تفسير سفر إشعياء ٥٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع والخمسون

الرجاسات كعائق للخلاص

بعدما تحدث عن دعوة الله المجانية لكل العطاش كي يشربوا من ينابيع الخلاص، وانفتاح بيت الرب للعبادة السماوية المفرحة حتى لا يشعر أحد أنه غريب أو عقيم يقدم لنا في الأصحاحات (57 – 59) عوائق التمتع بعمل الله الخلاصي والدخول إلى بيت الرب.

في هذا الأصحاح يركز على الرجاسات أو الزنا الروحي كعائق، فاتحًا أبواب الرجاء أمام الراجعين إليه.

موت الصديق [1-2].

باد الصِّدّيق وليس أحد يضع ذلك في قلبه، ورجال الإحسان يُضمُّون وليس من يفطن بأنه من وجه الشر يُضم الصِّدّيق. يدخل السلام، يستريحون في مضاجعهم، السالك باستقامة[1-2].

هنا يتحدث النبي عما يحل بأولاد الله عبر الأجيال إذ يسقطون تحت ضيقات كثيرة بلا سبب، مجروحين كمخلصهم حتى في بيوت أحبائهم (زك 13: 6)، يجدون عداوة حتى من أهل بيتهم (مت 10: 36). لكن النبي يتحدث هنا بالأكثر عن عصر منسي الملك الذي سفك دماء بريئة كثيرة (2 مل 21، 2 أي 33) حتى اشتهى الأبرار الموت وحسبوه راحة مما رأوه بأعينهم. وينطبق ذلك بأكثر وضوحًا في أيام الدجال أو ضد المسيح حيث يملك إنسان الخطية في هيكل الرب ويضطهد الكنيسة (2 تس 2: 4 الخ.)، حتى يُقال: “من هو مثل الوحش؟! من يستطيع أن يحاربه؟!” (رؤ 13: 4)، “وأُعطى أن يصنع حربًا مع القديسين ويغلبهم وأُعطى سلطانًا على كل قبيلة ولسان وأمة… هنا صبر القديسين وإيمانهم” (رؤ 13: 7، 10). أمام هذا المرّ يُقال: “من وجه الشر يُضم الصِّدّيق[2].

إذ يُباد الصّديقون أو يُضطهدون ويقتلون لا يفكر أحد في ذلك، إذ يعيش الأشرار في لهو كأطفال صغار بلا فهم يموت والدوهم والمحبون الذين يخدمونهم وهم لا يدرون، أما الصديقون فيفرحون بالموت حاسبين ذلك إفراجًا عن نفوسهم من الجو القاتل للنفس، جو الشر البغيض.

v   “في رسالته إلى أرملة شابة”.

حقا لو أنه هلك بالكلية أو انتهى أمره تمامًا، لكان ذلك كارثة عظمى، وكان الأمر محزنًا. لكن إن كان كل ما في الأمر أنه أبحر إلى ميناء هادئ وقام برحلة إلى الله الذي هو بالحق ملكه، لهذا يلزمنا ألا نحزن بل نفرح. فإن هذا الموت ليس موتًا، إنما هو نوع من الهجرة والانتقال من سيئ إلى أحسن، من الأرض إلى السماء، من وسط البشر إلى الملائكة ورؤساء الملائكة بل ويكون مع الله رب الملائكة ورؤساء الملائكة… الآن هو في أمان وهدوء عظيم.

v لو كان زوجك سالكًا مثل أولئك الذين يعيشون في حياة مخجلة لا ترضى الله كان بالأولى لك أن تنوحي وتبكي، ليس فقط عند انتقاله، بل حتى أثناء وجوده حيًا هنا. ولكن بقدر ما هو من أصدقاء الله يلزمنا أن نُسر به، ليس فقط وهو حيّ هنا بل وعندما يرقد مستريحًا أيضًا… استمعي إلى ما يقوله الرسول: “لي اشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح ذاك أفضل جدًا” (فى 1: 23).

القديس يوحنا الذهبي الفم[611]

v   يا له من نفع نقتنيه بخروجنا من هذا العالم!

إذ حزن التلاميذ عندما أعلن لهم المسيح معلم خلاصنا ومعلم أعمالنا الصالحة انه سينطلق قال لهم: “لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلى الآب” (يو 14: 28)؛ معلمًا إيانا أن نفرح عند رحيل أحد أحبائنا من هذا العالم ولا نحزن، متذكرين حقًا قول الرسول الطوباوي بولس: “لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (فى 1: 21)؛ حاسبين في الموت أعظم ربح… فبالموت نترك الأتعاب المؤلمة ونتخلص من أنياب الشيطان السامة لنذهب إلى دعوة المسيح لنا، متهللين بالخلاص الأبدي.

الشهيد كبريانوس[612]

v   يخاف من الموت من ينتظر بعد الموت موتًا آخر[613].

v   بالموت يهرب الأولاد من الضيقات التي تفوق طاقتهم، نائلين سعادة جزاء صبرهم وبراءتهم[614].

الشهيد كبريانوس

يرى القديس أغسطينوس أن ما ورد هنا بخصوص موت الصديق دون أن يفطن أحد يُشير إلى السيد المسيح الذي أراد الأشرار إبادته بالصلب ولم يدركوا انه قد سمح بذلك لكي يُخّلِص ما قد هلك وباد. وكما يقول الرسول بولس: “لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد” (1 كو 2: 8)[615].

إدانة الأشرار  [3-13].

يُعاني الصديقون من الأشرار، لكن ماذا يقدر الأشرار أن يفعلوا بهم؟ فإنه حتى الموت يحسبه الأبرار عطية إلهية خلالها يعبرون من الجو القاتم لينعموا باللقاء مع عريس نفوسهم المفرح. أما الأشرار فيستدعيهم الرب للمحاكمة، خلالها يتم الآتي:

أ. يحمل الأشرار عدة ألقاب من بينها:

* أبناء الساحرة: لقد رفضت الأمة كلها كلمات الأنبياء الصادقة والتجأت إلى السحر والعِرَافة للتعرف على المستقبل وطلب المشورة؛ هذا يُحسب رفضًا للانتساب لله وقبول البنوة لإبليس وأعماله الشريرة، فحُسب الأشرار بني الساحرة الساخرة بالله [4].

* نسل الفاسق والزانية [3]: لا علاقة لهم بالحياة البارة لا من جهة الأب ولا من جهة الأم، الأب فاسق والأم زانية؛ هكذا حلّ الفساد بالكل: الرجال والنساء.

لقد افتخروا بأن الله أبوهم وصهيون أمهم، لكن رجاساتهم كشفت عن حقيقتهم أنهم تركوا الانتساب إلى الله وكنيسته لينتسبوا للشرير ومملكته. يقول الإنجيلي: “قالوا له: إننا لم نولد من زنى، لنا أب واحد وهو الله؛ فقال لهم يسوع: لو كان الله أباكم لكنتم تحبونني لأني خرجت من قبل الله وأتيت… أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون

أن تعملوا، ذاك كان قتّالاً للناس من البدء… كذاب وأبو الكذاب” (يو 8: 41-44).

* أولاد المعصية [4]، لأنهم رفضوا الطاعة لله والاستجابة لإعلاناته النبوية ووصاياه.

* نسل الكذب [5]؛ يعالجون أخطاءهم بالكذب والخداع، عوض الصراحة والوضوح.

ب. انغماسهم في عبادة الأصنام باندفاع شديد ليقيموا أصنامًا ويوقدوا تحت كل شجرة خضراء ويقدموا أطفالهم ذبائح بشرية يحرقونهم لحساب البعل والعشتاروت [5]. هذه الصورة البشعة التي فيها أعلن البشر جحودهم لله ولأطفالهم لا زالت قائمة بصورة أو أخرى حتى اليوم، فعوض أن نشكره من أجل عطاياه (الشجر الأخضر) نقدم أحيانًا قلوبنا ملتهبة شرًا لحساب إبليس ومملكته كوقائد نجسة مقامة في القلوب، وعوض رعايتنا لحياتنا الداخلية لننعم بثمار روحية للنفس والجسد، أي ننجب أولادًا وبنات في قلوبنا تسبح الله نقدم طاقات النفس والجسد كذبائح بشرية لحساب عدو الخير.

ج. ممارستهم الشر في الوديان [6] كما على الجبال العالية [7] وفي البيوت [8]… كأن الشر غير مرتبط بالمكان ولا بالظروف وإنما بالقلب الذي انحرف عن خالقه وأراد الاستقلال عنه.

لعله أراد أيضًا تأكيد أن الأشرار في عدم حيائهم يصنعون الشر علانية وخفية، في الأماكن العامة كما داخل البيوت.

د. يشبه الأشرار بإمرأة زانية لا تشبع من الشر بل توسع مضطجعها [8] لتقبل  الدخول في عهد مع كل أحد، وتتحد مع أي إنسان، عوض اتحادها مع الله كعريس وحيد لنفسها تقيم معه عهدًا أبديًا. لقد أحبت الأشرار لا لأشخاصهم، إنما لأجل الاضطجاع معها كفرصة لإشباع شهوات الجسد [8].

هـ. قدمت تذكارات – رسومات أو تماثيل – لمن ترتكب معهم الشر؛ عوض التوبة تفتخر بالشر. ربما عنى بالتذكارات إقامة التماثيل الوثنية كزنا روحي، والارتباط بآلهة غريبة عوض الله بعلها، أو لأن الزنا التحم بالوثنية في حياتها.

و. تجملت ودهنت نفسها بالأطياب وبعثت رُسلا إلى الملك ليرتكب معها الشر فتنحدر إلى الهاوية [9]. ربما عنى بالملك هنا فرعون الذي أرسلوا إليه لكي ينقذهم من آشور، فحسب الله هذا العمل زنًا روحيًا، بكونه اتكالاً على الذراع البشري عوض الثقة بالله.

إرسالها للملك يُشير إلى التحامها بالسلطة، كما سيحدث في أيام الدجال حيث يلتحم العمل الديني المنحرف بالسلطة الزمنية، فتصير مقاومة الكنيسة خلال التجديف مع استخدام العنف ضدها.

ز. تسعى نحو الشر باجتهاد في أسفار كثيرة حتى يحل بها العياء دون أن تيأس، فبسبب شهوة الشر لا تضعف ولا تمل [10].

ح. ترتكب الشر دون خوف الله رجلها؛ فإنها لم تستجب لا لتهديداته، إذ لم تحمل مخافة الرب [11]، ولا أيضًا لتشجيعه إياها بإبراز أعمالها الصالحة [12].

ط. اتكالها على محبيها وعاشقيها كجموع معجبة بها، فإذا بهم جميعًا يُحملون معها كما بريح أو يطيرون بنفخة فلا يوجدون.

ربما عنى بمحبيها الآلهة الوثنية إذ صارت تصرخ إليها دون أن تجد تجاوبًا منهم، لأنهم عاجزون عن تقديم الخلاص؛ يُبددها الرب معهم كريح وكنفخة سريعة.

بركات الرجوع إلى الله [14-21].

مع ما ارتكبوه من فساد وزنا روحي فإن الله ينتظر رجوعهم إليه بالتوبة ليهبهم البركات التالية:

أ. يرثون الأرض كطريق يعبرون به إلى الميراث الأبدي. وكما يقول الرب: “طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض” (مت 5: 5)، وجاء في المزمور “لأن عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض” (مز 37: 9). “أما المتوكل عليّ فيملك الأرض ويرث جبل قدسي. ويقول:اعدوا اعدوا، هيئوا الطريق” [13-14].

إن كانت الأرض هنا تُشير إلى كنعان وجبل قدس الرب تُشير إلى صهيون، فان التوبة تهب الإنسان تمتعًا بالبركات الإلهية في هذا العالم كعربون لأورشليم السماوية.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم[616] أن الله وعدنا بمهر سماوي: “ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على بال إنسان” (1 كو 2: 9) [لقد عين هذه كمهر وهي: الخلود، تسبيح الملائكة، التخلص من الموت، التحرر من الخطية، ميراث الملكوت الذي ثروته عظيمة هكذا، البر، التقديس، الخلاص من الشرور الحاضرة، اكتشاف البركات المستقبلة. عظيم هو مهري!… هدايا الخطبة هي البركات الحاضرة التي تشوّقنا إلى البركات

المقبلة، أما المهر بكماله فيُعطى في الحياة الأخرى].

إن كانت “الأرض” تُشير إلى الجسد فان العربون الذي نناله هنا هو أن نملك الجسد أي نحمل سلطانًا عليه لنحيا مقدسين في الجسد بروح الله الساكن فينا.       

بقوله “اعدوا، اعدوا، هيئوا الطريق[14]، إنما يعني قبولنا المسيح مخلصنا بكونه “الطريق”، به وفيه ننعم بالميراث الأبدي.

ب. نزع العثرة، إذ يُقال: “ارفعوا المعثرة من طريق شعبي[14].

ج. سكنى الله في وسطهم إذ يُحسبون جبل الله المرتفع المقدس [15]. بقدر ما يتضعون في أعين أنفسهم يرفعهم الله ويحسبهم أهلاً لسكناه، إذ يُقال: “اسكن… مع المنسحق والمتواضع الروح لأحييّ روح المتواضعين ولأحييّ قلب المنسحقين[15].

v إنه بعيد عن المتكبر، قريب من المتواضع؛ “لأن الرب عالٍ ويرى المتواضع” (مز 138: 6). لا يظن المتكبرون في أنفسهم أنهم غير منظورين، “أما المتكبر فيعرفه من بعيد” (مز 138: 6). لقد رأى الفريسي من بعيد، إذ افتخر بذاته، أما العشار فكان قريبًا منه ليعينه لانه اعترف (بخطاياه) (لو 18: 9-14).

القديس أغسطينوس[617]

v الكبرياء وإن رافقه البر والأصوام وتقديم العشور، فإن مركبته تتقهقر، وأما اتضاع الروح، وإن رافقته الخطية لكنه يسبق حصان الفريسي، ولو كان الذي يقوده فقيرًا!

القديس يوحنا الذهبي الفم[618]

د. إن كان الله كمؤدِّب يغضب على الشرير لكنه هو خالق النفوس الذي يشتهي خلاصها ورجوعها إليه، لذا لا يُخاصم إلى الأبد ولا يغضب إلى الدهر، إنما يُريد عودة لكل إليه ليشفي كل ضعف ويقود الشعب بنفسه ويرد لهم تعزياته، إذ يقول:

لأني لا أخاصم إلى الأبد ولا أغضب إلى الدهر[16]. وكما يقول القديس أغسطينوس أن ما نُعانيه من متاعب هنا هـو بسـبب غضب الله (على خطـايانا) حتى نتوب[619].

يكمل الحـديث هكذا: “لأن الروح يُغشى عليها أمامي والنسمات التي صنعتها

[16]الله الذي خلق النفوس البشرية لن يتركها بل يشتاق ويعمل لخلاصها.

من أجل أثم مكسبه غضبت وضربته،

استترت وغضبت فذهب عاصيًا في طريق قلبه،

رأيت طرقه وسأشفيه أقوده وارد تعزيات له ولنائحيه” [17-18].

ما يحل به من ضربات هو غضب إلهي، فان الله في محبته يستتر ويغضب ليضرب أولاده إلى حين. ربما عنى بالاستتار هنا أنه لا يحتمل أن يرى أولاده تحت الألم والضيق لذا يكون كمن يضرب ويستتر إلى لحيظة حتى يجتذب بالتعب أولاده. لذا يؤكد أنه وإن بدا كمن استتر لكن عينيه على طرق المودِّبين بواسطته حتى يشفيهم ويقودهم بنفسه ويعوض نوحهم بتعزيات إلهية. حب إلهي أبوي فائق!

v   إن عانيت من شر فاحتملته بلطف تُنزع عنك كل الشرور[620].

v هكذا هو حب الله المترفق. أنه لن ينزع وجهه عن التوبة الصادقة، فإنه حتى وإن كان الإنسان قد اندفع إلى الشر حتى النهاية عينها إذ يختار الرجوع إلى الحياة الفاضلة يقبله الله ويرحب به ويعمل كل ما هو لإصلاحه ويرده إلى حالته الأولى[621].

القديس يوحنا الذهبي الفم

هـ. يفيض عليهم بسلام مضاعف بينما يمتلئ الأشرار اضطرابًا، إذ يقول: “خالقًا ثمر الشفتين؛ سلام سلام للبعيد وللقريب، قال الرب وسأشفيه؛ أما الأشرار فكالبحر المضطرب لأنه لا يستطيع أن يهدأ ويقذف مياهه حمأة وطينًا، ليس سلام (فرح) قال إلهي للأشرار” [19-21].

يدعو البعيدين (غير المؤمنين) والقريبين (المؤمنين الساقطين) لكي يأتوا بالتوبة إليه لينالوا سلامًا مضاعفًا. وكما يقول القديس أغسطينوس: [وعد الرب بالتعزية الحقيقية في كلمات إشعياء: “أعطيه تعزية حقيقية، سلامًا فوق سلام” [17] ( LXX). بدون هذه التعزية يجد الناس أنفسهم وسط بهجة أرضية هي أنحلال أكثر منها راحة[622]]. وأيضًا: [ما يدعوه الشرير فرحًا ليس بفرح[623]].

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى