معرفة الله

+ يتجه العقل فى البحث عن الله من المرئيات الى الأمور فوق الحسية. وكما يستفيد العقل في تحقيق هذه المعرفة من البحث فى المخلوقات، كذلك يستفيد من الناموس الأخلاقي الطبيعي وعلى العموم من مصادر الاعلان الطبيعية. وبالطبع فإن هذه المعرفة لا تكون على درجة كاملة، ولكنها مع ذلك تكون بقدر الامكان على درجة كافية كبداية الطريق نحو التقدم في الحياة الدينية.

وبالنسبة لهذا الاستعداد الدينى الطبيعى ولقدرة الانسان على أن يتعقل الوجود الالهي ويدركه بدرجة ما نجد تأكيدات من الكتاب المقدس وعلى الأخص من الرسول بولس الذى أدان الوثنيين لانهم لم يدركوا من التأمل في الخليقة الاله الحقيقي، ولكنهم سقطوا فى عبادة الالهة الكثيرة وعبادة الأوثان، وكذلك أدان اليهود الذين خالفوا الناموس وقارن بينهم وبين الأمميين الذين أمكنهم عن طريق الناموس الطبيعي الأخلاقي أن يدركوا البر والفضيلة .

على أن هناك من المحدثين من يرفض القول بهذا الناموس الطبيعي الأخلاقي وباتجاه الانسان نحو معرفة الله ونذكر على الأخص من هؤلاء المحدثين اتباع الاسمية Nominalismus  وهو مذهب فلسفى يقول بأن المفاهيم المجردة أو الكليات ليس لها وجود حقيقى وأنها مجرد أسماء ليس غير وهناك أيضاً ما يعرف بمذهب اللاأدرية Agnosticismus وهو ينكر قيمة العقل وقدرته على المعرفة. وهناك التقليديون Traditionalismus الذين يتمسكون بالتقليد وعلى الأخص في المسائل الدينية ويعتمدون فقط على هذه التقاليد فى البحث عن الله وينكرون على العقل قدرته على معرفة الله وغير هؤلاء من أصحاب الفلسفات الخاطئة التي تنكر امكانية معرفة الله الى حد القول بأن الله يجهل نفسه أو التي تزعم أن فكرة الله توجد فى الانسان بصورة كاملة، وهناك من يذهب الى القول بأن العاطفة وهو هی أداتنا لمعرفة الله.

+ وإذا كان حقاً أن الله حسب تعليم الآباء لا يمكن ادراكه ولا يمكن التعبير عنه ولكن ليس معنى ذلك أنه لا يدخل بوجه مطلق ضمن دائرة المعرفة البشرية. ان أبواب مسر الوجود الالهي ليست مغلقة تماماً أمام العقل الانساني ولكنها مفتوحة بدرجة ما للادراك البشرى أنظر:

‏1. Greg. of Nys, anti Eunom. XII, M. 45, 953.

‏2. Cyril of Jer. Catch. VI, 5.

+ اننا يجب أن نميز بين المعرفة التامة الكاملة للجوهر الالهى، وهو أمر يعجز عنه حتى الملائكة وبين المعرفة النسبية الكافية لحياتنا الدينية واذا كانت الخطوة الأولى للبحث وبلوغ هذه المعرفة، يمكن للانسان أن يحققها عن طريق عقله وضميره، فإنه يجب الا يغفل أنه كما يحدث بالنسبة للشمس فإننا نراها من خلال أشعتها وضونها هكذا الامر بالنسبة لله، فإن أدراكنا له يتم من خلال اعلاناته الالهية. أى أن الإيمان هو الوسيلة الضرورية لمعرفة الله وادراكه.

الكتاب المقدس يشهد بإتجاه الإنسان لمعرفة الله :

+ التأمل في الخليقة يقود الانسان للايمان بالله كخالق و مدبر لهذا الكون. وفى هذا يقول الرسول بولس :

” لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته” ( رو ۲۰:۱) انظر : Oikoum M. 118, 340.

وكذلك يقول سفر الحكمة :

” لأن جميع الناس الذين فيهم نقص معرفة هم باطلون ومن الصالحات المنظورة ما استطاعوا أن يعرفوا الكائن ولا انتهوا إلى الأعمال فعرفوا الصانع. لكنهم ظنوا النار أو الروح أو الريح السريعة أو دائرة النجوم أو الماء الراكد أو نيرى السماء هي التي تخدم سياسة العالم فاعتقدوها آلهة وهذه الأشياء التي ان كان أعجبهم جمالها فاتخذوها آلهة فليعرفوا كم هو سيد هذه أفضل حسنا منها، وان أذهلتهم قوتها وفعلها، فتفهموا من هذه كم هو الذى خلقها أعظم قوة منها، لأن من جسامة المنظورات والبرايا يشاهد صانع كونها بطريق القياس (أى أن عظم المخلوقات يدل على عظمة الخالق) لكن مع هذا عليهم وزرة يسيرة لعلهم ضلوا، وطلبوا الله وأرادوا أن يجدوا الله (أى يقع عليهم لوم قليل لأنهم كانوا يرغبون في أن يجدوا الله لأنهم يتصرفون فى أعماله فيفتشون عنه واقتنعوا بالنظر أن المبصرات حسنة أى أن الأمور المرئية جذبتهم اليه بحسنها وأيضا لا يجب لهم المغفرة (أى لا يجب أن يلتمس لهم العذر ) لأنهم ان كانوا بهذه الصورة استطاعوا أن يبصروا حتى أمكنهم أن يحرروا الدهر، فكيف ما وجدوا سيد هذه سريعاً (أي أنهم اذا كانوا قد تمكنوا من ادراك حقيقة الدهر. فكيف لا يدركون سيد هذا الدهر). فهم اذن أشقياء وخانبة آمالهم في الأشياء الميتة الذين دعوها آلهة أعمال أيدى الناس ذهبا وفضة باختلاف الصنعة وتماثيل الحيوان أو حجرا غير نافع عمل يد قديمة (أي أن الذين اتخذوا من المصنوعات آلهة لهم قد وضعوا آمالهم في أشياء ميتة). ولا يخجل أن يخاطب ما لا نفس له ويدعوه لأجل العافية للمريض ويسأل الميت من أجل الحياة ويستغيث من هو غير نافع ويطلب من أجل المشى ممن لا يمكنه أن يمشى خطوة. ومن أجل حصول جميع الأمور يطلب ممن هو غير نافع في جميع الأمور» ص 12

ويترنم النبى داود بمجد الله فيقول :

“السموات تحدث بمجد الله والفلك يخبر يعمل يديه يوم يذيع كلاما وليل الى ليل يبدى علما لا قول ولا كلام ولا يسمع صوتهم فى كل الأرض خرج منطقهم والى أقصى المسكونة كلماتهم. جعل للشمس مسكنا فيها وهى مثل العروس الخارج س حجلته يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق من أقصى السماوات خروجها و مدارها الى أقاصيها ولا شيء يختفى من حرها”( مز ۱۹ :١-٦)

+ وبالاضافة الى هذا فقد سطر الله فى قلوب الناس عمل الناموس». وفي هذا يقول الرسول بولس عن الأمميين الذين لم يكن لهم ناموس مكتوب :

“لأن كل من أخطا في الناموس يدان، لأن ليس الدين يسمعون الناموس هم أبرار عند الله بل الذين يعملون بالناموس يبررون لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة ما هو في الناموس فهؤلاء اذ ليس لهم الناموس هم ناموس لأنفسهم، الذين يظهرون عمل الناموس مكتوبا في قلوبهم شاهدا أيضا صغيرهم وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو محتجة “ (رو ۲ : ۲۱-۱۱)

ويقيم الرسول بولس مقارنة بين اليهودي الذي لديه ناموس مكتوب ومع ذلك يتعدى هذا الناموس ويخالف وصايا الله. ويجدف على اسم الله بسببه وبين الأممى الذي ليس له ناموس مكتوب ومع ذلك فهو بالطبيعة يحفظ أحكام الناموس المكتوب ويكملها وبذلك يكون قد اختتن الاختتان الحقيقى. يقول الرسول في هذه المقارنة :

“إذن إن كان الأغرل يحفظ أحكام الناموس أفما تحسب غرلته ختانا وتكون الغرلة التي من الطبيعة وهى تكمل الناموس تدينك أنت الذي في الكتاب والختان تتعدى الناموس لأن اليهودى فى الظاهر ليس هو يهودى ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختانا بل اليهودى فى الخفاء هو اليهودى وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه ليس من الناس بل من الله” (رو ۲٦:٢-۲۹)

ولعل من أقوى العبارات التى تكشف عن اتجاه الانسان ككائن متدين بالطبيعة، نحو الله ما سطره سفر الأعمال على لسان الرسول بولس في أريوس باغوس (اع ۲۲:۱۷ – ۲۱) والذى سبق وأشرنا اليه في موضع سابق. أنظر:

‏1. Chrysost, hom Act. 393.

‏2. Damasc. orth, faith Book 1 ch. 1, M. 94, 789.

‏3. Iren, elen. Book 2 Ch VI M. 7, 724.

‏4. August. De libero arbitrio. 1. IIC. 13.

‏5. Cyril of Alex. John 1, 9.

وعندما شفى الرسول بولس الرجل المقعد عاجز ،الرجلين في السترة، رفع الجموع صوتهم قائلين أن الالهة تشبهوا بالناس ونزلوا الينا وأتى كاهن رفس بثيران وكان يريد أن يذبح فلما سمع الرسولان برنابا وبولس مزقا ثيابهما واندفعا الى الجمع صارخين وقائلين أيها الرجال لماذا تفعلون هذا نحن أيضاً بشر تحت الآلام مثلكم نبشركم أن ترجعوا من هذه الأباطيل الى الاله الحى الذي خلق السماء والأرض والبحر وكل ما فيها الذى فى الأجيال الماضية ترك جميع الأمم يسلكون في طرقهم مع أنه لم يترك نفسه بلا شاهد وهو يفعل خيراً يعطينا من السماء أمطاراً وأزمنة مثمرة ويملأ قلوبنا طعاماً وسروراً وبقولهما هذا كفا الجموع بالجهد عن أن يذبحوا لهما (أع ١٢:١٤-١٨).

فالله غير المرئي لا يظل مجهولا وذلك بسبب ما يلمسه البشر من عناية وتدبير، وهكذا فإن الرسول بولس يكون قد أشار الى ثلاثة مجالات تدفع الانسان للاتجاه نحو الله :

(أ) نظام العالم.
(ب) الناموس الطبيعى الأخلاقي أو الضمير
(ج) التاريخ كمجال لظهور عناية الله.

ويشير القديس يوحنا الى أن المسيح هو النور الحقيقي الذي ينير كل انسان ات الى العالم يو ٩:١ على أن الرسول بولس يشير إلى أن البشر يمكن أن ينحرفوا عن طريق الصواب ويخالفوا اتجاهاتهم الطبيعية ويعتمدوا على قواهم الذاتية دون الاستعانة بالاعلان الالهى ” وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله الى ذهن مرفوض ليفعلوا ما لا يليق (رو ۱: ۲۸ ) .

+ من كل هذا يتبين أن الانسان كائن متدين بالطبيعة، وأنه يستطيع بالعقل أن يعرف الله أنظر :

‏1. M. Basil epist, 233, M. 32, 868, epist. 235, 1. M. 32, 872. 2. Cyril of Alex. against Joulian, log. 1, M. 76, 653.

الذين ينكرون ويسيئون فهم اتجاه الانسان الطبيعى لمعرفة الله :

+ ان العقل كما قلنا يمكنه عن طريق قوة التفكير الذاتية أن ينتقل من النظر الى المخلوقات الى معرفة الخالق كعلة أولى لهذه المخلوقات غير أن هناك من الباحثين من ينكر على العقل هذه الامكانية ومن هؤلاء أتباع مذهب الاسمية الذي أشرنا اليه سابقا. هذا المذهب يرجع المعانى العامة الى أسماء وله صورتان : الاسمية القديمة فقد انكروا وجود الكليات وأرجعوها الى مجرد أسماء أو صور أو اشارات وقالوا أن الكليات ليست حاصلة في العقل ولا هى متحققة خارج العقل. وأما الاسمية الحديثة فهي تقول بأن المعانى الكلية ليست سوى أدوات عمل نافعة وان العلم لا يبحث اسمانها، وكذلك القوانين والنظريات العلمية لا تعبر في الأشياء نفسها بل يبحث عن حقائق الأشياء جميل صليبا : المعجم الفلسفي المجلد الأول )

 وهناك أيضاً مذهب اللاأدرية واللاأدرية عند القدماء فرقة سوفسطانية تقول بالتوقف في وجود كل شيء وعلمه وقالوا أنه من الواجب على العاقل أن لا يقطع في شيء. وعند المحدثين تطلق اللاأدرية على انكار قيمة العقل وقدرته على المعرفة أو على انكار معرفة المطلق، أو على القول ببطلان علم ما بعد الطبيعة.

فإذا عرضت على أحد اللاأدريين مسألة ما من مسائل هذا العلم، لا يتكلم عنها بنفى أو اثبات بل يتوقف عن الحكم فيها لاعتقاده أنها لا تقبل الحل. وتطلق اللاأدرية أيضاً على المذاهب الفلسفية التي تقول بعجز العقل عن معرفة الحقائق التي تجاوز طوره، وعلى كل فيلسوف ينكر المعرفة أو يقول بوجود حقائق لا سبيل إلى معرفتها (جميل صليبا : المعجم الفلسفي المجلد الثاني .ص ٢٥٨)

+ على أنه كما يلاحظ الآباء أنه اذا عجزنا عن أن نعرف بالعقل كنة الله وجوهره الا أننا لا نجهل ما يتصل بالله جهلا تاماً فنحن نعرف أنه صالح ومحب لبشر ورحوم وعادل وأنه حكيم ويوجد فى كل مكان أى أنه في جهلنا لله تكون ا بعض المعرفة وفى معرفتنا لله هناك أمور نجهلها أنظر :

‏1. Greg of Nys., anti EUnom. Book XII, M. 45, 956. 2. M. Basil, against Eunom, Book 1, 14, M. 29, 543. 3. M. Athanas., anti Hellen. 35, M. 25, 69. 5. Cyril of Jerus. Catch. M. 33, 541.

‏143,2. 4. Chrys. Psalm. 138,2

+  أما الذين يدعون بالتقليديين فهم يقولون بالحاجة الضرورية الى الاعلان الالهى عن الأمور الميتافيزيقية فوق الحسية مثل : وجود الله وروحانية النفس وخلودها، والقانون الأخلاقى الملزم وبدون هذا الاعلان فسوف تظل معرفتنا عن الله وعن الأمور فوق الحسية مجهولة هذا الاعلان الالهى حسبما يقولون قد أعطى للانسان الأول، ثم انتقل من السلف الى الخلف ومن جيل إلى جيل عبر تعاليم الأسرة والمجتمع والتربية ومن هنا جاءت كلمة «التقليديون». هذا التقليد في نظرهم هو المصدر الوحيد الذي يستقى منه عقل الانسان معرفته عن العالم فوق الطبيعي. ومن هذا يتبين أن التقليديين ينكرون على العقل قدرته الذاتية لمعرفة الله عن طريق التأمل فى المخلوقات والانتقال من الأمور المنظورة الى غير المنظورة وينسبون اكتساب هذه المعرفة الى التقليد.

+ على أننا لا نستطيع أن ننكر ما للعقل من قوة وامكانية تؤهله لمعرفة الله. وقد استطاع العقل الفلسفى اليونانى أن يتجاوز التقاليد الوثنية التي كانت تسود المجتمع، وأن يهيىء اليونانيين لتقبل فكر سام مغاير للفكر التقليدى وعلى مستوى من الروحانية لا تجعله غريباً بل ممهدا للفكر المسيحى انظر :

1 Apol. 46, B. 3, 186 + 207. Justin, 2 Apol 13 +

ومن الآراء المرفوضة ما يقوله البعض من أن صورة الله في الانسان قد فسدت فسادا تاماً بسبب الخطية الجدية (الأصلية) مما يسلب الانسان امكانية أن يعرف الله.

وهناك آراء البعض ممن تأثر بالفلسفة الأفلاطونية وأساء فهم هذهـ الامكانية العقلية لمعرفة الله وذهب هؤلاء الى القول بأن فكرة الله» هي فكرة طبيعية فى الانسان وأنها توجد مركبة فيه كجزء جوهري في ضميره. وحقيقة أن الآباء قد أشاروا الى أننا ندرك بالطبيعة وبدون تعلم الأب الخالق.

كما أشاروا الى «شهادة النفس» التي تدفعنا كما بدافع غريزي نحو الله. على أن رأى الآباء يختلف عما يقول به الفلاسفة الأفلاطونيون من وجود فكرة الله في النفس، وكما لاحظ اندر تسو. ان أدراك معنى الله هو طبيعي وغير طبيعى فى نفس الوقت فهو غير طبیعی اذا كنا نقصد به وجود الادراك التام الكامل لللالوهية في نفس كل إنسان وهو طبيعى اذا كنا نقصد به اتجاه النفس نحو معرفة ذاتية بالنظر الى مخلوقاته وفى هذا يتفق أيضا الأسقف الكاثوليكي Simar الذي يشير إلى أن عبارة “معرفة الله طبيعية فى الانسان” تعنى فقط أن الله خلق الانسان على هذا النحو الذى يمكن له أن يتجه نحو طلبه، وأنه بالفكر الذاتي يمكن أن يصل الى معرفة ما عامة أو ناقصة عن الله (العقيدة : 1,115)

وكيف يمكن القول أن فكرة الله توجد متحققة كاملة عند كل انسان بينما تلاحظ المفاهيم المختلفة بين البشر حول الألوهية ولو وجدت هذه الفكرة متحققة عند كل انسان اذن لما كان يجب أن يوجد انسان ملحد يكفر بالله وفكرة وجوده وكان يجب أن يتفق البشر جميعا حول فكرة واحدة صحيحة عن الله.

+ ومن بين من يشكون فى قيمة العقل وقدرته على بلوغ معرف فة الله من يمكن أن ندعوهم بأصحاب التصوف الكاذب، الذين يعطون أهمية خاصة للاحساس أو الوجدان والاحساس ظاهرة نفسية متولدة من تأثر أحدى الحواس بمؤثر ما ويطلق هنا على الناحية الانفعالية فى مقابل الادراك العقلى (جميل صليبا المعجم الفلسفي – المجلد الأول)

ويذهب أصحاب هذا الاتجاه إلى أن الاحساس هو الأداة الوحيدة لمعرفة الله أنهم يعلقون معرفة الله على هذه الخبرة الداخلية الذاتية ويفضلونها على معطيات الإيمان، وينكرون أهمية العقل في امكانية معرفة الله والانسان – حسبما يقولون – يحس الله ولا يعرفه. إن الصور الذهنية التى نصل اليها بواسطة العقل فيما يقولون ليست لها أية قيمة موضوعية خارجا عن هذه الخبرة الصوفية. 

‏ ومما لا شك فيه أن هذه الخبرة التي تعتمد على الاحساس وحده، هي خبرة ذاتية عارية عن كل حقيقة موضوعية. هذا فضلا عن أن هذا الاحساس الأعمى يؤدى بصاحبه إلى القول بوحدة الوجود Pantheisme كما يؤكد هذا اللاهوت الوجداني (أو الانفعالي)  affectiva Theologia عند Gerson . جيرسون(١٤٢٩م) .

ان من يقولون بهذا الاتجاه، ينظرون الى الله متحدا بالعالم، أما الله بدون المخلوقات فيدعونه Nihil “لا شيء”، وهم يقصدون بهذه التسمية عدم الادراك بصورة مطلقة لطبيعة الله.

ونحن إذ نطلق على أمثال هؤلاء بأصحاب التصوف الكاذب، فإنما لنميز بين هذا النوع من التصوف وبين ما نجده مثلا فى كتابات ديونيسيوس الاريوباغى.

ويشير ديونيسيوس الأريوباغى الى طرق ثلاث للعقل لمعرفة الله 
1- الطريق الأول : يقوم على مبدأ العلية الذى يقودنا الى اثبات وجود الله.
2- الطريق الثاني : يقوم على مبدأ السمو. فإن الله اذ علة الخليقة، فهو يسمو عليها. وهكذا نعرف أن الله هو فوق كل شيء.
3- الطريق الثالث يقوم على مبدأ «السلب» فنقول مثلا ان الله بلا حدود وهذا الطريق الثالث يختص بالأكثر بالكلام عن جوهر الله

على أن ديونيسيوس يضيف الى هذه الطرق، دون أن يبطلها امكانية معرفة الله بالاتحاد به بأسلوب فوق طبیعی اسمى من الأسلوب الذى يستعمله العقل. وهذا الاتحاد يتم من خلال علاقات شخصية بين الانسان وبين الله على خلاف ما يقول أصحاب مذهب وحدة الوجود فضلا عن أن ديونيسيوس يبنى تعاليمه على الكتاب المقدس فيشير الى الشواهد التالية : : أم ٣٠:٨ ، سفر الحكمة ۱:۸ ۲،۱:۹ ،۹، ۵:۱۲، رو ۲۰:۱

وفي مقابل هؤلاء الذين ينكرون أو يسينون فهم قوة الانسان وامكانياته العقلية المعرفة الله سواء في الفكر القديم أو في العصر الحاضر يوجد هؤلاء الذين يؤكدون بأن الانسان يقدر أن يعرف جوهر الله غير المحدود معرفة تامة كما يعرف الله نفسه.

وقديماً أكد هذا بعض الغنوسيين الذين يشير اليهم ايريناوس. ومن غنوسيي القرن الرابع تذکر Aetios, Eunomios الذى أكد بإمكانية معرفة الله معرفة تامة وبالطبع فإن هذه الآراء تكشف عن غرور أصحابها وكبريائهم وغطرستهم الفكرية، وهو ما قوبل بعدم ارتياح من اباء الكنيسة انظر :

‏1. Epiph. Heres. 76, 4, M. 42, 521.

‏2. Socrat. H. E. IV 7, M. 67, 473.

‏3. M. Basil, against Eunom. 1, 2, M. 29, 539.

وأيضاً في العصر الحديث هناك من تعرض لنفس الضلال ممن ينتهون الى القول بمذهب وحدة الوجود ومن أمثال هؤلاء جيرسون الذي أشرنا إليه سابقا والذي يؤكد أنه من خلال حياة المحبة فى الله ينتهى المرء إلى رؤية مباشرة واضحة لله واذ يستنير بنفس النور الالهى فإنه يكتسب معرفة تامة عن الله وهكذا تكونت نظرية جديدة عرفت باللاهوت الوجداني على نحو ما أشرنا سابقا. وقبل ذلك بقليل علم Tuler ،(١٢٦١م)، أن النفس إذ تستغرق وتفقد تماما في الله تصير الهية حتى انه يعتبرها مساوية لله.

وليس من شك فى أن مثل هذه الآراء هى بأكملها آراء شخصية خاضعة للضلال والخديعة بسبب سيطرة العاطفة والخيال.

 ان التصوف الذي يبغى الملاحظة المباشرة لله والاتحاد وذلك بالانفصال عن العالم وتعطيل عمل العقل وانهاض العاطفة، يؤدى الى القول بوحدة الوجود. ولذلك فلا يذهل المرء حينما يسمع سبينوزا يؤكد أن لديه معرفة واضحة عن الله على نفس مستوى معرفته بالمثلث ويعد أتباعه بأنه سيقودهم إلى معرفة مطلقة للجوهر الالهى وهو اذ يوجد بين الجوهر الالهى وبين العالم توحيداً تاماً، يذهب الى القول بأن الله يعرف نفسه ويشعر بذاته فقط من خلال ضمير الانسان وحسب هذا الاعتقاد، فإن الله لم يعد هو الكائن الذى به الكل ومن أجله الكل، ويكف الله عن أن يكون الكائن المطلق أو الروح الكامل بل على العكس يحمل في نفسه جميع ضعفات الكائنات المخلوقة.

في تعليم الآباء المبنى على الكتاب المقدس، ويأخذ طريقاً وسطا بين القول بإمكانية معرفة الله معرفة تامة، وبين انكار امكاينة معرفة الله :

+ يتحدث الكتاب المقدس والآباء عن عدم القدرة على معرفة الله معرفة تامة فالانسان هذا الكائن المحدود لا يستطيع أن يدرك الله غير المحدود أدراكاً كاملا ولا يستطيع أن يحيط به أو يدرك جوهره ادراكا تاما والرسول بولس يتحدث عن امكانية العقل لادراك سلام الله الذى يفوق كل عقل ٧:٤». ويؤكد الآباء هذه الحقيقة مشيرين إلى أن الحقائق التي تتصل بالله تفوق امكانيات العقل وقدراته عدم انظر:

‏1. Athanas., against Hellen. 35. M. 25, 69.

‏2. Damasc. Orth, Faith M. 94, 800.

‏3 Greg. Naz. Log. 28, 5, M. 36, 32.

وفى الرسالة الى رومية، يقول الرسول بولس :
” يا لعمق على الله وحكمته وعلمه ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء ، لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيرا، أو من سبق فأعطاه فيكافا، لأنه منه وبه وله كل الأشياء” (رو ٣۳:۱۱ – ٣٦) . أنظر 

‏1. Oikoum. M. 118, 560.

‏2. Theoph. M. 124, 496.

ويقول الرسول بولس أيضاً :

” الذي وحده له عدم الموت ساكناً فى نور لا يدنى منه الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه الذى له الكرامة والقدرة الأبدية” (١تى ١٦:٦).

ويعلق القديس يوحنا ذهبي الفم على عبارة “لا يدنى منه aprositon بأنها أعظم من عبارة “غير مفهوم أو غير مدرك ” akatalyptos لأن عبارة «لا یدنى منه لا تشير فقط الى عدم القدرة على ادراك الله بل تشير أيضا الى صعوبة البحث فى الأمور الالهية.

‏Chrysost akatalyp. IV, 1, Monf. 1, 578.

والواقع – فيما يشير الآباء – ان عدم ادراك الله لا يقتصر فقط على الذين لا يستحقون الاعلانات الالهية بل حتى بالنسبة لهؤلاء الذين شاركوا هذه الاعلانات مثل موسى النبي والرسول بولس الذي صعد الى السماء الثالثة والملائكة ورؤساء الملائكة . أنظر .

‏1. Greg. Naz. log. 38, 3, M. 36, 29.

‏2. Clem. of ALex. Strom. Vi,, 7. B. 8, 199.

وإذا كان الكتاب المقدس يتكلم عن الملائكة الذين ينظرون وجه الله في السماوات. ويقفون حول العرش فإن هؤلاء ينظرون حسب امكانياتهم المحدودة وحسب قدراتهم. أنظر:

‏Cyril of Jer. Catech. VI, 4. M. 33, 548.

ويقول الرسول يوحنا “الله لم يره أحد قط الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبر” (يو ١ : ١٨) ويكتب الرسول بولس ” الذي لم يره أحد من الناس”  (١تی ١٦:٦).

وعندما يتحدث الأنبياء عن رؤيتهم لله فأنهم لا يقصدون بذلك أنهم يرون الله نفسه ولكنهم يرون شبه مجده لا مجده ذاته. وهذا هو ما تدل عليه الآيات التالية :
(أش ١:٦) “رأيت السيد جالساً على كرسى عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل”.
(دا ۹:٧) “كنت أرى أنه وضعت عروش وجلس القديم الأيام لباسه أبيض كالثلج وشعر رأسه كالصوف النقى وعرشه لهيب نار وبكراته نار متقدة .
(عا ۱:۹) رأيت السيد قائماً على المذبح

حز ۱ : ۲۸ ” كمنظر القوس التي في السحاب يوم مطر هكذا منظر اللمعان من حوله . هذا منظر شبه مجد الرب، ولما رأيته خررت على وجهی وسمعت صوت متكلم”.

وفيما يتصل برأى الآباء فى عدم القدرة على ادراك الله ادراكاً تاماً، انظر :
2. Chrys, akalalypt log. 3, 1 Montfaucon 1, 567 + 4, 3

‏Monf 1, 581, John hom. 15, 1 monf. 8,98 2. Damasc. Orth, Faith, 1.12 M. 94 845.

‏3. Clem, of Alex. Strom. V 12. B. 8, 146.

‏4. Greg. Naz. log. 30, 17 M. 36, 125, log. 38, 7, M. 36, 317.

‏5. Greg. of Nys. M. 45, 121, against Eunom, log. XII, M. 45, 1069.

‏7. Orig. Contr. Cels. VI, 62, B. 10, 107.

على أن القول بعدم القدرة على ادراك الله ادراكا تاما لا يعني القول باللاأرادية فكما يشير القديس كيرلس الأورشليمى إلى أنه اذا كنا نعجز عن شرب مياه البحر كلها فإننا يمكن أن نأخذ ما يروى رمقنا وعلى ذلك اذا كان الله غير مدرك فأن ذلك لا يعنى أننا نجهله جهلا تاماً أن لدينا معلومات محددة عن الله تلائم قوانا الذهنية المحددة. ومع ذلك فهي كافية لأن تجعلنا شركاء الطبيعة الالهية» انه يكفى أن نعرف عن الله أنه ،واحد موجود ،دائم، كلى القدرة ضابط الكل أصلح من الكل وأعظم من الكل كامل فى صلاحه وكامل في البر حاضر في كل مكان يدرك كل شيء. مصدر كل صلاح والى غير ذلك من أمثال هذه الصفات. 

أنظر

‏Cyril of Jer. Catch 6, 5 + 7, M. 33, 545548

وهكذا يكون الاباء قد اختاروا الطريق الأوسط، فلم يغالوا في القول بامكانية معرفة الله معرفة تامة ومن ناحية أخرى لم ينكروا على العقل قدرته على تحقيق بعض المعرفة

يقول يوحنا الدمشقى

الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذى فى حضن الآب هو أخبر” فالاله اذن يعجز بيانه ولا يدرك لأنه ليس يعرف الآب إلا الابن ولا أحد يعرف الابن إلا الآب. ويعرف الروح القدس ما فى الله كما يعرف روح الانسان ما في الانسان اما ماعدا الطبيعة الأولى السعيدة، فلم يعرف أحد قط الله لا من البشر فحسب، حتى ولا من القوات الفائقة العالم أى الكاروبيم والسيرافيم أنفسهم إلا الذي اعتلن هو تعالى نفسه له. بيد أن الله لم يدعنا فى جهل تام فإنه قد زرع هو نفسه في طبيعتنا جميعاً المعرفة بأنه تعالى موجود والطبيعة نفسها بانتلافها وانقيادها تذيع هي أيضاً عظمة الطبيعة الالهية وقد أوضح لنا معرفته بالشريعة والأنبياء أولا ثم بابنه ربنا والهنا ومخلصنا يسوع المسيح ذلك على قدر استطاعتنا. لذلك كل ما تسلمناه من الشريعة والأنبياء والرسل والانجليين نتقبله ونعرفه ونوقره غير فاحصين عما سوی البتة، فلما كان الله صالحاً فهو فياض بكل صلاح دون أن يخضع البتة البخل أو انفعال ما فما ابعد البخل عن الطبيعة الالهية الصالحة وحدها والمنزهة عن الانفعال. وعليه لما كان تعالى يعرف كل شيء. وسبق فهيا لكل ما يوافقه، فقد أعلن لنا كل ما يفيدنا أن نعرفه، وصمت عما لا نستطيع احتماله فاذن علينا نحن ان نؤثر ذلك، ونقنع به ولا نزيح الحدود القديمة» فنتجاوز التقليد الالهي.

(المائة مقالة الكتاب الأول – الرأس الأول – ترجمة الارشمندريت – ادریانوس شکور)

أما بالنسبة لما لا نستطيع فهمه ولا النطق به يقول يوحنا الدمشقى : : أما أي شيء هى الذات الالهية أو كيف هى فى الثلاثة وكيف الله الابن الوحيد الجنس أخلى ذاته فصار انساناً من الدماء البتولية مجبولا بطريقة مخالفة للطبيعة. وكيف مشى على المياه ولم تبل قدماه فهذا كله نجهله ونعجز عن الكلام فيه.

إذن لا يمكن النطق ولا التفكير عن الله خارجاً عما صوره الله نفسه لنا أو قاله وأوضحه في المقولات الالهية فى العهدين القديم والجديد. (الكتاب الأول – الرأس الثاني)

ويقول القديس غريغوريوس النزينزي :

“وعندما نظرت لم أكد أرى سوى قفا الله… وعندما انحنيت قليلا أبصرت لا الطبيعة الأولى الخالصة من كل اختلاط التي تدرك ذاتها اعنى الثالوث… بل ما يقع في الطرف ويصل الينا إنه على ما أرى عظمة الله في المخلوقات وفي الأشياء التي ابدعها وساسها وما يسميه داود الالهى «جلاله». هذا ما يرى في قفا الله وما يدرك بعد اجتيازه انه كظلال الشمس على المياه والأخيلة تمثل الشمس في العيون الضعيفة، إذ لا يمكن التحديق إلى ذات الشمس لأن صفاء نورها يتغلب على الحواس. هكذا يجب أن تعالج اللاهوت وان كنت ،موسى، وإلها لفرعون، وإن كنت بلغت السماء الثالثة» «كبولس» وسمعت كلمات تفوق الوصف وان تفوقت عليه في احد المواقع أو الصفوف التى للملائكة أو لرؤساء الملائكة. فكل كانن سواء كان علويا أو فوق العلوى وان كان بطبيعته أرفع منا جدا وأقرب من الله، هو أبعد من الله. ومن إدراك كامل لله بعده عنا نحن الخليط المركب السفلى والميال إلى الأرض».

(الخطاب الثامن والعشرين ترجمة الأب حنا الفاخوري مجلة المسرة ٧٨ (۱۹۹۲) العدد ۷۹۳)

البراهين على وجود الله

أشرنا فيما مضى الى امكانية معرفة الله بالنظر الى المخلوقات على أن المعرفة التي تجيء عن هذا الطريق. تكون معرفة ضئيلة غير كاملة وهكذا تبدو أهمية الإيمان كوسيلة ضرورية لمعرفة الله ذلك أن الإيمان هو الذي يكمل المعرفة التي تجىء عن طريق العقل. يقول أنسلم في ذلك :

ربي لا أحاول أن أنقذ اليك فى علاك لأنى لا أستطيع أن أصل إلى ذلك بعقلى، ولكنني أود أن أنقذ الى حقيقتك التى يعتقدها قلبي ويحبها لا أحاول أن أعقل كي أؤمن بل أؤمن كي أعقل، لأنى أؤمن أيضاً أني لا أستطيع أن اعقل ان لم أؤمن”. ويعلق المترجم على هذه العبارة فيقول : يضع القديس أنسلم منهجه في الإيمان السابق على العقل بل ان هذا المنهج هو موضوع ايمان كذلك لأنه يؤمن أنه لا يستطيع أن يعقل ان لم يؤمن أى أن الإيمان هو نقطة البداية حتى فى اختيار الصيغة ووضع المنهج. 

إن الآباء يؤكدون أن العقل لا يستطيع أن يحيط بالله ويدرك جوهره ادراكاً تاما، لأن امكانيات العقل محدودة لا تساعدة على ذلك ولأن طبيعة الله تفوق امكانيات العقل وقدراته.

وهكذا يمكن القول أن حقيقة الله تظل حقيقة ايمانية بالدرجة الأولى، وفى هذا يقول الرسول بولس ولکن بدون ایمان لا يمكن ارضاؤه لأنه يجب أن الذي يأتى الى الله يؤمن بأنه موجود وأنه يجازي الذين يطلبونه” (عب ٦:١١)

وبلا شك فإن الإيمان لا يكتسب بالأدلة العقلية والا يكون قد فقد خاصيته وكفى ان يكون الإيمان ايماناً. يقول بسكال الإيمان ليس علما بل اعتقاد هذا الإيمان هو في القلب ويجعل صاحبه يقول : أعتقد ولا يقول : أعلم. ويطالب بسكال العقل أن يلتزم حدوده وفى اتجاه بسكال صار بعض الفلاسفة المعاصرين، فادوار لوروا (۱۸۷۰ – ١٩٥٤) يؤكد ان استنباط وجود الله يساوى انكاره ذلك لأن العقل حين يتكلم عن الله فإنه لا يتناول الله حقاً لأن البرهنة على وجوده معناه امکان رده الی حقائق أخرى غيره لها سلطتها بالنسبة اليه، لكن الله اذا قيس بهذا المقياس فلن يكون بعد هو الله ويقول فيلسوف آخر ان الماهية الالهية لا يمكن دون الوقوع في تناقض حصرها ضمن التعريفات الانسانية. وكل فكرة عن الله لا يمكن الا أن تكون فكرة ناقصة.

إن البرهنة على وجود الله تختلف عن البرهنة على وجود أي كائن آخر. فبالنسبة للموجودات الأخرى نرد وجودها إلى علة أخرى خارجة عنها ننسب إليها أصل الوجود وعلتة فالعالم لم يوجد بذاته ولكن الله هو الذي أوجده. أما بالنسبة لله، فنحن لا نحتاج الى سبب خارج عن الله نعلل به وجوده.

ويقول اكليمنضس الاسكندرى : أن الله لا يمكن شموله والاحاطة به بالكلام أو بالعقل. ويشير الى ما يقوله أفلاطون من أنه من الصعب علينا أن نعلنه للآخرين. كما يقول اكليمنضس انه من الصعب أن نتكلم عن المبدأ المطلق الذي هو علة جميع الأشياء. كيف لنا أن نتكلم عن الله وهو ليس له جنس أو نوع، وهو غير محدود وليس له هيئة أو اسم. وقد نسميه بالواحد أو الخبر أو العقل أو الخالق أو السيد. ونحن فى الواقع لا نعطيه اسمه بل نستعمل بعض الأسماء المناسبة التي تحفظنا من التعرض للخطأ. وهكذا ينتهى اكليمنضس الى القول بأننا نعرف الله بواسطة النعمة الالهية بالكلمة التي أعلنها لنا . انظر : 

Clem, of Alex. Strom. V, XII 81-82, B. 146.

كذلك أنظر :

‏159 + Origen Contra Cels. VII 37, 47, 46, B. 10, 151 

– على أنه من ناحية أخرى، فإن هذا الإيمان هو ايمان معقول، بمعنى أنه يمكن البرهنة عليه بقدر ما – برهنة عقلية والكتاب المقدس يدعو الى ضرورة تعقل الإيمان، ومن أجل ذلك كان السيد المسيح يشرح لتلاميذه ما غمض عليهم من حقائق الإيمان. فاذا كان من الخطأ أن نساير أهل الجدل الذين يرفضون الإيمان ويخضعون كل شيء للعقل، فكذلك أيضاً من الخطأ أن نساير خصوم الجدل الذين يرفضون العقل ان ما نحتاجه حقاً هو تعقل الإيمان وفهم مضمونه.

ولكن قد يثار تساؤل هنا حول امكانية العقل فى شرح الحقائق الإيمانية هل يمكن للعقل أن يستوعب الحقيقة الإيمانية استيعاباً كاملا ويكون قادراً على تحويلها الى حقيقة عقلية، يكون فى مقدور العقل ادراكها ادراكاً كاملا والاحاطة بها احاطة تامة ؟

كان أنسلم يؤمن بقدرة العقل المطلقة على تفهم الإيمان، بل أنه حاول تفسير العقائد المسيحية التي يراها آباء الكنيسة أسراراً تفوق قدرة العقل، تفسيراً عقلياً فأبان ضرورة التثليث والتجسد وأما توما الاكوينى فقد جعل للعقل ميدانه والايمان سره، ويعيد الحقائق الإيمانية التي حاول أنسلم تفهمها الى حظيرة الإيمان والى مقولة السر ويرى توما الاكوينى أن أية محاولة لتفهم العقائد المسيحية واقعة في التناقض لا محالة ان لم تكن مستحيلة على الاطلاق. ويمكن لنا هنا أن نعيد ما سبق وذكرناه فنقول : ليس من الممكن أن نحول القضايا الإيمانية إلى قضايا عقلية صرفة والقضايا الإيمانية سواء عند المؤمن البسيط أو اللاهوتي العميق ترد في النهاية إلى الإيمان بالله ومع الإيمان يمكن أن تظل المعرفة كما في مرآة في لغز» حسب تعبير الرسول بولس ولكن يصير اقتناع القلب بدرجة كافية.

وتنحصر البرهنة على وجود الله فيما يعرف بالحجج الوجودية والكونية والغائية والأخلاقية.

الحجة الوجودية

وهى اثبات وجود الله بتحليل تصورنا لذاته، وهو الدليل الذي ابتكره أنسلم وأخذ به دیکارت.

ولقد جاءت تأليف أنسلم اجابة لطلب بعض رهبانه أن يقدم لهم تأملا في وجود الله وطبيعته يستند الى العقل ويستغنى منه عن الرجوع الى الكتاب المقدس. وفى كتابه «مناجاة النفس» بدأ أنسلم بما يقع فى الخبرة من تفاوت في درجات القيم. في درجات الخير والوجود وفيما يحيط بنا من أشياء. ومن هذا ينتقل بالبرهان الى ضرورة وجود معيار مطلق وجود خير مطلق وجود كائن مطلق يكون وجود ما هو نسبى مرهونا بمشاركته فيه وهذا المطلق هو ما نسميه الله.

وفي كتابه «التمهيد» يقدم أنسلم البرهان الوجودى (الأونطولوجي) وتستند حجته إلى أمرين :

١- ما جاء في سفر المزامير عن الجاهل الذى يقول في قلبه لا اله (مز ١٤: ١ ) .

٢ – ان الوجود فى العقل هو وجود حقا وفعلا.

و خلاصة حجته هي أن مالا يمكن تصور أكمل منه لابد أن يكون موجوداً في الواقع وليس في الذهن فحسب، والا لو كان موجوداً فى الذهن فحسب، لأمكن تصوره موجودا فى الواقع أيضاً، فلا يكون التصور الأول صحيحاً اذ هناك تصور أكمل منه بل سيكون تصورا متناقضاً. واذن فلا بد “لما لا يمكن تصور أكمل منه ” أن يكون موجودا في الواقع والذهن معا.

وها هي كلمات أنسلم:

مما لا شك فيه أن ما لا نتصور أعظم منه لا يمكن أن يوجد في الذهن فقط. لأنه لو كان موجوداً حقيقة في الذهن فقط لأمكننا أن نفكر أنه موجود في الواقع أيضا هذا وجود أعظم. وعلى هذا اذا كان الموجود الذى لا نستطيع أن نتصور أعظم منه موجوداً في الذهن فقط يكون هذا الموجود نفسه الذي لا نستطيع أن نتصور أعظم منه هو ما نستطيع أن نتصور أعظم منه وهذا مستحيل. مما لا شك فيه اذن : أن مالا نستطيع أن نتصور أعظم منه يوجد في الذهن وفي الواقع على السواء.

ويأخذ ديكارت بهذه الحجة فيقول :

الله جوهر لا متناه، سرمدی، ثابت مستقل كله علم وكله قدرة وخالق كل شيء. ولما كان كذلك. وكانت هذه الصفات من العظمة والجلال بحيث لا يمكن أن أكون قد استفدتها من نفسي فلا بد أن نستنتج من ذلك بالضرورة أن الله موجود ذلك لأنه على الرغم من كون فكرة الجوهر موجودة في ذاتي بوصفى أنا فإنه ما كان لى أن تكون لدى فكرة الجوهر اللامتناهى أنا المتناهى لو لم يكن قد وضعها في نفسى جوهر لا متناه حقاً. وينبغى ألا أتخيل أننى لا أتصور اللامتناهي بفكرة حقيقية بل بنفى ما هو متناه (كما أفهم السكون والظلام بنفى الحركة والنور ) لأننى – على العكس – أرى بوضوح أنه يوجد في الجوهر اللامتناهي من الحقيقة الواقعية أكثر مما فى الجوهر المتناهى وتبعاً لذلك فإن فكرة اللامتناهي توجد عندى قبل فكرة المتناهى أى فكرة الله قبل فكرة ذاتي. ان فكرة جوهر لا متناهی ما كان من الممكن أن توجد فى عقلى المتناهى الا بسبب وجود كائن لا متناهی هو الذي أودعها فيه. 

الحجة الكونية

وتتضمن :
(أ) حجة الحركة والمحرك الأول
(ب) حجة الممكن والواجب.
(ج) حجة العلية والعلة الأولى.

 

(1) حجة الحركة والمحرك الأول وقد صاغها توما الاكوينى (١٢٢٥ – ١٢٧٤ ) على النحو التالي:
لكل متحرك محرك، والحال أن فى الكون حركة اذن لا بد لها من محرك. وبما أنه يستحيل تسلسل العلل الى ما لا نهاية له فلا بد من البلوغ الى محرك أول هو – علة كل حركة.

والحركة هي انتقال من القوة الى الفعل، ومن المستحيل أن يكون الموجود محركا ومتحركا بنفس الطريقة ومن نفس الاعتبار أعنى أن يحرك ذاته وأن ينتقل بذاته من القوة إلى الفعل

إذن لابد لكل متحرك من محرك. وهذا المحرك لا يجوز فيه أن يحرك ذاته للسبب عينه، بل ينبغى أن يحركه غيره، وهكذا دواليك، إلى أن تبلغ اى احدى نهايتين : فاما أن لا يكون ثمة محرك أول – أى اما أن تتسلسل العلل الى مالا نهاية له واذ ذاك لا يتسنى لأى محرك أن يحرك غيره، لأنه ليس له محرك يحركه، وبالتالى تنتفى الحركة على الاطلاق واما أن يكون ثمة محرك أول واذ ذاك نكون قد بلغنا المطلوب. هذا المحرك الأول هو الله.

(ب) حجة الممكن والواجب : يقول توما الاكويني :

 تولد أشياء وتفسد وتبعا لذلك يمكن أن توجد أو لا توجد لكن من المستحيل أن توجد كل الأشياء التى من هذا النوع دائماً، لأنه حين يكون من الممكن ألا يوجد شيء فلا بد أن يأتي وقت لا يوجد فيه شيء ولا يمكن اذن أن نقول أن كل الأشياء ممكنة، بل لابد من الاقرار بوجود شيء واجب وهذا الواجب الوجود اما أن يكون قد استمد وجوبه من ذاته أو استمده من غيره لكن لا يمكن الصعود الى غير نهاية في سلسلة العلل الفاعلية فلا بد أذن من الاقرار بموجود واجب الوجود بذاته ولا يستمد وجوده من غيره، بل هو علة وجود كل ما عداه. وهذا الموجود هو الله.

(ج) حجة العلية والعلة الأولى : وفيها يقول توما الاكويني :

الكون سلسلة أحداث كل حادث مفعول وكل مفعول يفترض فاعلا ومجرد وجود مفعول ما يفترض فاعلا أية كانت منزلته في السلسلة ولا قيام للسلسلة ولأى فاعل الا بوجود فاعل أول، لأنه فى حال عدم وجود فاعل أول ينتفى وجود أي فاعل وأى مفعول، أو يفرض وجود فاعل هو فى الوقت عينه بالنسبة الى ذاته فاعل ومفعول معا وهو محال.

أما أنه لا قيام للسلسلة ولأى فاعل أو مفعول الا بوجود فاعل أول، فأمر بين. فكل سلسلة ترد إلى علة أولى وعلة أخيرة وعلة متوسطة. وكل متأخر علته فيما قبله وعليه فمن قال بامكان الرجوع الى مالا نهاية له في تسلسل العلل استغنى عن العلة الأولى، وبما أن علة المتأخر فى المتقدم. فمن استغنى عن المتقدم، استغنى عن المتأخر أيضة، واستغنى بالتالى عن المتوسط أيضاً، اذ ليس فيه غير ما فيهما. ولذلك فمن أنكر العلة الأولى التى هى علة لا معلولة أنكر كل فاعل وكل مفعول، وخالف الواقع.

أما من سلم بالواقع وما فيه من تسلسل العلل الفاعلة فمعترف بحكم العقل بوجود علة فاعلة أولى هي الله .

الحجة الغائية

وخلاصتها أن فى العالم نظاماً وانسجاماً وغائية وأن الطبيعة أو الكون نسق من الوسائل والغايات وهذا كله يفترض علة عاقلة هى التى تولت هذا التدبير

يقول توما الأكويني :

لا شك فى أن الكون مدبرا لأن التدبير هو ترتيب الوسائل الى غاية، وفى الكون أشياء ليست صالحة لكل غاية أو منزهة عن كل غاية، بل أشياء صالح كل منها لغاية وفقا لطبعه والتدبر على نوعين : تدبر واع وتدبر غير واع فمن يتدبر أمره عن وعى يدرك غايته ويسعى عن قصد اليها. ومن يتدبر أمره عن غير وعى يسعى الى غاية وان كان لا يدركها ولا يقصدها وسعيه اليها صادر عن ربط الوسيلة بالغاية ربطا يفوته مع أنه لا يحيد عنه وبالتالى فالفرق بين المتدبر الواعي والمتدبر غير الواعى ليس فى أن تصرف هذا غير معقول وأن تصرف ذاك معقول. لأن كلا التصرفين معقول بل أن الواعى يصدر تصرفه عن عقل فيه، وغير الواعي يصدر تصرفه عن عقل ليس فيه. أما أن يكون العقل الذي يصدر عنه تصرف غير الواعي ليس فيه فهذا لا يعنى أنه غير موجود لأن أثره باد في ربط الوسيلة بالغاية، بل انه موجود ولكن خارجاً عنه ولا سبيل الى انكار العقل في حركة الكون لأن عقل البشر هو الذى يتبين أثر العقل فى غير البشر. ومن أنكر أثر العقل في غير البشر أنكر العقل فى ذاته. واذا كان العاقل وغير العاقل يصدران كلاهما في أفعالهما عن عقل، فلا بد من القول بأن هذا العقل الذى يصدر عنه كل فعل معقول حتى فى غير العاقل انما هو عقل اله. الله هو عقل ما لا يعقل وقصد ما لا يقصد وقد طبع في كل طبع ما أراده اليه وهيأ لكل طبع فعلا ملائما له محققا لغايته».

وقد استخدم اینشتین هذه الحجة فى بيان تدين بعض العلماء. والاختلاف بين تدين الرجل الساذج وتدين الرجل العالم. فتدين الرجل الساذج يقوم على تصور الله على أنه الموجود الذى يرجو رضاه ويخشى عقابه بينما أن الرجل العالم يمتلىء بالشعور بالعلية فى كل ما يحدث. وتدينه يقوم في الاعجاب بما فى قوانين الطبيعة من انسجام.

الحجة الأخلاقية

وقد أخذ بها الفيلسوف الألماني «كانت»  ويمكن صياغتها على النحو التالي :

نحن نحكم بأن من الضروري أن يجازى الخير ويعاقب اشر، لكن الطبيعة لا تجارى الخير ولا تعاقب الشرير فمن الضرورى أذن أنى يكون فوق الطبيعة موجود عادل يجازى الخير ويعاقب الشرير وواضح أن هذه الحجة تقوم على أساس مقتضيات العدالة هذا الموجود العادل الذى يحكم حسب مقتضيات العدالة هو الله.

وبالنسبة للبراهين التي قدمها الآباء في اثبات وجود الله .  انظر

‏1. Orig. Contra Cels. VIII, 52, 212.

‏2. Greg. Naz. log. 28, 6, 22, 69, M. 36, 33.

‏3. Damasc. Orth, Faith 1.1 M. 94, 796.

‏4. Athanas. against Hellen, 34, 35, M. 25, 68, against Arian. log. II, 32, M. 26, 216.

‏5. Cyril of Jer. Catch. IX, 15, M. 33, 653, Catch IX, 11, M. 33, 649, Catch. IX 9 M. 33, 648.

وبالنسبة لعمومية الظاهر الدينية (الإيمان) كدليل على وجود الله انظر :

‏1. Clem. of ALex Strom, V, XIV, 133, B. 169.

‏2. Cicero: Do Natura Deorum, Book, 1, ch. XVIII.

‏3. Chrysos. Adriant. log. XII, 3 Monf. 2, 150..

‏4. Tertull. De test. Animae C. 2 m. 1, 685, Apologet C. 17,

‏m. 1, 433. 5. Theoph. Autol A, 2.

‏6. Athanas, against Hellen. 34, M. 25, 68.

‏7. Greg. Nys, about soul, M. 46, 89, makaris. log. VI, M. 64, 1269, 1272.

زر الذهاب إلى الأعلى