد موسى، لم يجسر أن يورد حكم افتراء ، بل قال : لينتهرك الرب . » (يه 9)
وحتى بعد الـصـلـيـب والقيامة، واستعلان نصرة المسيح على الموت والخطيئة والهاوية، وغلبته على الشيطان وكل جنوده علناً إذ ظفر بهم على الصليب، بقي الشيطان حافظاً لسلطانه على العالم وإن كان قد هزم أمام المسيح، وفقد سلطانه المطلق، وتكسرت أسلحته المريعة – أي الخطيئة – وسُلبت منه أسلابه ــ أي القديسون الذين كانوا تحت سلطانه في الهاوية – إلا أنه ظل محتفظاً بقدرته الشريرة على العالم، وعلى أبناء الشر الذين اختاروه لهم سيداً ومشيراً : «نعلم أن كل من ولد من الله لا يخطىء ( خطيئة للموت ، لأن حكم الموت ألغاه دم المسيح ) بل المولود من الله يحفظ نفسه والشرير لا يمسه نعلم أننا نحن من الله ، والعالم كله قد وضع في الشرير.» (1يو 5: 18و 19)
و يؤكد بولس الرسول، أن الشيطان لا يزال محتفظاً بسلطانه إنما ليضرب به الذين لا يتمسكون بدم المسيح، أو يجهلون عمل الصليب: « لتفتح عيونهم كي يرجعوا من ظلمات إلى نور، ومن سلطان الشيطان إلى الله » (أع 26: 18)؛ شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور، الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت أبن محبته» (كو 1: 12 و 13)؛ «حسب رئيس سلطان الهواء ، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.» (أف 2: 2).
والمسيح نفسه يعطينا فكرة واضحة – وإنما خطيرة للغاية ـ عن مدى اتساع سلطة الشيطان ومملكته: «فإن كان الشيطان يُخرج الشيطان فقد انقسم على ذاته ، فكيف تثبت مملكته؟» (مت 12: 26) . هنا يضع المسيح نفسه أمامنا صورة واقعية عن مدى سلطة الشيطان مخفية عن عيوننا تماماً ولكن مكشوفة لدى المسيح . وإنه لمذهل حقاً أن يكون للشيطان مملكة بحسب تعبير المسيح.
كتب القمص متى المسكين | |||
كتاب قصة الإنسان | |||
المكتبة المسيحية |