تفسير سفر إرميا ١٧ للقمص أنطونيوس فكري

الأصحاح السابع عشر

الآيات 1-4

خطية يهوذا مكتوبة بقلم من حديد براس من الماس منقوشة على لوح قلبهم وعلى قرون مذابحكم. كذكر بنيهم مذابحهم وسواريهم عند اشجار خضر على اكام مرتفعة. يا جبلي في الحقل اجعل ثروتك كل خزائنك للنهب ومرتفعاتك للخطية في كل تخومك. وتتبرا وبنفسك عن ميراثك الذي اعطيتك إياه واجعلك تخدم اعداءك في ارض لم تعرفها لانكم قد اضرمتم نارا بغضبي تتقد إلى الأبد.

هم سألوا ما ذنبنا سابقًا والإجابة هنا أن خطيتهم محفورة في قلوبهم لا يمكن أن تمحى وستكون شاهدة عليهم وشاهد آخر ضدهم هو قرون مذابحهم الوثنية التي رشوا عليها دماء ذبائحهم الوثنية. ومعنى أن خطيتهم محفورة في قلوبهم بقلم من حديد برأس ماس أي أصلب شيء أنهم متأثرين بها جذريًا، عزيزة عليهم. هكذا نقول للشىء العزيز علينا أنه محفور في قلوبنا . وفي (2) هم يحبون مذابحهم ويذكرونها كمحبة أبنائهم فكما أن الأم لا تنسى رضيعها هكذا هم لا يستطيعون ان ينسوا مذابحهم الوثنية . وفي (3) يا جبلى في الحقل أي أورشليم فهي مبنية على تل، وسط أرض منبسطة فهي جبل الله. ولكن الأعداء سينهبون كل ثرواتها فكل ما يخصص للخطيئة يفسد. والخطية تحرمنا من الفرح الذي يعطيه الله لنا . وفي (4) وتتبرأ وبنفسك عن ميراثك = أنا أعطيكم الميراث لكن أنتم المسئولين عن ضياعه منكم بل هم جلبوا على أنفسهم العبودية في أرض غريبة. والتوبة وحدها تبطل نار غضب الله.

 

الآيات 5-8

هكذا قال الرب ملعون الرجل الذي يتكل على الإنسان و يجعل البشر ذراعه وعن الرب يحيد قلبه. ويكون مثل العرعر في البادية ولا يرى إذا جاء الخير بل يسكن الحرة في البرية ارضا سبخة وغير مسكونة. مبارك الرجل الذي يتكل على الرب وكان الرب متكله. فانه يكون كشجرة مغروسة على مياه وعلى نهر تمد اصولها ولا ترى إذا جاء الحر ويكون ورقها اخضر وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكف عن الاثمار.

بائس من يعتمد على الإنسان. فأى إنسان مهما كان هو قصبة مكسورة. وهذا يعتبر خطية لماذا؟ لأن الإنسان أداة في يد الله. والإنسان لا يزيد عن كونه جسد بلا قوة وهو يموت وهو أيضًا خاطئ. فكيف يتكل إنسان على إنسان آخر، قد يجده اليوم ثم يجده غدًا ميتًا، ثم كيف يتكل على إنسان قلبه يتغير، يحب اليوم ويكره غدًا. إذًا هذه الخطية فيها انحراف عن الله الذي هو مصدر كل خير وهو القوى وهو الذي لا يتغير وحده. وطبيعي فمن يضع إتكاله على أحد غير الله يحيد عن الله فدائمًا العيان أسهل من الإيمان. والكنيسة كانت قوية أيام الإستشهاد لكن بعد أن تحوَّل الملوك للمسيحية وساندوا الكنيسة ضعفت الكنيسة لأنها للأسف إتكلت على حماية الملوك لها. وفي (6) يعطى مثالًا لمن يفعل ذلك بنبات العرعر = وهو نبات صحراوى تافه (يسمى الخلنج) ينبت في الأرض القاحلة المملحة ويكون ضعيفًا فاقد الحيوية وسريعًا ما يجف ويموت كالقش الجاف. وهذا يشبه الإنسان المنفصل عن الله فهو يشرب من لذات العالم (وهي كالماء المالح، والعالم كالبرية، فهذا الإنسان يكون كميت (جاف روحيًا) فلا يشعر بالبركة الروحية). وحينما يأتي الخير لن يشارك فيه. هكذا أيضًا كل من يثق في بره وليس في عمل نعمة المسيح. أما من يكون إتكاله على الله فله خيرات وفيرة. وما علينا هو أن نقوم بواجبنا نحو الله وهو يحملنا في عملنا. ولا نعود نخاف من كل من يحاول أن يخيفنا أو يعوِّق عملنا. ومثل هذاالإنسان يشبه شجرة قوية ثابتة لها جذور متأصلة وهذه تستطيع أن تسحب كميات وفيرة من العصارة (8) ، وهذا عكس العرعر الذي بلا عصارة. فمن يتكل على الله يكون لهُ سلام عجيب وفرح. ولو أتى عليها الحر لن يدمرها لأن مصدرها المائى في جذورها وجذورها عميقة. هذا هو السبب في أن المسيحية لا يمكن أن نحياها بالشكليات والممارسات الجافة بل بالدخول إلى العمق. هذه الشجرة المغروسة على المياه لا ترى إذا جاء الحر = أي لا تخاف منه في ترجمة أخرى. ولن تفشل إذا جاءت التجارب =الحر. بل تزداد تعزيتها وتنمو دائمًا وهي دائمة الإخضرار. هي في فرح دائم وشكلها يَسُّر من ينظر إليها. هذا عكس العرعر يسكن في برية جافة = باديةوحرارتها شديدة = يسكنُ الحرَة (العالم بألمه) والأرض مملحة (العالم بملذاته) =سبخة. ومن يشرب من هذا الماء المملح يعطش. وهي غير مسكونة = فمن إتكل على الناس مهما كانوا كثرة سيشعر بالوحدة فإذا كان الله نبع الماء الحي موجودًا، فلماذا نذهب للأبار المشققة؟

الحرَة = هذه تعنى الأرض العطشى التي بلا ماء. والسبخة تعنى المملحة. فمن يحيا على ملذات العالم لا يعرف غيرها يعطش (يو4: 13). ومن لا علاقة له بالله ولا يعرف قوته فيتكل عليه في ضيقته، فماذا يفعل وسط ضيقات هذا العالم بدون تعزيات الروح القدس المعزى (الماء). بل المكان الذي بلا ماء، هذا قال عنه الرب يسوع أنه مكان تدخل وتسكن فيه الأرواح النجسة (مت12: 44). ومثل هذا الإنسان تنغلق عينيه فلا يُدرك ولا يفهم معنى تعزيات وأفراح الروح القدس = وَلاَ يَرَى إِذَا جَاءَ الْخَيْرُ.

 

الآيات 9-11

القلب اخدع من كل شيء وهو نجيس من يعرفه. أنا الرب فاحص القلب مختبر الكلى لاعطي كل واحد حسب طرقه حسب ثمر أعماله. حجلة تحضن ما لم تبض محصل الغنى بغير حق في نصف أيامه يتركه وفي اخرته يكون أحمق.

في (9) خطأ وخطير أن نتكل على الإنسان (حتى قلبي أنا) ، فقلب الإنسان كله خطية وخدَّاَع. هو يظن نفسه دائمًا على حق. بل يظن الشر صلاح والصلاح شر. فهو يخدع صاحبه. وقد يصوِّر القلب للإنسان أن الله غير موجود أو أنه لا يرى أو أن سلامه مستمر حتى لو استمر في أخطائه. وماذا يكون مصير الإنسان إذا كان قلبه وهو الشمعة التي فيه لتقوده ظلامًا. فإذا كنت غير قادر على الإعتماد على قلبي فكيف أعتمد على قلوب الآخرين. ولكن الله يعرف القلوب فهو يفحص كل شيء ويحكم على كل شيء.فلنقف في خوف أمام الله ولا نخدع أنفسنا بأننا صالحين. لا أحد يعرف نجاسة القلب= من يعرفه سوى الله فاحص القلوب (10). وهناك سبب آخر يخدع الإنسان أن تكون لهُ ثروة يعتمد عليها. ولذلك إشتهرت يهوذا بخطية جمع المال بالظلم. لذلك يقول لهم الله أن ما جمعوه سيذهب عنهم فجأة ويذهب للغير، أو هم يذهبون عنه فجأة كما قال الرب للغنى = “يا غبى في هذه الليلة….”، وثروةنابال لم تنفعه. ومن يضع قلبه على ثروته يشبه الحجلة = (الحجلة تتعب فيما ليس لها ثم تكتشف في النهاية أنها سلكت بحماقة) والحجلة هي نوع من الطيور إشتهر بأنه يحضن بيضًا ليس بيضه (أى15:39) ولكنه لا يفقس، وهو إما يُكسر أو يُسرق أو يفسد، وحتى لو فقس فالطير الذي يخرج يهرب من هذه الحجلة فهو لا ينتمى لها. واليهود كانوا يعرفون هذا النوع من الطيور وكان يسكن وسطهم. إذًا نجد في هذه الآيات نوعان من الخداع القلبى أولهما أن يكون إتكال الإنسان على إنسان آخر (أو حتى ذاته) وثانيهما أن يكون إتكاله على ماله وثروته فيطلب زيادتها بأى وسيلة. أما نحن فليكن إتكالنا على الله وحده.

ملحوظة:-

خداع القلب: الجنس البشرى خُلق على صورة الله ولكنه تشوه بالخطية. ولو رجع كل واحد لقلبه لإكتشف الفساد الذي في داخله وأن الغرائز التي فينا تثور ضد إرادة الله. ولقد إستعمل العبرانيون كلمة قلب بمعنى مركز العواطف والتفكير والإرادة. هو القوة المركزية التي تحرك الإنسان وهكذا كل الشرقيون. ونسبوا لهُ كل دافع داخلي في الإنسان (إش7:10) فسنحاريب يفتكر بقلبه. وهناك أيضًا صوت الضمير وينسب للقلب أيضًا.  والشيطان يضع أفكاره داخل الإنسان أيضًا مستغلا شهوات الإنسان،فيصبح مصدرها القلب. ولنا الآن كمؤمنين صوت الروح القدس، ولكن!! لأن الإنسان بسقوطه أصبح ميالًا للخطية فهو أكثر إنحيازًا لصوت الشيطان المخادع المضلل ، إذ تتوافق شهوات الإنسان مع خداعاتالشيطان. لذلك يطلب منا القديس بولس الرسول أن نمتلئ بالروح فنسمع صوته (أف5: 18). ونلاحظ أن الروح “يعطى نعمة أعظم” (يع4: 6). أما من لا يجاهد ليمتلئ فهو يحزن الروح ويطفئه فلا يعود يسمع صوته (أف4: 30 + 1تس5: 19).وهكذا يخدع قلب الإنسان صاحبه لذلك يستحق المراقبة الدائمة فهو أشَّر المخادعين. ونتائج مرض القلب هذا هي:

  1. عمى البصيرة:- الذي هو من خصائص الخطية. والبصيرة تجعل الإنسان المريض أي الخاطئ يعرف أنه خاطئ. أما إسرائيل بالرغم من كلخطاياها تسأل ما هي خطيتى حتى يضربنى الله،2. لأنه من كثرة الخطايا يحدث عمى البصيرة. ونلاحظ أن الروح القدس يفتح الحواس.
  2. حين تتسلل الخطية نتيجة العمى تستعبد الإنسان.
  3. النتيجة التالية هي الموت. والكلمة “نجيس” المستخدمة تعني في الأصل مرضًا عضالًا.

علاج القلب:-

  1. أن نلجأ لله بالصلاة لأنه وحده يعرف خبايا القلب. ونقرأ في الكتاب المقدس فهو يعطينا أن نسمع الله يتكلم فنعرف حقيقة حالنا. وراجع طريقة الامتلاء بالروح الذي يفتح الحواس (أف5: 19 – 21).
  2. الله ليس فقط يكشف المرض لكن يعطى العلاج الذي هو بلسان جلعاد. فالروح القدس هو الذي يشفى لذلك يصلى النبي صارخًا إشفنى يا رب فأشفى (14:17) والبلسان هو دم المسيح ويكون دورى أنا أن أقدم توبة وأمتنع عن فعل الشر فأختبر الشفاء داخليًا.

 

الآيات 12-18

كرسي مجد مرتفع من الابتداء هو موضع مقدسنا. أيها الرب رجاء إسرائيل كل الذين يتركونك يخزون الحائدون عني في التراب يكتبون لأنهم تركوا الرب ينبوع المياه الحية. اشفني يا رب فاشفى خلصني فاخلص لانك أنت تسبيحتي. ها هم يقولون لي أين هي كلمة الرب لتات. أما أنا فلم اعتزل عن أن أكون راعيا وراءك ولا اشتهيت يوم البلية أنت عرفت ما خرج من شفتي كان مقابل وجهك. لا تكن لي رعبا أنت ملجاي في يوم الشر. ليخز طاردي ولا اخز أنا ليرتعبوا هم و لا ارتعب أنا اجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقا مضاعفا.

هنا حوار آخر بين النبي وبين الله وفي مناجاته يمجد الله الذي وضع هيكله ومقدسه في وسطهم (12)، حيث يتراءى الله لهم وحيث يعبده الشعب. وكما ان الله لهُ عرشه في السماء فهو لهُ عرش في الأرض. كُرْسِيُّ مَجْدٍ مُرْتَفِعٌ = المجد طبيعة الله “أكون مجدًا في وسطها” (زك2: 5)، قال الرب هذا عن حلوله وسط أورشليم. والنبى يرى أن وجود الله وسطهم بمجده هو عطية عجيبة من مراحمه لشعبه. وهو بهذا يذكر الله بمراحمه للشعب ليرحمهم. ولكن هذا مما يضاعف خطايا اليهود فهم يخطئون بينما كرسى الله في وسطهم. وفي (13) من يتركون الرب يخزون فهو وحده القادر أن يسندهم متى جاءت هذه المآسى. والحائدون عن الله يكتبون في التراب أي سريعًا ما يزولون ويتعرضون للإزدراء لأنهم ينتمون للأرض فهم جسدانيون شهوانيون، وضعوا كنوزهم في الأرض ولم تكتب أسماؤهم في السماء. وهو هنا يقول الحائدون عنى = لأنه يكلمهم باسم الرب وحين رأى نهاية هؤلاء قال إشفنى يا رب حتى لا أكون مثلهم. وخلصنى منهم ومن مؤامراتهم (14) وقرِّبنى من مجدك وحين أشفى وأخلص أسبح. وفي (15) بدأ الشعب المعاند في إغاظة النبي والسخرية منهُ حتى يمتنع عن نبواته التي تضايقهم وقالوا أين هي كلمة الرب لتأتِ. (2بط4:3) + (حز22:12) وفي هذا سخرية من النبي واستهتار بأقوال الله. وفي (16) ( آية 16:- لن أعتزل عن أن أكون راعيًا = لن أكف عن عملي الذي كلفتنى به يا رب لكن إشعرنى بتعزياتك). ولا إشتهيت يوم البلية = موقف سامىمن النبي فمع أن تحقيق هذه النبوات فيه تصديق لنبواته إلا أنه كراعٍ لم يشتهى أن تتحقق هذه النبوات بل أن تنجو رعيته. فالله وخدامه لا يشتهون موت الخاطئ بل أن يرجع ويحيا. وكل ما يطلبه تعزيات الله حتى يتمكن أن يستمر في خدمته شاعرًا بالسلام = لا تكن لي رُعبًا. بل إعطنى التشجيع فلو كنت بجانبى يا رب ولست ضدى لن أخاف شرًا مهما كان. وهو في (18) بالرغم من أنه يطلب سلام أورشليم إلا أنه يطلب عقاب الأشرار الذين يدبرون الشر فربما لو عوقب هؤلاء فقط لإمتنع الشر العظيم الآتي.

 

الآيات 19-27

هكذا قال الرب لي اذهب وقف في باب بني الشعب الذي يدخل منه ملوك يهوذا ويخرجون منه وفي كل ابواب أورشليم. وقل لهم اسمعوا كلمة الرب يا ملوك يهوذا وكل يهوذا وكل سكان أورشليم الداخلين من هذه الابواب. هكذا قال الرب تحفظوا بانفسكم ولا تحملوا حملا يوم السبت ولا تدخلوه في ابواب أورشليم. ولا تخرجوا حملا من بيوتكم يوم السبت ولا تعملوا شغلا ما بل قدسوا يوم السبت كما امرت اباءكم. فلم يسمعوا ولم يميلوا اذنهم بل قسوا اعناقهم لئلا يسمعوا ولئلا يقبلوا تاديبا.

  ويكون إذا سمعتم لي سمعا يقول الرب ولم تدخلوا حملا في ابواب هذه المدينة يوم السبت بل قدستم يوم السبت ولم تعملوا فيه شغلا ما. انه يدخل في ابواب هذه المدينة ملوك ورؤساء جالسون على كرسي داود راكبون في مركبات وعلى خيل هم ورؤساؤهم رجال يهوذا وسكان أورشليم وتسكن هذه المدينة إلى الأبد. وياتون من مدن يهوذا ومن حوالي أورشليم ومن ارض بنيامين ومن السهل ومن الجبال ومن الجنوب ياتون بمحرقات وذبائح وتقدمات ولبان ويدخلون بذبائح شكر إلى بيت الرب. ولكن أن لم تسمعوا لي لتقدسوا يوم السبت لكي لا تحملوا حملا ولا تدخلوه في ابواب أورشليم يوم السبت فاني اشعل نارا في ابوابها فتاكل قصور أورشليم ولا تنطفئ.

السبت هو حق الله. هو التذكار الأسبوعى لعلاقة العهد بين إسرائيل والرب، وكان حفظهم لهُ مذكرًا دائمًا لهم بخلاصهم من عبودية مصر (تث15:5). وهو يشير للراحة التي أعطاها لهم الله من التسخير لفرعون ، لذلك فالسبت يشير للراحة الأبدية (لا3:23).

قَدِّسُوا يَوْمَ السَّبْتِ كَمَا أَمَرْتُ آبَاءَكُمْ = قدسوا أي خصصوا، فالسبت ليس للملاهى بل هو مخصص لله في تسبيح وصلوات، وبهذا يمتلئ بالروح فلا يخدعه قلبه بل يختبر معنى الراحة الحقيقية، فلا قلق ولا خوف بل سلام يملأ القلب. وأيضا فالله يطلب من الإنسان أن يعمل ستة أيام، أما السبت فهو لله. وهذا ليذكر الإنسان أنه غريب على الأرض، فلا ينغمس في الماديات ناسيا يوم إنتقاله.

أما لو إهتم الشعب بالمكسب المادي وعمِلوا يوم السبت وتاجروا وأجروا مسراتهم الخاصة فيه ، يكون هذا دليل على اهتماماتهم الأرضية الجسدانية وعلى حالتهم المزرية. أما لو حفظوا هذا اليوم بالتقديس وكان يوم تسبيح، كان لهم هذا بهجة قلب وفرحوا بإمتيازاته، ولبارك الله لهم في أرزاقهم ومادياتهم. لذلك كان حفظهم للسبت فيه تظهر حالة الشعب هل هو روحي أم جسدانى. ولأن السبت هو يوم الرب فالعمل فيه هو سرقة الرب، نسرق منه يوما مخصص له. ولو أعطوا الله حقه سيكون للملوك كرامتهم، وكرامة الملك فرح للشعب وستزدهر مدينتهم وحياتهم فالله قد قبلهم وباركهم. فكأن تقديس السبت هو تقديس لكل العلاقة مع الله وبدون هذا تذهب كل تقوى وورع ويحل مكانها الدنس والخرافات. وإذا إستمروا في تدنيس السبت (27) ستشتعل نار الأعداء المحاصرين للمدينة وستحترق قصور الملوك الذين لم يحفظوا السبت. وهكذا معنا، إن أعطينا الله حقه لنالتنا بركات وتعزيات السماء ولكنا ملوكًا وكهنة لله.

تعليق على الإصحاح السابع عشر

“أجعل شريعتي في داخلهم وأكتبها على قلوبهم” (أر31:31-34).

“أجعل في داخلكم روحًا جديدًا وأنزع قلب الحجر من لحمهم وأعطيهم قلب لحم” (حز19:11).

فما معنى قلب الحجر وقلب اللحم؟ خلق الله آدم ووضع في داخله ضمير يميز به الخطأ   والحق، وكانت وصية الله مطبوعة على قلب آدم، وهذا معنى قلب اللحم، ولكن كيف تطبع الوصية على القلب فيصير قلب لحم؟ الإجابة هي المحبة… كان قلب آدم مملوء حبًا لله، هذا لأنه مخلوق علي صورة الله، والله محبة. ومن يحب، لا يرضى بأن يخالف وصية من يحبه، ولا يقبل أن يخونه، وهذا هو ما قاله السيد المسيح (يو23،21:14). وعندما خالف آدم وصية الله، فترت المحبة في قلبه إذ ابتعد عن الله وبدأ الانحدار في منحدر الخطية، وكلما زادت الخطية قَلَّ الحب، وتحول القلب إلى قلب قاسٍ لا يحب الله، ثم تحول إلى قلب حجر، وهذا استلزم من الله أن يعطيهم وصاياه مكتوبة على لوحيّ حجر يتناسب مع قلبهم الحجري. وكان هذا لأن قلبهم فقد الإحساس بالحق والصواب، والإثم، لذلك أعطاهم الله الناموس عونًا “القداس الغريغوري” بينما في الأصل كانت الوصية مكتوبة على القلب.

وفي هذا الإصحاح نرى ما هو أصعب، فإن القلب تغيرت فيه المحبة، فبدلًا من أن تكون المحبة موجهة لله، صارت موجهة للعالم، ولملذات العالم، وفقد الإنسان نظرته للأبديات، صار لا يهتم سوى بما يراه من زمنيات، واضعًا كل قلبه في هذا العالم وملذاته، ولأنه قلب حجري فاقد الحب لله. قيل هنا أن محبة العالم والخطية حُفِرَتْ على قلب الإنسان كما بقلم من حديد برأس ماس، والماس أصلب شيء، والمعنى أن حب الخطية صار محفورًا في قلب الإنسان. بل أن الخطية تملكت على قلب الإنسان وبقوة، وصارت قلوب البشر مذابح تقدم عليها ذبائح أموالهم وشهواتهم وصحتهم… بل كل ما يملكون في سبيل محبتهم للخطية. وكانت الخطية تملك عليهم بقوة لذلك قيل هنا قرون مذابحكم (فالقرن علامة القوة في مجتمعات الرعاة). إلا أنه قيل في تفسير هذا القول أنهم نقشوا صورة الأعضاء التناسلية على قرون مذابحهم. وهذا القلب الحجري حينما اكتشف أرمياء حقيقته صرخ أن القلب أخدع من كل شيء وهو نجيس = وكلمة نجيس تعني مصاب بمرض خبيث يستحيل شفاؤه وهذه مثل “هل يغير الكوشى جلده” (أر23:13) أي صار تغيير حال القلب مستحيل. وخداع القلب يتضح في تعلقه بالأرضيات وملذات العالم، فهذا ما يراه الإنسان بعينيه الجسديتين، إذ فقد الرؤية بالإيمان وفقد الشعور بالله والتعلق بالأبدية، والعيان أسهل من الإيمان، لأن رؤية الإيمان، أي حتى نرى الله والسمائيات فنتعلق بها، يستلزم هذا نقاوة القلب والقداسة “طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت8:5) إتبعوا السلام مع الجميع والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب (عب14:12) فالخداع الذي يعمله القلب، هو أن يصور للإنسان، أن ما يراه بعينيه هو كل شيء، فتعلق الإنسان بمحبة كل ما في العالم “القوة / المال / السلطة / المراكز / الجنس…” لذلك يقول النبي المفتوح العينين كرسي مجدٍ مرتفع من الابتداء هو موضعمقدسنا (آية 12). والمعنى هل نترك الله بكرسيه المرتفع… هل نترك هذا المجد المعد لنا لننزل إلى الأرضيات ونجرى وراء العالميات. هل انحدرنا إلى مستوى الحجلة، الطائر الأحمق. والحجلة (آية 11) هي طائر أحمق يحضن بيضًا ليس بيضه. فالمهتم بالماديات مضيعًا عمره وراء الأرضيات، هو يحتضن ما ليس لهُ….

  1. فهو إما يموت تاركًا كل شيء.
  2. أو يضيع منه ما اجتهد أن يملكه كما يذهب الطائر الذي احتضنته الحجلة للطيور الذين من جنسه، أو تنكسر هذه البيضة التي احتضنتها الحجلة.

وحينما يضيع ما سعينا وراءه، أو حينما يأتي الإنسان لنهاية حياته ويكتشف أن كل ما سعى وراءه كان باطلًا (أي كالسراب) سيكتشف في النهاية أنه كان أحمق (آية 11) إذ ترك المجد المعد لهُ وسعى وراء الباطل، الذي ليس لهُ.  لذلك أطلق المسيح على المال الذي بين أيدينا “مال الظلم” (لو11:16). فالله وضع المال / الصحة / الوقت والمواهب… إلخ. في أيدينا لا لنسعى وراء العالم، بل لمجد اسمه، فهل نكنز لنا كنوزًا في السماء، أم نكون كالحجلة نحتضن ما ليس لنا، علينا أن نردد مع المرنم “من لي في السماء. ومعك لا أريد شيئًا في الأرض” (مزمور25:73).

حينما اكتشف النبي هنا هذا المرض الذي أصاب القلب، والقلب في الثقافة العبرانية هو مركز الشعور والعواطف والتفكير والإرادة… هو القوة المركزية التي تحرك الإنسان ليتخذ قراراته… قال النبي أن هذا القلب لا يعرفه سوى الله = من يعرفه (آية 9). فهو الذي خلقه. إذًا هو وحده القادر أن يصلح ما فسد فصرخ النبي إشفنى يا رب فأشفى (آية 14). وهذه هي نفس صرخة داود “قلبًا نقيًا اخلق فيَّ يا الله” (مزمور51).

ومن خداع القلب أنه أصبح لا يرى الله في قوته وجبروته، فظن أن هناك من نستطيع أن نتكل عليه غير الله، فأصبح الإنسان يضع ثقته في إنسان آخر، واعتمد أيضا علي الذات والمال والقوة البشرية، وصارت هذه أشياء يستند عليها ويضع فيها ثقته (آية 5) وكانت المشكلة أن القلب في عماه، إذ ما عاد يرى الله، صار اتكاله على ما صار يراه من مصادر للقوة البشرية.

وحقًا لقد صارت الصورة قاتمة، وكان يلزم أن يتدخل الله للشفاء ولذلك تجسد المسيح وقام بالفداء ليُرسِل الروح القدس، الذي يشفى ارتدادنا (هو4:14)، ويشفى قلوبنا النجيسة التي كانت بلا أمل في شفاء. وكيف يشفى الروح القدس قلوبنا؟ لنرجع لما قلناه سابقًا.. أن المشكلة ظهرت مع نقص المحبة لله، ومع استمرار نقص المحبة تحولت القلوب لقلوب حجرية. لذلك كان عمل الروح القدس الأول، أن يعيد الحب لقلوبنا “لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا” (رو5:5) لذلك أعطانا الله الروح القدس أساسًا، ليسكب المحبة في قلوبنا، ويصحح الأوضاع، لذلك نسمع في (غل23،22:5) أن أول ثمار الروح القدس محبة. والثمرة الثانية منطقيًا هي الفرح، هذا الذي فقدناه بسبب الخطية. وحينما عاد الحب، حب الله للقلب، صارت طاعة الوصية عن حب لله، صار القلب المحب لا يستطيع خيانة الله، صار القلب قلب لحم (حزقيال19:11) + (يو23،21:14). وهذا هو نفس المعنى الذي قصده في (أر31:31-34) بكتابة الشريعة في قلوبنا، هذا هو العهد الجديد الذي تكلم عنه أرمياء (31:31). ولاحظ أن حزقيال حينما تكلم عن قلب اللحم يقرن هذا بقوله أجعل في داخلكم روحًا جديدًا (19:11) وبعودة المحبة (وهي بعمل الروح القدس فينا)، عاد الفرح الحقيقي للقلب، واستعدنا الحالة الفردوسية الأولى فالجنة كان اسمها جنة عَدْنْ، وكلمة عدن = ابتهاج.

بالخطية نفقد كل شيء، مواهبنا وأفراحنا وسلامنا وميراثنا السماوي (آيات 4،3)، وتكون نهايتنا التراب = كل الذين يتركونك يخزون. الحائدون عنى في التراب يكتبون (أر13:17). ولكن بالعودة لله والرجوع إليه نستعيد حالنا. فما هو دورنا الآن… ماذا نعمل… هذا موضوع الآيات (17- 19).

تقديس السبت = هو إشارة لتقديس العلاقة مع الله، وهذا يعنى أن هناك يوما نتكرس فيه لله في صلوات وتسابيح. والسبت فيه راحة الله، وهذه كانت بالفداء، وفيه راحتنا بالثبات في المسيح لو خصصنا السبت لله، والثبات في المسيح يأتي بالتوبة عن كل عمل شرير، وبجهادنا الإيجابي (صلاة / صوم / ممارسة أسرار..) فالعمل لهُ وقته (ستة أيام). والله لهُ وقته (السبت). ومن يفعل يُكرمه الله كملك، فنحن ملوك وكهنة، بل سيكون بركة لكثيرين، وسبب جذب لهم = يأتون من مدن يهوذا… آية 26 وتقديم ذبائح يعنى العودة لعبادة الله، بدل جريهم وراء العالم وهذا التكريم للسبت يجعلنا في حماية الله، فلا يستطيع إبليس أن يهاجمنا بسهامه الحارقة، أما المنفصل عن الله فيسهل لإبليس مهاجمته فتحترق قصوره آية 27. ونحن قصور فالله ملك الملوك يسكن فينا. لذلك يطلب بولس الرسول منا “إن كنتم قد قمتم مع المسيح فإطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الآب” (كو1:3) والآن بعد ان جعلنا الله خليقة جديدة (2كو17:5)، وسكب روحه القدوس فينا، وجعلنا ملوكًا وكهنة، مازال أمامنا طريقين، وبحرية علينا أن نختار أحدهما، إما طريق الحياة أو الموت (تث15:30).

ولنلاحظ أن العالم الذي مازلنا نعيش فيه ملىء بالتجارب والآلام، مملوء بغضة وكراهية، ضيقاته كثيرة، موضوع في الشر وهذا ما أسماه في هذا الإصحاح الحَرَة في البرية والمسيح لم يَعِدْنا برفع الضيقات في هذا العالم، بل قال “إدعنى وقت الضيق…” وماذا يعمل المسيح وقت الضيق ووقت التجربة؟ المسيح لن يرفعها عنا، بل يشاركنا ضيقتنا فنتعزى، وهذا نفس ما عمله مع الثلاث الفتية في أتون النار… ولكن يا ويل من ليس لهُ علاقة بالمسيح، فمثل هذا ماذا يفعل إذا جاء الحر = أي الضيق والتجربة. هذا سيكون مثل العرعر. والشيطان يعلم هذا تمامًا، وعنده سلاحه أي كلما شعرنا بالضيق، يعطينا أن نتذوق من ملذات الخطية، ولكن هذه اللذة هي لذة لحظات يعود بعدها الضيق ثانيًا، وملذات العالم هي كالماء المالح، من يشرب منها يعطش = وهذا ما قاله عنه هنا أرضًا سبخةولاحظ أن العرعر الذي ينمو في أرض كهذه، ومع كثرة الحر يجف ويكون كالقش أي ميتًا، فإذا جاءت الخيرات أي المجد السماوي لن يشعر به، من عاش في العالم بملذاته فهو قد احترق من حر وتجارب العالم، والنهاية لن يجد له نصيب في الخيرات الأبدية، هو عاش على الأرض ولكنه سريعًا ما يموت ويدفن في التراب = يكتبون في التراب، وهذه نهاية كل من وضع قلبه وتعلق بالأرضيات. أما أولاد الله الذين يحبون الله، ويجاهدوا ليكون قلبهم نقيًا، فهم يرون الله هنا، ويعيشون متمتعين بتعزيات الروح القدس يستمدونها كما تستمد الشجرة ذات الجذور العميقة المياه من العمق، هذه لن تحرقها التجارب، بل تزيدها اخضرارًا. والنهاية لهم حياة أبدية. هؤلاء سمتهم المميزة أنهم يحيون في فرح يسبحون الله =لأنك أنت تسبيحتى (آية 14).

الله يعين شعبه في الطريق

1) قبل السقوط أعطى الله شريعته مكتوبة بالحب علي قلب الإنسان. فالشريعة هي مقابل للحرية التي أعطاها الله للإنسان، لكي تحميه. والإنسان خلق حرًا لأنه علي صورة الله.

2) بعد السقوط… أعطانا الناموس عونا..كمؤدب حتى يأتي المسيح (غل 3 : 24)

3) كان الله يرسل لشعبه أنبياء معظمهم رعاة، فشعبه كان داخل حظيرة الإيمان.

4) جاء المسيح وصنع الفداء وأرسل لنا الروح القدس ليعيننا (رو 8: 26 ) = عمل النعمة فينا.

5) أرسل المسيح تلاميذه وكانوا صيادين لاصطياد شعبه من بحر هذا العالم. فالبحر بمياهه المالحة لا يعيش فيه الإنسان، هو مكان موت للإنسان. والمسيح اجتذبنا من الموت إلى الحياة.

6) صعد المسيح إلى السماء لكنه في كنيسته للأبد يحميها (مت 28: 20).

7) يرسل المسيح لكنيسته عبر العصور رعاة أمناء يعمل فيهم الروح القدس.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى