تفسير سفر إرميا ٤١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الحادي والأربعون
اغتيال جدليا والي أورشليم
كان اليهود يحتفلون بقتل جدليا كمناسبة حزينة وذلك بالصوم في الشهر السابع (أكتوبر) (زك 7: 5؛ 8: 19). ولا تُعرف السنة التي قُتل فيها جدليا. فقد تم جمع المحصول قبل قتله (40: 14)، هذا يعني احتمال أنه مرَّ عام ما بين سقوط أورشليم ومصرعه، حيث سُمح للاجئين أن يعودوا ويزرعوا الأرض. وإن كان البعض يرى أن جدليا لم يبقَ في الولاية سوى شهرين[612] أو ثلاثة شهور.
قُتل جدليا لكن الله حفظ إرميا حتى يتمم رسالته. في هذا الأصحاح لا نجد خبرًا عن إرميا نفسه، ولا نسمع عنه كلمة، بل جاء كمقدمة لما يأتي فيما بعد، وهو نزول جماعة من اليهود إلى مصر آخذين معهم إرميا على الرغم منه.
- مصرع جدليا [1-3].
- فظائع أخرى [4-9].
- سبي البقية واطلاق سراحها [10-18].
- مصرع جدليا:
“وكان في الشهر السابع أن إسمعيل بن نثنيا بن أليشاماع من النسل الملوكي جاء هو وعظماء الملك وعشرة رجال معه إلى جدليا بن أخيقام إلى المصفاة،
وأكلوا هناك خبزًا معًا في المصفاة.
فقام إسمعيل بن نثنيا والعشرة الرجال الذين كانوا معه وضربوا جدليا بن أخيقام بن شافان بالسيف فقتلوه،
هذا الذي أقامه ملك بابل على الأرض.
وكل اليهود الذين كانوا معه، أى مع جدليا في المصفاة،
والكلدانيون الذين وُجدوا هناك ورجال الحرب ضربهم إسمعيل” [1-3].
سبق أن تحدثنا في الأصحاح السابق عن إسمعيل بن نثنيا الذي دفعه بعليس ملك عمون على اغتيال جدليا. ولا نعرف ما الذي دفعه إلى هذه الجريمة، وما الذي دفع ملك
عمون على تحريضه.
هل كان إسمعيل مدفوعًا بغيرة دينية قومية على بلاده حاسبًا أن الخضوع لبابل خيانة عظمى؟
أم كان مدفوعًا بوعود ملك عمون (40: 14)؟
أم كان الحسد أو العداوة الشخصية مع جدليا؟
أو محبة المال هي الباعث؟
حاسبًا نفسه أحق برئاسة الشعب دون جدليا؟
تحدى إسمعيل كل قوانين كرم الضيافة الشريفة في الشرق باغتياله مضيفه بعمل صارخ من أعمال الخيانة.
واضح أن عنصر الحسد له دوره في ارتكاب هذه الجريمة. فإن الحسد يفقد الإنسان اتزانه وقدرته على التفكير لصالح غيره وصالح الجماعة وأيضًا لمجد الله. إنه يدفع الإنسان إلى التهور ليقتل أعماق نفسه، غير مبالٍ بنظرة الله أو الجماعة أو حتى ضميره الداخلي. وكما قيل: “حياة الجسد هدوء القلب، ونخر العظام الحسد” (أم 14: 30).
v منذ بداية العالم كان الشيطان هو أول من أهلك نفسه ودمَّر الآخرين. لقد انكسر بالغيرة مع الحسد المملوء ضغنية، ذاك الذي كان في العظمة الملائكية، مقبولاً أمام الله ومحبوبًا عنده.
إنه لم يرشق الآخرين بغريزة الغيرة قبل أن يرشق نفسه بها، ولا رشقهم بالأسر قبل أن يُؤسر، ولا بالدمار قبل أن يهلك. وفي إغرائه بالغيرة أفقد الإنسان نعمة الخلود الموهوبة له، وهو نفسه فقد تلك التي كانت له سابقًا.
يالها من شرورٍ عظيمة أيها الأحباء، فقد أسقطت (الغيرة أو الحسد) الملاك، وأزالت مجدًا عظيمًا وبهيًا، فتلك التي خدع بها الآخرون هو نفسه بها خُدع! [613]
القديس كبريانوس
v لا توجد خطية تفرق الإنسان عن الله والناس مثل خطية الحسد، لأن هذا المرض أشد خبثًا من محبة الفضة. لأن محب الفضة يفرح متى ربح شيئًا، أما الحاسد فيفرح متى خسر أحد شيئًا أو ضاع تعبه سدى. ويحسب خسائر الآخرين ربحًا له أكثر من أى نجاح، فأي شرٍ أعظم من هذا؟!
يتورط الزاني في الخطأ لأجل لذة مؤقتة، وقد تكون للسارق حجة الفقر، ولكن أى عذرٍ تقدمه أيها الحاسد؟!… الحاسد يعذب نفسه ولو لم يحدث له ضرر مما يحسده، لهذا خطيئة الحسد أشر الخطايا وأشنعها. لأن الحاسد لا يمكنه مفارقة خطيته، بل يكون كالخنزير المتمرغ في الحمأة، ويماثل بفعله الشيطان…
لهذا أقول لكم إنه إن كان أحدكم يصنع المعجزات أو يحفظ البتولية أو يكون صوامًا أو باسطًا كفّيه أو ينام على الأرض ويصل بهذه الوسائط إلى فضيلة الملائكة، ولكن فيه آلام الحسد، فلا محالة يكون أشر من جميع الخطاة وأردأ منهم[614].
v الشيطان حاسد، لكنه يحسد البشرية ولا يحسد شيطانًا آخر، أما أنت فإنسان وتحسد أخاك الإنسان، وبالأخص الذين من عائلتك وعشيرتك، الأمر الذي لا يصنعه الشيطان[615].
القديس يوحنا ذهبي الفم
v الحاسد لا يرى النور، لأنه يلوم المضيئين ويعيبهم بحسده[616].
الشيخ الروحاني
v الحسد جرثومة وأصل الشرور[617].
القديس يوحنا ذهبي الفم
- فظائع أخرى:
“وكان في اليوم الثاني بعد قتله جدليا ولم يعلم إنسان،
أن رجالاً أتوا من شكيم ومن شيلو ومن السامرة ثمانين رجلاً محلوقي اللحيّ ومشققي الثياب ومخمشين، وبيدهم تقدمة ولبان ليدخلوهما إلى بيت الرب.
فخرج إسمعيل بن نثنيا للقائهم من المصفاة سائرا وباكيًا.
فكان لما لقيهم أنه قال لهم:
هلم إلى جدليا بن أخيقام.
فكان لما أتوا إلى وسط المدينة أن إسمعيل بن نثنيا قتلهم وألقاهم إلى وسط الجب هو والرجال الذين معه.
ولكن وُجد فيهم عشرة رجال قالوا لإسمعيل:
لا تقتلنا لأنه يوجد لنا خزائن في الحقل، قمح وشعير وزيت وعسل.
فامتنع ولم يقتلهم بين إخوتهم.
فالجب الذي طرح فيه إسمعيل كل جثث الرجال الذين قتلهم بسبب جدليا هو الذي صنعه الملك آسا من وجه بعشا ملك إسرائيل.
فملأه إسمعيل بن نثنيا من القتلى” [4-9].
يرى Thenius وSchmieder أن هؤلاء الرجال جاءوا إلى المصفاة لا إلى أورشليم، لتقديم عبادة في بيت الرب في المصفاة، لكن Hitzig يرفض هذا الرأى حيث لم يرد في التاريخ إشارة إلى وجود موضع عبادة جماعية في المصفاة في ذلك الحين، ففي رأيه أن إسمعيل دعاهم إلى المصفاة لرؤية جدليا[618]. هذه الحادثة مكدرة جدًا تدل على أن نفس إسمعيل لم تكن منطوية على غيرة دينية على بلاده ليخلصها من نير بابل، بل كان رجلاً سفاحًا ذبح أناسًا أبرياء، إذ لم يُذكر سبب لقتل هؤلاء الأبرياء.
لسنا ندري هل كانت لهم علاقة بجدليا من قبل أم لا.
واضح أنهم كانوا في حالة حداد على الهيكل الذي دُمر والذبائح التي توقفت والشعب الذي سُبي، وقد يُستدل على ذلك من كلام إسمعيل الكذاب وهو يبكي بدموع التمساح، حيث عرف أنهم أتقياء ينوحون على الهيكل الذي تهدم، فظهر كمن يشاركهم مشاعرهم.
يجوز أن يكون القصد من تقدمتهم تقديمها على المذبح في الموضع الذي كان مخصصًا للهيكل.
كانوا مخمشين، أي بهم جروح قطعية في الجلد، وهو أمر محرم في الشريعة (لا 19: 28؛ 21: 5؛ تث 14: 1؛ إر 16: 6).
ما هو الدافع وراء هذه الجريمة؟
أ. يرى Graf أن ما فعله إسمعيل مع هؤلاء الرجال كان نوعًا من الانتقام لسفك دماء أقربائه ورفقائه في الرتبة على يديْ الكلدانيين[619].
ب. يرىNagelsbash إن ما فعله إسمعيل كان بسبب رغبته في نهب ما لديهم، إذ قتل أناسًا عزل قادمين لتقديم عطايا لبيت الرب المتهدم، وفي نفس الوقت أبقى منهم العشرة رجال الذين ادعوا أن لهم خزائن سرية لا يعرف أحد موضعها، وهي في الحقول مملوءة من المحاصيل، فأراد أن يغتصبها… هذا يكشف عن شخصه أنه لص! لكن حديث يوحنان السري مع جدليا قبل قتله وكشفه عن خطة إسمعيل توضح أن إسمعيل لم يكن يطلب النهب بل تبديد الشعب كله وتحطيم ما فعله جدليا.
- سبي البقية وإطلاق سراحها:
“فسبي إسمعيل كل بقية الشعب الذين في المصفاة،
بنات الملك وكل الشعب الذي بقى في المصفاة الذين أقام عليهم نبوزرادان رئيس الشرط جدليا بن أخيقام سباهم إسمعيل بن نثنيا،
وذهب ليعبر إلى بنى عمون.
فلما سمع يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه بكل الشر الذي فعله إسمعيل بن نثنيا،
أخذوا كل الرجال وساروا ليحاربوا إسمعيل بن نثنيا فوجدوه عند المياه الكثيرة التي في جبعون.
ولما رأى كل الشعب الذي مع إسمعيل يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معهم فرحوا.
فدار كل الشعب الذي سباه إسمعيل من المصفاة ورجعوا وساروا إلى يوحانان بن قاريح .
أما إسمعيل بن نثنيا فهرب بثمانية رجال من وجه يوحانان وسار إلى بني عمون.
فأخذ يوحانان بن قاريح وكل رؤساء الجيوش الذين معه كل بقية الشعب الذين استردهم من إسمعيل بن نثنيا من المصفاة بعد قتل جدليا بن أخيقام رجال الحرب المقتدرين والنساء والأطفال والخصيان الذين استردهم من جبعون.
فساروا وأقاموا في جيروت كمهام التي بجانب بيت لحم لكي يسيروا ويدخلوا مصر من وجه الكلدانيين،
لأنهم كانوا خائفين منهم،
لأن إسمعيل بن نثنيا كان قد ضرب جدليا بن أخيقام الذي أقامه ملك بابل على الأرض” [10-18].
سبى إسمعيل بنات الملك، لا يُقصد بهن بنات صدقيا فحسب بل كل الأعضاء الأناث في البيت الملكي والأميرات اللواتى كن قد وُضعن في رعاية جدليا، اللواتي تسلمهن من يد نبوخذنصر.
قبل أن يتمكن إسمعيل السفَّاك من الهرب إلى بلاد عمون بمن أراد أن يأخذهم معه من أهل جدليا والشعب عمومًا، هاجمه يوحنان بن قاريح وبعض الرؤساء الآخرين عند بركة جبعون (2 صم 2: 13) حيث وقع في القديم الصدام بين رجال داود ورجال إيشبوشث بن شاول، ولم يقدر إسمعيل أن يقاومهم فاضطر أن يترك الذين أجبرهم إلى ذهاب معه، فهرب ومعه ثمانية رجال إلى بلاد عمون حيث فقد اثنين من رجاله، ولم نعد نسمع عنه شيئًا.
يرى البعض أن المياه الكثيرة في جبعون ربما تشير إلى بركة جبعون لخزان المياه المحفور في الصخر الموجود في الجب، والذي يرجع تاريخه إلى العصر الحديدي الأول. هذه الحفرة قد حفرت إلى عمق خمسة وثلاثين قدمًا في الصخر وبها درج يؤدى إلى نفق على بعد أربعين قدمًا أخرى مؤديًا إلى خزان مياه. وفي القرن السابع ق.م. كان يُصنع النبيذ في منطقة الحفرة وكانت الجرار المختومة تخَّزن في مخازن رطبة محفورة في الصخر.
والرأي القائل بأن الكلمة هنا يجب أن تكون (جبعة) “Geba” بدلاً من جبعون رأى ليس له قيمة حقيقية.
كان يوحانان بن قاريح حاسمًا وسريعًا في تتبع إسمعيل وقد سبق فحذر جدليا من نواياه الإجرامية.
رأي يوحانان والذين معه أن يهربوا إلى مصر خوفًا من عقاب بابل، وإن كانوا هم أنفسهم لم يثوروا على بابل هذه المرة كإسمعيل.
من وحي إرميا 41
من ينزع عني روح الحسد!
v انزع عني روح الحسد يا محب البشر!
قتل إسمعيل جدليا حسدًا بلا سبب!
قتل الرؤساء فحطَّم بلده،
قتل البسطاء والقادمين للعبادة الأتقياء!
قتل وتمادى في القتل، ولم ينتفع شيئًا!
v من ينزع عني روح الحسد؟
بثّ إبليس روحه فينا،
هذا الذي حرمنا من الفردوس وهو لم يدخله!
صرنا أشر منه،
فالشيطان لا يحسد شيطانًا،
أما الإنسان فيحسد أخاه الإنسان!
v ويحي أنا الشقي!
بالحسد لا أطلب نجاح نفسي بل فشل إخوتي!
بالحسد يحترق قلبي لا لشيء إلا لنجاح الغير!
بالحسد يضيق قلبي جدًا،
فلا يسمح بدخول أحدٍ!
بالحسد أُطرد خارج الكنيسة،
بل وأفقد جمال إنسانيتي!
v بالحسد سقط جبابرة إيمان!
بالحسد صارت عبادتهم عائقًا في طريق نموهم!
بالحسد حُرم صانعوا عجائب من التمتع بك!
بالحسد تسلل الموت حتى إلى بعض الخدام الناجحين والنسَّاك والمتوحدين!
إنه لصٌ خفيٌ خطير،
له مداخل خفيَّة إلى أعماق النفس!
v من ينزع عني الحسد،
إلا أنت يا محب البشر؟!
يحملني روحك القدوس إلى حضن أبيك،
أجده متسعًا للجميع،
فأصير أنا متسعًا للكل!
v بصليبك حطمت حسد إبليس العامل فيّ،
ووهبتني حبك الإلهي الفائق!
فأشتهي أن أقتدي بك يا من صرت آخر الكل!
هب لي أن أنطلق معك إلى الصف الآخير،
أبسط يديّ مع يديك لاحتضن الجميع.
أشتهي أن أتألم معك ليستريح الكل،
وأن أحمل عارك لتتمجد كل نفسٍ،
وأفقد كل شيء لكي يغتني الجميع بك.
نعم، لأمت معك وليحيا الكل بك!