تفسير سفر إرميا ٤٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع والأربعون
نبوات ضد الأمم
بدأت النبوات ضد الأمم الغريبة بمصر الوثنية (إر 46) إشارة إلى أن مدخل الخطية هو الرخاوة والتعلق بالعالم.
ثم فلسطين الوثنية (إر 47) بكونها رمزًا للعداوة والعنف في ذلك الحين، فإن انشغال القلب والفكر بالماديات يولد أنانية تبعث عداوة ضد الغير بلا سبب.
ثم صور وصيدا (إر 47: 4) بكونهما رمزًا للتحالف مع الشر، فالعنف يدفع بالنفس إلى الارتباط بالعنفاء دون مبررٍ.
بعد ذلك موآب (إر 48) بكونها رمزًا للفساد.
الآن في هذا الأصحاح يقدم لنا النبي نبوات ضد ست أمم:
- بنو عمون البنت المرتدة[1-6].
- آدوم المتشامخ[7-22].
- سوريا الهاربة المرتعدة[23-27].
- قيدار فاقدة الخيام[28-29].
- حاصور مسكن بنت آوي[30-33].
- عيلام صاحب القوس المنكسر[34-39].
يتحدث النبي في الأصحاحين التاليين (إر 50، 51) عن بابل بكونها رمزًا لمملكة ضد المسيح، حيث يبلغ الشر أقصاه في الأيام الأخيرة بعد الارتداد، وقبل مجيء السيد المسيح الأخير.
- بنو عمون البنت المرتدة:
تقدم بنو جاد وبنو رأوبين إلى موسى والعازار الكاهن ورؤساء الجماعة وطلبوا منهم السماح لهم بأن يكون نصيبهم في شرقي الأردن، لأن الأرض هناك هي مكان مواشي (عد 32). اختاروا لأنفسهم المشاكل التي لا حصر لها. دخل رأوبين في صراع مع الموآبين، ودخل جاد في صراع مع عمون.
غالبًا ما كانت العلاقة بين إسرائيل وعمون لا تحمل روح الصداقة.
في أيام الخروج سمح عمون بمرور الشعب في أراضيهم كما فعل موآب وآدوم؛ وليس مثل مملكتي الأموريين سيحون وعوج اللتين لم تسمحا بذلك (تث 2: 37). بعد ذلك قامت بينهما حرب في أيام القضاة (قض 11: 1-11)، كما قاوم ناحاش العموني إسرائيل في أيام شاول (1 صم 11: 1-11). طلب داود الملك السلام لكنهم أهانوا عبيده، وقام سليمان بالسيطرة عليهم (1 مل 4: 13-19). علق عاموس النبي على نشاطهم العنيف في منطقة جلعاد في القرن الثامن ق.م. (عا 1: 13-15).
وعندما تمرد يهوذا على بابل سنة 600 – 597 ق.م. استطاع نبوخذنصر أن يرسل قوات من الآراميين والموآبيين والعمونيين ليخضعوا يهوذا (2 مل 24: 2)[658].
لعب بعليس ملك عمون دورًا خطيرًا في اغتيال جدليا والي يهوذا (40: 14؛ 41: 15). وفي سنة 582 أرسل نبوخذنصر قوة ضد عمون وأيضًا ضد موآب ويهوذا (52: 30)، كما سقطت عمون وموآب ضحية لهجمات العرب عليهم الذين خربوا بلادهما وذلك في منتصف القرن السادس ق.م، ولم تعد عمون بعد ذلك أمة مستقلة. في القرن الأول ق.م حارب يهوذا المكابي بني عمون (1 مك 5: 6).
جاءت النبوة ليست ضد الملك بل ضد “ملكوم” إله عمون الذي ارتبطت العبادة له بتقديم الأطفال ذبائح بشرية حتى قبل أيام موسى النبي.
قُدمت النبوة التي بين أيدينا قبل سقوط يهوذا وعمون، ربما حوالي عام 601 – 600 ق.م. (2 مل 24: 2). وقد تحققت جزئيًا على يدّ نبوخذنصر عام 582 ق.م، وتمت بالكامل في منتصف القرن السادس في وقت غارات العرب[659].
ينتسب بنو عمون إلى عمون ابن ابنة لوط الصغرى، أنجبته من أبيها بعد أن سكر (تك 19: 38). وكما يقول القديس جيروم: [بالحقيقة لم يكن لوط يعرف ماذا كان يفعل، ولا كانت خطيته بإرادته، ومع هذا فخطأه عظيم إذ جعله أبًا لموآب وعمون عدوىّ إسرائيل[660]].
يبدأ نبواته ضد بني عمون بعتابه إياهم إذ حاولوا عبر العصور الاستيلاء على أرض جاد واحتلال مدنه فيقول:
“عن بني عمون. هكذا قال الرب:
أليس لإسرائيل بنون أو لا وارث له؟!
لماذا يرث ملكهم (ملكوم) جاد وشعبه يسكن في مدنه؟!” [1].
يترجم البعض الكلمة العبرية “ملكوم” وليس “ملكهم“، وهو الإله القومي لبني عمون. إنه يوبخهم إذ ظنوا أن إلههم ملكوم (1 مل 19: 38) يرث ما للرب. وإن كان الاسرائيليون أنفسم قد عبدوه أو تأثروا بعبادته (32: 35؛ لا 18: 21؛ 20: 2-5؛ 1 مل 11: 5، 7: 33؛ 2 مل 23: 10، 13؛ عا 5: 26).
يرجع ذلك إلى أيام القضاة حيث أرسل يفتاح إلى ملك بني عمون يقول: “ما لي ولك إنك أتيت إليَّ للمحاربة في أرضي؟!” (قض 11: 12). وبعد سليمان الملك كان بنو عمون يطردون بني جاد من أراضيهم ومدنهم تدريجيًا حتى حلَّ السبي الأشوري على يديْ تجلث بلاسر الثالث سنة 733 ق.م. (2 مل 15: 29)، واُقتيد بنو جاد إلى السبي وورث عمون بعض أراضيهم ومدنهم.
هنا يقدم إرميا النبي عشرة نبوات تكشف عن عمل الخطية في حياة الإنسان:
أ. سماع إنذار الحرب في ربة العمونيين كجلبة، فإنها تحول المدن الداخلية إلى معركة لا يُسمع فيها صوت بوق كلمة الله المفرح بل صوت الحرب، فتتحول أعماق النفس من مدينة الله المتهللة إلى موقع حرب كله صراخ وضجيج.
“لذلك ها أيام تأتي يقول الرب وأسمع في ربة بني عمون جلبة حرب” [2].
ربة بني عمون: عاصمة عمون، تقع على نهر يبوق، وتبعد حوالي 14 ميلاً شمال شرقي حشبون، حاليًا عمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية. كشفت الحفريات عن آثار لربة عمون[661]، كما وُجدت نقوش هامة عن عمون القديمة.
ب. تحول ربة إلى تلٍ خرب، فإن الخطية تحطم كل بنيان داخلي لتجعل منه كومة خراب لا يقدر كائن بشري أو سماوي أن يقطن فيها.
“وتصير تلاً خربًا” [2].
ج. حرق بناتها:
“وتحرق بناتها بالنار” [2].
د. تفقد ماورثته:
“فيرث إسرائيل الذين ورثوه يقول الرب” [2].
هـ. ولولة وصراخ:
“ولولي يا حشبون لأن عاي قد خربت.
اصرخن يا بنات ربة.
تنطّقن بمسوح.
اندبن وطوفن بين الجدران” [3].
كانت حشبون عادة تحت سيطرة موآب (48: 2) وإن كانت أحيانًا تنتمى إلى عمون (قض 11: 26)، فهي على الحدود بين الأمتين.
عاي: لا تُعرف مدينة عمونية بهذا الاسم، لذا يرى البعض أنه لا يُقصد بها مدينة معينة، خاصة وأن كلمة عاي معناها “كومة” أو “دمار” وكأنه يعني أن حشبون قد صارت كومة خربة؛ وإن كان البعض يفترض وجود عاي أخرى تابعة لعمون غير قرية عاي التي في إسرائيل.
و. سبي الملك والكهنة والرؤساء:
“لأن ملكهم يذهب إلى السبي هو وكهنته ورؤساؤه معا” [3].
ز. امتلاء أوديتها بالدماء.
“ما بالك تفتخرين بالأوطية.
قد فاض وطاؤك دمًا أيتها البنت المرتدة والمتوكلة على خزائنها قائلة: من يأتي إليّ؟!” [4].
ح. يحل بها الخوف من كل جانب:
“هأنذا أجلب عليكِ خوفًا يقول السيد رب الجنود من جميع الذين حواليكِ” [5].
ط. طرد الجميع:
“وتطردون كل واحدٍ إلى ما أمامه وليس من يجمع التائهين” [5].
ي. إصلاح وعودة روحية: الوعد هنا يشبه الوعد الإلهي لمصر (46: 26) وموآب (48: 47). في أيام فارس نرى طوبيا حاكمًا محليًا لعمون (نح 2: 10، 19؛ 4: 7).
“ثم بعد ذلك أرد سبي بني عمون يقول الرب” [6].
هذه النبوات العشرة التي تحققت في بني عمون الابنة المرتدة المتكلة على خزائنها والتي تظن أنها فوق كل قانون، لا تستطيع يد أن تمتد إليها [4]، تتحقق مع النفس التي ترتد عن مسيحها لتتكل على ذاتها وإمكانياتها البشرية، فتظن أنه ليس من يقدر أن يؤدبها. لكن الله في حبه يكشف لها عن ثمر خطاياها، فتجني مرارة الخطية لتقبل مسيحها فيردها إليه، ويرجع إليها ويحملها معه إلى حضن أبيه.
v يتحول قلبها كما فكرها إلى “ربة عمون” التي لا يسمع فيها هتافات الملائكة بل جلبة حرب، وضجيج لا ينقطع.
v تصير تلاً خربًا لا فردوسًا وجنة يقتطف منها مسيحها ثمر روحه القدوس المشبع.
v تحرق بناتها أي تفقد امكانيات الجسد وقدراته ومواهبه، فتتحطم الحواس المقدسة، وتهلك مشاعر الحب الصادقة، وتتحول المواهب من العمل الإيجابي البناء إلى عملٍ محطمٍ.
v تفقد ما سبق أن ورثته، إذ يؤخذ ما عندها حتى من الغرائز الطبيعية الصالحة، فتصير أعنف من الحيوانات المفترسة، وأجهل من النملة المجاهدة…
v تتحول أعماقها من عرسٍ دائم إلى ولولة وصراخ. عوض ارتداء ثوب العرس المبهج تلتحف بالمسوح لتندب وهي تطوف بين الجدران كحبيسة منفردة… ليس من يعزيها ولا من يسندها.
v يسبي ملكها أي إرادتها الحرة التي تدير كل كيانها، ويسبي كهنتها أي قلبها الذي يقدم ذبائح يومية عاقلة مقبولة لدى الله، كما يسبي رؤساؤها أي الفكر والحواس والأحاسيس، فتفقد قدرتها على العمل الجاد.
v تمتلىء أوديتها بالدماء، إذ تحمل روح الكراهية والشماتة، تطلب الشر للغير وتشتهي الضرر دون نفع لها.
v يحل بها الخوف من كل الذين حواليها، عوض أن تسكب سلامًا كما فعلت القديسة مريم عند زيارتها لنسيبتها اليصابات، تخاف وترتجف.
v تصير كما في حالة تيه، تُطرد كل امكانيتها وتتشتت، فلا تستقر أعماقها ولا تستريح.
v أخيرًا إذ تعمل نعمة الله فيها تدرك كل ما حلّ بها، فلا تُلقى باللوم على الظروف، بل ترجع تائبة إلى الله مخلصها، فيرد سبيها واهبًا إياها الحرية ويجدد أعماقها!
- آدوم المتشامخ:
كثير من العبارات الواردة هنا جاءت في سفر عوبديا، بذات الكلمات وإن كان الترتيب مختلفاً، لذا أرجو الرجوع إلى تفسيرنا لسفر عوبديا.
آدوم تعني “دموي” أو “أحمر” أو “سافك دمٍ” فهو يمثل الشيطان الذي لا يطيق مملكة الله، إذ هو محب للقتال بطبعه.
بنو آدوم هم نسل عيسو (تك 36: 19)؛ غالبًا ما كانوا يحملون عداوة لليهود ترجع إلى أيام يعقوب وعيسو (آدوم) حيث اغتصب الأول البكورية منه. لهذا كثيرًا ما تحالف بنو آدوم مع أممٍ أخرى ضد إسرائيل. لم يسمح آدوم لموسى النبي أن يعبر هو وشعبه في تخومه أثناء رحلتهم في البرية (عد 20: 21). وإن كان الله امر شعبه ألا يسيئوا التعامل مع الآدوميين (تث 23: 7-8) بكونهم إخوتهم. حارب شاول الملك الآدوميين (1 صم 14: 47)؛ وسيطر داود الملك عليهم (2 صم 8: 13-14)، لكن دخل سليمان في متاعب مع هدد الآدومي الذي هرب إلى مصر (1 مل 11: 14-22). وفي أيام يهوشفاط ملك يهوذا لم يكن هناك ملك في آدوم بل أقام يهوذا وكيلاً هناك. تحالف يهورام بن آخاب مع ملك يهوذا وملك آدوم وحاربوا موآب (2 مل 3: 5-9). وفي أيام يورام بن يهوشفاط عصى آدوم يهوذا وأقاموا لأنفسهم ملكًا (2 مل 8: 20-22). وقد قتل أمصيا عشرة آلاف من الآدوميين طوح بهم من فوق قمة الصخرة، فقتلهم في وادي الملح وأخذ سالع عاصمة بلادهم (2 مل 14: 7؛ 2 أي 25: 11-12). وفي أثناء حكم آحاز غزا الآدوميون سبط يهوذا وأخذوا منه أسرى. وقد بقيت آدوم مدة من الزمن خاضعة لحكم اشور وكان هذا أثناء حكم تغلث فلاسر الثالث وسرجون وسنحاريب واسرحدون وأشور بانيبال، لكنها اشتركت في ثوارت عامي 711، 701 ضد أشور. وفي أيام السبي كانوا يساعدون الأعداء ضد يهوذا، وإن فلت أحد أمسكوه وباعوه للعدو، وأخيرًا جاءوا بأغنامهم لترعى في مدن يهوذا وحقولها بعد أن صارت خرابًا، لذلك استحقوا حلول غضب الله عليهم[662]. في القرن الخامس ق.م. طرد الأنباط الآدوميين من جبل سعير، وفي القرن الثاني ق.م. أخذ يهوذا المكابي واليهود حبرون وغيرها من المدن التي كان قد استولى عليها الآدوميون، وقد أرغم يوحنا هركالوس الآدوميين على الاختتان وادخلهم ضمن جماعة اليهود، وقد كان هيرودس ونسله آدوميين.
بهذا كله ظهروا غير حكماء، لهذا يعاقبهم الله، قائلاً:
“عن آدوم.
هكذا قال رب الجنود:
ألا حكمة بعد في تيمان؟!
هل بادت المشورة من الفهماء هل فرغت حكمتهم؟!
اهربوا التفتوا تعمقوا في السكن يا سكان ددان” [7-8].
تيمان: اسم عبري معناه “اليميني أو الجنوبي”، حفيد عيسو (تك 36: 11)، أعطى اسمه للقبيلة القاطنة في شمال شرقي آدوم، كما للموضع نفسه الذي يقطنون فيه. تسمى أرض أبناء الشرق، وتدعى تيمن (حز 25: 13). ربما مكانها الآن “طويلان” شرقي البتراء. اُستخدم اسم تيمان للتعبير عن أرض آدوم كلها أيضًا (حب 3: 3)، عُرف سكانها بالحكمة وحنكتهم في ضرب الأمثال [7، 20]؛ (عو 9).
سكان ددان: من نسل إبراهيم خلال قطورة (تك 25: 1-3). شعب تُجاري هام، له مكانة مرموقة في تجارة العالم القديم (حز 27: 15، 20؛ 38: 13). كانت ددان محطًا للقوافل كما كانت مركزًا للتجارة الآتية من اليمن والهند إلى البحر الأبيض المتوسط. عاش هذا الشعب في شمال غرب العربية (25: 23)، وجنوب شرقي آدوم، وربما كانت جزءًا من آدوم. اسمها الحديث العُلا في وادي القرى في شمال الحجاز.
يقدم إرميا النبي النبوات التالية عن آدوم:
أ. حلول كارثة على آدوم:
“لأني قد جلبت عليه بلية عيسو حين عاقبته،
“لو أتاك القاطفون أفما كانوا يتركون علالة؟!
أو اللصوص ليلاً أفما كانوا يهلكون ما يكفيهم؟!” [8-9].
إذ يتحدث عن البلية التي تحل بعيسو يقدم الله مثلين: يترك القاطفون علالة في الأشجار ولا ينتزعون كل الثمر، ومهما سرق اللصوص يتركون شيئًا إذ يسرقوا ما يشعرون أنهم في حاجة إليه. قصد بهذين المثلين أحد أمرين، إما أنه يتهم آدوم بأنه عنيف في هجومه على الغير فيسلب كل شيء، ولا يكون كالقاطفين للثمار أو حتى كاللصوص الذين لا ينهبون إلا ما يحتاجون إليه. أو يود أن يؤكد أن البلية التي تحل بهم تجردهم تمامًا [10]، فلا تسقط عليهم كما يسقط القاطفون على الأشجار، ولا حتى كاللصوص على المنازل أو المخازن؛ بل سيأتي الكلدانيون ويهاجمون آدوم ويعرونه من كل شيء، يسْبون الشعب ويضعون أيديهم على كل الممتلكات، فيكونوا أعنف من اللصوص.
ب. تجريد عيسو وتعريته: فقد ظن أنه قادر على سفك الدماء دون معاقبته، إذ يُهلك ويختبئ وسط الجبال العالية وفي الصخور. لكن الله يفضحه (يجرده)، فيصير عاريًا أمام الكل، ويكشف عن الأماكن التي يختبئ فيها.
“لكنني جردت عيسو وكشفت مستتراته، فلا يستطيع أن يختبئ” [10].
ج. هلاك نسله واخوته وجيرانه:
“هلك نسله واخوته وجيرانه فلا يوجد” [10].
د. اهتمام الله بأيتامه وأرامله:
إن كان الله يؤدب بحزم شديد لكنه يفتح أبواب الرجاء، مؤكدًا أنه يهتم بالأيتام والأرامل الذين فقدوا الآباء والأزواج في المعركة أو بسبب السبي.
“اترك أيتامك أنا أحييهم وأراملك عليّ ليتوكلن” [11].
هـ. يشرب من كأس التأديب:
“لأنه هكذا قال الرب:
ها إن الذين لا حق لهم أن يشربوا الكاس قد شربوا، فهل أنت تتبرأ تبرؤًا؟!
لاتتبرأ بل إنما تشرب شربًا” [12].
و. حلول العار والخراب واللعنة ببُصرة، المدينة الرئيسية لآدوم وعاصمتها، وهي غير بصرة موآب، ربما في موقعها حاليًا بُصيرة تبعد حوالي 25 ميلاً إلى الجنوب الشرقي من البحر الميت[663].
“لأني بذاتي حلفت يقول الرب إن بُصرة تكون دهشًا وعارًا وخرابًا ولعنة،
وكل مدنها تكون خربًا أبدية” [13].
ز. اثارة الشعوب للحرب ضده فيصير بينهم صغيرًا ومحتقرًا:
“قد سمعت خبرًا من قبل الرب وأرسل رسول إلى الأمم قائلاً:
تجمعوا وتعالوا عليها وقوموا للحرب.
لأني ها قد جعلتك صغيرًا بين الشعوب ومحتقرًا بين الناس” [14-15].
ح. كسر كبريائه:
“قد غرك تخويفك كبرياء قلبك يا ساكن في محاجئ الصخر،
الماسك مرتفع الأكمة.
وإن رفعت كنسرٍ عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب” [16].
عرفت آدوم بكثرة الأماكن الخفية في الجبال ووسط الصخور. ربما يقصد بالصخر هنا أم البيارة، موضع مشهور من خلاله تُرى بتراء أو بيترا (صخرة) وهي خلفها[664].
ط. تصير مهجورة:
“وتصير آدوم عجبًا،
كل مار بها يتعجب ويصفر بسبب كل ضرباتها.
كانقلاب سدوم وعمورة ومجاوراتهما يقول الرب لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم” [17-18].
ي. تصير مثلاً أمام الأمم حيث يهاجمها نبوخذنصر كأسد مفترس خارج من عرينه بسبب فيضان نهر الأردن وبلوغ المياه إلى عرينه.
“هوذا يصعد كأسد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم.
لأني أغمز وأجعله يركض عنه.
فمن هو منتخب فأقيمه عليه؟!
لأنه من مثلي، ومن يحاكمني، ومن هو الراعي الذي يقف أمامي؟!” [19].
ك. يُسبى كغنم صغير عاجز عن المقاومة:
“لذلك اسمعوا مشورة الرب التي قضي بها على آدوم،
وأفكاره التي افتكر بها على سكان تيمان.
إن صغار الغنم تسحبهم.
إنه يخرب مسكنهم عليهم” [20].
ل. تهتز الأرض من صراخهم الذي يدوي حتى بحر سوف:
“من صوت سقوطهم رجفت الأرض.
صرخة سُمع صوتها في بحر سوف” [21].
بحر سوف: أو يم سوف yam sup أو بحر الغاب Reed sea حيث يوجد الغاب Reed نباتات البردي على الحدود بين مصر في شمالها الشرقي والبرك المالحة، حاليًا منطقة قنال السويس[665]، الموضع الذي فيه تم الخروج من مصر.
م. ينهار فتتحول قلوب جبابرة الحرب إلى قلب امرأة ماخض عاجزة حتى عن الحركة. بينما يُشَّبه نبوخذنصر بالأسد والنسر، يشبه آدوم بامرأة ماخض في ضعف شديد، وخوفٍ، لا تجد من يعينها.
“هوذا كنسرٍ يرتفع ويطير ويبسط جناحيه على بصره،
ويكون قلب جبابرة آدوم في ذلك اليوم كقلب امرأةٍ ماخضٍ” [22].
النسر من أقوى الطيور الجارحة، يدعى مجازيًا ملك الطيور، بسبب قوته وضخامة حجمه مع حدة بصره وقدرته على الطيران (تث 28: 49، أي 9: 26، 39: 30، أم 23: 5، 30: 17-19، إش 40: 31، حز 17: 3، حب 8: 1). عُرفت النسور برعايتها الفائقة لصغارها، إذ تحوم حولها حتى تقدر النسور الصغيرة على الطيران (خر 19: 4، تث 32: 11، مز 103: 5). ولهذا حينما أراد الله أن يعلن عن محبته لشعبه ورعايته لهم قال: “كما يحرك النسر عشه وعلى فراخه يرف ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على منكبيه، هكذا الرب وحده وليس معه إله أجنبي” (تث 32: 11).
شُبه المؤمن بالنسر الذي يتجدد شبابه ولا يشيخ (مز 103: 5)، ربما لأن النسر يعمر كثيرًا، أو من أجل القصة المشهورة عن طائر العنقاء الذي يتجه نحو هيكل الشمس في مصر ويموت بعد أن يكون قد أعد لنفسه موضعًا يُدفن فيه ثم يقوم من جديد الخ.
وحينما أراد الله أن يؤدب شعبه أكد لهم أنه يرسل لهم “أمة من بعيد من أقصاء الأرض كما يطير النسر، أمة لا تفهم لسانها، أمة جافية الوجه لا تهاب الشيخ ولا تحن إلى الولد” (تث 28: 49-50)، وقد شُبه الكلدانيين هكذا: “يطيرون كالنسر المسرع إلى الأكل” (حب 8: 1)، وأيضًا قيل عن آدوم المتعجرف: “إن رفعت كنسرٍ عشك فمن هناك أحدرك يقول الرب“ [16]، وأيضًا: “إن كنت ترتفع كالنسر وإن كان عشك موضوعًا بين النجوم فمن هناك أحدرك يقول الرب” (عو 4).
هكذا يرمز النسر لرعاية الله الذي يحمل شعبه كما على جناحي النسر، وفي نفس الوقت يرمز للعنف والسرعة في الخطف، فحسبت الأمم المُؤدِبة لشعب الله كالنسر.
يحمل أحد الكاروبيم وجهًا شبه النسر (حز 10: 14، رؤ 4: 7)، وفي الفن المسيحي يرمز النسر للإنجيلي يوحنا ويشير للاهوت المحلق في الأعالى كما للقيامة. وفي نفس الوقت أيضًا يشير للقوة الغاشمة، فقد استخدم الفرس النسر شعارًا لدولتهم القديمة، لذلك وصفهم إشعياء النبي بالكاسر من المشرق (إش 46: 11)، كما صار رمزًا للجيش الروماني، وحاليًا يستخدمه الجيش الأمريكى رمزًا له، كما تستخدمه كثير من البلدان.
يرى القديس جيروم[666] أن النسر، ملك الطيور، هو الشيطان الذي يقيم له عشًا في الأماكن العالية كمن يملك ويستقر في أمان، لأنه رئيس هذا العالم، أما الإنسان المسيحي فليس له استقرار في هذا العالم، خاصة الراهب. [ليس للراهب قلاية، لكنه أينما وجد قلاية ففيها يقيم!].
- سوريا الهاربة المرتعدة:
يقدم لنا النبي دمشق عاصمة سوريا كهاربة مرتعدة، ومعها حماة وارفاد وهما مدينتان أو دويلتان آراميتان في وسط وشمال سوريا، كثيرًا ما يرد ذكرها في النصوص الأشورية في القرن الثامن وما قبل ذلك. فقد تحالف آرام مع افرايم ضد يهوذا، واتكأ الاثنان على فرعون مصر ضد أشور، لهذا سمح الله لملك أشور تغلث فلاسر أن يهجم على آرام وافرايم ويغلبهما سريعًا[667].
يتنبأ عن سوريا بالآتي:
أ. سقوط مدنها الكبرى في الخزي:
“عن دمشق. خزيت حماة وارفاد” [23].
حماة وأرفاد: اسم ارامي معناه “حمى، حصن، قلعة”. تقع حماة على نهر العاصي Orontes شمال حرمون (يش 13: 5) تبعد حوالي 110 ميلاً شمال دمشق، على إحدى الطرق التجارية الرئيسية بين آسيا الصغرى والجنوب. أما ارفاد فهي في شمال سوريا تعرف باسم تل أرفاد، تبعد حوالي 20 ميلاً جنوب غربي حلب، و13 ميلاً شمالي حماة.
سقطت الأخيرة في أيدي الأشوريين في القرن التاسع ق. م. ثم ثارت ضدهم، لكنهم عادوا واستولوا عليها عدة مرات، وقد سقطت في أيديهم منذ سنة 738 ق.م. (إش 10: 9؛ 36: 19؛ 37: 13) بينما تنهزمت دمشق في عام 732 ق.م (2 مل 16: 9).
ثارت حماة ضد سرجون الثاني عام 720 ق.م، لكنها أُخضعت بصعوبة ليست بالغة. يسجل لنا سفر الملوك الثاني (2 مل 24: 2) الفرق الآرامية (السورية) مع غيرها تهاجم يهوذا ما بين عامي 600 و 597 ق.م لكننا لا نعرف كثيرًا عن أحداث سوريا في القرن السابع ق.م.
ب. تُصاب مدنها بحالة إحباط وصغر نفس:
“قد ذابوا لأنهم قد سمعوا خبرًا رديئًا” [23].
ج. فقدان الهدوء:
“في البحر اضطراب لا يستطيع الهدوء” [23].
د. رخاوة ورعب:
“ارتخت دمشق والتفتت للهرب.
وأمسكتها الرعدة،
وأخذها الضيق والأوجاع كماخض” [24].
هـ. فقدان شبابها وأبطالها:
“كيف لم تترك المدينة الشهيرة قرية فرحي؟!.
لذلك تسقط شبانها في شوارعها، وتهلك كل رجال الحرب في ذلك اليوم، يقول رب الجنود” [25-26].
ز. احتراق أسوارها وقصورها:
“وأشعل نارًا في سور دمشق فتأكل قصور بنهدد” [27].
بنهدد: حمل كثير من ملوك السريان هذا اللقب (1 مل 15: 18، 20: 1؛ 2 مل 6: 24؛ 8: 7؛ 13: 3).
- قيدار فاقدة الخيام:
كانت قيدار وأيضًا مملكة حاصور غنيتان جدًا، شعباهما تجار مواشي ورعاة غنم، يعيشون في خيام، ليس لهم مدن مسورة بأسوار.
قيدار: اسم سامي معناه “قدير أو اسود”، وهو ابن إسماعيل الثاني (تك 25: 23)، أب لأشهر قبائل العرب. تعيش رحّالة في الصحراء السورية العربية، كما تُستخدم للاشارة إلى البدو بوجه عام، خاصة القاطنين في فلسطين؛ وكانت لهم تجارة مع فينيقيا (حز 27: 21)، وكانوا بارعين في الحرب ولا سيما في الرمي بالقوس.
“عن قيدار وعن ممالك حاصورالتي ضربها نبوخذراصر ملك بابل.
هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار أخربوا بني المشرق.
يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم وكل آنيتهم وجمالهم،
وينادون إليهم الخوف من كل جانب” [28-29].
عُرف أهل قيدار كرعاة يعيشون في الخيام، غير أن بعضهم كانوا يسكنون المدن (إش 42: 11). هاجمهم الكلدانيون واستولوا على خيامهم وأغنامهم وشققهم (الستائر) وأوانيهم، وجردوهم من كل شيءٍ، ثم تركوهم هاربين في البراري، إذ شعر الكلدانيون أنهم لا ينتفعون شيئًا من سبيهم إلى بابل، بل يمثلون ثقلاً عليهم.
- حاصور مسكن بنت آوي:
حاصور: قريبة من الفرات والخليج الفارسي. يعتقد البعض أن حاصور كانت تقع على مياه ميروم، المعرفة الآن ببحيرة الحولة (يش 11: 1-5). ولعلها هي تل القدح وربما حضيرة أو ضربة صرة على بعد أربعة أميال غرب جسر بنات يعقوب، وقد اكتشفت بقايا المدينة من عصور الكنعانيين.
لا يُقصد هنا مدينة حاصور في شمال فلسطين، وإنما مساحة يشغلها عرب شبه رحالة، كما تشير إلى القري (hesarem) الصغيرة، التي استقر فيها بعض القبائل العربية (إش 42: 11).
اسم “حاصور” بالعبرانية معناه “حظيرة” أو “مُحاط بسورٍ”، وفي رأي العلامة أوريجينوس معناه “قصر”، ويعلق على ذلك بقوله: [الأرض كلها هي قصر هذا الملك “إبليس” الذي نال السلطان على الأرض كلها وكأنه في أمان حتى يأتي من هو أقوى منه فيكبله بالأغلال وينزع عنه ممتلكاته. إذن ملك القصر هو رئيس هذا العالم[668]].
في أيام يشوع كان ملكها يدعى يابين (يش 11: 1)، وهو اسم كنعاني يعني “الله يراقب”، وإن كان العلامة أوريجينوس يرى أن معناه “أفكار” أو “مهارة”، وكأن يابين يرمز للشيطان الذي يملك على العالم كما في قصره مستخدمًا أفكاره ومهارته للسيطرة على البشرية. كانت بمثابة حصن.
“اهربوا انهزموا جدًا تعمقوا في السكن يا سكان حاصور يقول الرب،
لأن نبوخذراصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة وفكر عليكم فكرًا.
قوموا اصعدوا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة يقول الرب،
لا مصاريع ولا عوارض لها،
تسكن وحدها.
وتكون جمالهم نهبًا، وكثرة ماشيتهم غنيمة،
وأذري لكل ريح مقصوصي الشعر مستديرًا،
وآتى بهلاكهم من كل جهاته يقول الرب.
وتكون حاصور مسكن بنات آوي وخربة إلى الأبد.
لا يسكن هناك إنسان ولا يتغرب فيها ابن آدم” [30-33].
ما حلّ بقيدار يحلّ بحاصور. الذين يهربون لا يجدون أمة آمنة يلجأون إليها، لكنهم يجدون حتى الرياح تهاجمهم من كل جانب. تقف الطبيعة ضدهم، لأنهم يقاومون خالق الطبيعة. تصير أرضهم خرابًا لا يسكنها إنسان بل الذئاب وبنات أوي.
- عيلام صاحب القوس المنكسر:
عيلام: اسم عبري من أصل اكادى معناه “مرتفعات”. تقع شرقي نهر التيجر، شرق بابل في سهل خزيستان، وهي من أقدم المراكز الثقافية. حاربت مع حكام أشوريين كثيرين، هزمها تمامًا أشوربانيبال حوالي سنة 640 ق.م. بعد موته استردت استقلالها. خضعت لنبوخذنصر مثل بقية الأمم، وفي سنة 540 ق.م ساعدت قواتها على تحطيم الإمبراطورية البابلية.
قدمت هذه النبوة قبل خراب أورشليم بحوالي 11عامًا. عُرف رجال عيلام بمهارتهم في ضرب الرماح، وكان ذلك مصدر حمايتهم الوحيد. لذلك بدأت النبوة ضدهم بتحطيم قوسهم أول قوتهم.
تنبأ عنهم هكذا:
أ. تحطيم قوسهم:
“كلمة الرب التي صارت إلى إرميا النبي على عيلام في ابتداء ملك صدقيا ملك يهوذا قائلة:
هكذا قال رب الجنود: هأنذا أحطم قوس عيلام أول قوتهم” [34-35].
ب. هجوم الكلدانيين عليهم من كل جانب كما تهب الرياح من أربعة جهات المسكونة، فيصيروا كالقش الطائر في الهواء ليس له موضع استقرار.
“وأجلب على عيلام أربع رياح من أربعة أطراف السماء وأذريهم لكل هذه الرياح ولا تكون أمة إلا ويأتي إليها منفيو عيلام” [36].
ج. سقوطهم في حالة رعب:
“وأجعل العيلاميين يرتعبون أمام أعدائهم وأمام طالبي نفوسهم،
وأجلب عليهم شرًا حمو غضبي يقول الرب” [37].
د. قتلهم بالسيف:
“وأرسل وراءهم السيف حتى أفنيهم.
وأضع كرسي في عيلام،
وأبيد من هناك الملك والرؤساء يقول الرب” [38].
هـ. ردهم من السبي وتمتعهم بالحرية الداخلية في المسيح يسوع. كان بعض العيلاميون حاضرين يوم العنصرة في أورشليم حينما حلّ الروح القدس على الكنيسة الأولى (أع 2).
“ويكون في آخر الأيام أني أرد سبي عيلام يقول الرب” [39].
من وحي إرميا 49
لا تتركني إلى النهاية!
v إذ أتطلع إلى الأمم القديمة المتشامخة،
عمون وآدوم وسوريا،
وقيدار وحاصور وعيلام،
تنفضح خطاياي أمامي.
v حقًا لتمتد يدك ولتؤدب،
لكن حسب حبك وحنانك،
وليس كغضبك يا إلهي!
v لتهدم كل شر في،
ولتبدد بنار حبك كل فسادٍ في داخلي،
ولتجردني وتعريني أمام نفسي.
فاعترف لك بخطاياي.
لتنزع عني كبريائي وتشامخي،
ولتهبني اتضاعك أيها العلي.
لتسبي كل خطاياي وتطردها،
انتزعها من أعماقي.
ولتملك أنت في داخلي!
v خطاياي حولت فردوسك فيّ إلى قفر،
وفرحك وعرسك إلى صراخ وولولة،
وملكوتك المجيد إلى عارٍ وخزي،
وسلامك إلى خوف ورعدة!
من يخلصني منها سواك؟!
v نعم! لتدخل وتملك،
فتهرب كل نجاسات قلبي!
لتتمجد فيّ فيزول عاري!
لتعلن سمواتك في داخلي،
فيُنتزع عني كل خرابٍ ودمارٍ!
تعال واحتل مملكتك فيّ يا قدوس!