تفسير سفر أيوب 41 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح الحادي والأربعون
التنين الذي لا يُروض

 

يُفتتح هذا الأصحاح بحديث ممتع لله موجه لا إلى أيوب وحده، بل إلى كل البشرية، ليكشف لها عن الإمكانيات الجديدة التي صارت لنا بالمسيح يسوع. فإن كان عدو الخير “لوياثان” يفتخر على البشرية بقدراته وسلطانه، فإن مسيحنا اصطاده بصنارة، وجعله كعصفورٍ صغيرٍ يلعب به الأطفال ولا يخشونه.

في هذا الأصحاح يعاتب الله أيوب الذي في أكثر من مرة يطلب الوقوف أمام الله وجهًا لوجه لكي يحاوره فيما حلّ به من ضيقات. هنا يقدم الله لأيوب تساؤلات كثيرة محورها: هل تستطيع أن تواجه تمساحًا في النهر وتصطاده، فكيف تطلب مواجهة الخالق؟

إن كان لوياثان أو تمساح النهر مرعب للغاية، ومدمر لحياة الإنسان، فإنه يرمز لإبليس العدو الحقيقي للإنسان. فليس من إنسان يقدر أن يدخل في مواجهة ضد إبليس دون مساندة الله له، فكيف يقدر أن يدخل في معركة مع الله نفسه واهب الغلبة للإنسان حتى على إبليس وكل قواته؟

 

1. من يقف أمام لوياثان 1-10

أَتَصْطَادُ التِّمسَاحَ بِشِصٍّ،

أَوْ تَضْغَطُ لِسَانَهُ بِحَبْلٍ؟ [1]

في حديث الله مع أيوب عن الشيطان يريد أن يؤكد له أنه مع كل ما اتسم به من قوةٍ وعنفٍ، لكنه بالنسبة للمؤمن ليس إلا شبه سمكة يًمكن اصطياده بصنارة صغيرة.

لوياثان، ويقصد به هنا الشيطان، وقد كثرت الآراء من جهة هذا الاسم نذكر منها:

  1. حيوان مائي ضخم، عنيف ومفترس، وقد جاء في الترجمة السبعينيةDralaonate، أي تنينdragon، كما جاء في السريانية والعربية القديمة. وقد شبه النبي الكذاب وضد المسيح بالتنين البحري والتنين البري (رؤ 13).
  2. نوع قاتل وفريد من الحيات السامة. ورد في بعض القصص اليهودية أن حيَّة ضخمة تلتف حول الأرض كلها تبث سمومها.
  3. نوع من الحيتان الفتَّاكة.
  4. يُقصد به تمساح نهر النيل، كما قالBochart.
  1. يرىHasaeusأنه ليس بحوتٍ، بل Orca وهو مسخ (حيوان مهول غريب الشكل) مائي، مسلح بأسنان حادة يُرعب الحيتان.
  2. يرىGrotiusأنه سمكة ضخمة جدًا تدعى mular أو musar، وُجدت في البحر الأبيض المتوسط.
  3. يرى البعض مثلSchultensأنه اسم رمزي يمثل حيوانات مرعبة قديمة، يقصد به الشيطان.
  4. يرى البابا غريغوريوس (الكبير)أن اسمه يمكن أن يُدعى Leviathan كنوعٍ من السخرية، إذ تعني الكلمة شيئًا ضخمًا ورهيبًا.

يعتمد القائلون بأنه التمساح على الآتي:

  1. لا توجد حيتان بالبحر المتوسط والأنهار في تلك المنطقة، وإنما وُجد التمساح في نهر النيل وبعض أنهار آسيا وأفريقيا، فغالبًا لم يكن لدي أيوب معرفة بالحيتان، وإنما بالتماسيح. حقًا أن المتكلم هو الله وهو عالم بكل ما خلقه، لكنه لا يحدث أيوب عن حيوان لم يسمع عنه ولا عرفه.
  2. السمات الواردة هنا عنلوياثانتنطبق على التمساح بكونه متوحشًا وعنيفًا ولا يمكن السيطرة عليه. فمه مخيف وحجمه ضخم للغاية، مسلح بصفٍ ضخم من الأسنان، ومُغطى بحراشيف متقاربة معًا، يتميز بعينيه الرهيبتين. لا يمكن اصطياده بالطرق العادية لاصطياد الوحوش المفترسة. طوله عادة ما بين 18 و20 قدمًا، لكنه يبلغ أحيانًا الثلاثين قدمًا. تبلغ عدد أسنانه الحادة جدًا 30 فأكثر في كل فكٍ. يُعتبر من أرعب الحيوانات البحرية. غالبًا ما يسبح على سطح الماء ليقتنص أي حيوان يجده، وإذ لم يجد طعامًا يقترب من الشاطئ ويختبئ بين أوراق البردي، حتى متى اقترب أي حيوان ليشرب هجم عليه وسحبه في الماء ليغرقه ويأكله. يشتهر باصطياده النمور القادمة لتشرب.
  3. مما يؤيد افتراض أنه التمساح ما ورد في(أي 40: 15)عن بهيموث، وهو حيوان بحري. ولعل الاثنان كانا يقطنان في ذات المنطقة فإن كان بهيموث هو فرس البحر أو البهموت أو مارد البحر hippopotamus الذي كان في نهر النيل، فإن لوياثان هو التمساح الموجود في ذات النهر. جاء في بعض الرسومات في Herculaneum مناظر طبيعية مصرية حيث نرى التمساح راقدًا بين القصب (المائي) وفرس البحر على النباتات في جزيرة. وأيضًا الموزييك الشهير في Praeneste يمثل نباتات وحيوانات مصر وأثيوبيا. يشير فرس البحر والتمساح معًا في مجموعة واحدة في نهر النيل. يشير هيرودوت Herodotus إلى أن بعض المصريين يعتبرون التمساح مقدسًا، وآخرون يهاجمونه. أحيانًا يعاملونه بتكريم زائد ويقدمون له أسماك وأطعمة ثمينة، ويزينون رأسه بأقراطٍ وقدميه بأساورٍ وحلقان ذهبية مطعمة بحجارة ثمينة. يروضونه بلطفٍ شديد، وبعد موته يطيبونه بأطياب ثمينة، هذا في مناطق مثل طيبة وOwbite و Arsinoite و Maabdeh مقابل مدينة منفلوط الحالية. وفي مناطق أخرى كانوا يتعاملون معه بشيء من الاشمئزاز الشديد، فلا يتركون فرصة يمكنهم فيها تدميره.

يرى Gesenws أن لوياثان مشتقة من لوي Laowah، حيث ينحني كائن ما حول آخر ويلتف حوله، ربما ليدمره أو يفترسه.

يذكر هيرودوت أن من بين طرق اصطياد التمساح أن يضعوا قطعة لحم خنزير في شصٍ (صنارة)، ويلقونها على الماء لتطفو ثم يأتوا بخنزير حي على الشاطئ ويضربونه حتى يصرخ. فيأتي التمساح على صوت صراخه نحو الشاطئ ليقتنصه، وإذ يجد قطعة اللحم يبتلعها فيسحبونه بالصنارة نحو الشاطئ، وأول ما يفعلونه به هو أن يملأوا عينيه بالطين حتى يمكنهم السيطرة عليه.

ليس للتمساح لسان، أو له لسان صغير جدًا ملتصق بالفك السفلي، ولكن كما أنه في اصطياد السمك تسحب السمكة الصنارة التي بها الطُعم خلال لسانها، هكذا يسأل الله إن كان يمكن سحب لوياثان بلسانه.

يرى Thevenot أن البعض كانوا يحفرون بعض الحفر على الشاطئ ويغطونها بعصي، وإذ يسقط التمساح في إحداها لا يقدر أن يخرج منها. يتركونه لمدة عدة أيام بلا طعام، وبعد ذلك يربطون فكه بحبال يعقدونها حوله ثم يقومون بسحبه.

يوجه الله أنظارنا إلى عدو البشرية كلها، فإنه إن كان يصعب صيد لوياثان بصنارة وسحبه من لسانه بحبل، فماذا يفعلون مع إبليس؟

إبليس عنيف للغاية ويصعب الغلبة عليه، لكن ابن الله الحي نزل إلى أرضنا، وإذ تجسد صار جسده هذا أو ناسوته هو الصنارة التي يصطاده بها. ظن إبليس في المسيح أنه مادام يحمل جسدًا كسائر بني البشر، وله نفس بشرية، فله سلطان عليه، يدخل به إلى مملكة الظلمة التي له. هيج أتباعه على صلبه، حاسبًا هذا نصرة عليه، ولم يدرك الشص الموضوع له، إذ بالصليب شهر به، وأفقده سلطانه، وسحب منه الأسرى الذين سقطوا تحت سلطانه.

ترك الرب لعدو الخير وأتباعه أن يجدفوا عليه، ويقدموا اتهامات ضده، ولم يدرك العدو أنه بهذا انسحب بلسانه لينحدر إلى جهنم هو وملائكته الذين شاركوه تجديفه على مخلص العالم.

*     اُصطيد لوياثان بصنارة صيد، وذلك عندما أُمسك بطُعم جسد مخلصنا، إذ بالوخزة الحادة للاهوته قد طعنته للحال. لقد أمسكت السنارة كما بحنجرة من يبتلعها، عندما ظهر طُعم الجسد للمفترس كي يمسك به في وقت آلامه، فقبض اللاهوت عليه ليقتله.

*     لتفهم يا أيوب ما أفعله أنا، إذ أرسل ابني وحيد الجنس في الجسد لموت المُفسد، ففي ابني يظهر الجسد القابل للموت، بينما لا تظهر قوة خلوده، هذا نوع من الصنارة التي تحطم من يبتلعه، وذلك بإخفاء حذاقه القوة التي بها يجرحه.

“تضغط لسانه بحبلٍ”…. فإن الخطايا يُرمز لها بالحبل كقول النبي: “ويل للجاذبين الإثم بحبال البُطل” (إش 5: 18)… أيضًا “الحبل” يعبر عن الإيمان، كما يشهد سليمان القائل، “الخيط المثلوث لا ينقطع سريعًا” (جا 4: 12). فإن الإيمان بالحق الذي ينسجه فم المبشرين بمعرفة الثالوث يبقى ثابتًا في المختارين. إنه ينقطع فقط في قلب الشرير. هنا يمكن أن تفهم كلمة الحبل الإيمان أو الخطية. لأن ربنا المتجسد ربط فم لوياثان بحبلٍ، إذ ظهر في شبه جسد الخطية ودان كل تعاليمه الخاطئة… خلال شبه جسد الخطية برد الحوار المخادع في الجسد رُبط لسان لوياثان إذ عُرف الحق الذي له صمتت التعاليم الباطلة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     الآن يا أحبائي قد ذُبح الشيطان، ذاك الطاغية الذي هو ضد العالم كله… لا يعود يملك الموت، بل تتسلط الحياة عوض الموت، إذ يقول الرب: “أنا هو الحياة” (يو6:14)، حتى امتلأ كل شيءٍ بالفرح والسعادة، كما هو مكتوب: “الرب قد ملك فلتفرح الأرض”… الآن إذ بطل الموت وتهدمت مملكة الشيطان امتلأ الكل فرحًا وسعادة.

*     إن كان الشيطان عدو جنسنا قد سقط من السماء وتحوّل إلى مجالنا السفلي، فقد صار له سلطان على الأرواح زملائه الذين يستخدمهم كأتباعه يعملون بالخداعات لأجل المعصية. لا يعملون فقط في الذين ينخدعون، وإنما يحاولون إعاقة المرتفعين إلى فوق، وكما يقول الرسول: “حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية” (أف 2: 2). لقد جاء الرب ليطرد الشيطان ويطهِّر الهواء منه، مهيئًا الطريق إلى السماء وذلك “بالحجاب أي جسده” (عب 10: 20). كقول الرسول: أي نوع من الموت يقدر أن يحقق هذا، إلاَّ الموت الذي يتم في الهواء، أقصد بالصليب…! لقد لاق جدًا أن يحتمل الرب هذا الموت، فبرفعه (على الصليب) طهر الهواء من شر إبليس وكل أنواع الشياطين، إذ يقول: “رأيت الشيطان ساقطًا مثل البرق من السماء” (لو 10: 18)، بهذا صنع افتتاحًا جديدًا لطريق السماء، إذ يقول أيضًا: “ارفعوا أبوابكم أيها الرؤساء ولترتفع الأبواب الدهرية” (مز 24: 7 – السبعينية). فإن الكلمة لم يكن في حاجة إلى فتح الأبواب إذ هو رب الكل، ولا يُغلق شيء من أعماله أمامه، إنما نحن الذين في حاجة إلى فتح الأبواب، إذ حملنا في جسده. لقد قدم الموت لحسابنا، ممهدًا لنا الطريق إلى السماوات(1397).

*     لأن الرب تلامس مع كل جزء من الخليقة وحررها وأعتقها من كل خداعات الزيف والوهم كما يقول القديس بولس إذ جرد بنفسه الرياسات والقوات، ظافرًا بهم على الصليب. حتى لا ينخدع أحد بعده بل يجد في كل مكان كلمة الله الحقيقي(1398).

القديس البابا أثناسيوس الرسول

*     صمد الرب أمام التجارب التي من العدو لكي يرد النصرة للبشرية. بهذا جعل الشيطان ألعوبة، وكما أعلن داود: “لوياثان الذي خلقته ليلعب فيه (مز 104: 26)… وأيضًا: “كسرت رؤوس لوياثان على المياه” (مز 73: 13-14). يعلن الرب في سفر أيوب أن لوياثان هذا يصير ألعوبة، ويُمسك في هذه التجربة “تصطاد لوياثان بشصٍ” (أي 41: 1)(1399).

الأب خرموتيوس

*     يُخدع الشيطان إذ يجرح نفسه بذات لدغته، ويُحصن ذاك الذي يظن أنه يضعفه، يحصنه ضده. فقد حُصن القديس أيوب بالأكثر عندما جرحه، ذاك الذي غطى كل جسمه بالقروح، فاحتمل لدغات الشيطان ولم يؤثر فيه سمه. لذلك حسنًا قيل له: “تصطاد التنين بشصٍ، وتلعب به كطائرٍ. تربطه كما يفعل صبى بعصفور، وتضع يدك عليه” (أي 1:41، 5، 8 LXX).

إنكم ترون كيف سخر به بولس، كصبي كما ورد في النبوة، وضع يده على حفرة الثعبان، ولم تؤذِه الحية. لقد سحبه من موضعه الخفي، وجعل من سمه دواءً، فصار السم لتحطيم الجسم دواءً لشفاء الروح. فما يؤذى الجسم يفيد الروح (1 كو 5:5).

إذًا، لأَترك الحية تضرب ما هو أرضي في (جسدي)، أتركها تعض جسدي وتُسبب ازرقاقًا فيه، فسيقول الرب عني: “ها هو في يدك، ولكن احفظ نفسه” (أي 2: 6).

يا لقدرة الله! إنه يسلم حفظ نفس الإنسان في يد الشيطان الذي يريد هلاكه…! فبوصايا السيد جعل الشيطان حافظًا لغنمه، فبغير إرادته صار ينفذ وصايا السماء، وبقسوته يطيع وصايا الوداعة!(1400)

*     شدة عظيمة هكذا وحزن جسيم حلّ بالشياطين وجنودهم في يوم صلب إلهنا، لأنه عند موته ونزوله إلى الجحيم صنع فيهم ما صنعه بفرعون والمصريين، وعتق بني آدم من حبسهم كما عتق بني إسرائيل من أرض مصر(1401).

القديس أمبروسيوس

*     على الرغم من كثرة افتخار (إبليس) في الكلام والوقاحة، قبض عليه المخلص بصنارة كتنينٍ عظيمٍ (أي 41: 1)، وكدابة وُضع الرسن في فكيها، وكهارب أوثق منخره بخطام، وثقب شفتيه ببرة (أي 41: 2)، فأوثقه الرب كعصفورٍ حتى نسخر منه (أي 41: 5)، ومعه الشياطين رفقائه كالحيات والعقارب (لو 10: 19) كي نسحقها وندوسها تحت أقدامنا(1402).                  

البابا أثناسيوس الرسولي

أَتَضَعُ أَسَلَةً فِي خَطْمِهِ،

أَمْ تَثْقُبُ فَكَّهُ بِخِزَامَةٍ؟ [2]

أتضح أسله في خطمه” جاءت في الترجمة السبعينية: “أتضع طوقًا في فتحه انفه“. ويرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن فتحتي أنفه تشيران إلى خداعه، بينما يشير الطوق إلى كلية القدرة للقوة الإلهية.

إن كان عدو الخير لا يكف عن أن ينفث بخداعاته وحيله كما بأنفه، كي يسقط الإنسان في سلسلة من الخطايا، فيحل به اليأس ولا يقوم، فإن مراحم الله القديرة تبطل هذه الخداعات فيمتلئ الإنسان رجاءً في غفران خطاياه، ويقوم بنعمة الله العاملة فيه.

يرى البعض أنه يتحدث هنا عن أدوات الزينة التي كان المصريون يزينون بها التمساح كإله. (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لكن واضح أن الحديث هنا ليس عن تأليه التمساح وزينته، إنما عن عنفه وعدم القدرة على ترويضه.

أسلةagmon ، والترجمة الدقيقة تعني نوعًا من الحبال. وكأنه يعنى هنا أن لوياثان يحمل قوة عجيبة حيث يستحيل وضع حبل حول أذنه لربط فكيه. كانت العادة في الشرق أن يضعوا حلقة في أذن الثيران والجاموس، ويجرونه بها.

خزامة choach، وهي في حقيقتها طوق. كان ولا يزال توجد عادة أن يوضع طوق حديدي قوي في فك السمكة الكبيرة حال اصطيادها، ويربط الصياد حبلًا في الحلقة، ويترك السمكة في الماء، حتى يسحبها متى وجد من يشتريها(1403).

أَيُكْثِرُ التَّضَرُّعَاتِ إِلَيْكَ،

أَمْ يَتَكَلَّمُ مَعَكَ بِاللِّينِ؟ [3]

حين يسقط الإنسان في السبي ينسحق ويتذلل، لكن ليس كذلك عدو الخير، الذي لا يستسلم ولا يتذلل بتوسلات كثيرة، فإنه لا يخضع سريعًا. وكأنه أشبه بحيوانٍ مفترسٍ، حتى بعد اصطياده لا يهدأ مترجيًا أن يفترس من اصطاده. عدو الخير شرس لا يعرف لغة الحنو.

*     إن كانت هذه الكلمات موجهة إلى شخص الابن، فإن (الشيطان) ينطق بكلمات لينه موجهة للمتجسد، إذ يقول: “أنا أعرفك، من أنت؟ قدوس الله” (لو 4: 34). لوياثان هذا يكثر التضرعات إليه حين قيل له بواسطة لجيئون: “إن كنت تخرجنا فأذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير” (مت 8: 31).

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     الشيطان دائمًا مجتهد حتى عندما يحل به الخطر أن يفقد غنيمته(1404).

*     لماذا يعود ليهاجم؟ ماذا نتعلم من هذا؟ فإننا وإن سقطنا ألف مرة، فإن الشيطان لن يتوقف، بل يستمر في الحرب دون أي تردد.

*     لاحظوا أنه يطوف في كل لحظة في العالم. يعلمنا زكريا أن الملائكة تجول على الأرض (زك 10:1-11). أما هذا البائس فلا يكتفي بالطواف، فإن العناية الإلهية أيضًا تمارس هذا العمل، إنما يطوف لكي يُدان بالأكثر (لشروره)، ولكي نكون نحن في أكثر حذرٍ. لهذا السبب دُعي “رئيس ظلمة هذا الدهر” (أف 12:6)؛ أي رئيس الشر.

تكلم أيها الشيطان، ماذا فعلت؟ يقول: لقد قمت بجولة في الأرض، لقد درت فيها، وها أنا هنا.

ماذا جلبت؟ لم يجلب شيئًا نافعًا أو صالحًا، لهذا لم يجب لماذا قام بالجولة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

إن كان عدو الخير لا يعرف الخنوع، لن يهدأ عن المقاومة، حتى وإن غُلب مرة ومرات، لكن السيد المسيح أخرج شياطين من كثيرين, وفي مذلة كانت الشياطين تارة تعترف به أنه قدوس الله لعله لا يعذبهم، وتارة أن يسمح لهم بالدخول في الخنازير، كما كانوا يقول: لماذا أتيت لتعذبنا؟ هكذا من يحمل السيد المسيح في داخله، ترتبك أمامه الشياطين، وكأنها تتضرع إليه أن يكف عن محاربته لهم بصلواته وشركته العميقة مع المخلص.

إذ نقطع عهدًا عمليًا متجددًا مع الله ينهار عدو الخير حيث يتحرر المؤمنون من العهد الذي سبقوا فقطعوه معه. والعجيب عوض أن كانوا عبيدًا لإبليس، يصير هو عبدًا لهم، حتى إن بث سمومه وحيلة وخداعه ضدهم، إذا بهذا كله يتحول لبنيانهم وتزكيتهم وتمجيدهم.

*   خلال الآلام صعد الرب إلى العُلي وسبى سبيًا، وأعطى الناس عطايا (مز 68: 18؛ أف 4: 8)، ووهب الذين يؤمنون به سلطانًا أن يدوسوا على الحيَّات والعقارب وكل قوَّة العدو، أي سلطان على قائد الارتداد(1405).

القدِّيس إيريناؤس

*     هنا الحماية الواقية تسير جنبًا إلى جنب مع السماح بالضرب، ويتحقق التدبير الإلهي خلال الحماية، وخلال التخلي عن العبد المختار، فبينما يتخلى عنه يحرسه… هكذا سُلم القديس في يد الخصم (أي 2: 6)، أما نفسه فمحفوظة في يد (الله) معينه، فإنه من ضمن القطيع الذي قال عنه الحق في الإنجيل: “لا يخطفها أحد من يدي” (يو 28:10).

علاوة على هذا، فإنهم لا يرون لوسيفر يقوم، هذا الذي قال عنه إشعياء: “لوسيفر الذي أشرق في الصباح”، ثم يكمل: “قُطع إلى الأرض” (إش 12:14)، مشيرًا إلى أنه لا يعود يستعيد كرامته السابقة. بسقوطه من السماء على الأرض أراد دمار الإنسان، لكن الله يُعطي من لا يُخدع سلطانًا أن يدوس على الخائن بقدميه، ويحطمه إلى أجزاء.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

هَلْ يَقْطَعُ مَعَكَ عَهْدًا،

فَتَتَّخِذَهُ عَبْدًا مُؤَبَّدًا؟ [4]

يشير إلى الحيوان المذكور، أنه حتى وإن سقط في الفخ لن يدخل مع الإنسان في ميثاقٍ، ولن يقبل أن يخدمه كعبدٍ؛ إنه لا يُروض.

كثيرًا ما نظن أننا أقوياء، لن تضرنا الخطية، ولا يقدر العدو أن يخدعنا، فنتهاون مع الخطية ونفتح الباب لعدو الخير، ظانين أن مُستعبد ويمكن أن يخدمنا.

لقد فتحت حواء الباب للوياثان، ودخلت في حوارٍ مع الحية، وأرادت أن تقيم عهدًا ومعها زوجها ونسلها مع إبليس وجنوده. ظنت أنه سيخدمها العدو، إذ يكشف لها الطريق للتمتع بالألوهة والمعرفة، فإذا بها تسقط في مذلة العبودية له. الحوار مع عدو الخير والدخول معه في عهود لن يجدي، بل ينحدر لنا إلى الهلاك الأبدي.

لقد قدم إبليس عروضًا كثيرة للسيد المسيح أثناء التجربة على الجبل، وإذا رفض كل عروضه، “تركه إبليس، وإذا ملائكة قد جاءت فصارت تخدمه” (مت 4: 11).

*    لست وحدك صانع الشر، بل يوجد من يدفعك إليه بعنف. إنه الشيطان الذي يقترح عليك الشر دون أن تكون له سيادة إلزامية على من يقبله. لذلك يقول المبشر: “إن صعدَت عليك روح المتسلط فلا تترك مكانك”(1406).

أغلق بابك واطرده بعيدًا عنك فلا يصنع بك سوءًا، أما أن قبلت فكر الشهوة بغير مبالاة فستتغلغل جذوره فيك، ويُفتن ذهنك بحيله، ويهوي بك في هاوية الشرور.

قد تقول: أنا مؤمن، لا تقدر الشهوة أن تصعد إليّ حتى وإن فكرت فيها كثيرًا!

أما تعلم أن جذع الشجرة بالمقاومة المستمرة يستطيع أن يحطم حتى الصخرة؟! فلا تسمح للبذرة أن توجد فيك حتى لا تمزق إيمانك وتحطمه. اقتلع الشر بجذره قبل ما يزهر، لئلا بإهمالك في البداية تحتاج بعد ذلك إلى فؤوس ونار.

عالج عينيك في الوقت المناسب عندما يلتهبان، لئلا تصير أعمى وتحتاج إلى طبيب!(1407)

القديس كيرلس الأورشليمي

أَتَلْعَبُ مَعَهُ كَالْعُصْفُورِ،

أَوْ تَرْبِطُهُ لأَجْلِ فَتَيَاتِكَ؟ [5]

الطير الذي يُروض يمكن اللعب به لأجل التسلية والترفيه، لكن الأمر ليس هكذا بالنسبة للوياثان. لأجل التسلية تُصطاد الطيور وتوضع في أقفاص لتقف حولها الفتيات الصغيرات يتمتعن برؤيتها. في بعض البلاد غير المتقدمة يقوم الآباء بربط الطيور بخيط لكي ما يلهو به أطفالهم كنوعٍ من التسلية.

يظن عدو الخير في نفسه أنه رئيس هذا العالم، ليس لأحدٍ سلطان عليه، ولم يدرك أن الكلمة المتجسد، إذ يقدم نفسه ذبيحة عن العالم كله، فقد ملكوته، وصار كأسير لا حول له ولا قوة يسحبه الأطفال الصغار بشجاعة ليطأوه بأقدامهم.

يقيم الله من المؤمنين جيش الخلاص الروحي، الذي لا عدو له سوى إبليس وملائكته. يدرب مؤمنيه على القتال الروحي، ويهب حتى الأطفال الصغار إمكانية النصرة، فيُقال عن الكنيسة التي كانت كعظام جافة مُلقاة في وسط بقعة: “فدخل فيهم الروح، فحيوا، وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جدًا جدًا” (زمنية 37: 10)؛ كما يُقال عنها: “كأورشليم مرهبة، كجيشٍ بألوية” (نش 6: 4).

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الشيطان في خداعه يستخدم كل وسيلة لخداع الإنسان، فيظهر بكونه الذي يأكل عشبًا مثل الثور، وكأنه حيوان ذو أربع أرجل، مرة أخرى يظهر بكونه لوياثان في المياه يُصطاد بصنارة، وأخيرًا يظهر كطائرٍ في الجو. إنه يتعقب الإنسان أينما وُجد سواء على الأرض، أو في البحر، أو طائرًا في الجو. إنه في غباوة الحيوانات بالرغم من حيله الخطيرة القاتلة والجذابة، لكن في غباوة فقد مجده وأبديته، وهو خبيث كالتنين في البحر لا يكف عن أن يؤذي بكل وسيلة، وهو متكبر يرتفع قلبه ويتشامخ كمن يطير في الأعالي.

*     بالتأكيد لعب به الرب كطائر إذ أظهر له الطُعم بآلام ابن الله الوحيد، لكن اصطاده في الشبكة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     نجد في أيوب هذا المخلوق يلهو به الملائكة السمائيون، وقد أعطى الرب تلاميذه سلطانًا أن يدوسوا على الحيات والعقارب وكل قوة العدو(1408).

ثيؤدورت أسقف قورش

*     إننا نتطلع في دهشةٍ أمام محبته التي بلا حدود ولا يُنطق بها، وطول أناته اللانهائية، وغفرانه في كل لحظة لخطايانا التي نعترف له بها بلا حساب، ودعوته لنا بالرغم من عدم استحقاقنا السالف بل بنعمته ورحمته. كذلك فرص الخلاص التي يقدمها لنا بغير حدود، واهبًا لنا التبني، متعهدًا إيانا منذ الطفولة بالنعمة ومعرفة نواميسه. ووهب لنا أن نغلب به العدو (الشيطان) خلال إرادته الصالحة فينا، مقدمًا لنا السعادة الأبدية والأكاليل الدائمة. كذلك تعهده بتدبير التجسد من أجل خلاصنا واتساع عجائب أسراره التي يقدمها للأمم جميعًا(1409).

الأب موسى

*     في المعارك العادية لا يقوم القادة بتسليح النساء أو الأطفال أو الشيوخ، أما قائدنا الرب المسيح، فيوزع هذا السلاح الملوكي (الذي هو اقتناء المسيح نفسه) على الكل بالتساوي. عندئذ يعلمهم حيل إبليس العسكرية(1410).

الأب ثيؤدورت

*     اتبع العريس السماوي، لتصمد أمام الأعداء غير المنظورين.

لتثر حربًا ضد الرئاسات والسلاطين (أف 6: 12)، فتسحبهم أولًا عن نفسك، فلا يكون لهم نصيب فيك، وبعد ذلك تطردهم عن أولئك الذين يطيرون إليك طالبين الحماية بمشورتك.

اطرحهم تحت قدميك كقائدٍ لهم ومدافعٍ عنهم.

هل تجحد تلك المجادلات التي ضد الإيمان بالمسيح.

حارب بكلمة التقوى ضد المشورة الشرِّيرة الرديئة. وكما يقول الرسول: “هادمين ظنونًا وكل علوٍ يرتفع ضدّ معرفة الله” (2 كو 10: 5). ضع ثقتك فوق الكل، في ذراع الملك العظيم، الذي بمجرَّد رؤيته يخاف أعداؤه ويرتعدون(1411).

القديس باسيليوس الكبير

هَلْ تَحْفُرُ جَمَاعَةُ الصَّيَّادِينَ لأَجْلِهِ حُفْرَةً،

أَوْ يَقْسِمُونَهُ بَيْنَ الْكَنْعَانِيِّينَ؟ [6]

إذ كان لوياثان مصدر رعب، ويمثل خطرًا عظيمًا، لم يهتم الصيادون باقتناصه بأية وسيلة، إذ متاعب صيده لا توازي مكاسبهم إن قسموه بين التجار.

يقصد بالجماعة هنا جماعة الصيادين الذين يشتركون معًا لاقتناصه في شبكة أو فخٍ معين.

“يَقْسِمُونَهُ بَيْنَ الْكَنْعَانِيِّينَ؟”  جاء في الترجمة السبعينية: “هل تتغذى الأمم عليه؟” وجاء في الفولجاتا: “هل يَّقطعه الأصدقاء؟”

عُرف الكنعانيون كتجارٍ، فهل يقومون بتقسيمه أجزاء، ليبيعوه؟

أَتَمْلأُ جِلْدَهُ حِرَابًا،

وَرَأْسَهُ بِإِلاَلِ السَّمَكِ؟ [7]

يُصطاد السمك الكبير عادة بالحراب، لكن يصعب صيد التمساح بالحراب، لأنه لا يمكن جرحه بالحربة إلا إذا أصابته في بطنه التي يصعب بلوغها. فظهره مغطى بحراشيف قوية للغاية لا يمكن للحربة أن تخترقها.

هنا يلمح إلى آلة تمثل حربة على شكل سمكة لها لسانان، كثيرًا ما توجد منقوشة على الآثار المصرية. هذه الحربة كانت عبارة عن عصا رفيعة طولها ما بين عشرة وأثنى عشرة قدمًا، بها ريش مزدوج في النهاية مثل السهم الحديث. ولها طرفان حادان طولهما حوالي قدمين يطوقهما سمكة. يدفع صياد السمك بها في نهر النيل وهو في قارب مسطح بين قصب البردي ونبات اللوتس عندما يرى فريسته التي بها زعانف ويسحب الآلة بيده اليمنى ويحركها على شكل قوس بيده اليسرى(1412).

ضَعْ يَدَكَ عَلَيْهِ.

لاَ تَعُدْ تَذْكُرُ الْقِتَالَ! [8]

يلزم الطوباوي أيوب مهما كان بره أن يتذكر المعركة التي دارت بينه (في شخص أبويه آدم وحواء ونسلهما) وبين الشيطان، فبسبب مرارتها لا يحاول الإنسان أن يدخل مرة أخرى في معركة مع هذا التمساح. يقول له: ألمسه إن كنت تجرؤ على ذلك. جيد لكن تتذكر المعركة السابقة قبل أن تبدأ في المحاولة للقيام بمعركة جديدة، وإلا كانت النتائج وخيمة.

*     تنبأ أيوب القديس عن مجيء الرب، الذي قال عنه بالحق أنه يهزم لوياثان العظيم (أي 41: 8)، وقد حدث! فقد ضرب لوياثان المرعب، الشيطان، وطرحه إلى أسفل، وأذله في آخر الأزمنة بآلام جسده المكرٌمة(1413).

 القديس أمبروسيوس

يحذر الله الطوباوي أيوب من الدخول في معركة بقوته الذاتية ضد إبليس، ظانًا أنه قادر أن يضع يده عليه، أي يتسلط عليه ويغلبه.

*     ماذا لو أن الله القدير خفف الاثقال التي نحملها، لكنه يسحب عنا عونه، ويتركنا وسط تجارب لوياثان هذا؟ إلى أين نذهب عندما يثور عدو قوى ضدنا، إن لم نحتم بأية حماية لخالقنا؟

إن رأيت سيف المقاوم يهاجمك لا ترتعب من ضربات أب لك. فإنك ترى أن الضربات التي أضربك بها، لكنك لا تدرك خطورة العدو الذي أحررك منه بواسطة ضرباتي لك… إذن لتحتفظ أكثر فأكثر بالصمت وأنت تحت تأديب أب، فترى بالأكثر أنك ضعيف بالنسبة لهجمات العدو. عندما تُضرب بإصلاحي لك، لكي ما تقتني الصبر وأنت تحتمله، تذكر عدوك ولا تحسب ما تعانيه بالأمر الشاق، فبالآلام الخارجية تتحرر أنت من الآلام الداخلية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

هُوَذَا الرَّجَاءُ بِهِ كَاذِبٌ.

أَلاَ يُكَبُّ أَيْضًا بِرُؤْيَتِهِ [9].

ليس من رجاء للغلبة عليه، إذ هو رجاء باطل. فما أن يتطلع الإنسان إلى هذا العدو حتى يسقط. مجرد التطلع إليه ينزع عن الإنسان رجاءه وشجاعته. هذا ما يحدث عند التطلع إلى التمساح.

*     لا تتحقق النصرة بكمية المال ولا بالاعتزاز بالقوة، ولا بعلو المجد، إنما يهب الرب عونه مجانًا للذين يطلبونه بالأحزان المكثفة. هكذا كان بولس الذي حمل أحزانه، موضوع فخره. لهذا صار قادرًا أن يقول: “حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي“…

أترون إلى أين تقودكم الأحزان؟ إلى الرجاء الذي لا يخيب (رو 5: 3)(1414).

 القديس باسيليوس الكبير

*     لا ندع اليأس يتملكنا، إذ لنا حوافز كثيرة في رجاء صالح، حتى وإن أخطأنا كل يوم، فلنتقرب إليه، متوسلين ومتضرعين، طالبين المغفرة من خطايانا، لأنه هكذا نبتعد عن الخطية أكثر، كلما حان الوقت العتيد الآتي، وهكذا نطرد الشيطان، ونستدعي محبة ورأفات الله، وننال بركات الدهر الآتي بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للإنسان(1415).

القديس يوحنا الذهبي الفم

لَيْسَ مِنْ شُجَاعٍ يُوقِظُهُ،

فَمَنْ يَقِفُ إِذًا بِوَجْهِي؟ [10]

ليس من إنسان حكيم يثير التمساح، وإن يدخل معه في معركة، فكيف يقف أمام الله نفسه كخصمٍ ويقاوم خطته وأحكامه وحكمته. إن كان هذا هو الموقف مع مخلوق أوجده الله ليكون تحت قدمي الإنسان الذي وهبه الله سلطانًا على الخليقة، فكيف يأخذ الإنسان موقف التمرد على خالقة؟ من يقدر أن يقف أمام الله في غضبه؟

*     يقصد بالقوي الشيطان، وما هو بيته إلا مملكته على الأرض، وأما أمتعته فهي أولئك الناس الذين يتشبهون بإبليس أبيهم في شئونهم وأعمالهم. وكما أننا ندعو القديسين أوانٍ مقدسة وأمتعة مكرسة، كذلك يمكن تسمية الأشرار أمتعة إبليس وآنيته، لأنهم يشتركون معه في الخبث والشر. دخل المسيح الكلمة وحده بيت إبليس، هذا العالم الأرضي، وربط الشيطان، في سلاسل الظلام وطرحه (2 بط 2: 4). خلص لاوي فلم يعد بعد أسيرًا في مملكة الشيطان، وأصبح بتوبته جديرًا بالبركات الإلهية، فنتعلم أن التوبة هي السبيل السوي للخلاص والفداء، فقد قيل: التفتوا إليّ وأخلصوا يا جميع أقاصي الأرض” (إش 45: 22)(1416).

*     حسبك ما أشار به حبقوق وهو يندد بأعداء الرسل: ويل للمُكثر ما ليس له، وللمثقِل نفسه رهونًا، ألا يقوم بغتة مقارضوك، ويستيقظ مزعزعوك، فتكون غنيمة لهم (حب 2: 6). فقد جمع الشيطان في حظيرته كل سكان الأرض وهم ليسوا له، وجعلهم يسجدون له، ويعبدونه، فتثقَّل وتعظَّم، ولكن استيقظ البعض ليسلبوه غنائمه، فقد ألقى الرسل بشبكة تعليمهم على المأسورين والخطاة، فرجعوا بها إلى الله مملوءة بأهل العالم قاطبة(1417).

القديس كيرلس الكبير

*     يقضي لمساكين الشعب، يخلص بني البائسين، ويسحق المفتري” (مز 72: 4). بحق يُدعى الشيطان “المفتري“، فقد افترى على كل من الله، فبسبب الحسد ادعى أن الله، منع الأكل من شجرة (معرفة الخير والشر) ، وافترى على أيوب بأكاذيب، قائلًا “هل حقًا مجانًا يتقى أيوب الله…؟ أبسط يدك الآن، ومس كل ما له، فإنه في وجهك يجدف” (أي 1: 9، 11). في المزمور الثامن أعطاه اسمي عدو ومنتقم، بينما يدعوه هنا (مز 72: 4) مفتريًا(1418).

ثيؤدورت أسقف قورش

2. وصف لوياثان

مَنْ تَقَدَّمَنِي فَأُوفِيَهُ؟

مَا تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ هُوَ لِي [11].

يرى البعض أن العبارة هنا تعني: “من يصنع إحسانًا فأرده له؟

يرى آخرون أنه يقصد من يستطيع أن يتنبأ مقدمًا عما سيحدث. فإن كان الإنسان لا يقدر أن يتنبأ مقدمًا بما سيحدث وهو يصطاد وحشًا كاسرًا، فكيف يظن أنه قادر أن يخضع الخالق نفسه، أو يرد له إحساناته؟ من يظن أن قادر أن يهبني شيئًا، وأنا مالك كل شيء؟ يليق بالإنسان أن يخضع للخالق، ويقبل كل شيء بشكرٍ.

لاَ أَسْكُتُ عَنْ أَعْضَائِهِ،

وَخَبَرِ قُوَّتِهِ وَبَهْجَةِ عُدَّتِهِ [12].

هنا يبدأ في تقديم وصف تفصيلي عن لوياثان الذي سبق فتحدث عنه في هذا الأصحاح بصفة عامة. يقول: إنني لا أستطيع أن أصمت عن الحديث عن فمه وأسنانه وحراشيفه وجفون عينيه وفتحات أنفه، ورقبته، وقلبه.

لم يُصف الحيوان المشار إليه هنا لإبراز جماله، وإنما كمن له قوة عظيمة وشرس للغاية: “خبر قوته، وبهجة (نعمة) عدته“، أو جمال أسلحته. موضوع حديثه ليس جمال الحيوان، وإنما أسلحة دفاعه.

مَنْ يَكْشِفُ وَجْهَ لِبْسِهِ،

مَنْ يَدْنُو مِنْ مَثْنَى لَجَمَتِهِ؟ [13]

ليس من يقدر أن يكشف وجه لباسه أو غطاءه، إي ينزع ثوبه القاسي المخادع، لكي يرى جلده الداخلي، ولا من يجسر أن يضع لجامًا لفكيه كما يحدث مع الحيوانات الأخرى عند تلجيمها. ليس ممكنًا أن يجسر ويأتي بلجامٍ مضاعف لضبط صفيّ أسنانه.

*     لوياثان هذا يجرب أذهان المتدينين بطريقة ما، وأذهان الذين تكرسوا لهذا العالم بطريقة أخرى. فهو يقدم علانية للأشرار الشرور التي يشتهونها، ولكنه يلقى خفية الشباك للصالحين ، ويخدعهم تحت مظهر القداسة… لهذا فإن الرسول بولس، إذ رأى البعض يكرسون أنفسهم لخدمة بطونهم تحت ثوب الكرازة، يقول: “لأن الشيطان نفسه يغير شكله إلى شبه ملاك نور، فليس عظيمًا إن كان خدامه أيضًا يغيرون شكلهم كخدامٍ للبّر” (2كو 11: 14). خشي يشوع هذا التغيير عند رؤيته ملاكًا فسأله من أي جانب هو، قائلًا: “هل لنا أنت أو لأعدائنا؟” (يش 5: 13).

البابا غريغوريوس (الكبير)

مَنْ يَفْتَحُ مِصْرَاعَيْ فَمِهِ؟

دَائِرَةُ أَسْنَانِهِ مُرْعِبَةٌ [14].

يدعو فمه “مصراعي فمه“، فإنه كبابٍ له مصراعان.

ينطبق هذا بالأكثر عن التمساح، فيقول Bochait أن أسنان التمساح تبلغ الثلاثين، وهو عدد كبير وأحجامها كبيرة أن قورنت بحجم جسمه، بعضها يبرز من الخارج، والبعض مسنن كالمنشار، متى امسك بالفريسة لا تقدر أن تنجو منه.

جاءت الترجمة السبعينية: “من يفتح مصراعي وجهه؟

*     “مصراعًا وجهه” هم المعلمون الأشرار الذين يدعون أبواب وجهه، إذ يدخل كل واحدٍ خلالهم حتى يُرى لوياثان هذا كما لو كان قوته الملوكية… فإذ تُقبل كرازتهم الباطلة، ينفتح باب الهلاك للسامعين البائسين.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فَخْرُهُ مَجَانُّ مَانِعَةٌ مُحَكَّمَةٌ مَضْغُوطَةٌ بِخَاتِمٍ [15].

صفوف حراشيفه مثل دروع تغطيه، يضم جسمه 17 صفًا، ليس من إمكانية لاختراق جسمه إلا عن طريق عينيه أو حنجرته (حين يفتح فمه)، أو بطنه.

يرى Umbreit وProf. Lee إن كلمة “فَخْرُهُ” هنا في الأصل العبري geewoh وهي مثل gewah أو gevah التي تعني ظهرًا back حيث يتغطى ظهر التمساح بالحراشيف.

إذ يغلق التمساح فمه يصير كما لو كان مختومًا بالشمع، فلا يتسرب هواء من بين فكيه ومن بين أسنانه.

*     الشيطان قاسٍ وعديم الشفقة، وفي أعماقه لا يهدأ أبدًا، لأن الكتاب المقدس يقول عنه: ” قلبه قاسٍ كالحجر، وهو يقف مثل سندان الحداد الصلب” (أي 41: 15 LXX). (انظر المزيد عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في أقسام المقالات و التفاسير الأخرى). لكن القديسين وطأوه تحت أقدامهم بقوة المسيح، لأنه قال: “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب. وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء” (لو 10: 19). لذلك يقول المسيح “الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك”(1419).

القديس كيرلس الكبير

الْوَاحِدُ يَمَسُّ الآخَرَ،

فَالرِّيحُ لاَ تَدْخُلُ بَيْنَهَا [16].

كُلٌّ مِنْهَا مُلْتَصِقٌ بِصَاحِبِهِ،

مُتَجَمِّدَةً لاَ تَنْفَصِلُ [17].

*     حراشف الخطاة صلبه ومترابطة معًا، حتى تبدو أنه لا تقدر أية نسمة حياة أن تخترق فم الكارزين. فإن الذين يمارسون ذنوبًا مشابهة يجتمعون معًا، في دفاع شرير، يصيرون معًا في اتفاقٍ عنيدٍ، حتى يحمي الواحد الآخر بدفاعٍ مشتركٍ عن خطاياهم. إذ يخاف كل واحدٍ على نفسه عندما يرى غيره يُنتهر أوّ بُقوَّم… وإذ يحمون بعضهم البعض في شركة في شرورهم بدافعهم الشرير لا يسمحون لنسمة النصح المقدس أن تبلغ إليهم بأية وسيلة… الاتحاد يقوي الانحراف، ويجعلهم بالأكثر غير قابلين للتقويم، وبالتالي يصيرون متفقين معًا بالإجماع.

البابا غريغوريوس (الكبير)

عِطَاسُهُ يَبْعَثُ نُورًا،

وَعَيْنَاهُ كَهُدْبِ الصُّبْحِ [18].

الحيوانات البرمائية تغطس في المياه تكتم أنفاسها لمدة طويلة وفجأة تتنفس بقوة فتكون كما لو كانت تعطس، بينما توجه أعينها نحو الشمس فتبدو كما لو كانت تشع نارًا، أو تطرد النفس فيبدو كما لو كان أشعة شمس.

هدب (جفون) الصباح“: يبرز المصريون عيني التمساح إلى قدام وكأنها تشير إلى الصباح المبكر. عندما يصعد التمساح إلى السطح أول ما يبرز منه هو عيناه قبل كل جسمه فيكون كظهور الصباح.

يرى البعض أنه إذ يبقى التمساح مدة طويلة تحت الماء يصعد إلى السطح ليطرد باندفاع قوي الماء من فتحتي انفه، فتظهر كأنها قوس قزح.

حين يكون التمساح في الماء تظهر عيناه باهتتين أو كليلتين أما عند صعود نحو السطح فتظهران متألقتين جدًا.

*     قال أنطونيوس: تظهر الشياطين غالبًا على هذا النحو، كما كشف الرب لأيوب بقوله: عيناه كهدب الصباح، ومن فمه تخرج مصابيح مشتعلة، وشرار نارٍ يتطاير منه. من منخريه يخرج دخانًا من قدرٍ منفوخٍ أو من مرجلٍ. نَفَسَه يشعل الجمر، واللهيب يخرج من فمه” (أي 41: 18-21). هكذا يظهر رئيس الشياطين، كما قلت سابقًا، مرعبًا، ومتكلمًا بافتخارٍ وعجرفةٍ، كما أدانه الرب حين قال لأيوب: “يحسب الحديد كالتبن، والنحاس كالعود النخر” (أي 41: 27). “يحسب البحر كأنه حمام ماءٍ، وقعر الهاوية كأنه أسير له، واللجة كأنها ممر له (أي 41: 24-25). وكما قال على لسان نبي: “وقال العدو: أتبعهم فألحقهم” (خر 15: 9). وقال على لسان نبي آخر: “سأقبض بيدي على المسكونة كلها، مثلما أقبض على العش، وسأرفعها كما يرفع المرء البيض المهجور” (إش 10: 14). هذه الأمور تفتخر بها الشياطين، ويعدون بها الذين يتقون الله ليخدعوهم. لذا لاق بنا نحن المؤمنون ألا نخاف من ظهورات (إبليس) ولا نأبه بكلماته، لأنه كذاب ولا يتكلم بالصدق أبدًا(1420).

القديس أثناسيوس الرسولي

مِنْ فَمِهِ تَخْرُجُ مَصَابِيحُ.

شَرَارُ نَارٍ تَتَطَايَرُ مِنْهُ [19].

يوصف الحيوان هنا كمن يتقيأ نارًا، فإنه إذ يفتح فاه وتظهر أنيابه، يبث نارًا على من هم حوله. أو كمن يتنفس فيُخرج نسمات عنيفة نارية تقتل الفريسة وتحرقها.

*     تصدر المصابيح عن فمه، إذ يشعل (المعلمون الأشرار) عقول سامعيهم بمحبة الآراء الخاطئة، وبينما يبدو كأنهم مشرقون بالحكمة إذا بهم يحرقون بالشر.

البابا غريغوريوس (الكبير)

مِنْ مِنْخَرَيْهِ يَخْرُجُ دُخَانٌ،

كَأَنَّهُ مِنْ قِدْرٍ مَنْفُوخ،ٍ أَوْ مِنْ مِرْجَلٍ [20].

ينطبق هذا التشبيه على الفرس المستخدم في المعارك، أنها تُخرج من أنوفها دخان نار حارق.

*     نسمة لوياثان المكثفة تخرج من فتحتي أنفه، لأن شر كبريائه يصدر بقوة من نفخات خبثه الواضحة… يُقال عن الدخان أنه يخرج من فتحتي الأنف، وذلك بخداع معجزاته، الذي يولد شكًا إلى لحظة، حتى في قلوب المختارين. يخرج الدخان من فم لوياثان من أجل العجائب الكاذبة حتى يوجد ضباب منذر يفسد أعين حتى أصحاب العقول الصالحة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

نَفَسُهُ يُشْعِلُ جَمْرًا،

وَلَهِيبٌ يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ [21].

استخدم ذات الوصف الشعري عند الحديث عن غضب الله (مز 18: 8).

*     ما هو هذا الذي يدعوه جمرًا إلا أذهان الناس الفاسدين، الملتهبة بالشهوات الأرضية؟ إنهم يكونون على نارٍ عندما يطلبون أي أمرٍ زمنيٍ، بالتأكيد لأن اشتياقاتهم التي لا تسمح لأذهانهم أن تكون في هدوء واتزان تلهبهم. نسمة لوياثان تلهب الجمر عندما تقوي اقتراحاته السرية عقول البشر نحو الملذات الشريرة.

إن نسمته أشعلت البعض بمشاعل الكبرياء، وآخرين بالحسد، وآخرين بالشهوة، وآخرين بالطمع. ألهب مشعل الكبرياء في ذهن حواء، عندما اقترح عليها أن تستخف بكلمات وصية الرب. وأشعل ذهن قايين بلهيب الحسد عندما حزن لقبول ذبيحة أخيه، حتى بلغ إلى ارتكاب خطية قتل الأخ. أشعل قلب سليمان بمشاعل الشهوة، هذا الذي غلبه بمحبة النساء، وقادته إلى عبادة الأصنام، ونسي تقديم الكرامة اللائقة بخالقه عندما اجتذبته ملذات الجسد. أيضُا ألهب ذهن أخآب بحب الطمع عندما حثه- في تعجلٍ- أن يطلب كرم الغير، ودفعه هذا إلى جريمة القتل.

لهيب الفم بالحق هو بعينه تقديم اقتراح سري.

البابا غريغوريوس (الكبير)

فِي عُنُقِهِ تَبِيتُ الْقُوَّةُ،

وَأَمَامَهُ يَدُوسُ الْهَوْلُ [22].

“فِي عُنُقِهِ تَبِيتُ الْقُوَّةُ”، أي أن القوة تقيم على الدوام هناك. بينما تستقر القوة حول عنقه، إذ ينفث رعبًا يتهلل الرعب ويرقص طربًا قدامه، ينشر الرعدة على من هم حوله.

*     نفهم من هذه الكلمات أنه يوجد ملك واحد، وهو خالق الكون كله. بينما على الجانب الآخر يوجد رئيس هذا العالم الذي يسمى نفسه ملك الظلمة. تخدم ربوات من الملائكة الملك الحقيقي، بينما يلتف حول رئيس قوى الظلمة ربوات من الشياطين (كو 13:1). تتبع الرئاسات والسلاطين والفضيلة ملك الملوك ورب الأرباب. وفي الآخرة حين يُسلم المسيح المُلك لله الآب بعد أن يكون قد أباد كل رئاسة وكل سلطان وكل قوة للعدو، فإنه لا بُد أن يملك إلى أن يضع جميع الأعداء تحت موطئ قدميه (1 كو 24:15، 25)(1421).

القديس غريغوريوس النيسي

*     ماذا تعنى الرقبة التي للوياثان هذا سوى بسط كبريائه، حيث يتشامخ على الله، مع التظاهر بالقداسة، كما ينتفخ بكبرياء السلطة؟ يشهد النبي إشعياء عن هذا الكبرياء المُعبر عنه بالرقبة هذا الذي وبخ بنات أورشليم قائلًا: “يمشين ممدودات الأعناق” (إش 3: 16). يقال إن القوة تبقى (تبيت) في الرقبة التي للوياثان هذا، وبسبب السلطان الذي أضيف إلى كبريائه. فإنه يواصل كبريائه المتشامخ وكل خططه الخبيثة بقوة سلطانه الزمني.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     بمثل هذه الكلمات (يو 31:12؛ 30:14؛ 11:16) يشير إلى الشيطان كرئيس ليس على خلائق الله، بل على الخطاة، هؤلاء الذين يشير إليهم هنا باسم “هذا العالم“. عندما يستخدم اسم “العالم” بمعنى الشرير. يشير السيد فقط إلى محبي هذا العالم، الذين كُتب عنهم في موضع آخر: “محبة العالم عداوة لله” (يع 4: 4). حاشا لنا أن نفهم الشيطان أنه رئيس العالم كمن يسيطر على تدبير أمور كل العالم، السماء الأرض وما فيهما. مثل هذا العالم قيل عنه عندما تحدثنا عن المسيح الكلمة: “كوِّن العالم به” (يو 1: 10). العالم كله من أعلي السماوات إلى أسافل الأرض يخضع للخالق ليس للهارب؛ للمخلص لا للمخرب؛ للمنقذ لا للمستعبِد؛ للمعلم لا للمخادع(1422).

*     أما رئيس هذا العالم (الشيطان)، المسيطر حيثما وجد الضلال والاضطراب، فيبتعد عن إنسان تسود حياته السلام والترتيب الكامل ويسيطر عليها ابن الله. فعندما ينشأ هذا السلام من الداخل ويثبت، فإن جميع الاضطهادات التي يثيرها رئيس هذا العالم من الخارج، لا تستطيع أن تهز شيئًا من ذلك البناء الداخلي، بل تؤدي قوة البناء من الداخل إلى فشل مكائد إبليس من الخارج. لذا أكمل الرب قائلًا: “طوبى للمطرودين من أجل البرّ. لأن لهم ملكوت السماوات”(1423).

*     لأنهُ إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر. لا تقدرون أن تخدموا الله والمال(1424). فمن يعبد المال يخدم الشيطان الذي لقبه ربنا (رئيس هذا العالم) وذلك لسيطرته بضلاله على الأشياء الأرضية” فالإنسان إما أن “يبغض” هذا الواحد “ويحب الآخر” أي الله. أو يلازم الواحد “الشيطان” ويحتقر الآخر “الله”. لأن من يخدم المال يخضع للشيطان القاسي المهلك. فإذ يرتبك بشهوته للمال يخضع للشيطان ويلازمه رغم عدم محبته له، لأنه من منا يحب الشيطان؟! ويكون بذلك يشبه إنسانًا أحب خادمة لدى شخص عظيم، فبالرغم من عدم محبته لسيدها إلا أنه يخضع لعبوديته القاسية بسبب محبته للخادمة(1425).

القديس أغسطينوس

مَطَاوِي لَحْمِهِ مُتَلاَصِقَةٌ،

مَسْبُوكَةٌ عَلَيْهِ لاَ تَتَحَرَّكُ [23].

عادة طبقات اللحم التي عند العنق وعند البطن رخوة وضعيفة، أما هذا الحيوان فإن طبقات اللحم عند رقبته متلاصقة، مسبوكة كما من الحديد، قوية.

يا لها من صورة بشعة، فكما ينمو جسد المسيح ليضم كل يوم نفوس تتمتع ببّر المسيح وقداسته وتصير شريكه معه في المجد، هكذا ينمو أيضًا جسم إبليس ليضم من هم أكثر شرًا من السابقين، ويتلاحم الكل معًا كمطاوي لحم إبليس المتلاصقة معا، وكأنها صارت كتلة واحدة كالحديد مسبوكة معًا لا تتحرك نحو التوبة والرجوع إلى الله. اتحاد الأشرار معًا مفسد للنفوس، يغلق الباب أمام الكثيرين للتفكير في جدية نحو التمتع بالحق الإلهي.

إن كان السيد المسيح قد ضمنا إليه لنكون أعضاء جسده الواحد، وذلك بتمتعنا بالإيمان به، وولادتنا بالروح أبناء لله في مياه المعمودية. رسالتنا أن نضم بالحب كل يوم الذين يخلصون ويتمتعون معنا بالشركة معه في الحياة الجديدة المقامة التي وهبنا إياها. هكذا فإن مطاوي جسم الشيطان هم الذين قبلوا البنوة له، واتحدوا معه خلال أعماله، وهم لا يكفون عن سحب الكثيرين معهم ليكونوا أعضاء في جسم إبليس يشاركونه مصيره الأخير أكثر منهم فالشرير يُسر حين يضم معه من يصير أشر منه.

*     جسم لوياثان (الأشرار فعلًا) كله فاسد، إذ ليس لديهم اشتياق نحو مدينتهم الروحية. مطاوي جسم لوياثان هم الذين ينضمون إلى هؤلاء الأشخاص في حياة شريرة، بل ويسبقون الأولين في طريق الشر… في جماعة لوياثان هذا الشريرة، هؤلاء هم أعضاء جسمه الذين بأفعالهم الشريرة يضمون إليه من هم يصيرونهم أكثر شرًا منهم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

قَلْبُهُ صُلْبٌ كَالْحَجَرِ،

وَقَاسٍ كَالرَّحَى [24].

يقول السيد المسيح: “إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادًا لإبراهيم” (مت 3: 9). ما هي هذه الحجارة التي تهب لإبراهيم أولادًا سوى عبدة الأصنام، الذين يعبدون الحجر، وأبناء إبليس الذين يحملون قلبه الصلد الحجري (أي 41: 24)، ليصيروا أولاد الله حاملين إيمان إبراهيم.

يرى البعض أن الحيوانات المفترسة الضخمة، مشاعرها ضعيفة، وقلبها قاسٍ إن صح التعبير، لا تبالي بصرخات الفريسة، والدماء المسفوكة منها وهي بين أنيابها.

يختار هنا حجر الرحى السفلي، لأنه يلزم أن يكون أقسى وأثقل من الحجر العلوي، حتى يحتمل حركة الحجر العلوي وضغطه عليه.

ربما يتساءل البعض: ألا تُعطى فرحته للشيطان أن يتوب؟ منذ سقوطه وهو ليس فقط في تصميم على مقاومة الله، وإنما يتزايد عنفًا في موقفه، بل ويثير البشرية للتشبه به، ومشاركته عنفه وقسوة قلبه، فمع الزمن يمتلئ بالأكثر كأس شره ولا يبالي بالعقاب الأبدي أنما يجد مسرته أن يشاركه بنو البشر هذا المصير.

*     قلب العدو القديم سييقى كالحجر، فإنه لن يلين بأية ندامة للتوبة. إنه سيتهيأ فقط لنفخات العقوبة الأبدية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     إنه عنيف، لا يعرف الشفقة ولا يمكن تهدئته في القلب. وكما يقول عنه الكتاب المقدس: “قلبه قاسي كحجر، يقف كالسنديان لا يُضرب” (24:41LXX ). لكن المسيح يضعه تحت أقدام القديسين. يقول: “ها أنا أعطيكم سلطانًا لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو، ولا يضركم شيء” (لو 19:10)(1426).

 القديس كيرلس الكبير

*     هكذا أيضًا يُغير الشيطان نفسه في شكل ملاك نور (كو 14:11)، لا لكي يصعد مرة أخرى إلى حيث كان، إذ قلبه صلب كالسنديان(1427)، فصارت إرادته عاجزة عن أن تتوب. إنما يفعل هذا بقصد إغراق السالكين في حياة ملائكية في ظلمات العمى والكفر المهلك.

ذئاب كثيرة تجول في ثياب حملان (مت 15:7)، نعم ثيابها ثياب حملان، وليس حوافرها أو أسنانها. وإذ هم يسيرون في الجلد الناعم يخدعون الأبرياء بمظهرهم، فيبثون فيهم من أنيابهم سم الدنس المهلك(1428).

القديس كيرلس الأورشليمي

*     إنني سأعلن في ثقة أنه يوجد من لا يتأثر كثيرًا بواسطة “مطرقة الأرض كلها“. وحيث أن المثال قد قدم عن مطرقة يمكن إدراكها، ابحث عن مادة أقوى من المطرقة لا تتأثر بضرباتها. بالبحث عنها وجدتها فيما كتب: “أنظر إنسانًا يقف فوق الحصون من الأدمنت (حجر صلب كان يُظن أنه لا يُقطع، وقد ظن البعض أنه الماس). يسجل التاريخ عن الأدمنت أنه أقوى من كل مطرقة تضربه، إذ لن ينكسر ولا يلين. حتى إن كانت المطرقة هي إبليس يقف عليها، والحية التي بسنديانها الذي لا يُقهر تضعه تحتها، لكن الأدمنت لا يتأثر قط متى استقر في يد الله وتحت رعايته. هكذا فإن المقاومين للأدمنت هما المطرقة والسنديان الذي لا يتحرك. غير أنه يوجد بالحقيقة مثل شائع جدًا عند الأمم في اللغة العامية بخصوص الذين يعانون من القلاقل والظروف الصعبة للغاية. يقولون: إنهم بين المطرقة والسنديان. إلا أنه يمكن القول أن هذا يشير إلى الشيطان والحية، اللذين دائمًا يُقصدان بمثل هذين الاسمين في الأسفار المقدسة لأغراض متباينة. ويمكنك القول أن الشخص المقدس الذي هو حصن أدمنتي أو أنه أدمنت في يد الرب لا يتأثر لا بالمطرقة ولا بالسنديان، بل كلما ضرب ازداد بهاء فضيلته المشرقة(1429).

*     يقول: هكذا أراني وإذا الرب واقف على حائط صلد (ماسي)، وفي يده كان صلدًا (عا 7: 7 LXX ). فإن كان الشيطان هو مطرقة صلدة من فوق والتنين مثل السندان الصلد (أي 41: 15) قائم من أسفل، يكون صلدًا من هو في يد الرب وتحت حمايته فلا يستسلم قط. فإن الإنسان القديس هو حائط صلد، وإذ يبقى في يدي الرب لا يعاني شيئًا حتى وإن وضع بين المطرقة (إبليس) والتنين (السندان). وكلما نزلت عليه الطرقات تصير فضيلته أكثر بهاءً. فالشيطان إذ يجهل هذا النوع من الصخور (الصلدة) يود أن يحللها بضربات كثيرة كمطرقة صلدة، لكن الله وحده يعرف طبيعتهم جيدًا(1430).

العلامة أوريجينوس

عِنْدَ نُهُوضِهِ تَفْزَعُ الأَقْوِيَاءُ.

مِنَ الْمَخَاوِفِ يَتِيهُونَ [25].

عند نهوضه للهجوم أو الدفاع عن نفسه يرتعب أمامه الأقوياء، فمن الخوف تنهار أفكارهم فيتيهون، أو يضلون الطريق. يحاولون الهروب منه فلا يعرفون إلى أين يذهبون.

سَيْفُ الَّذِي يَلْحَقُهُ لاَ يَقُومُ

وَلاَ رُمْحٌ وَلاَ حَرْبَةً وَلاَ دِرْعٌ [26].

لا يستطيع السيف أن يلحقه، حيث لا يقدر أن يحطم حراشيفه. وإذا صُوِّبت ضده الرماح ترتد دون أن تخترق حراشيفه.

*     حربة الكرازة المقدسة رقيقة، عندما نُضرب بها نموت عن الخطية. أما سيف الدعوة الشيطانية فخبيثة، بها يُصاب الإنسان بجراحات قاتلة حتى يحرم من استقامة الحياة…

البابا غريغوريوس (الكبير)

يَحْسِبُ الْحَدِيدَ كَالتِّبْنِ،

وَالنُّحَاسَ كَالْعُودِ النَّخِرِ [27].

يقصد بالحديد والنحاس الأسلحة المعدنية المستخدمة لمقاومته، إنها أشبه بالقش والخشب والسوس لا قوة لها.

ما يشغل فكر إبليس ليس مصيره المُر، وإنما كيف يجتذب نفوس البشر إلى الشر، خاصة نفوس المؤمنين، فإن رأى نفسًا قوية كالحديد وصلدة كالنحاس، يوجه سهام شره حتى يتحول الحديد إلى قشٍ (تبن)، والنحاس إلى عود خشب هزيل. يركز العدو ضرباته بالأكثر من الكارزين والشاهدين للحق الإنجيلي، والعاملين في كرم الرب.

*     عندما يمسك لوياثان هذا بذاك السيف الذي تدعوه الأسفار المقدسة “ضد المسيح”، لممارسة شره، يحول الحديد إلى قشٍ، والنحاس إلى خشبٍ، ما لم تتدخل النعمة الإلهية لتهب حماية منه، حتى لا يحول قوة الكارزين إلى قشٍ ويهلكهم بنار شره، ويجعلهم كالتراب بتحويل صبرهم إلى خشبٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لاَ يَسْتَفِزُّهُ نُبْلُ الْقَوْسِ.

حِجَارَةُ الْمِقْلاَعِ تَرْجِعُ عَنْهُ كَالْقَشِّ [28].

يمكننا تفسير هذه العبارة أنها تخص المؤمن، فإن كان عدو الخير يبذل كل الجهد لحث المؤمنين على الشر، معركته لا تتوقف قط ضد كنيسة المسيح، فإن المؤمن من جانبه لا يرهب هذه الحروب الشيطانية مادام مستترًا بالسيد المسيح، حاملًا سلاح الإيمان الحي. لا يرتعب من نبال قوس إبليس، ولا حجارة، فحجارة مقلاعه التي تصير أشبه بالقشٍ، لن تصيبه بأذيةٍ ما.

*     إن قلت إن القوة المضادة قوية جدًا، وإن للشر سيادة كاملة على الإنسان، فإنك بهذا تنسب لله الظلم حينما يدين البشر بسبب خضوعهم للشيطان، لأن الشيطان قوي جدًا ويُخضع البشرية بقوة لا تُقاوم. بهذا تجعل الشيطان أعظم وأقوى من النفس، ثم تقول لي لا تخضع للشيطان. هذا مثل معركة بين شاب وطفل صغير، فإذ ينهزم الطفل يُدان على هزيمته. هذا ظلم عظيم!(1431)

القديس مقاريوس الكبير

*     لا تخف إذن من الشيطان، حتى وهو بلا جسد، حين يقترب من الجسد. فإنه ليس من هو أضعف من ذاك الذي يقترب بهذه الكيفية مع أنه غير ملتحفٍ بجسدٍ، وليس أقوى من ذاك الشجاع الجريء حتى وإن حمل جسمًا قابلًا للموت!(1432)

القديس يوحنا الذهبي الفم

يَحْسِبُ الْمِطْرَقَةَ كَقَشٍّ،

وَيَضْحَكُ عَلَى اهْتِزَازِ الرُّمْحِ [29].

لا يمكن لأية أداة أو سلاح أن يجرح التمساح، ولا لقوةٍ بشريةٍ أن تلحق به.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) إن هذه العبارة تنطبق على إبليس الذي ينتهره الرب ويوبخه، وكأنه يُضرب بمطرقةٍ، لكن في إصرار على شره لا يبالي بضربات المطرقة بل يحسبها كالقش، بل يضحك في سخرية بهذه الضربات.

هذا ينطبق أيضًا على الأشرار المتمسكين بشرورهم في عنادٍ، فإن الله يسمح بتأديبهم لعلهم يرجعون إليه، لكن هذه الضربات بمطرقة التأديب تصير بالنسبة لهم كالقش، ولا يرجعون إلى الحق الإلهي. إنهم كسيدهم الشرير – إبليس – لا يبالون باهتزاز الرمح الإلهي لتأديبهم.

*     يهز الرب الرمح ضد لوياثان، إذ يهدده بحكمٍ قاسٍ لدماره. فإن اهتزاز الرمح هو إعداد الموت الأبدي له بعقوبةٍ صارمةٍ. لكن الروح المعاند، إذ يستخف بخالق الحياة، حتى وهو يُهدد بموته يضحك على ذاك الذي يهز الرمح. مهما كانت رؤيته المسبقة لمصيره المرعب القاسي يقترب إليه بحكمٍ حازم، فإنه لا يخشى حلوله عليه. وإنما كلما أدرك أنه عاجز عن الهروب من العذابات الأبدية أزداد في ممارسته الشر بأكثر عنفٍ.

البابا غريغوريوس (الكبير)

مرة أخرى إذ تنطبق هذه العبارة على المؤمن الحقيقي، فإن عدو الخير الذي يود أن يضعه على السندان ويضربه بالمطرقة، يشَّكله على حسب هواه، فإن الله لا يمنع المطرقة، ويسمح له بوضعه على السندان، لكن تتحول ضربات المطرقة إلى قشٍ لا قيمة له، ولا تأثير له على فكر المؤمن وحياته.

الله لا يمنع تجارب الشيطان وإغراءاته، لكنه يهب مؤمنيه قوة، فتتحول التجارب إلى هباء، وينال المؤمن نصرة وإكليلًا.

تَحْتَهُ قُطَعُ خَزَفٍ حَادَّةٌ.

يُمَدِّدُ نَوْرَجًا عَلَى الطِّينِ [30].

ربما يشير هنا إلى حراشيف حادة وقاسية مثل قطع الخزف الحادة. يوجد في بعض أجزاء جسم التمساح حراشيف حادة، حتى عندما يستريح على الوحل الموجود على الشاطئ النهر يكون كمن هو مستقر على أسنان نورج حادة. ولعله يقصد أنه إذ يستريح على قطع صخرية حادة أو حجارة مسكورة لا يشعر بتعبٍ أو أذية منها، إنما يكون كما لو كان مستريحًا على وحلِ. ويرى بعض الدارسين أنه إذ تصوب حوله الرماح وغيرها من الأسلحة تنكسر وتتبعثر حوله، وكأنها قطع خزفية حادة ملقاة حوله. ويرى آخرون أن هذا الحيوان أن استراح على وحلٍ، فإنه عندما يترك المكان يترك أثار الحراشيف وكأنها أسلحة تركت آثارها على الوحل.

يَجْعَلُ الْعُمْقَ يَغْلِي كَالْقِدْرِ،

وَيَجْعَلُ الْبَحْرَ كَقِدْرِ عِطَارَةٍ [31].

بحركته السريعة تحت الماء يجعل النهر أو البحر أشبه بقدرٍ يغلي. إنه يجعل البحر أشبه بوعاء به عطور؛ هنا إشارة إلى رائحة المسك Musk التي تخرج من التمساح كما كانوا يظنون. يرى البعض أنه إذ يتحرك بقوة في أعماق البحر يثير الوحل الذي به، وذلك كما يحرك الإنسان وعاء العطر لكي يحمل الطيب الرائحة من الرواسب التي بالوعاء.

كلمة “بحر” هنا تشير إلى نهر النيل وذلك لاتساعه، فإلي يومنا هذا يُدعى في كثير من بلاد الصعيد “البحر”. كما ينطبق أيضًا على نهر الفرات.

*     ماذا يعني بالبحر سوى حياة المحبين للعالم، وماذا يعني بالعمق سوى أفكارهم العميقة الخفية؟ فإن لوياثان هذا يجعل هذا البحر العميق يغلي مثل قدرٍ، فإنه واضح جدًا أنه في أيام الاضطهاد الأخيرة يعمل على إثارة أذهان الأشرار ضد المختارين بلهيب القسوة.

حين تغلي الأطياب تخرج منها رائحة ذكية. سيخدع لوياثان قلوب الأشرار فيظنون أن مهما فعلوا من شرور عدم الإيمان، يحسبون أنهم يفعلونها من اجل الحق والإيمان المستقيم.

البابا غريغوريوس (الكبير)

يا لخداع العدو الخبيث، إنه يثير الأشرار الذين يشبهون البحر ويسيطر على أفكارهم الدفينة ليحثهم على مقاومة أولاد الله بكل وسيلة، وإذ يقتلونهم يحسبون أنفسهم يقدمون خدمة لله، كقول السيد المسيح نفسه (يو 16: 2).

تغلي أعماقهم بالشر، ويحسبون أنهم يقدمون أطياب الحق برائحته الذكية، مقابل ما يقدمه السيد المسيح – الحق- في حياة أولاده ليقولوا مع الرسول بولس: “لأننا رائحة المسيح الذكية لله” (2 كو 2: 15).

يُضِيءُ السَّبِيلُ وَرَاءَهُ

فَيُحْسَبُ اللُّجُّ أَشْيَبَ [32].

بسبب سرعة حركته يترك وراءه رغاوى foam بيضاء، وذلك كما يحدث عند سير السفن السريعة وسط المياه. أثاره تبدو كشعر الإنسان المسن الأشيب.

كما يجعل السيد المسيح مؤمنيه الحقيقيين “نور العالم” يضيئون به على المحيطين بهم ليدخلوا بهم إلى مملكة النور، هكذا يخدع العدو أتباعه. إنه يظهر كملاك نور (2 كو 11: 14)، ويوحي لأتباعه أنهم يعرفون والحق ويضيئون السبيل، وصارت لهم حكمة خفية فصارت لحجمهم أو أعماقهم أشبه بالإنسان الأشيب صاحب الخبرة الطويلة والحكمة العملية.

*     لا يستغرب أحد للهرطقات الموجودة اليوم، إذ أنها كانت منذ البدء وذلك لأن الشيطان يحاول بمهارة الخلط بين الكذب والحقيقية. وكما أن الله منذ البدء وعد الإنسان بخيرات كثيرة، كذلك الشيطان يُغري دائمًا بوعوده المخادعة. الله زرع لهم جنة عدن، وجاء الشيطان وقال لهم: “ستكونون مثل آلهة” وفي الواقع لم يقدر أن يعطيهم شيئًا، كل ما في الأمر أنه بهرهم بوعوده فقط. وهذا ما يفعله المخادعون(1433).

القديس يوحنا الذهبي الفم

لَيْسَ لَهُ فِي الأَرْضِ نَظِيرٌ،

صُنِعَ لِعَدَمِ الْخَوْفِ [33].

جاء في العبرية “على الطين“. ليس من حيوان نظيره، أو أن الأرض لم تخرج حيوانًا مرعبًا من جهة قوته وعنفه وشجاعته وشراسته. كأنه خُلق لكي لا يخاف ولا يرهب أحدًا.

حقًا ليس لإبليس نظير على الأرض، وكما يقول البابا غريغوريوس (الكبير) مع معرفة البشر بسقوطه بسبب أفعاله، مع هذا فإنه لم يفقد إمكانياته الملائكية (قدراته التي حولها للشر)، فاجتذب الجنس البشري وأخضعه له. إنه يفاخر بقوة طبيعته التي استطاع بها أن يسيطر على البشر.

*     هذا هو العدو الذي يجب أن نهرب منه. فمن هو هذا الأسد الذي يتتبعنا؟ ينبهنا القدِّيس بطرس ويقول لنا: “إبليس خصمكم كأسدٍ زائرٍ يجول ملتمسًا من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان” (1بط 5: 8-9).

إذًا يوجد أسد قد صعد من غابته: فأين هي هذه الغابة؟ إنه سقط إلى أسفل. لقد نزل إلى أسافل الأرض، إلى أعماقها.

أنت إنسان، أنت أعلى من الشيطان، لأنك على أي حال من الأحوال أفضل منه. أما هو فبسبب فساده قد هبط إلى أسفل.

فإذا ما خرج هذا الأسد من غابته أي من مكان عقابه (الجحيم)، فسيقال: “قد صعد الأسد من غابته وزحف مهلك الأمم. خرج من مكانه ليجعل أرضك خرابًا” (إر 4: 7). إنه يريد أن يدخل إلى أرضك، ويريد أن يفترس كل واحدٍ منا.

“تخرب مدنك فلا ساكن. من أجل ذلك تنطَّقوا بمسوح”. إذًا، بما أن الأسد قد صعد إليك ليهددك وليبيد أرضك، اَلبس المسوح، واِبكِ وتنهد وتضرع إلى الله بالصلوات أن يُفني هذا الأسد ويُهلكه حتى تتخلص منه، ولا تسقط بين أنيابه. لأنه يحاول أن يصطادك عن طريق أذنيك، حين يلقي إليك بكلمات كاذبة محببة إلى نفسك، ليجعلك تحيد عن طريق الحق. وهو يريد أيضًا أن يفترس قدميك، وينزعهما من فوق أرض الحق. ليكن! تمنطق بمسوحٍ، واقرع صدرك، اِبكِ، واصرخ صرخات الحرب حينما ترى العدو يهددك، حتى يرتد حمو غضب الرب عنك، لأنك تكون قد دخلت إلى المدينة الحصينة. فلنشكر الله الذي ينقذنا في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين(1434).

العلامة أوريجينوس

يُشْرِفُ عَلَى كُلِّ مُتَعَالٍ.

هُوَ مَلِكٌ عَلَى كُلِّ بَنِي الْكِبْرِيَاءِ [34].

يختم وصفه بأنه في تشامخ يتطلع إلى كل الحيوانات الشرسة والعنيفة المتعالية أنها أقل منه، فهو يشرف عليها كملكٍ صاحب سلطان، ليس من حيوان يقدر أن يقاومه. الكل يخضع له، وهو لا يخضع لأحدٍ.

يُدعى الأسد ملك الغابة أو ملك الحيوانات، إنه أحد أبناء الكبرياء، حيث يتشامخ بقدرته وإمكانياته. لكن أمام الحيوان المذكور هنا يفقد الأسد لقبه.

*     إنه يتطلع إلى أسفل كمن هو فوق الكل، الذين هم تحته. في صراعه ضد خالقه يستخف بأن يُحسب أحد مثله… في هذا حسنًا قيل بالنبي: “ويل للحكماء في أعين أنفسهم، والفهماء عند ذواتهم” (إش 5: 21). هكذا يقول بولس: “لا تكونوا حكماء عند أنفسكم” (رو 12: 16).

*     “هو ملك على كل بني الكبرياء” . لوياثان هذا لكي يسقط في كل الأمور السابق ذكرها، ضرب نفسه بالكبرياء… لقد هاجم مسحة خلودنا بذات السلاح، وذلك كما حطم حياته المطوّبة. لكن الله قدم هذا في نهاية حديثه، إذ بإشارته لكبرياء لوياثان هذا بعد ذكر كل شروره يشير إلى أنها أشر الخطايا جميعها…

الإنسان الذي يتشامخ بلا خجل في ذهنه، يحل به الدمار سريعًا. مكتوب: “قبل الكسر الكبرياء” (أم 16: 18).

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     لقد سقطنا تحت سلطان أعدائنا – أي “مَلِكُ هذا الدهر” وأعوانه من قوى الشر. نتيجة لهذا نشأت حاجتنا إلى الفداء بواسطة ذلك الذي يشترينا حتى نعود من حالة التغرب عنه. لذلك بذل مخلصنا دمه فدية عنا…. وإذ أن “مغفرة الخطايا”، وهي تتبع الفداء تصبح مستحيلة قبل أن يتحرر الإنسان، فلا بد لنا أولًا أن نتحرر من سلطان ذلك الذي أخذنا أسرى واحتفظ بنا تحت سيطرته، وأن نتحرر بعيدا عن متناول يده، حتى نتمكن من أن نحظى بغفران خطايانا وبالبُرْء من جراحات الخطية، حتى ننجز أعمال التقوى وغيرها من الفضائل.

*   والحق؛ أما إذا فضَّلنا الشهوة عن الله فتملُك الخطيَّة علينا، حيث يقول الرسول: “إذًا لا تملُكنَّ الخطيَّة في جسدكم المائت” (رو 6: 12).

إذن ملِكان يبادران لكي يملُكا، تملُك الخطيَّة أو الشيطان على الأشرار، ويملُك العدل أو المسيح على الأبرار.

إذ كان إبليس يعلم أن المسيح جاء ليغتصب ملكوته، ويُخضع لقوته وسلطانه أولئك الذي كانوا قبلًا خاضعين للمخادع، “أراه جميع ممالك المسكونة” وكل سكان العالم، أراه كيف يملك على الواحد بالشهوة، وعلى الآخر بالبُخل، وثالث بحب المجد الباطل، ويأسِر آخرين خلال جاذبيَّة الجمال… وكأن الشيطان يقول له: أتريد أن تملك على كل الخليقة؟! وأراه الجموع غير المحصية التي تخضع له، والحق يُقال لو قبلنا أن نعرف في بساطة بؤسنا ونُدرك مصيبتنا لوجدنا الشيطان يملك في معظم العالم، لذلك يسمِّيه الرب “رئيس هذا العالم” (يو 12: 31؛ 16: 11). وعندما يقول إبليس ليسوع: أترى جميع الشعب الخاضع لسلطاني؟ يكون قد أراه ذلك “في لحظة من الزمان”، إذ يحسب الوقت الحالي لحظة أن قورن بالأبديَّة… حينئذ قال إبليس للرب: أجئت لتصارع ضدِّي، وتنزع عنِّي كل الذين هم تحت سلطاني؟ لا، لا تحاول أن تقارن نفسك بي، ولا تعرض نفسك لصعاب هذه المعركة. انظر كل ما أطلبه منك، “إن سجدت أمامي يكون لك الجميع”.

بدون شك يريد ربَّنا ومخلِّصنا أن يملك، لكن بالعدل والحق وكل فضيلة… لا يريد أن يكلَّل كملكٍ بدون تعب (الصليب)…

أجابه الرب قائلًا: “مكتوب للرب إلهك تسجد، وإيّاه وحده تعبد” (تث 6: 13). إرادتي هي أن يكون الكل لي يعبدونني، ولا يسجدون لغيري. هذه هي الرغبة الملوكيَّة. أتريدني أن أخطئ أنا الذي جئت لأبيد الخطيَّة وأُحرَّر الناس منها؟!

لنفرح ولنبتهج نحن إذ صرنا له، ولنُصَلِ إليه ليقتل الخطيَّة التي ملَكت في أجسادنا (رو 6: 6) فيملك وحده علينا(1435).

العلامة أوريجينوس

من وحي أيوب 41

بك أغلب من غلب البشرية!

 

*     ليس لي ما أقدمه لك سوى ذبيحة التسبيح، يا محب كل البشرية!

جئت إلى عالمنا والتحفت بناسوتنا،

صرت إنسانًا حقيقيًا، فطمع إبليس فيك.

ظنك كسائر البشر تنحني له في مذلة.

*     قدمت له جسدك طُعمًا، فوثب ليلتهمه على الصليب.

أمسَكت الصنارة الإلهية به،

وصار من ظن في نفسه ملك العالم ألعوبة.

سقط في الفخ، ورُبط لسانه كما بحبل الإيمان!

سخرت به الفتيات الصغيرات. سقط من سماء قلوبهن كالبرق.

انحط ليصير تحت أقدامهن.

ظن أنه بكلمات اللين المخادعة يفلت من يدك.

اعترف أنك قدوس الله.وأدرك أنك جئت لتقصيه عن مملكته.

ارتبك العدو، لكن في طغيانه استمر في شره.

*     مزقت بصليبك عهدي مع عدو الخير.

حررتني من هذا الذي ظن أنه يستعبدني أبديًا.

عوض مذلتي له، صار هو ذليلًا،

لم تبطل مقاومته لي، لكنها لم تعد تحطمني، بك أغلب من غلب البشرية!

*     لن أعود أثق في وعوده.

لن أدخل بعد في حوارٍ معه.

لن أفسد وقتي بكلماته!

يكفيني عهدك العجيب معي!

قدمته لي مكتوبًا بدمك على الصليب.

*     في خداعه يتقدم لي أينما وُجدت.

على الأرض أراه يأكل العشب كالثور.

وفي البحر أراه كالتمساح يسبح.

وفي الجو يتراءى كالطير منطلق إلى الأعالي!

إنه يستخدم كل وسيلة ليضمني إليه.

يثير الشهوات ليجد الإنسان فيها لذة.

ويبث روح الكبرياء لينفخ المؤمن ببرَّه الذاتي.

يتراءى كأسدٍ ليرعب ناظريه.

ويظهر كملاك نورٍ ليخدع المؤمنين.

*     يربط الأشرار به كأنها حراشف تمساح.

كل يتحد مع البقية ليكونوا جماعة صلبة مترابطة.

لا عمل لهم إلا أن يضموا كل يومٍ حراشف جديدة.

تهدأ ضمائرهم حيث يعمل الكل معًا.

باتحادهم معًا لا يتركون أحدًا منهم يفلت من أيديهم.

إذ لا يسمحون لنسمة النصح المقدس تتخللهم.

*     ينفث العدو شر كبريائه من أنفه.

وتصدر مصابيح خادعة من فمه.

يملأ الجو بدخان الخداع بمعجزاته الكاذبة.

ويتسلل إلى عقول الفاسدين بنوره الكاذب.

*     ينفث نارًا على أذهان الأشرار، فيجعلها نارًا مدمرة،

 تلهب الملذات الشريرة فيهم.

يتشامخ برقبته الممدودة كصاحب سلطانٍ.

يبث روح البغضة والكراهية في العالم،

فيحول له قلوب الكثيرين إلى حجارة تحمل سمات قسوته.

*     يا للعجب، فإن حربه ضد الكنيسة لا تهدأ. يريد أن يحول النفوس الحديدية إلى قشٍ تافهٍ،

والقلوب الصلدة كالنحاس إلى خشبٍ هزيلٍ.

يركز ضرباته على الكارزين بالحق،

ويوجه سيوفه ورماحه ضد العاملين في كرم الرب.

لم يتعظ من معركة الصليب.

إذ صار الأطفال بالصليب جنودًا أبطال،

وتحولت نبال قوسه إلى تبن واهنٍ!

*     يا لحماقة إبليس! إنه لم يتعظ من درس الصليب!

في عنادٍ يحث أبناءه الأشرار على اضطهاد أولاد الله.

يسيطر على أفكارهم الدفينة ويخدعهم.

وفيما هم يقتلون الأبرار، يظنون أنهم يخدمون الله.

وهم يقاومون الحق يحسبون أنفسهم حاملين رائحة الحق الذكية.

*     يلقى بالمؤمنين على السندان، ويضرب عليهم بكل قوته بالمطرقة،

يظن أنه قادر أن يَّشكلهم ليصيروا على شبهه.

لا يمنعه المصلوب من أن يضرب، لكن يحول مطرقته إلى قش بلا قوة!

وتصير تجاربه علة نصرة وأكاليل مجدٍ لأولاد الله.

 

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى