تفسير سفر إرميا – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

سفر كل عصر

لسفر إرميا أهمية خاصة تمس حياة المؤمنين في كل عصر.

عاش النبي في فترة عصيبة، فمنذ حوالي قرن سقطت مملكة الشمال “إسرائيل” بأسباطها العشرة تحت السبي، وزال مجدها بسبب ما اتسم بها ملوكها العتاة من عجرفة وفساد. أما مملكة الجنوب “يهوذا” فعوض أن تتعظ بما حلّ بأختها “إسرائيل”، نست أو تناست ما صنعته الخطية بأختها، حاسبة أن ذلك هو حكم إلهي عادل لانفصالها عن يهوذا وإقامتها مركزًا للعبادة في السامرة عوض هيكل أورشليم.

مع بداية خدمة إرميا كان الكل – الملك والمشيرون والكهنة وكل القيادات الدينية والشعب – متفائلاً، وقد انحرفوا إلى عبادة الأوثان وانحطت أخلاقياتهم حتى سكنت الشريرات حول بيت الرب يكرسن حياتهن لارتكاب الشر مع القادمين للعبادة، وانشغل رجال الدين مع الأنبياء الكذبة بمحبة المال والمجد الباطل. وإذ أراد يوشيا الملك الإصلاح قام بترميم الهيكل، لكن الإصلاح لم يصل إلى القلوب. فجاء إرميا يحذر وينذر معلنًا ضرورة التوبة والرجوع إلى الله بكل القلب، مهتمًا بالإصلاح الداخلي للنفس وإلا سقطت المملكة! هذا هو مفتاح السفر.

إن كان هناك ترميم لبيت الرب، فالحاجة ماسة إلى ترميم القلب كمسكن خفي للرب.

وإن كانت هناك ضرورة للذبائح، فيلزم أيضًا تقديم الطاعة لله ذبيحة حب له.

وإن كان لابد من الختان فليُختن القلب والحواس أيضًا.

إن كانوا أثناء الترميم قد وجدوا سفر الشريعة، فيليق بنا أن نجدها منقوشة بالروح القدس داخل النفس.

وسط هذا الظلام الدامس أشرقت أشعة الرجاء بالرب على النبي الباكي الشجاع، إذ رأى من بعيد المسّيا المخلص قادمًا ليقيم عهدًا جديدًا، فيه تُنقش شريعة الله لا على لوحي حجر، إنما داخل القلب الحجري لتجعل منه سماءً مقدسة!

هذا السفر في حقيقته هو سفر كل نفس قد مالت في ضعفها إلى تغطية ذاتها بالشكليات في العبادة دون التمتع بعمل الله الخفي والانشغال بالعريس السماوي!

في هذا السفر نرى رجل الله مختفيًا وراء كلمة الله النارية لكي يعلن الحق الذي كاد أن يرفضه الكل. يكشف أحكام الله وتأديباته في غير مداهنة ولا مجاملة؛ بل في اتضاع مع حزم، في قوة مع بث روح الرجاء… وقد كلفه ذلك احتمال اضطهادات كثيرة ومتاعب، بل ودفع حياته كلها ثمنًا لذلك.

لخص العلامة أوريجينوس غاية هذا السفر بقوله:

[أنظر إذًا أي شقاء عظيم أن يخطئ الإنسان فيُسلَّم إلى الشيطان، الذي يسبي (يأسر) النفوس التي تخلى عنها الله. لكن ليس بدون سبب يترك الله هؤلاء الخطاة. فإنه عندما يرسل المطر على الكرمة ثم لا تعطيه هذه الكرمة سوى شوكًا بدلاً من العنب، ماذا يفعل الله بها إلاَّ أن يأمر السحب بألا تمطر عليها؟

إذًا نحن أيضًا مهددون بسبب خطايانا، إن لم نتب يجب أن ُنسلم إلى نبوخذنصر وإلى البابليين حتى يعذبوننا بالمعنى الروحي. أمام هذا التهديد، تدعونا كلمات الأنبياء، وكلمات الشريعة، وكلمات الرسل، وكلمات إلهنا ومخلصنا يسوع المسيح إلى التوبة وإلى الرجوع. إن سمعنا لهم نؤمن بالذي قال: ندم الله على الشر الذي تكلم أن يصنعه بهم فلم يصنعه” (يونان 3: 10)[1].

والآن أقدم لك أيها العزيز مقدمة بسيطة للسفر مع تفسير مختصر وتأملات أرجو أن تسندنا بروح الله القدوس على التمتع بأسرار هذا السفر الروحية العميقة وفاعلية كلمة الله فينا، مستندًا على بعض مفاهيم الأولين.

 

القمص تادرس يعقوب ملطي

سانتا مونيكا 1994

كنيسة القديسين بطرس وبولس

مقدمة في سفر إرميا

اسم السفر:

جاء اسم إرميا في العبرية “Yirmya” أو “Yirmyahu” (إرمياهو)، وجاء في الترجمة السبعينية Iremias(إرمياس)، وفي الطبعات اللاتينية Jeremias (جرمياس).

إرميا النبي وظروف الكتابة:

في هذا السفر امتزجت حياة إرميا النبي والأحداث التاريخية في عهده بالنبوة، لذا أجد نفسي ُملزمًا أن أكتب أولاً عن حياة هذا النبي مع عرض سريع للأحداث المعاصرة له، وإن كان قد سبق لي عرض بعضها في سفر حزقيال الذي عاصر إرميا النبي في أواخر أيامه.

  1. إن كان هذا السفر يُنسب لإرميا النبي، لكن البعض يرى أن صديقه الحميم “باروخ” الكاتب هو الذي سجله (36: 23)، إذ كان محتفظًا بمنطوقات النبي ومدركًا لدقائق حياته.
  2. كلمة “إرميا” تعني “يهوه يؤسس أو يثبت”، وربما تعني “يهوه يرفع أو يمجد”[2]. ففي أحلك الفترات ظلامًا، بينما كان إسرائيل مسبيًا ويهوذا في طريقه إلى السبي جاء إرميا من قبل الرب يعلن أن الله يود أن يؤسس شعبه ويثبته، بل يرفعه ويمجده، إن عاد اليه بالتوبة من كل القلب. الله لا يريد لنا المرّ ولا الضيق، حتى إن بدا كأنه يمرّر حياتنا بتهديداته، إنما يريد قيامتنا ومجدنا على مستوى أبدي فائق.

يرى البعض أن “إرميا” تعني “الرب يرمي”، بمعنى أن الله قذف بالنبي إلى عالمٍ معادٍ له، أو ألقى بالأمم تحت الحكم الإلهي بسبب خطاياهم[3].

  1. وُلد إرميا في منتصف القرن السابع ق.م، في أواخر عصر الملك منسى المرتد، من عائلة كهنوتية، تقطن في قرية صغيرة تسمى عناثوث في أرض بنيامين، تبعد حوالي ثلاثة أميال شمال شرق أورشليم. وهي مدينة الكاهن أبياثار الذي استبعده سليمان الملك (1 مل 2: 26)، ربما في موقع رأس الخرابة Ras-el-Kharrubehبجوار القرية الحالية عناتا Anata[4]. وقد أفاده نسبه إلى عائلة كهنوتية في معرفة الشريعة وإدراكه أعمال الله مع شعبه. أما كونه بجوار أورشليم، فقد أتاح له وهو في سن صغير أن يحضر المواسم والأعياد المقدسة ويرى التصرفات الفاسدة في الأيام المقدسة للرب. أما القرية فقدمت له الطبيعة الشاعرية التي كان لها أثرها على نفسه من حساسية وعاطفة متدفقة. كانت القرية أيضًا على حافة البرية، فقدمت له بجوار آمان القرية رعب الصحراء، ومع خيرات القرية جفاف البرية. لهذا كثيرًا ما تحدث عن زئير الأسود وأشار إلى الحيوانات المفترسة.
  2. تكرس إرميا لهذا العمل النبوي قبل ولادته، وُدعي بواسطة رؤيا وهو صغير السن (ولد na’ar). مثل موسى النبي حاول أن يهرب من الدعوة الإلهية، ليس رغبة في التخلي عن الالتزام بالمسئولية أو الخدمة، وإنما لشعوره بعجزه وقلة خبرته في التعامل مع الآخرين. لكن الله لمس فمه ووهبه كلمته وأقامه على ممالك وأمم لكي يقلع ويهدم، ويزرع ويبني. لقد أعلن له الله أنه سُيقاوم من القادة والكهنة والشعب، لكنهم لا يغلبوه (1: 4-10).

كان إرميا في عيني نفسه أمام الله كطفلٍ صغيرٍ، أما أمام الناس فصاحب قلب أسدي لا يعرف الخوف ولا المهادنة.

كان حساسًا للغاية، رقيق المشاعر، عاطفيًا إلى أبعد الحدود، لكنه قوي لا يعرف الضعف، ولا يتراخى في إعلان الحق مهما كلفه الأمر.

عاش باكيًا، تجري دموعه كنهرٍ يناسب لا يجف، فدُعي بالنبي الباكي، لكنه غير هزيلٍ ولا متراخٍ في جهاده.

دعي “أيوب الأنبياء”، رجل آلام وضيقات بسبب جراحته[5]:

– رفضه شعبه ورذلوه (11: 18-21).

– خانه إخوته (14: 13-16؛ 28: 10-17).

– ضُرب ووضع في مقطرة (20: 1-2).

–   هُدد بالقتل (26: 8؛ 36: 26).

– سُجن واُتُهم بالخيانة الوطنية (32: 2-3؛ 37: 11-15).

– وُضع في جب ليموت (38: 6).

– قيِّد في سلاسل (40: 1).

– اُحرقت بعض نبواته (36: 22-25).

– حُمل إلى مصر قسرًا وهناك رجمه شعبه.

من يوم ميلاده إلى لحظة استشهاده نادرًا جدًا ما وجد إرميا تعزية من بشر، لهذا فيُعتبر سندًا لكل مسيحي يُدعي ليعيش “ضد العالم“. إنه أشبه بمنارة عالية تنير له الطريق[6].

دُعي “نبي القلب المنكسر”، فقد كسرت رسالته الثقيلة قلبه (9: 1)، وسرت كلمة الله في عظامه كنارٍ ملتهبة (20: 9).

وجه أحاديثه إلى يهوذا في أحرج اللحظات… ولا تزال كلمات الله التي نطق بها تصرخ لتحذر كل نفسٍ وكل قلبٍ حتى اليوم!

  1. ربما كشابٍ أراد الزواج كعادة شعبه ليفرح بإقامة نسلٍ باسمه، وليدفنه أولاده عند موته. لكنه امتنع عن الزواج بأمر إلهي (16: 1-4)، كعملٍ رمزي أن الشعب يموت ولا يجد من يدفنه: “فيموت الكبار والصغار في هذه الأرض، لا يُدفنون ولا يندبونهم…” (16: 6)، أما عن انقطاع الفرح يقول: “ولا تدخل بيت الوليمة لتجلس معهم للأكل والشرب” (16: 8).
  2. بدأ إرميا خدمته في السنة الثالثة عشرة لملك يوشيا (626 ق.م)، أي بعد حوالي خمس سنوات من حركة الإصلاح الدينية العظيمة الواردة في (2 مل 23)[7]، واستمر في عمله النبوي حتى حوالي سنة 586 ق.م، أي لمدة حوالي 40 عامًا.

اسم الملك “يوشيا” بالعبرية معناه “يهوه يشفي”، تبوأ العرش وهو ابن ثمانية سنوات.

بالرغم من مقاومة يوشيا الملك للوثنية بكل طاقاته، لكن تيار الفساد كان متغلغلاً في النفوس.

مع بداية خدمة إرميا كان موضوع استقلال يهوذا عن أشور قد بدأ يظهر كأمرٍ عملي، وتطلع الكل بنظرة تفاؤلية نحو مستقبل يهوذا، بينما وقف إرميا وحده أمام هذا التيار الشعبي والديني ليكرر أن هجومًا من الشمال يحل بيهوذا، وأن الله قد تخلى عن يهوذا!

بعد خمس سنوات من عمل إرميا، أي في السنة الثامنة عشرة من ملك يوشيا بدأ ترميم الهيكل، وفي أثنائه وجد شافان الكاتب سفر الشريعة المفقود، فأخبر حلقيا الكاهن العظيم، وقُدم السفر للملك الذي تأثر به جدًا ومع ما بذله الملك من إصلاحات لم يهتم الرؤساء المدنيون والدينيون والشعب أيضًا بإصلاح قلوبهم، مكتفين بترميم الهيكل وممارسة العبادة في شكليات بلا روح، ممتزجة بالرجاسات الوثنية.

  1. واجه إرميا النبي مشكلتين إحداهما تخص قريته، والثانية تخص مملكة يهوذا ككل.

فمن جهة قريته، هاج أهلها عليه، لأنه شدد على ضرورة الالتزام بما جاء في الشريعة، وهي حصر العبادة العامة في الهيكل بأورشليم، الأمر الذي لا يقبله أهل عناثوث بكونهم سلالة الكاهن أبياثار المطرود من أورشليم، فكانوا ُيجرون طقوس العبادة مستقلين عن أورشليم. بهذا ظهر إرميا كخائنٍ لعائلته وقريته.

من جهة أخرى إذ رأى أهل قريته أن مملكة يهوذا بملكها وقياداتها وشعبها في ثورة ضد إرميا النبي كخائنٍ وطني حاولوا التبرؤ منه بجحده ومقاومته حتى لا يُنظر إليهم كخونة للوطن.

أما من جهة مملكة يهوذا ككل، فتلخصت مشكلته معهم في أمرين: أولاً حينما بدأوا في حركة الإصلاح في أيام يوشيا ركزوا على الشكليات دون الجوهر، يريدون إصلاح الهيكل دون تطهير القلب. ثانيًا، كان الحكام والشعب في مرارة وصراع بين التحالف مع فرعون مصر أم مع بابل. فالغالبية لا تطيق بابل وتتوقع هجومها بين الحين والآخر، مما دفعهم للارتماء في أحضان فرعون مصر وإن كانت خبرتهم مع الفراعنة ليست بطيبة. ويمكننا إدراك ذلك الصراع مما حدث مع الملوك الخمسة الذين عاصرهم إرميا أثناء نبوته:

أ. يوشيا الملك (626-609 ق.م): قتله المصريون عام 609 في معركة مجدو.

ب. يهوآحاز (609 ق.م): أقامه فرعون عوض أبيه وخلعه بعد ثلاثة شهور (2 أي 36: 2).

ج. يهوياقيم (609-597 ق.م): أقامه فرعون عوض أخيه، وبقى مواليًا له لمدة أربع سنوات، وإذ غلب نبوخذنصر فرعون خضع لبابل، وكان موته غامضًا.

د. يهوياكين (597 ق.م): بعد إقامته ملكًا عوض والده بثلاثة شهور أخذه نبوخذنصر أسيرًا.

هـ. صدقيا (597-587 ق.م): أقامه نبوخذنصر عوض ابن أخيه. كان في صراع بين ولائه لسيده في بابل وبين محاولته إرضاء الشعب الذي مال إلى فرعون مصر لحمايته من بابل، متطلعين إلى يهوياكين الأسير في بابل كملكٍ شرعي. تحالف صدقيا قلبيًا مع فرعون، فسباه ملك بابل بعد أن فقأ عينيه وسبى أورشليم ويهوذا (39: 1-7).

هذه صورة مختصرة تكشف كيف كان يهوذا بين حجري رحى، وعوضًا عن الالتجاء إلى الله بالتوبة للتمتع بالخلاص اتكأ على هذا أو ذاك.

  1. فيما يلي الأحداث في أكثر تفصيل حتى يمكن متابعة الظروف المحيطة بإرميا النبي.

في بدء رسالته (626 ق.م) كانت أشور في الوادي الشمالي للفرات سيدة العالم لمدة حوالي 300 عامًا، وكانت عاصمتها نينوى. ولم يكن أحد يتخيل قط أنه يمكن أن تنهار يومًا ما؛ وكانت مصر منذ حوالي 1000 عام قبل قيام أشور قوة عالمية تمسك زمام السلطة في العالم لكنها بدأت تنهار. في السنة التالية لخدمة إرميا (625 ق.م) أسس نبوبلاسر الدولة البابلية الجديدة (في الوادي الجنوبي لنهر الفرات)، وكانت بابل أشبه بدويلة صغيرة لا قوة لها؛ لا يتوقع أحد أنها في الطريق لاستلام سيادة العالم من أشور حيث تغرب شمسها إلى غير رجعة بعد سقوط نينوى عام 612 ق.م، ونصرتها على فرعون مصر.

بعد موت أشور بانيبال حلّ الضعف بأشور، فصارت عاجزة عن منع يوشيا من التحرك نحو الاستقلال والتحرر من النفوذ الأشوري. وقام أهل سميرنا والسكيثيون باقتطاع أجزاء من الإمبراطورية الأشورية. وصار بنو مادي في غرب إيران يمثلون خطرًا يهدد أشور… انتهى الأمر بانهيار أشور.

بسقوط نينوى عاصمة أشور عام 612 ق.م انتهت مملكة أشور، فبدى كأن إرميا قد أخطأ في تفسيره لمركز يهوذا السياسي، إذ حسب الكل أنه لم يعد بعد هناك خطر على يهوذا بعد انهيار أشور، وأن نظرة إرميا التشاؤمية غير صادقة.

في سنة 609 ق.م حشد نخو Necho فرعون مصر جيشه وتقدم لاحتلال أرض الفرات، فاحتل غزة وعسقلان وغيرهما من المدن الفلسطينية وكان هدفه مساعدة الأشوريين الذين كانوا يقومون بمحاولة مستميتة للصمود في وجه البابليين في حاران. حاول يوشيا أن يوقفه عند مجدو ربما حاسبًا أن الله يسنده في ذلك، متكلاً على وعود الأنبياء الكذبة التفاؤلية، لكنه قُتل. وبقتل يوشيا أُقيم ابنه يهوآحاز (تعني يهوه يأخذ) أو شلوم (إر 22: 11) ملكًا، وكان شريرًا. خلعه فرعون نخو بعد ثلاثة شهور وأسره في ربلة، ثم أخذه إلى مصر، وأقام أخاه يهوياقيم (تعني يهوه يقيم) أو الياقيم عوضًا عنه.

  1. عند تجليس يهوياقيم أو في السنوات الأولى من حكمه أعلن إرميا النبي في دار الهيكل أنه إن لم يغيّر يهوذا طريقه فسيخرب الهيكل نفسه (7: 1-15؛ 26: 1-6). أثارت هذه النبوة شغبًا، ولولا تدخل بعض الأشراف لقتل الشعب الثائر إرميا (26: 7-24)[8].

أرهق يهوياقيم الشعب بالضرائب ليدفع الجزية لسيده المصري، وكان يدفعها لمدة أربع سنوات (2 مل 32: 31-35)، وقد عبد الأوثان وصنع الشر. وفي السنة الرابعة من حكمه سجل إرميا النبوات التي نطق بها خلال السنوات السابقة، وقام باروخ بنسخها في درج، وإذ مُنع إرميا من الدخول إلى بيت الله زمانًا طويلاً أمر باروخ أن يأخذ الدرج إلى الهيكل ويقرأه أمام الشعب الحاضر بمناسبة الصوم. وصل الدرج إلى يد الملك فاستمع إلى بعض فقراته، وعندئذ مزقه وأحرقه بالنار. قام إرميا بكتابة درجين كالدرج الأول مع إضافات (36: 27-32) بتوجيه إلهي، ولكن الكاهن فشحور الناظر الأول للهيكل وأحد أعداء النبي وضعه في مقطرة ثم أطلقه في اليوم التالي (20: 1-3).

في نفس السنة (605 ق.م)، أي السنة الرابعة من حكمه، تغلب نبوخذنصر على نخو فرعون مصر في معركة كركميشCarchemish  (إر 46: 1-2)، فاضطر يهوياقين أن يحّول ولاءه وخضوعه لمصر إلى بابل، لكن ظل قسم ليس بقليل من الشعب يفضل الخضوع لمصر للجهاد معها ضد بابل، ويبدو أن يهوياقيم نفسه كان يميل إلى هذا، لكن إرميا حذر من ذلك.

مرت بيهوذا فترة هدوء نسبي، شجعت يهوذا على الثورة ضد بابل، لكن الأخيرة أرسلت فرقًا من الجيش إلى فلسطين. وفي عام 598 ق.م وصل جيشها إلى يهوذا، وفي هذا الوقت مات يهوياقيم بطريقة غامضة، وتوِّج ابنه يهوياكين (يكينا) المملوء شرًا. لم يدم ملكه سوى ثلاثة شهور، وجاء نبوخذنصر إلى أورشليم وأخذه هو وعائلته ورؤساء الشعب مع خزائن بيت الرب إلى بابل (2 مل 24: 8-16)، وعاش أسيرًا في السبي.

مما يجدر ملاحظته أن السلطات اليهودية تطلعت إلى نبوات إرميا وكلماته أثناء حصار أورشليم بمنظار سياسي حربي لا ديني، فرأت فيها تحطيمًا لمعنويات الجيش ونفسية الشعب، فحسبته خائنًا وطنيًا.

  1. ملَّك نبوخذنصر الملك صدقيا عوضًا عن أخيه يهوياكين (2 مل 24: 17)، وكان شريرًا، لم يبالِ بكلمات إرميا بل ونجَّس الهيكل. في بداية حكمه كان بعض رجال يهوذا يتطلعون إلى يهوياكين المسبي كملك شرعي، يأملون في رجوعه واستعادته العرش (إر 17-29)؛ لذا كان صدقيًا في صراع بين رغبته في الظهور بالخضوع لسيده البابلي وبين إظهار روح الوطنية أمام الشعب ومضاداته لبابل المستعمر.

في عام 588 ق.م سار نبوخذنصر مرة أخرى إلى يهوذا وحاصر أورشليم. في الشهور الأولى من الحصار طلب صدقيا المشورة من إرميا النبي (21: 1-14) فأخبره بأن الخضوع للبابليين هو الطريق الوحيد لإنقاذ حياته ومدينته، لكن الملك لم يقدر أن يقدم هذه المشورة لرجاله بسبب ضعف شخصيته. تحرك الجيش المصري نحو فلسطين، ففك البابليون الحصار عن أورشليم مؤقتًا لمواجهة المصريين، ليعود فيحاصرها من جديد بعد تدبير أموره مع فرعون.

انتهز إرميا فرصة فك الحصار المؤقت وأراد الذهاب إلى قريته (32: 6)، فاُتهم أنه هارب إلى الكلدانيين كخائن (37: 11). أُلقى في الجب (37: 1-15)، وبعد أيام كثيرة أطلقه الملك صدقيا من حبسه وسأله سرًا عن كلمة الرب بشأنه. وهنا يظهر صدقيا أنه يحترم إرميا لكنه لضعف شخصيته كان يخشى الرؤساء. أخبر إرميا الملك أنه سيُدفع إلى ملك بابل، فأمر الملك بإيداعه في دار السجن وإحسان معاملته بعض الشيء، ولكن الرؤساء أخذوه وألقوه في الجب ليموت جوعًا (37: 16-21؛ 38: 1-6). أشفق عليه خصي أثيوبي (عبد ملك) فاستأذن الملك أن يُرفع إرميا من وحل الجب ويُوضع في دار السجن فسمح له، وبقي هناك حتى استسلمت أورشليم (38: 7-28).

  1. في سنة 587 ق.م سقطت أورشليم، وقتل نبوخذنصر كثيرين، كما سبى البعض إلى بابل. فقأ عيني صدقيا واقتاده مسبيًا إلى بابل. أما من جهة إرميا فقد علم ملك بابل ما عاناه فظن أنه يفعل ذلك لأجله، فأصدر تعليماته بإحسان معاملته. أرسل نبوزردان الكلداني رئيس الشرطة إلى دار السجن ليستدعيه مع غيره من الأسرى إلى رامة، ومنحه حق الخيار بين الذهاب إلى بابل أو البقاء في يهوذا، وقدم له رئيس الشرطة زادًا وهدية وأطلقه. أتى إرميا إلى جدليا بن أخيقام والى المنطقة، إلى المصفاة، وأقام عنده مع الشعب الباقي في يهوذا (39: 11-14؛ 40: 1-6). رفض إرميا راحته وكرامته، مفضلاً أن يعيش متألمًا وسط من أحبهم بالرغم من كراهيتهم له.
  2. لما قُتل جدليا حث إرميا النبي الشعب ألا يهربوا إلى مصر، لكن عبثًا حاول أن يثنيهم عن عزمهم، فلم يذهبوا هم وحدهم إلى مصر وإنما أرغموه أيضًا هو وصديقه الحميم باروخ الكاتب على مرافقتهم في رحلتهم (41: 1؛ 43: 7)، وهناك نطق نبواته الأخيرة في تحفنحيس بمصر (43: 8؛ 44: 30). يوجد تقليد يقول إنه رُجم في مصر بسبب توبيخاته لشعبه[9].
  3. يلقب البعض إرميا “رجل كل الفصول”[10]. عاش في ظروف متغيرة، بدأ نبوته في عهد يوشيا حيث كان الملك وكل يهوذا في سلام، وتوقع الكل الاستقلال التام من أشور مع حركة الإصلاح الخارجية. وانتهت حياته بالرجم في أرض غريبة (مصر)، حيث لم تعد مملكة يهوذا قائمة، بل سُبي أغلب الشعب إلى بابل، وهرب البعض إلى مصر، وخربت أورشليم لتصير مرعى غنم، وحُرق الهيكل.

امتدت خدمة إرميا لتشمل حوالي العشرين عامًا الأخيرة من الإمبراطورية الأشورية العظيمة والعشرين عامًا الأولى من إمبراطورية بابل الجديدة التي قامت عام  605 ق.م، لتصير أعظم من أشور.

عاصر إرميا ثلاثة أحداث خطيرة قلبت الموازين:

أ. معركة مجدو سنة 609 ق.م.

ب. معركة كركميش بالقرب من نفس الموقع، بعد أربع سنوات حيث انهزمت مصر لتصير بابل سيدة العالم.

ج. سبي أورشليم بواسطة نبوخذنصر وتدمير المدينة المقدسة والهيكل.

عاصر أيضًا إرميا ثلاثة معارك رئيسية ليهوذا: معركة ضد مصر (609 ق.م)، ومعركتان ضد بابل (597، 587).

عاصر أيضًا ثلاث مراحل للسبي (597، 587، 582 ق.م). ويرى البعض أن إرميا عاصر السبي في مراحله الأربع:

أ. السبي الأول: سنة 606 ق.م. في أيام الملك يهوياقيم، فيه سُبي دانيال وأصدقاؤه الثلاثة (2 أي 6: 36، 7، دا 1: 1، 2، 6).

ب. السبي الثاني: سنة 599 ق.م. في أيام الملك يهوياكين، ويسمى السبي العظيم (2 مل 24: 8-16، 2 أي 36: 9-10)، فيه ُسبي حزقيال النبي (حز 1: 1-2)؛ ومردخاي (إس 2: 6).

ج. السبي الثالث: سنة 588 ق.م. بسبب تمرد صدقيا الملك على نبوخذنصر (2 أي 36: 2)، حيث حوصرت أورشليم واشتد بها الجوع (إر 37: 5-7)، لكن عاد جيش الكلدانيين يستأنف حصاره، واضطر صدقيا إلى الهروب، فُقبض عليه.

د. السبي الرابع: سنة 584 ق.م على يد نبوزردان رئيس الشرط (إر 52: 12، 30)، حيث أُحرق بيت الرب وبيت الملك وهدمت أسوار المدينة وبعد ثلاثة أيام انتهت أعمال التدمير الشامل، فصار اليوم العاشر من الشهر الخامس يوم بكاء لسقوط أورشليم (إر 52: 12؛ زك 7: 3، 5؛ 8: 19).

  1. بدأ إرميا خدمته النبوية بعد 60 عامًا من نياحة إشعياء النبي الإنجيلي. عاصر النبية خلدة، والنبيين حبقوق وصفنيا اللذين ساعداه في أورشليم، وحزقيال الكاهن ودانيال الذي يحمل دمًا ملوكيًا؛ وربما أيضًا ناحوم[11] الذي تنبأ عن سقوط نينوى، وعوبديا الذي تنبأ عن دمار آدوم[12].

 عاش إرميا بتولاً، لم يتزوج، بأمر إلهي، حتى لا يقاسي أولاده مما سيعاني منه الشعب من جوعٍ وسيفٍ وعارٍ (إر 16: 1-4).

في خدمته اجتذب قله قليلة من الأصدقاء، من بينهم اخيقان بن شافان (26: 24)، وابنه جدليا (39: 14)، وعبد ملك الكوشي (38: 7-13؛ 39: 16)، وكاتبه الوفي باروخ (36: 4-32).

قائمة تاريخية بعصر إرميا:

627 ق.م الملك يوشيا يبدأ إصلاحاته (2 أي 34).

626 ق.م دعوة إرميا للعمل النبوي.

626 ق.م غزو السكيثيين (إر 4).

621 ق.م وجود كتاب الشريعة أثناء إصلاح يوشيا (2 مل 22، 23).

612 ق.م انهيار نينوى أمام بابل (ربما عام 607 ق.م).

609 ق.م قتل يوشيا في موقعة مجدو بواسطة فرعون، وانتهاء استقلال يهوذا.

606 ق.م السبي الأول ليهوذا بواسطة بابل (خراب جزئي لأورشليم).

605 ق.م معركة كركميش (بابل تحطم مصر).

604 ق.م حرق الدرج الذي به نبوات إرميا النبي (ربما سنة 602م)[13].

8-597 ق.م أسر يهوياكين.

593 ق.م صدقيا يزور بابل.

587 ق.م السبي الثاني ليهوذا بواسطة بابل.

586 ق.م حرق الهيكل.

582 ق.م السبي الثالث.

الملوك المعاصرون لإرميا:

  1. منسى (597-642 ق.م): 55 عامًا، ُولد إرميا النبي (2 أي 33: 1)، أشر ملوك يهوذا.
  2. آمون (641-640 ق.م): سنتان، شرير مثل أبيه (2 أي 33: 21-22).
  3. يوشيا (639-608 ق.م): 31 عامًا، ملك صالح. بدأ إرميا عمله في السنة 13 من ملكه.
  4. يهوآحاز (609 ق.م): 3 شهور، حُمل إلى مصر.
  5. يهوياقيم (609-597 ق.م): شرير، حمل عداوة مرة ضد إرميا.
  6. يهوياكين (597 ق.م): 3 شهور، حُمل إلى بابل.
  7. صدقيا (597-587 ق.م): صديق إرميا، لكنه ضعيف الشخصية فكان آداة في يد الأشراف والمشيرين الأشرار.

غرض السفر:

  1. كان إرميا يترجى أن يدخل بمملكة يهوذا إلى التوبة لكي يتجنب كارثة السبي البابلي، وذلك كما فعل إشعياء النبي قبله بقرنٍ مشتاقًا أن يعين إسرائيل لتجنب السبي الأشوري.
  2. يعلن قضاء الله وتأديباته خاصة بواسطة السبي، كما يكشف عن مراحم الله وترفقه بإرجاعهم من السبي ومعاقبة من سبوهم ومن شمتوا بهم من الأمم الغريبة. وكأن النبي أراد لهم ألا يسقطوا في اليأس مدركين أن سرّ الغلبة أو الهزيمة هو في داخلهم بالالتقاء مع الله واهب النصرة أو كسر الميثاق معه.
  3. إن كانت كلمات السفر موجهة بالأكثر إلى يهوذا في أيام النبي غير أنها هي إعلانات إلهية لا يحدها زمن، موجهة إلى البشرية في كل جيل، يفهمها المعاصرون من خلال عمل المسيح الخلاصي للتحرر من سبي إبليس وتحطيم مملكة الظلمة من داخلنا.

اشترك أغلب الأنبياء في الأغراض السابقة بطريقة أو أخرى، لكن حمل كل نبي اتجاهًا معينًا في كتاباته، فاهتم عاموس النبي بالجانب السلوكي بينما ركز هوشع على إحساسات الحب الشخصي الذي يربط الله بشعبه، وتحدث إشعياء النبي الإنجيلي عن الله كضابط الشعوب بطريقة فائقة، أما إرميا فركز على الآتي:

  1. الحاجة إلى التوبة والرجوع إلى الله.
  2. الحاجة إلى إصلاح القلب الداخلي.
  3. الله هو سيد التاريخ، يعمل لخير البشرية كلها.
  4. خطب الله إسرائيل (كنيسة العهد القديم) عروسًا، لكن الحاجة إلى عهد جديد.
  5. الحاجة إلى المسّيا الملك البار ليحقق الخلاص (نتحدث عنه في نهاية المقدمة).
  6. الحاجة إلى التوبة:

جاء إرميا النبي يعلن كلمات الرب الحازمة، مهددًا بالسبي، لا لأجل الانتقام، ولا لأجل التهديد في ذاته، وإنما بالأحرى لكي يخشوا الرب فيرجعوا اليه. إن كانوا لا يرجعون خلال اللطف، فليرجعوا خلال التهديدات، وإن لم يرجعوا يسقطون تحت التأديب فيرجعوا خلال الألم. وللعلامة أوريجينوس عبارات جميلة عن محبة الله خلال تهديده الخطاة، إذ يقول:

[الله سريع في تقديمه الخير، بطيء في العقاب لمستحقيه.

 بالرغم من أنه قادر على توقيع العقاب على الذين هم تحت الحكم بدون أن يتكلم أو ينذر، لكنه ينذر ولا يعمل حالاً حتى يعطي الفرصة لنزع الاستحقاق للتأديب، باعتبار أن الكلام هو وسيلة لرفع العقوبة عن المحكوم عليه.

يمكننا أن نقدم أمثلة عديدة لحنان الله من الكتاب المقدس، ولكن يكفي الآن هذا العدد الصغير الحاضر في ذهني…

صار أهل نينوى خطاة، وقد تم الحكم عليهم من قبل الله: بعد ثلاثة أيام كان يجب أن تنقلب مدينة نينوى (يونان 3: 4). لم يشأ الله توقيع حكمه عليها دون أن ينطق بشيء، لكنه أعطاها فرصة للتوبة (حك 12: 10)، وفرصة للرجوع، وأرسل لها نبيًا عبرانيًا، حتى متى أبلغها النبي: بعد ثلاثة أيام تنقلب نينوى، يصير أهلها غير محكوم عليهم فيما بعد، وإنما بتوبتهم يتمتعون بالرحمة الإلهية.

 كان سكان سدوم وعمورة محكومًا عليهم، كما يظهر من كلام الله لإبراهيم؛ ومع ذلك فقد قام الملائكة بواجبهم في البحث عن خلاص أناسٍ لم يكونوا يريدون أن يخلصوا، حينما قالوا للوط: “من لك أيضًا هنا، أصهارك وبنيك وبناتك وكل من لك في المدينة؟ أخرج من المكان!” (تك 19: 12)، لم تكن الملائكة تجهل أن هؤلاء لن يتبعوا لوط، ولكنهم أكملوا عمل الخير والصلاح من قِبل الذي أرسلهم. (نصح لوط أصهاره بالخروج من المدينة، لكنهم رفضوا أن يسمعوه، ففي الغد أخرج الملائكة لوط وبناته، تاركين أصهاره)[14]].

كما يقول العلامة أوريجينوس: [عاتب الله أورشليم من أجل خطاياها، وكان الحكم هو تسليم سكانها للسبي، وبحبه ورحمته أرسل الله هذا النبي قبل تحقيق السبي بثلاثة ملوك حتى يعطي الفرصة للراغبين في إعادة التفكير والندم والتوبة خلال أقوال النبي… كان الله الطويل الأناة يقدم فترة استعداد حتى عشية السبي لكي يتوب السامعون فيعفون من آلام السبي… وحتى إذ بدأ السبي استمر إرميا يتنبأ وكأنه يقول: لقد صرتم تحت السبي، ومع هذا فإن رجعتم وتبتم لا تستمروا تحته طويلاً بل تشملكم نعمة الله وغفرانه. ونحن أيضًا نجد في هذا نفعًا لنا، إذ نحن ساقطون تحت ما يشبه السبي… فإننا إذ نخطئ نصير أسرى، ُنسلم أنفسنا للشيطان، الأمر الذي لا يختلف كثيرًا عن سقوط سكان أورشليم تحت يد نبوخذنصر. وكما سُلم هؤلاء لنبوخذ نصر بسبب خطاياهم، هكذا نُسلم نحن للشيطان بسبب خطايانا[15]].

كأن رسالة إرميا النبي هي التوبة والرجوع إلى الله بكونه الطريق الوحيد للخلاص من هذا السبي!

  1. إصلاح القلب الداخلي:

يعتبر إرميا أكثر الأنبياء الذين تحدثوا عن القلب. يرى إرميا النبي أن القلب قد صار نجسًا بالطبيعة كثمرة للسقوط: “القلب أخدع من كل شيء وهو نجس” (17: 9)، وكما يقول إشعياء النبي: “قلب مخدوع قد أضله فلا ينجي نفسه، ولا يقول: أليس كذب في يميني؟!” (إش 44: 20).

هذا الفساد أفقد الإنسان بصيرته الداخلية، فلا يرى خطاياه ولا يكتشفها، بل يقول: “لماذا أصابتني هذه؟!” (13: 12)، وإن أدركها يحمل عنادًا رديئًا (18: 12). القلب في فساده يصير كمينًا، فلا يحمل محبة وسلامًا بل بغضة وحربًا (9: 8-9)، ويحول أرضه إلى خراب (12: 11)، لهذا فإنه لن تحل النجاة ما لم يحدث تغير وإصلاح في القلب.

علامة التوبة الحقيقية هي تغيير القلب في الداخل. ففي أيام يوشيا بدأ الترميم في الهيكل وصار للشعب مظهر التدين لا فاعليته، الأمر الذي سقطت فيه المملكتان بل ويسقط فيه الكثيرون، إذ يغيرون الشكل لا الجوهر ليتبرروا أمام الناس، بل وأحيانًا أمام أنفسهم. يقول النبي: “قد بررت العاصية إسرائيل أكثر من الخائنة يهوذا” (3: 10). وقد عالج النبي موضوع الإصلاح الداخلي من جوانب كثيرة، نذكر منها:

أ. القلب هو موضوع الإصلاح، فمنه تنبع الخطية (4: 4؛ 7: 9، 12: 2) فيتقسى (7: 24؛ 9: 14؛ 23: 17)، مع أن غاية القلب هو الله، فيه يصب كل اشتياقاته (11: 20؛ 17: 10؛ 20: 12). بهذا صارت الحاجة ُملحة إلى شريعة يمكن أن ُتنقش على القلب ذاته (31: 33؛ 24: 7).

ب. ترميم بيت الرب ليس غاية في ذاته: “لا تتكلوا على كلام كذب، قائلين: هيكل الرب هيكل الرب هيكل الرب هو” (7: 4). فإن لم يتب المؤمنون وتتغير حياتهم الداخلية يتحول الهيكل إلى مغارة لصوص (7: 11)، إذ لا يضم عابدين حقيقيين يفرحون قلب الله، وإنما يضم أشرارًا ينجسون البيت. وقد تنبأ عن خرابه، بكونه إعلانًا عن الخراب الذي حلّ في هيكل القلوب غير المنظورة. وكأن التأديب في حقيقته إنما هو كشف عما في النفس من دمار خفي وهلاك، يبرزه الله بالضيق الخارجي.

ج. عدم الارتكان على مجرد حيازة سفر الشريعة، أو التمتع بوجود تابوت العهد في وسطهم، إنما الحاجة أيضًا إلى نقش الشريعة في القلب وإعلان حضرة الله فيهم.

د. بخصوص الذبائح، فالله لا يطلبها لأجل ذاتها، لذا إن لم ترتبط بذبيحة الطاعة أو ذبيحة القلب (17: 24-46؛ 27: 19-22؛ 3: 10، 11، 18) تصير بلا قيمة، أشبه برشوة لا يتقبلها الله.

هـ. من جهة الختان، يهتم الله بختان القلب (4: 4) والأذن (6: 4) والحواس مع ختان الجسد، حتى يُنزع عنا ما هو لحساب شهوات الجسد ونتقبل ما هو لحساب الله نفسه. وهكذا أيضًا الاغتسال، فإنه يطلب اغتسالنا من الإثم لا مجرد اغتسال الجسد (2: 22).

و. أما عن الاتكال على الآباء السابقين ومحبة الله لهم وشفاعتهم لديه (15: 1)، وعلى الآباء المجاهدين أيضًا (7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11)… فإن الله يطلب منا التوبة والرجوع إليه، فصلاة الغير عنا لا تسندنا مالم نطلب من الله العون.

  1. الله هو سيد التاريخ[16]:

يوجه الله التاريخ لخير شعبه وكل الأمم أيضًا، كالخزَّاف الذي ُيخرج من الطين أوانٍ جميلة (18: 1-12). هو الذي يحث نبوخذنصر خادمه (27: 6) مع أنه وثني، لتأديب يهوذا، ليعود الله فيؤدب الأمم على خطاياها (25: 15الخ؛ 46). إنه يقيم الأمم ويزيلها بخطة إلهية فائقة (18: 7).

الله هو خالق العالم كله وضابطه (27: 5؛ 5: 22؛ 8: 7)، ليس إله غيره، أما الأوثان فليست آلهة (2: 11). هو يهب الحياة (2: 13)، أما هي فبلا عمل (13: 28). إنه قريب من كل البشر (23: 23)، يعرف فكر الإنسان ويستخدمه (11: 20؛ 17: 10).

بمعنى آخر، يعلن هذا السفر أن الله كضابط الكل وواهب الحياة ومدبرها يمسك بيمينه دفة كل الأحداث كبيرها وصغيرها ليتمجد في وسط شعبه، بل وفي حياة كل عضو؛ يشتهي خلاص الجميع وبنيان الكل؛ من يقبله إنما يقبل من في يده دفة أمور العالم كله، الأحداث الظاهرة والخفية، الجماعية والفردية!

  1. الله وشعبه:

يقدم لنا إرميا النبي الله ليس فقط سيدًا للتاريخ، بل هو أيضًا “ينبوع المياه الحية” (2: 13)، بكونه مصدر الحياة. كما يقدمه “الفخاري” (18: 1-12) الذي لا يزدري بقطعة طين، بل يبذل كل الجهد ليقيم منها آنية للكرامة. هو خالق العالم الذي وضع لكل شيء قانونه ونظامه الطبيعي (5: 22؛ 8: 7؛ 10: 12-13؛ 27: 5-6؛ 31: 35-36).

إن كان إرميا النبي يتحدث عن قرب الله من كل البشرية وخطته الإلهية نحو كل الأمم، فقد أعطى اهتمامًا خاصًا باختيار شعبه مجانًا، بلا فضل من جانبه. لقد دعي إسرائيل بكر حصاد الله (2: 3)، أي يتقبله عن البشرية كلها كأنه بكور الكل؛ وميراثه المقدس (12: 7-9)؛ وكرمه (12: 10)، وقطيعه (13: 17)؛ وعروسه (13: 10 الخ)، ومحبوبته (11: 15؛ 12: 17)، لهذا يطلب منها أن تسلك كما يليق بكرامتها وحبه لها (2: 2 الخ؛ 6: 16الخ)، إذ دخل معها في عهد خاص (7: 23؛ 11: 4؛ 24: 7؛ 31: 33).

الله – كما تحدث عنه إرميا النبي – هو إله الحب الذي لا ينسى حب صبا شعبه (2: 12؛ 3: 19)، إله رحوم (3: 21الخ)، يهتم بإسعادها ويعمل لحساب مستقبلها ويهبها رجاءً. لا يتوقف عن تكرار الدعوة لها لكي تعود إليه، فهو يترقب مجيئها بترحاب بالرغم من كل شرورها وآثامها… مستعد أن يصفح بلا عتاب إن رجعت يقبلها اليه.

يقدم إرميا النبي مفهومًا حيًا لعلاقة الله بشعبه، فهي ليست علاقة بالشعب كجماعة فحسب وإنما هي أيضًا علاقة شخصية تمس حياة كل عضو في الجماعة. هي علاقة الله بكل قلب، بكونه عضوًا حيًا في الجماعة، لذا يهتم أن يكون القلب مقدسًا لكي يدخل في هذه العلاقة خلال العهد الإلهي (31: 33-34).

يرى البعض أنه سفر موجه للمرتدين الذين نسوا الله، يدعوهم للرجوع اليه فينسى شرهم؛ لهذا تكررت كلمة “ينسى” أو ما يماثلها 24 مرة كما تكررت كلمة “مرتد” أو ما يعادلها 13 مرة، و”ارجع” 47 مرة… إنه سفر الدعوة المستمرة للعودة والرجوع إلى حضن الله.

أخيرًا إن كان قلب إرميا قد فاض بالأحزان ورثى للشعب الذي حل به الدمار، لكنه يرى خروجًا للشعب، فيه يعود الأبناء من العبودية إلى حرية مجد الله، إذ يقول “هكذا قال الرب امنعي صوتك عن البكاء وعينيك عن الدموع لأنه يوجد جزاء لعملكِ يقول الرب فيرجع الأبناء إلى تخمهم” (31: 16-17). أما أساس هذا الخروج فهو العهد الجديد المؤسس على دم ربنا يسوع المسيح “ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم يوم أمسكتهم بيدهم لأخرجهم من أرض مصر… بل هذا هو العهد الذي اقطعه مع بيت إسرائيل: بعد تلك الأيام يقول الرب اجعل شريعتي في داخلهم واكتبها على قلوبهم وأكون لهم إلها، وهم يكونون لي شعبًا” (31: 31-34).

دور النبي في كتاباته[17]:

لكي نفهم سفر إرميا وغيره من الأنبياء يليق بنا أن ندرك ما هو دور المتحدث في هذه الأسفار. ففي سفر إرميا كثيرًا ما تتكرر العبارة “كلمة الرب صارت…” ثم ينطق بصيغة المخاطب المفرد “أنا” بكون الله نفسه هو المتحدث. يتهم الله شعبه بخصوص كسر الميثاق المبرم بينه وبينهم، ويقف النبي كنائبٍ عامٍ في ساحة القضاء يعرض خطايا الشعب وجرمهم، ويظهر الله كقاضٍ في محكمة يصدر حكمًا بالإدانة، غير أنه يفتح باب الرجاء إن قدم الشعب توبة ورغبة للرجوع إلى الله وحفظ العهد.

يتحدث النبي أحيانًا بالأصالة عن نفسه كما جاء في اعترافات إرميا (12: 1، 6؛ 15: 10-21؛ 12-18؛ 18: 18-23؛ 20: 7-18).

في إيجاز يمكننا أن نلخص دور النبي كمتحدثٍ في الآتي:

  1. إنسان في حضرة الله (أو في مجلسه الإلهي 23: 22) يتعرف على أحكام الله وأسراره.
  2. إنسان مرسل من قبل الله، له حق إعلان كلمة الرب (1: 1-10؛ إش 6: 1-13؛ حز 1-3)، يتحدث باسم الله أو يتحدث الله على لسانه، على عكس الأنبياء الكذبة الذين ينطقون بكلماتهم الخاصة، حسب فكرهم، من وحي قلوبهم.
  3. شخص يدين الشعب لكسره العهد الإلهي.
  4. يقوم تارة بدور النائب العام عندما يتحدث باسم الله وأخرى بالمحامي المدافع عندما يتحدث باسم الشعب.
  5. اهتمامه الأول أن ُيحضر شعب الله لكي يدرك أهمية الميثاق مع الله والالتصاق به، وأن يمارس الحياة الميثاقية convental مع الله بالدخول في عهدٍ جديدٍ (الحياة الإنجيلية).

مميزات السفر:

  1. مال إشعياء النبي إلى الحديث بفيض عن تعزيات الله الفياضة مع لمسات خفية من جهة التوبيخ، أما إرميا النبي فمال إلى التوبيخ بشدة مع فتح باب الرجاء. ولعل السبب في هذا شدة قساوة قلب الشعب وكثرة آثامهم خاصة في أيام إرميا، وأيضًا شعوره بخطورة الموقف لأن السبي كان على الأبواب.
  2. مع ما اتسم به النبي من عنف في التوبيخ والتحذير، جاء السفر يكشف عن قلب نبي مملوء حبًا وحنوًا. يتحدث بقوة بأمثلة عملية وتشبيهات لكي يجتذب الشعب، فاتحًا أمامهم باب الرجاء. لقد انحرف الشعب إلى عبادة الأوثان (16: 10-13، 20؛ 22: 9؛ 32: 29؛ 44: 2، 3، 8، 17)، وقدموا أحيانًا أطفالهم ذبائح للآلهة الغريبة (7: 30-34)، ومع هذا بحبٍ شديدٍ كان يصلي من أجلهم (14: 7، 20)، حتى حين أمره الله أن يكف عن ذلك (7: 16؛ 11: 14؛ 14: 11).

كان يحبهم كشعبٍ وأيضًا كأشخاصٍ، إذ يدرك أن كل إنسانٍ يحمل مسئولية نفسه (31: 29-34).

  1. العلاقة الشخصية مع الله في عيني إرميا النبي تتكامل مع علاقة الله بشعبه ككل. فقد اختبر إرميا النبي هذه العلاقة المتكاملة، فكان يطلب أن يرى الله ساكنًا في وسط شعبه (7: 23) وفي نفس الوقت يطلبه ساكنًا في كل قلب. يكشف عن خطية الشعب ككل (17: 1) ، وأيضًا عن نجاسة القلب التي اتسم بها الأشخاص (17: 9). يطلب توبة جماعية مع توبة قلبية شخصية! لهذا يربط النبي التاريخ الخاص بالخلاص بحياة الكنيسة كما بحياة الأشخاص، إذ غايته تمتع الكل بعمل الله الخلاصي خلال التوبة، وتمتع كل عضو بهذه الحياة.
  2. يرى البعض أن إرميا النبي كان متشائمًا كل التشاؤم، متفائلاً كل التفاؤل. إذ ينظر إلى فساد يهوذا وخيانته للعهد الإلهي يتشاءم وإذ يتطلع إلى حب الله وطول أناته يمتلىء رجاءً. إلهه إله الرجاء والوعد والقوة، له إرادة لا تُقهر من جهة إقامة شعبٍ مقدسٍ له[18].
  3. يقدم لنا سفر إرميا مفاهيم لاهوتية روحية حية:

أ. خطية الشعب هي في جوهرها كسر الميثاق مع الله، وبالتالي التوبة هي عودة إلى الحياة الميثاقية covenantal مع الله.

ب. كل جريمة يقترفها الإنسان ضد أخيه موجهة ضد الله نفسه.

ج. نجح النبي في تأكيد حب الله حتى في لحظات السقوط تحت التأديب؛ مؤكدًا أن التأديب هو علامة اهتمام الله بهم وحبه لهم.

د. الدمار الذي حلَّ بهم يحتاج إلى دخول في عهد جديد (31: 31-34).

  1. في هذا السفر تتجلى حياة النبي الروحية بكل وضوح فقد اتسم بأمانته لرسالته حتى النفس الأخير بالرغم من النفور الذي واجهه به الكل.

كان وحيدًا، مُفتريًا عليه، مُضطهدًا من الحكام ورجال الدين والشعب، لكنه لم ييأس إذ وَجد في الله كل تعزيته.

  1. حمل هذا السفر رسالة نبوية، تحقق بعضها بعد حياته بزمنٍ قليلٍ، لكن غايته الأسمى هي ما تحقق في العهد الجديد. وجد الرائي اللاهوتي يوحنا أن ما يحدث في الأزمنة الأخيرة مطابقًا لما ورد في سفر إرميا، من ذلك هلاك بابل (رؤ 18: 22؛ 14: 8؛ 17: 2-4؛ 18: 2-5 يقابله إر 25: 10؛ 51: 7-9، 45: 63-64).
  2. سفر إرميا كرسائل معلمنا بولس الرسول يكشف عن طبيعة رجل الله الشديد الحساسية نحو شعب الله مستندًا على العمل الإلهي. وقد تأثر الرسول بولس كثيرًا بإرميا النبي في شدة حبه للشعب كما في معالجته لبعض المواضيع مثل الناموس والنعمة والحرية والختان الروحي (راجع إر 31: 31-34 مع 2 كو 3: 6 الخ و رو 11: 1؛ إر 1: 5 مع غلا 1: 15).
  3. سفر إرميا هو سفر النبوات: كثيرًا ما أشار السفر إلى الكاتب بكونه “إرميا النبي”، إذ كان إرميا مدركًا لرسالته ولدعوته الإلهية كنبي (1: 5؛ 15: 19). كنبي حقيقي قاوم الأنبياء الكذبة الذين ينطقون بكلمات هي من وحي أفكارهم الخاصة. أما بالنسبة له فكرر العبارة “كلمة الرب التي صارت…” أو ما يعادلها 151 مرة[19].

أما موضوع النبوات فهو:

أ. المسيا المخلص.

ب. يهوذا: سبيه وعودته.

ج. مدن: أورشليم، بابل، دمشق.

د. شعوب أممية: مصر، فلسطين، موآب، عمون، آدوم، عيلام، بابل.

هذه النبوات تحقق بعضها في وقت قريب من النطق بها، وبعضها بعد زمنٍ طويلٍ.

  1. سفر إرميا هو سفر التساؤلات، يحوي أسئلة ربما أكثر مما ورد في سفر أيوب.

هو سفر الإصلاح، خاصة في الأصحاحات [30-33].

سفر الرثاء والاضطهادات.

سفر الرموز: استخدم إرميا الكثير من الرموز بأمر إلهي لأجل التعليم، تارة يلبس منطقة بالية، وأخرى يضع نيرًا على عنقه كالثور، وثالثة يكسر زقًا أمام الوالي، ورابعة يشتري حقلاً ويدفن الوصية.

من الرموز التي قدمها في السفر:

قضيب لوز (1: 11)؛

قدر منفوخة وجهها من جهة الشمال (1: 13)؛

منطقة بالية (13: 7)؛

زق ممتلئ خمرًا (13: 12-14)؛

قحط (14: 1-12)؛

إناء الفخاري (18: 1-6)؛

الإناء المكسور (19: 1-2)؛

سلَّتان (24: 1-10)؛

نير (27: 1-12)؛

شراء حقل (32: 1-12)؛

الحجارة الخفية (43: 9-13)؛

كتاب غارق في نهر الفرات (51: 59-64).

تأثره بهوشع النبي[20]:

يرى كثير من الدارسين أن إرميا النبي قد تأثر بهوشع النبي، فالتشابه بينهما لا يقف عند حدود اللغة والتشبيهات، بل يمتد إلى الأفكار الأساسية من جهة الله وعلاقته بشعبه. كان هوشع نبيًا لمملكة الشمال (إسرائيل)، وتقع عناثوث، قرية إرميا النبي، في شمال أورشليم وهي ليست ببعيدة عن الحدود الجنوبية لمملكة إسرائيل. هذا وإرميا النبي هو من نسل أبياثار (1 مل 2: 26) من نسل عالي (1 صم 14: 3؛ 22: 20، 1 مل 2: 27) الذي كان مهتمًا بتابوت العهد في شيلوه قبل انقسام المملكة. لهذا ربما كان إرميا ملتصقًا بقلبه بشيلوه ومتألمًا لما حلّ بها (7: 14-26) بسبب ارتباط أسرته القديم بهذا الوضع. بهذا تكون عائلتا هوشع وإرميا مرتبطتين بالشمال. هذا ما دفع بعض الدارسين إلى افتراض قيام هوشع النبي- أجمل زهرة تقوية في مملكة الشمال – بدور حيوي في حياة إرميا الأولى، خاصة وأن إرميا يعترف أنه مدين للأنبياء السابقين له (28: 8).

يكشف الأصحاحان [2، 3] من سفر إرميا عن الارتباط القوي بهوشع من جهة عباراته وأفكاره. فمن أهم كلمات هوشع النبي كلمة “Hesed” أي “الولاء” أو “الأمانة” (الزوجية). فإن الشكوى الأولى ليهوه هي: “لا أمانة… في الأرض” (هو 4: 1)، “روح الزنى قد أضلهم فزنوا من تحت إلههم” (هو 4: 12)، فإن ” إحسانكم (أمانتكم) hesed” كسحاب الصبح الذي يزول (هو 6: 4)… ويتحدث إرميا النبي أيضًا عن علاقة الحب بين الله وشعبه الذي كان كصبية مخطوبة مملوءة غيرة وحبًا (2: 2)، ليعود فيتحدث عن حياتها الزوجية (3: 1-5، 20) التي كانت تتمثل في قصة زواج هوشع النبي بالزانية جومر…

يرى إرميا النبي الله أبًا يهتم بشعبه كابن محبوب لديه، خلصه من عبودية فرعون ليهبه أرض الموعد ميراثًا مبهجًا ومجيدًا: “وأنا قلت كيف أضعك بين البنين وأعطيكِ أرضًا شهية ميراث مجد أمجاد الأمم؛ وقلت تدعينني يا أبي” (3: 19). جاء هذا التشبيه متفقًا مع هوشع النبي: “ولما كان إسرائيل غلامًا أحببته، ومن مصر دعوت ابني” (هو 11: 1).

كانت شكوى الله في هوشع أنه “لا معرفة الله في الأرض” (هو 4: 1)، وان الشعب قد هلك بسبب عدم المعرفة (هو 4: 6). وقد جاءت نفس الشكوى في إرميا: “أهل الشريعة لم يعرفونني” (2: 8)؛ لأن شعبي أحمق. إياي لم يعرفوا. هم بنون جاهلون وهم غير فاهمين” (4: 22)… وجاء الوعد الإلهي بالعهد الجديد مرتبطًا بالمعرفة: “ولا يُعلِمون بعد كل واحدٍ صاحبه، وكل واحدٍ أخاه، قائلين: اعرفوا الرب. لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب” (31: 34).

يقدم لنا هوشع النبي رغبة الله في الدخول في محاكمة مع الشعب ليعطي الإنسان فرصة للحوار معه وإدراك خطة الله… وهي محاكمة تحمل عتابًا إلهيًا يدفع النفس إلى التوبة والرجوع إلى الله (هو 4: 1-3). وفي إرميا النبي يقدم الله الشعوب للمحاكمة (25: 31).

توجد أيضًا أفكار أخرى كثيرة مشتركة بينهما، مثل:

v     احلال الله بالأوثان (هو 2: 7-10؛ إر 2: 10-13).

v     التطلع إلى فترة التجول في البرية كفترة أمانة للشعب نحو الله (هو 9: 10؛ 11: 1؛ إر 2: 1-3).

v     اعتراف الشعب بخطاياه (هو 6: 1-3؛ إر 3: 22-25؛ 14: 7-10؛ 14: 19-21).

بين إرميا ونحميا:

اختلفت ظروف إرميا النبي عن تلك التي عاش فيها نحميا، فكان الأول يرى الخطر يحدق بشعبه، وليس من يهتم أو يبالي؛ بينما كان الثاني عائدًا من السبي ليحث الكل على بناء السور جنبًا إلى جنب مع بناء أسوار النفس الداخلية، ومع ذلك فقد التقيا معًا في الآتي:

  1. حمل الاثنان عئواطف متأججة بالحب لشعب الله، وكان كلاهما منكسري القلب ومنسحقي النفس، باكيين (نح 1: 4؛ إر 9: 1).
  2. شعر كلاهما أن خطايا الشعب هي خطاياهما. فيقول نحميا: “لتكن أذنك مصغية، وعيناك مفتوحتين، لتسمع صلاة عبدك الذي يصلي إليك الآن نهارًا وليلاً لأجل بني إسرائيل عبيدك، ويعترف بخطايا بني إسرائيل التي أخطأنا بها إليك، فإني أنا وبيت أبي قد أخطأنا. لقد أفسدنا أمامك، ولم نحفظ الوصايا والفرائض والأحكام التي أمرت بها موسى عبدك” (نح 1: 6-7). وبنفس الروح يصرخ إرميا النبي كرجل صلاة حقيقي بعيد عن الحياة الفريسية، قائلاً: “وإن تكن آثامنا تشهد علينا يارب فأعمل لأجل اسمك، لأن معاصينا كثرت، إليك أخطأنا” (إر 14: 7).
  3. مع أنكارهما لذاتهما واعترافهما بخطأهما وقفا أيضًا كشفيعين في الشعب (نح 5: 14-19؛ 13: 31). في يقين الإيمان يقول إرميا النبي: “أذكر وقوفي أمامك لأتكلم عنهم بالخير لأرد غضبك عنهم” (إر 18: 20).
  4. كانا مخلصين في حبهما لوطنهما. وطنية نحميا اقتضته أن يقف أمام الملك البابلي يطلب أن يقدم خيرًا لأورشليم، وأن يسمح له ببناء السور، وبذات الوطنية نادى إرميا النبي وسط قيادات الشعب أن يخضعوا لنير بابل كتأديب إلهي مؤقت، مع توبتهم ورجوعهم إلى الله.

إرميا والأنبياء الكبار:

  1. إن كان إشعياء النبي قد قدم نبواته قبل سبي الأسباط العشرة، فإنه مع ما أدركه من فساد الشعب كان مشتاقًا إلى الخدمة. علة ذلك انه رأى رؤى سماوية مجيدة، منها تلك التي وردت في الأصحاح السادس… هذا دفعه للقول: “هأنذا أرسلني” (إش 6: 8). أما إرميا الذي عاصر أمر لحظات الشر، مدركًا صعوبة تحقيق رسالته، سواء على مستوى القصر الملكي أو القيادات الدينية أو الشعب، لهذا تردد في قبول الخدمة قائلاً: “آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” (1: 6)، واحتاج أن يسحبه الله إلى الخدمة ويلزمه بها.

إنه لم يتمتع بالرؤى كإشعياء، لكنه تحدث مع الله كصديقٍ حميمٍ جمعت بينهما الألفة، ففي بساطة يقول: “فكانت كلمة الرب إلى قائلاً” (1: 4).

  1. يتشابه إرميا النبي مع النبي حزقيال في كونهما كاهنين، دُعيا للنبوة، ولم يمارسا العمل الكهنوتي. كانت خدمة النبي بين المسبيين في مملكة بابل، أما خدمة إرميا النبي فكانت بين مساكين الشعب الذين ُتركوا في الأرض. امتاز إرميا برقة المشاعر، فكان يبكي ثكلى بنت شعبه واهتزت جدران قلبه في أعماقه، أما حزقيال فامتاز بالنشاط والحماس والالتزام بالمسئولية.
  2. شاهد إرميا النبي دانيال الشاب وهو يُساق أسيرا إلى بابل في السنة الثالثة لحكم الملك يهوياقيم (دا 1). تحدث دانيال النبي عن انهيار الامبراطوريات الأربع (بابل، مادي وفارس، اليونان، الرومان) ليملك الرب الملك بالصليب على القلب، كما تحدث عن مجىء المسيا الأخير. أما إرميا النبي فلم يتحدث عن انهيار الممالك وإنما عن مدة السبي والرجوع منه بعد سبعين سنة، وقد كانت نبوته معروفة لدانيال النبي وربما منها عرف مدة السبي (دا 9: 1-2).

هذا وقد عاصر إرميا النبي النبيين: صفنيا الذي تنبأ قبيل حدوث السبي (صف 1: 1) وحبقوق الذي تنبأ أيضًا قبل السبي البابلي.

سفر إرميا من الناحية اللغوية:

كتب إرميا النبي معظم نبواته في شكل شعر باللغة العبرية، لكن في عبارات بسيطة، على خلاف إشعياء النبي الذي امتاز بفخامة الأسلوب. هذا لا ينفي ما امتاز به أسلوب إرميا من بلاغة بلا تكلف، مع تعبيرٍ رائعٍ عن عواطفٍ رقيقةٍ ومعانٍ خشوعية.

يحوي السفر أبياتًا شعرية صغيرة تتكون من مقطعين كما يحوي أبياتًا شعرية طويلة، بل وقصائد شعرية كاملة.

أولاً: أبيات شعرية من مقطعين:

v     كخزي السارق إذا وُجد،

هكذا خزي بيت إسرائيل هم وملوكهم ورؤساؤهم وكهنتهم وأنبياؤهم. (2: 26).

v     كما تخون المرأة قرينها،

 هكذا خنتموني يا بيت إسرائيل يقول الرب. (3: 20).

v     مثل قفص ملآن طيورًا،

هكذا بيوتهم ملآنة مكرًا. (5: 27).

يرى  Muilenburأن النبي كثيرًا ما يكرر، لكنه في تكراره يقدم أعماقًا مع عناصر جديدة المعنى أكثر قوة وحيوية[21]، من ذلك:

v     قبلما صورتك في البطن عرفتك،

 وقبلما خرجت من الرحم قدستك. (1: 5)

v     آثامكم عكست هذه،

 وخطاياكم منعت الخير عنكم. (5: 25)

v     بالفضة والذهب يزينونها،

 وبالمسامير والمطارق يشددونها فلا تتحرك. (10: 4)

v     أنقذك من يد الأشرار،

 وأفديك من كف العتاة. (15: 21)

ثانيًا: أبيات شعرية أكثر من مقطعين:

جاءت هذه الأبيات في أشكال أدبية كثيرة، نذكر منها:

أ. نموذج شعري متوازي:

v     لم يقولوا أين هو الرب الذي أصعدنا من أرض مصر،

 الذي سار بنا في البرية في أرض قفر وحُفر،

 في أرض يبوسة وظل الموت،

 في أرض لم يعبرها ولم يسكنها إنسان. (2: 6)

ب. نماذج لأبيات في شكل أسئلة تستخدم كقياس للتشبيه:

v     هل بدلت أمة آلهة، وهي ليست آلهة؟!

 أما شعبي فقد بدل مجده بما لا ينفع… (2: 11)

v     هل تنسى عذراء زينتها؟!

 أو عروس مناطقها؟!

 أما شعبي فقد نسيني أياما بلا عدد. (2: 32)

v     هل يخلو صخر حقلي من ثلج لبنان؟!

 أو هل تنشف المياه المنفجرة الباردة الجارية؟!

 لأن شعبي قد نسيني،

 بخروا للباطل وقد أعثروهم في طرقهم في السبل القديمة ليسلكوا في ُشعبٍ في طريق غير ُمسهلٍ. (18: 14-15)

 ج. شعر شرطي:

v     إن رجعت يا إسرائيل يقول الرب،

إن رجعت إليّ،

وإن نزعت مكرهاتك من أمامي،

فلا تتيه.

وإن حلفت حيّ هو الرب بالحق والعدل والبر،

فتتبرك الشعوب به، وبه يفتخرون. (4: 1-2)

د. أمثلة لأبيات شعر متوازي متعادل:

v     والآن مالك وطريق مصر،

 لتشرب مياه شحور،

 ومالك وطريق أشور،

 لتشرب مياه النيل. (2: 18)

v     لأنه من صغيرهم إلى كبيرهم، كل واحدٍ مولع بالربح،

 ومن النبي إلى الكاهن، كل واحد يعمل بالكذب. (6: 13)

v     لماذا تكون كغريب في الأرض،

 وكمسافر يميل ليبيت؟

 لماذا تكون كإنسان قد تحير،

 كجبار كإنسان قد تحير؟! (14: 8-9)

هـ. أبيات مقابلات عكسية تتكون من 3-6 فقرات:

v     قد وكلتك اليوم…

 لتقلع وتهدم،

 وتهلك وتنقض،

 وتبني وتغرس. (1: 10)

ثالثًا: قطع شعرية كاملة:

يحوي هذا السفر حوالي 15 قطعة شعرية بالعبرية كاملة.

بهذا يظهر سفر إرميا باللغة العبرية قطعة أدبية رائعة، لكن سموه لا يظهر في تجسيد رسالته في أشعار، وإنما يمثل أولاً وقبل كل شيء عملاً كرازيًا[22] لقد اعتذر في البداية عن رسالته، كما فعل موسى النبي قبله لشعوره بعجزه عن الكلام (1: 6؛ خر 4: 10)، فأجابه الرب أنه يضع كلماته الإلهية في فمه (1: 6؛ خر 4: 12). عاد مؤخرًا يعتذر متسائلاً عن مدى إمكانية العمل، فأكد له الرب: “مثل فمي تكون” (15: 19). حقًا لقد صار إرميا النبي وكأنه الفم الذي يستخدمه الله حاملاً قوة الكرازة الفعالة مع مهارة أدبية.

مصر وبابل في سفر إرميا:

إن كانت مصر قد حملت البركة باستقبالها العائلة المقدسة فتحقق لها الوعد الإلهي (إش 19) وصار شعبها المصري مباركًا، وفي وسطها أُقيم مذبح للرب، لكن مصر في العهد القديم كانت تشير إلى محبة العالم إذ عُرفت بنيلها الذي أكسب الوادي خصوبة، كما عُرفت بابل بكبريائها، فصارت رمزًا لكل كبرياء كما للزنا. لهذا فمن الجانب الرمزي جاء إرميا النبي يحذر المؤمنين من الالتجاء إلى فرعون مصر، أي إلى العالم في محبته المهلكة، أو إلى ملك بابل، أي إلى الكبرياء المفسد للنفس، وإنما يكون الالتجاء لله وحده الذي يحرر النفس والجسد معًا من أسر محبة العالم والكبرياء!

إرميا في العهد الجديد:

أُشير إلى إرميا شخصيًا في الإنجيل بحسب معلمنا متى البشير مرتين: عند قتل أطفال بيت لحم (مت 2: 17، إر 31: 15)، وعندما دخل السيد المسيح الهيكل ووجده كمغارة لصوص (مت 21: 13؛ إر 7: 11). كما ضم العهد الجديد 41 نصًا تحمل تلميحًا لما جاء في سفر إرميا، منها سبعة نصوص مباشرة.

تحدث إرميا النبي عن العهد الجديد كمصدر تعزية ورجاء للنفوس الساقطة (إر 31: 34؛ عب 10: 16).

وجد يعقوب الرسول في إرميا ما يسنده للحديث في مجمع الرسل المسكوني (أع 15: 16؛ إر 12: 15). ووجد فيه بولس الرسول سندًا للحديث عن حرية اختيار الله في الدعوة (رو 9: 20؛ إر 18: 6)، كما أدرك يوحنا اللاهوتي انهيار بابل العظيمة (رؤ 18: 2؛ إر 51: 8).

بين إرميا النبي والرسول بولس:

  1. رأينا التشابه بينهما في اهتمامهما بأعماق النفس، والإصلاح الجذري لا التركيز على الختان الظاهري…
  2. كان كلاهما رجلي آلام ودموع (أع 9: 16؛ 20: 19، إر 9: 1).
  3. أدرك الاثنان دعوتهما للخدمة وهما بعد في الأحشاء (إر 1: 4-5؛ غلا 1: 15).

المسّيا في سفر إرميا:

في حديثنا عن غرض السفر رأيناه يبرز الحاجة إلى المسيا الملك البار ليحقق الخلاص. فإن كان ملوك بيت داود قد أساؤا القيادة، وكان ذلك أحد العوامل التي شتت الرعية (21: 1، 23: 3)، فإن الله يعد بالأنبياء عن مجيء ملك جديد من نسل داود، بار وحكيم، يخلص يهوذا القطيع الجديد (23: 3-6). وكأن إرميا النبي قد تطلع بنظرة نبوية إلى العصر المسياني الذي فيه يحقق السيد المسيح التجديد الروحي الحق، فيقدم الله عهدًا جديدًا لإسرائيل الجديد، حيث يملك الله روحيًا على القلب (23: 5-8؛ 30: 4-11؛ 33: 14-26؛ 33: 14-26؛ 32: 36-41). وبظهور هذا العصر الجديد ينتهي الطقس اليهودي في حرفيته، وينفتح الباب لدعوة الأمم (3: 17).

لا يقف الأمر عند النبوات عن عصر المسيا وإنما كانت شخصية إرميا ترتبط كثيرًا بشخصية السيد المسيح، حتى عندما سأل السيد تلاميذه: من يقول الناس إني أنا ابن الإنسان؟ قالوا إن بعضًا يقول إنه إرميا (مت 16: 14).

أما أهم ملامح هذا الارتباط فهي:

  1. عاش إرميا يحمل في داخله أثقال شعب الله بمرارة، إذ يقول “أحشائي أحشائي، توجعني! جدران قلبي! يئن في قلبي! لا أستطيع السكوت” (4: 19). وبدموع يقدم مرثاة، قائلاً: “يا ليت رأسي ماءً وعينَّي ينبوع دموع؟، فأبكي نهارًا وليلاً قتلى بنت شعبي” (9: 1)، حتى دُعي بالنبي الباكي. وقد جاء السيد المسيح يبكي البشرية على خطاياها ورجاساتها، خاصة أورشليم التي قدم لها الكثير وفي عناد قاومت عمل الله. فقد قيل عنه: “رجل أوجاع ومختبر الحزن” (إش 53: 3).

وُجد السيد المسيح باكيًا (مت 23: 37)، إن لم يكن علانية ففي أعماقه دموع لا تجف من جهة الخطاة. اكتشف إرميا بعض الخطايا فلم يعد يحتمل نفسه مشتهيًا أن يجد له مبيتًا في البرية ليترك شعبه وينطلق من عندهم لأنهم جميعًا زناة جماعة خائنين (9: 2). أما السيد المسيح العارف بكل خطايا البشرية في كل تفاصيلها الخفية والظاهرة، بكل ثقلها، فقد جاء ليحل وسط الخطاة ويسندهم مقدسًا إياهم بدمه. لم يكن لإرميا رجاء في شعبه إلا من خلال نظرته المستقبلية منتظرًا مجيء الملك المسيا ابن داود ليقيم مملكته على مستوى روحي جديد، أما السيد المسيح فحقق ما اشتهاه إرميا وغيره من الأنبياء فاتحًا طريق الملكوت الجديد لكل من يدعو اسم الرب من جميع الأمم.

  1. أبغض الشعب مع القيادات إرميا النبي بسبب توبيخه لهم، وهكذا أبغضوا السيد المسيح، لا لسبب سوى شرهم: “لأن كل من يعمل السيئات يبغض النور، ولا يأتي إلى النور لئلا توبخ أعماله” (يو 3: 20)، “لا يقدر العالم أن يبغضكم، ولكنه يبغضني أنا، لأني أشهد عليه أن أعماله شريرة” (يو 7: 7).

لم يكن ممكنًا للرؤساء المدنيين والدينيين من كهنة وأنبياء كذبة، وأهل عناثوث وكل الشعب أن يتقبل محبة النبي الصادقة وكلماته الصريحة، فعاش مرفوضًا ومضطهدًا ممن يحبهم، حاملاً صورة السيد المسيح محب البشرية، الذي جاء يسلم ذاته من أجل الكل، أما خاصته فلم تقبله، بل وتكاتفت كل القوى تريد الخلاص منه خارج المحلة.

  1. تنبأ إرميا النبي عن خراب أورشليم، قائلاً: “هأنذا داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحد كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا، وأقيم دعواي على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم” (1: 15-16). وأعلن السيد المسيح ما سيحل بأورشليم، قائلاً: “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا، هوذا بيتكم ُيترك لكم خرابًا” (مت 23: 37-38).
  2. مع ما حمله إرميا من مرارة في داخله من جهة الشعب العنيد وما عاناه منهم بالرغم من محبته لهم، وإدراكه التأديبات القاسية التي ستعانيها أورشليم وكل مدن يهوذا، مرارته امتزجت بحلاوة خلال رؤيته السيد المسيح المخلص بروح النبوة، خلال الظلال، فلم يحمل يأسًا بل رجاءً.

رأى العصر المسياني كعلاجٍ حقيقي للخراب الحاّل، فقال: “ها أيام يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض، في أيامه يخلص يهوذا، ويسكن إسرائيل آمنا، وهذا هو اسمه الذي يدعونه به: الرب بِرّنا” (23: 5-6).

رأى السيد المسيح الذبيح، فقال: “وأنا كخروف داجن (أليف) يُساق إلى الذبح، ولم أعلم أنهم فكروا علي أفكارًا، قائلين: لنهلك الشجرة بثمرها ونقطعه من أرض الأحياء، فلا ُيذكر بعد اسمه” (11: 19).

  1. أدرك إرميا النبي أن الإصلاح الحقيقي يقوم بهدم الشر تمامًا، أي هدم الإنسان القديم، والتمتع بالخير أي قيامة الإنسان الجديد، ليكون الإصلاح جذريًا. ففي بدء دعوته سمع الصوت الإلهي يعلن له: “قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم، وتهلك وتنقض، وتبني وتغرس” (1: 10). وقد أدرك أنه عاجز تمام العجز عن اقتلاع مملكة إبليس وهدمها وإبادتها لكي يبني في نفوس شعبه مملكة الله ويغرسها فيهم، لهذا أكّد الحاجة إلى “عهد جديد” يقيمه الرب نفسه، القادر وحده بروحه القدوس أن يهدم ويبني، ويقتلع ويغرس، الذي وحده يدخل إلى أعماق النفس، يحطم فيها ما هو قديم ليقيمها بطبيعة جديدة… وكما يقول النبي: “ها أيام تأتي يقول الرب وأقطع مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائهم… بل هذا هو العهد الذي أقطعه مع بيت إسرائيل بعد تلك الأيام يقول الرب: أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها في قلوبهم وأكون لهم إلها وهم يكونون لي شعبًا، ولا يعلمون بعد كل واحدٍ صاحبه، وكل واحد أخاه، قائلين: اعرف الرب، لأنهم كلهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم يقول الرب، لأني أصفح عن إثمهم ولا أذكر خطيتهم بعد” (31: 31-34).
  2. يقول إرميا عن نفسه: “وأنا كخروفٍ داجنٍ (أليف) ُيساق إلى الذبح” (إر 11: 9)، كما قيل عن السيد المسيح: “ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاةٍ تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه” (إش 53: 7؛ إر 8: 32).
  3. حمل إرميا النبي العار من أجل الرب: “اعرف احتمالي العار لأجلك” (إر 15: 15)، كما قيل عن السيد المسيح كلمة الله المتجسد: “لأن المسيح أيضًا لم يرضِ نفسه، بل كما هو مكتوب تعييرات معيريك وقعت عليّ” (رو 15: 3).
  4. يرى البعض أن إرميا النبي قد عرض الكثير من الأسئلة التي لا إجابة لها إلا بمجيء السيد المسيح وإقامة العهد الجديد. نذكر على سبيل المثال:

أ. “كيف أصفح لكٍ عن هذه؟” (5: 7). فلم يكن ممكنًا أن تنعم بالصفح إلا بالسيد المسيح “الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب غنى نعمته” (أف 1: 7).

ب. “أليس بلسان في جلعاد أم ليس هناك طبيب؟!” (8: 22)، وجاءت الإجابة في العهد الجديد أنه يوجد طبيب النفوس والأجساد، ربنا يسوع المسيح الذي يقدم دمه بلسانًا لشفاء جراحات النفس المميتة.

ج. “هل يغير الكوشي جلده أو النمر رقطه؟” (13: 23)… حقًا لم يكن ممكنًا للإنسان أن يغير طبيعته التي التصقت به كجلده ولطخت حياته كرقط النمر، لكن جاء السيد المسيح يهبنا بروحه القدوس تغيير جذري لطبيعتنا الداخلية، فصارت لنا الخلقة الجديدة (غلا 6: 15)، وجدة الحياة (رو6: 4).

د. “إن جريت مع المشاة فأتعبوك، فكيف تباري الخيل؟ وإن كنت منبطحًا في أرض السلام فكيف تعمل في كبرياء الأردن؟!” (12: 5). وجاءت الإجابة: نستطيع بالمسيح يسوع ربنا أن نباري الخيل أي الشياطين ونهزمهم، ونعمل في كبرياء الأردن، فنحطم تشامخ الخطية… وباختصار “شكرًا لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح” (1 كو 15: 57).

يُرى السيد المسيح في سفر إرميا إنه:

أ. بلسان في جلعاد (8: 22)، أي دواء للنفس المنكسرة، وأيضًا طبيب بنت شعبي (8: 22)، والراعي الصالح (31: 10).

ب. رجاء الكنيسة ومخلصها: “يا رجاء إسرائيل مخلصه في زمان الضيق لماذا تكون كغريب في الأرض وكمسافر يميل ليبيت” (14: 8؛ 50: 34).

ج. الفخاري، ُيشكل طبيعتنا (الطين) بيده الإلهية (18: 6).

د. غصن برّ: “ها أيام تأتي يقول الرب وأقيم لداود غصن برّ، فيملك ملك وينجح ويجري حقًا وعدلاً في الأرض” (23: 5).

هـ. داود الملك: “بل يخدمون الرب إلههم وداود ملكهم الذي أقيمه لهم” (30: 9).

و. ينبوع المياه الحية (2: 13).

أما أهم النبوات المسيانية فهي:

أ. ميلاده الجسدي كابن لداود (23: 5؛ 33: 15؛ أع 13: 22؛ رو 1: 3).

ب. لاهوته: “الرب برنا” (23: 6، 1 كو 1: 30).

ج. قتل أطفال بيت لحم (31: 15؛ مت 2: 16، 18).

د. تقديم نفسه ذبيحة حب (11: 9)، وحمله العار (15: 15)، وعدم جلوسه في مجلس المازحين مبتهجًا (15: 17).

أقسام السفر:

يبدو أن نبوات إرميا النبي كانت تسجل في أدراج متفرقة، كل درج يحوي موضوعًا معينًا بغض النظر عن التسلسل التاريخي، فقد جاء السفر مرتبًا ترتيبًا موضوعيًا وليس تاريخيًا. أما تكرار بعض العبارات فجاء ضرورة حتمية، لأن السفر في غالبيته مجموعة عظات ألقاها النبي في مناسبات متكررة ومتشابهة في أيام ملوك مختلفين.

يمكن تقسيم نبواته إلى ثلاثة أقسام رئيسية، مع مقدمة وختام:

v     دعوة إرميا ورسالته                                [1].

  1. نبوات ما قبل سقوط أورشليم

 (مع الوعد بالرجوع من السبي)              [2-33].

  1. تاريخ سقوط أورشليم                 [34-45].
  2. نبوات عن الأمم الغريبة               [46-51].

 


 

من وحي إرميا

هب لي يارب رقة إرميا وشجاعته!

v     هب لي يارب رقة إرميا،

فأبكي ليلاً ونهارًا من أجل كل نفس ساقطة!

أصرخ إليك طالبًا تقديس كل قلب،

وختان كل الحواس الداخلية.

v     علمني أن أذوب حبًا من أجل كنيستك،

مشتهيًا خلاص العالم كله!

متى أرى كل البشر حولك،

يتمتعون بحبك،

ويقبلون عهدك وميثاقك؟!

v     اسندني بكلمتكِ النارية،

لتلمس شفتي فأنطق بالحق،

ولا أهتز أمام إنسانٍ ما،

ولا أرتبك أمام الأحداث،

بل اطلب إرادتك واشتهي مجدك!

v     اعترف لك مع إرميا إني أصغر من أن أعمل،

صغير جدًا في عيني نفسي!

لكنك تحول طفولتي إلى نضوج روحي،

وضعفي الشديد إلى قوة!

ترى من يسندني سواك؟!

v     هب لي يارب روحك القدوس الناري،

فأصير كإرميا،

يكفيني أنك معي، ساكنًا فيّ،

حتى إن وقف العالم كله ضدي!

هب لي يارب رقة إرميا وشجاعته!

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى