تفسير سفر أيوب 39 للقمص تادرس يعقوب ملطي

الأصحاح التاسع والثلاثون
حيوانات البرية والطيور الجارحة
تدعونا للاقتراب من الله

 

تحدث عن الحيوانات حتى الحشرات التي تنطلق في حرية بلا ترويض، ومع هذا فالله يهتم بها. كما تحدث عن الخيول التي تُروض لاستخدامها في المعارك. وأخيرًا تحدث عن الطيور الجارحة بقدراتها الفائقة لرؤية الفريسة وهي طائرة على مسافات بعيدة، وعاداتها في بناء أعشاش في مرتفعاتٍ عالية.

ما ورد هنا لا يمكن أن يكون تجميعًا لروايات المسافرين أصحاب المعرفة بالحيوانات والطيور في ذلك الحين. إنه يقدم صورة بهية وجميلة لعمل الله في الخليقة، الضخمة والصغيرة، ما يبدو منها نافعًا، وما يبدو منها مفترسًا أو مؤذيًا. إنه الإله العجيب الخالق عجائب فائقة!

يقدم لنا هذا الأصحاح سمات خاصة ببعض الحيوانات والطيور، يقف أمامها المؤمن ليتعلم في تواضع منها:

  1. يرى فيوعول الصخور والأيائلالحاجة إلى الالتجاء إلى السيد المسيح صخر الدهور، والعطش كالأيائل إلى مجاري مياه الروح القدس. يضرب بقدميه الحية القديمة، فيسحق بالمسيح يسوع رأسها، ولا يكون لها سلطان عليه.
  2. ويرىفي ولادة الأيائلفي البراري عناية الله الفائقة، فيخدم المؤمن ويشهد لمسيحه، ليصير له أبناء في الإنجيل. جذب النفوس وولادتها بالحق من عمل الله نفسه بالكرازة وفي العماد.
  3. في تمتعالفراء والحمار الوحشيبالحرية في البرية دعوة للإنسان أن ينطلق إلى السكون فلا يستعبد نفسه للعالم، ولا ينشغل باهتماماته المفسدة للسلام الداخلي.
  4. في عدم إمكانية استخدام قوةوحيد القرنفي سحب المحراث للزراعة، حيث لا يأكل في معلفٍ مع الحيوانات الأليفة، دعوة للهروب من الاعتماد على القوة أو القدرة البشرية في عجرفة وتشامخ وعدم التمتع بطعام الروح أي كلمة الله.
  5. في جمالالنعامةوضخامة جسمها مع غباوتها، فلا تحتضن بيضها، دعوة لطلب الحكمة لا جمال الجسد.
  6. نرى فيالفرسإخلاصًا وشهامة وعدم خوف من الموت وسط المعارك، فنخجل من أنفسنا، إذ يليق بنا أن نموت مع الرسول كل يومٍ من أجل الرب.
  7. يطيرالصقرنحو الجنوب الدافئ حين يجدد ريشه، ونحن إذ نطلب حرارة الروح ننطلق نحو مسيحنا لنخلع بروحه القدوس إنساننا العتيق ونلبس الجديد الذي يتجدد كل يومٍ.
  8. نرى فيالنسردعوة لاستخدام إمكانياتنا بالنعمة للطيران نحو السماء، والتطلع لا للافتراس بل للتمتع بمن صار ذبيحة لأجلنا. نطير مع القديس يوحنا في العلويات لنرى يوم الرب العظيم، ونتمتع باكتشاف أسرار الله الفائقة، فنحسب النسور المجتمعة حول الصليب!

 

1. الوعول والأيائل

أَتَعْرِفُ وَقْتَ وَلاَدَةِ وُعُولِ الصُّخُورِ،

أَوْ تُلاَحِظُ مَخَاضَ الأَيَائِلِ؟ [1].

أغلب البشرية لا تنشغل بالحيوانات المتوحشة التي تهيم على وجهها في الصحراء أو في الغابات، إنما ما يشغلها أعمالها الخاصة وحيواناتها من قطعان وخيول وكلاب وقطط إلخ. لكن الله خالق الكل يهتم حتى بحيوانات البرية، بالحفاظ عليها وإنجابها وطعامها وشرابها وجحورها.

ينشغل الرجل وزوجته عندما يدركان أن الزوجة قد صارت حاملًا أن يعرفا موعد الولادة، وأن يلاحظا المخاض. وغالبًا ما يرجعان إلى أطباء متخصصين لمتابعة الحمل حتى تتم الولادة. هكذا ولادة الطفل تكلف الإنسان الكثير من العناية والنفقة المادية والإعداد النفسي والمالي، فمن يهتم بالوعول والأيائل عندما تكون حاملًا؟ الله نفسه يرعاها ويهتم بها، أفلا يهتم بالإنسان مخلوقه المحبوب والعزيز عليه جدًا؟

يمكننا أن نقول على مثال الرسول بولس القائل: “ألعل الله تهمه الثيران؟” (1 كو 9: 9)، “ألعل الله تهمه ولادة الوعول ومخاض الأيائل؟” نعم إنه مشغول بالوعول والأيائل البشرية التي تعمل بروحه القدوس، وتجاهد حتى تلد نفوسًا للرب. تضرب بأرجلها رؤوس الحيات لتقتلها، ويضع كل منها رأسه على الآخر ويعمل الكل معًا من أجل ربح كل نفس لملكوت الله. عندئذ يترنم المعلم الروحي مع الرسول بولس قائلًا: “وإن كان لكم ربوات المرشدين في المسيح، لكن ليس آباء كثيرون، لأني أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (1 كو 4: 15). ” أطلب إليك لأجل ابني أُنسيمس الذي ولدته في قيودي” (غل 1: 10).

يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لحبل الوعول والأيائل.

*     من عادة الأيائل (الإناث) أن يقتلن الحيات اللواتي يجدنهن، وتحاول الحيات أن تعض أقدامهن. يُقال إنه عند عبورهن الأنهار كل منهن تريح رأسها على الأيلة التي أمامها، فلا تشعر بثقل رأسها. لماذا سُئل أيوب بخصوص ولادة الوعول والأيائل إلا لأنها تشير إلى شخصية القادة الروحيين؟

فإنهم بالحق مثل الوعول التي تلد في الصخور، وذلك لأنه خلال تعاليم الآباء التي تدعى صخورًا يلدون نفوسًا بهدايتها… قيل بإرميا عن المعلمين الذين بإهمال يتركون الأولاد الذين وُلدوا لهم: “الإيلة أيضًا في الحقل وُلدت وتُركت” (إر 14: 5).

إنهم مثل الأيائل يعيشون على تحطيم الخطايا، أي على الحيات الميتة، وبتحطيم خطاياهم يلتهبون بالأكثر شوقًا نحو ينبوع الحياة. لهذا يقول المرتل: “كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله” (مز 42: 1).

وكأنه يُقال لأيوب: أنت تعتقد أنك تعمل على مستوى عالٍ، وأنت لم تسبق فتعرف الزمن الذي فيه يُرسل السادة الروحيون إلى العالم ليلدوا أبناء بتعليم الآباء الأولين، وبجهادهم يجمعون لي النفوس الرابحة(1357).

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَتَحْسِبُ الشُّهُورَ الَّتِي تُكَمِّلُهَا،

أَوْ تَعْلَمُ مِيعَادَ وَلاَدَتِهِنَّ؟ [2].

لا ينشغل الإنسان بحساب الشهور التي تكملها حيوانات البرية وهي حامل، ولا يهتم بموعد الولادة، وحتى إن انشغل فلا يعرف بدقة ميعاد الولادة.

إن كان الإنسان يجهل هذه الأمور التي تحيط به على الأرض التي يسكنها، فهل يظن أنه قادر على إدراك ما في فكر الله وما في قلبه؟ هل يمكنه أن يدرك خطة الله من نحوه ومدى حبه له؟

يَبْرُكْنَ وَيَضَعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ.

يَدْفَعْنَ أَوْجَاعَهُنَّ [3].

ولادة صغار حيوانات البرية شاقة، وليس من إنسانٍ يساعدها، ومع هذا تولد صغارها سالمة خلال عناية الله بها، فتنسى تعبها وأوجاعها.

ولادة الأطفال، خاصة في البلاد المتقدمة، تأخذ جهدًا ضخمًا سواء على مستوى الدول أو الأسر أو الأفراد، كما تكلف العالم الكثير. أما ولادة حيوانات البرية فتكاد لا تكلف أحدًا شيئًا ما.

فالحيوانات “يبكرن ويضعن أولادهن. يدفعن أوجاعهن“.

ليت المعلمين الروحيين يثقون في عمل الله العجيب الذي يعمل بهم ليلدوا أبناء له في الإنجيل خلال غنى نعمة الله المجانية!

*     عندما يفكر القديسون في تقدم سامعيهم، يصيرون في حالة حبل، كما في الرحم. فإنني أقدم شخصًا من بين كثيرين يشبه الأيائل، هو بولس، الذي ينطق كمن يزأر من شدة ألم مخاض الولادة. إنه يقول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل 4: 19).

البابا غريغوريوس (الكبير)

تَبْلُغُ أَوْلاَدُهُنَّ.

تَرْبُو فِي الْبَرِّيَّةِ.

تَخْرُجُ وَلاَ تَعُودُ إِلَيْهِنَّ [4].

سرعان ما تبلغ أولادهن أي يكبرون. فإن صغار حيوانات البرية أو أغلب الحيوانات بصفة عامة لا تحتاج إلى زمنٍ طويلٍ ولا إلى من يعلمها الرضاعة والمشي والحركة إلخ. على عكس الإنسان، فإنه يحتاج إلى فترة تدريب طويلة ليتعلم المشي ويعتمد على نفسه. إنها عطية إلهية رائعة للحيوان كما للإنسان. فالحيوان لا يحتاج إلى من يعلمه، لأن والدته تعجز عن تدبير ذلك، أما الإنسان فيحتاج إلى من يعلمه وإلى فترة طويلة لكي وهو يتعلم المشي وطريقة الأكل إلخ.، يتشرب من الأسرة الكثير من العادات، ويتمتع بثقافة جماعية، وينتفع بخبرة سابقيه! لقد وضع الله كل شيء بحكمة، سواء بالنسبة للحيوان أو الإنسان!

“تخرج ولا تعود إليهن” إذ تخرج صغار الحيوانات بعد فترة وجيزة تبحث بنفسها عن طعامها، ولا تبقى عبئًا على الأمهات. أما بالنسبة للبشر فيبقى لسنوات تمتد إلى العشرات، تقوم الأسرة بإعالته حتى يتمم دراسته العملية أو تدريبه على مهنة معينة ويستقل عن والديه.

2. الحمار الوحشي

مَنْ سَرَّحَ الْفَرَاءَ حُرًّا،

وَمَنْ فَكَّ رُبُطَ حِمَارِ الْوَحْشِ؟ [5]

يرى بعض الآباء في الفراء والحمار الوحشي اللذين يمرحان في البرية بلا عائق رمزين إلى الذين يسلكون في حياة الوحدة في حرية الروح.

*     الحمار الوحشي الذي يقطن في عزلة، يعني حياة أولئك الذين يقطنون بعيدًا عن ازدحام الناس. بلياقة قيل “حرًا” أيضًا، لأن مشقة السلوك الدنيوي عظيمة، يرتبك العقل بها، حتى وإن كانت أتعابها بالنسبة لهم مقبولة. للتحرر من حالة العبودية هذه يلزم عدم اشتهاء أي شيء في هذا العالم. فإن الناس يسعون وراء الغنى، والعدو يضغط بنوع من نير العبودية الرهيب.

أما من يحرر عنق ذهنه من سلطان الشهوات الزمنية، فإنه يتمتع بنوعٍ من الحرية في هذه الحياة… لقد رأى الرب هذا النير الثقيل عندما قال: “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم” (مت 11: 28)… فإن الرب يحل رباطات الحمار الوحشي عندما يمزق من ذهن مختاريه، قيود الأخطار الضعيفة وبرحمته يمزق إربًا كل ما يقيد فكرهم الباهر.

البابا غريغوريوس (الكبير)  

*     البرّيّة هي أم السكون، إنها الهدوء والميناء الذي ينجينا من كل المتاعب(1358).

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     إن مجرّد النظر إلى القفر يهب النفس سكونًا، ويقتل شهوات الجسد فينا.

مار إسحق السرياني

*     قال أنبا مرقس: “هذا هو السبب في أنّ السكون جيد: أنّ الإنسان لا يرى فيه ما هو مضرٌّ لنفسه، والشيء الذي لا يُرى لا يصل إلى النفس، وما لا يوجد في النفس لا يحرِّك فيها ذكر المناظر ولا يجعل الأوجاع (أي ميول النفس) تثور فيها، ويتمتع الإنسان في داخله بهدوءٍ عميقٍ وسلامٍ متضاعف (أو يتلذذ في كثرة السلام مز37: 11)”.

*     سُئل شيخ: “لماذا قال أنبا أنطونيوس لأنبا بولس تلميذه: اِذهب واسكن في صمت حتى تتلقَّى تجارب الشياطين؟” فقال الشيخ: “لأنّ الكمال يأتي للراهب من السلوك الروحاني، والسلوك الروحاني ينشأ من ميول القلب، ونقاوة القلب تتأتّى من ميول الفكر، وطريقة التفكير تُبنَى على الصلاة غير المنقطعة ومن الصراع مع الشياطين. ولكن الصلاة غير المنقطعة والصراع مع الشياطين، سواء في الأفكار أو في الرؤى، ليست لهما فرصة لأن توجدا بدون السكون والوحدة“.

*     سأل أخٌ أبّا كرونيوس: “ماذا أفعل لكي أعالج النسيان (أو الإهمال) الذي يستعبد روحي، إذ أنني قبل أن أدرك أي شيء أنقادُ إلى الخطية؟” فقال له الشيخ: “عندما استولى الغرباء على تابوت العهد بسبب شرور بني إسرائيل، أخذوه إلى بيت إلههم داجون، وحينئذٍ سقط داجون على الأرض (1 صم 5)”. فقال الأخ: “ما معنى هذا؟” فقال له الأب: “إذا حاول الشياطين أن يأسِروا روح إنسان بوسائلهم الخاصة، يدفعونه هكذا حتى يقتادوه إلى وجعٍ (أي ميلٍ نفسي) مجهولٍ خفي، وهنا إذا عادت روحه تطلب الله وتذكّرت الدينونة الأبدية، فإنّ الوجع يُطرَد في الحال ويختفي. إنه مكتوب: بالرجوع والسكون تخلصون، بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم (إش30: 15)”.

بستان الرهبان

الَّذِي جَعَلْتُ الْبَرِّيَّةَ بَيْتَهُ وَالسِّبَاخَ مَسْكَنَهُ [6].

غالبًا ما يُحبس الحمار الأليف في حجرة في داخل الحقل أو البيت، لا يتحرك فيها، أما الحمار الوحشي فيجد حريته في الحركة حتى يحسب البرية بيته الخاص، ويسكن في منطقة صالحة.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن من يمارس حياة الوحدة والسكون تصير الصحراء كلها بيته، يتحرك فيها في أمان وطمأنينه، ويقطن حتى في الأماكن المالحة التي تلهب الإنسان بالعطش، فيكون دائم الجوع والعطش إلى العشرة مع الرب.

*     “الذي جعلت القفر بيته، والأرض المالحة مسكنه (خيمته)”… الذين يعيشون في عزلة، أي الذين يتحررون من الشهوات الجسدية، يقيمون بسكون القلب، وذلك كما أعطى الرب البرية بيتًا للحمار الوحشي، فلا تضغط عليه جموع الشهوات الجسدية…

الملوحة تناسب التهاب العطش، فإذ يعيش القديسون في مساكن هذه الحياة (التي لسكون القلب)، ويلتهبون بالدفء اليومي لشوقهم نحو المدينة السماوية فيُقال أنهم يجعلون مساكنهم في أرض الملوحة. إنهم يلتهبون عطشًا على الدوام، كما هو مكتوب: “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، فإنهم يشبعون”.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*     من هذا العدد من الكاملين، أو إن أمكن أن أطلق عليهم شجرة القديسين، التي أينعت، فأخرجت زهورًا وثمارًا هم “النساك”…

تكلم عنهم الرب مع أيوب بصورة رمزية قائلًا: “من سرَّح الفراءَ حُرًّا ومن فكَّ رُبُط حمار الوحش، الذي جعلتُ البرية بيتهُ والسباخ مسكنهُ. يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاهُ وعلى خضرةٍ يفتّش” (أي 5:39-8). أيضًا يقول سفر المزامير: “ليقل مفديو الرب الذين فداهم من يد العدوّ” ثم يكمل قائلًا: “تاهوا في البرية في قفر بلا طريق. لم يجدوا مدينةَ سكنٍ. جِياع عِطاش أيضًا أعيت أنفسهم فيهم. فصرخوا إلى الرب في ضيقهم فأنقذهم من شدائدهم” (مز 2:107، 4-6). يصفهم إرميا أيضًا قائلًا: “جيّد للرجل أن يحمل النير في صباهُ. يجلس وحدهُ ويسكت لأنهُ قد وضعهُ عليهِ” (مرا 27:3، 28). وتخرج كلمات المرتل من القلب: “صرت مثل بومة الخِرَب. سَهدتُ وصرتُ كعصفورٍ منفرد على السطح” (مز 6:102، 7)(1359).

الأب بيامون

يَضْحَكُ عَلَى جُمْهُورِ الْقَرْيَة.

لاَ يَسْمَعُ زَجْرَ السَّائِقِ [7].

يضحك الحمار الوحشي على جمهور القرية متى حاولوا القبض عليه، وأحاطوا به، إذ سرعان ما يفلت من أيديهم. “ولا يسمع زجر السائق“، فإنه ليس مثل الحمار الأليف الذي يخشى غضب من يسوقه، إذ يتعرض للضرب. يشعر الحمار الوحشي أنه أسعد حًالا من الحمار الأليف.

إن أخذنا بالتفسير الرمزي للبابا غريغوريوس (الكبير) القائل بأن الحمار الوحشي يشير إلى الذين يسلكون طريق السكون والوحدة. فإن هؤلاء لا تقدر الجماهير أن تحبسهم في مفاهيم ضيقة، ولا تقدر شهوة ما أو خطية أن تسوقه حسب هواها.

دَائِرَةُ الْجِبَالِ مَرْعَاهُ وَعَلَى كُلِّ خُضْرَةٍ يُفَتِّشُ [8].

يعيش السالك بروح السكون الحقيقي كما في دائرة الجبال المقدسة، باحثًا عن المرعى السماوي.

*     جبال المرعى هي أيضًا قوات الملائكة العلوية، إذ تسندنا بخدمتها لنا ومعاونتها… يُمكن أيضًا أن نأخذ جبال المرعى على أنها عبارات الكتاب المقدس العالية، التي يقول عنها المرتل: “الجبال العالية للوعول” (مز 104: 18). فإن الذين يعرفون كيف يمارسون وثبات التأمل يصعدون القمم العالية…

“وعلى كل خضرة يفتش“، فإنه بالحق يجفف كل الأشياء التي تتشكل إلى حين وتجف وتفقد عذوبة الحياة الحاضرة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

3. الثور الوحشي

أَيَرْضَى الثَّوْرُ الْوَحْشِيُّ أَنْ يَخْدِمَكَ،

أَمْ يَبِيتُ عِنْدَ مِعْلَفِكَ؟ [9]

“الثور الوحشي“، جاء في كتابات البابا غريغوريوس (الكبير) وحيد القرنrhinoceros  وهو يرى أنه يشير إلى كبرياء هذا العالم أو قوات مملكته الشريرة التي تحطم البشر بروح الكبرياء. فلا يتوقع المؤمن من قوات الشر أن تخدمه، ولا يبيت في معلفه، حيث توجد كلمة الله كغذاء للنفس. الكبرياء يحطم المؤمن ولا يبنيه، ويفسد مفاهيمه لكلمة الله ، فلا تشبع أعماقه بها.

*     غالبًا ما يفهم من وحيد القرن الكبرياء، كما تعلمنا من شهادة النبي القائل: “قلت للمفتخرين (الأشرار) لا تفتخروا (تصنعوا شرًا)، وللخطاة لا ترفعوا قرنًا” (مز 75: 4). إذن إلى ماذا يشير وحيد القرن إلا إلى قدرة هذا العالم أو قوات الظلمة ذاتها التي لمملكته، الذين يتشامخون في كبرياء العجرفة الباطلة…

هنا بحقٍ قيل للطوباوي أيوب كممثلٍ للكنيسة المقدسة: “أيرضى وحيد القرن أن يخدمك؟ أم يبيت عند معلفك؟” يُفهم بالمعلف هنا الكتاب المقدس نفسه، الذي تقتات به الحيوانات المقدسة وذلك بطعام الكلمة, قيل عنهم بالنبي: “قطيعك سكن فيه” (مز 68: 10). لهذا فإن ربنا أيضًا عندما وُلد وجده الرعاة في مذود، لأن تجسده الذي ينعشنا نتعرف عليه في الكتاب المقدس الذي للأنبياء.

البابا غريغوريوس (الكبير)

إذ ظن أيوب أنه قادر أن يُخضع كل شيء لإرادته، قال له الله: “لتبدأ بوحيد القرن، ارني ذكاءك وقدرتك، هل تقدر أن تجعل من وحيد القرن حيوانًا أليفًا يخدمك عوض الحيوانات التي فقدتها من جمال وحمير؟ ارني قدرتك: هل تقدر أن تجعل هذا الحيوان يقترب إلى معلفك، ويأكل من الطعام الذي كنت تقدمه؟

أَتَرْبِطُ الثَّوْرَ الْوَحْشِيَّ بِحَبْلٍ إِلَى خَطِّ الْمِحْرَاث؟

أَمْ يُمَهِّدُ الأَوْدِيَةَ وَرَاءَكَ؟ [10]

كأنه يقول له: إن كنت لا تقدر أن تستخدم وحيد القرن عوض الجِمال والحمير، هل يمكنك أن تستخدمه عوض الثيران، فتربطه في المحراث لحرث الأرض (التلم هو خط المحراث).

أَتَثِقُ بِهِ لأَنَّ قُوَّتَهُ عَظِيمَةٌ،

أَوْ تَتْرُكُ لَهُ تَعَبَكَ؟ [11]

وحيد القرن كحيوان بري أكثر قوة من الحمار، ومن الثور، فهل يمكن للإنسان أن يستبدل حماره أو ثوره بوحيد القرن ليخدمه؟

يليق بالإنسان أن يدرك أنه إن كان قد فقد خدمة الحيوانات المفترسة، إنما بسبب خطيته، فإذ تمرد على الله تمردت هذه الحيوانات عليه. وإن كانت الحيوانات الأليفة تخضع له وتخدمه إنما ذلك من قبل مراحم الله عليه ومحبته.

يرى البعض أن أغلب الحيوانات الخادمة للإنسان والأليفة أضعف بصفة عامة عن الحيوانات المفترسة. وكأن التعامل مع الإنسان يفقد الحيوان قوته وقدرته. في قصة رمزية دُهش نمر عندما رأى قطًا يحمل ذات شكله، لكنه صغير الجسم وضعيف. فسأله عن سرّ ضعفه الشديد. أجابه القط: معاشرته للإنسان أذلته وأضعفته.

أَتَأْتَمِنُهُ أَنَّهُ يَأْتِي بِزَرْعِكَ،

وَيُجْمَعُ إِلَى بَيْدَرِكَ؟ [12]

يمكن للإنسان أن يأتمن الحيوانات الأليفة، فيترك صبيًا صغيرًا يقود حماره أو ثوره، ويُلقي على الحمار الأحمال، كما يربط الثور في ذراعي محراث يقوده صبي. لكنه لا يأتمن وحيد قرن للقيام بمثل هذه الأعمال، بأن يأتي به إلى الحصاد ويضعه عليه.

4. النعامة

جَنَاحُ النَّعَامَةِ يُرَفْرِف.

أَفَهُوَ مَنْكِبٌ رَؤُوفٌ أَمْ رِيشٌ؟ [13]

بالنسبة للنعامة فهي طائر كبير الحجم جدًا يدعوها البعض جمًلا بأجنحة. من يراها وهي ترفرف بأجنحتها الكبيرة يظن أنها قادرة على الطيران وبسرعة فائقة، لكنها مع ضخامة جناحيها وجمال ريشها تعجز عن الطيران.

*   جناحا النعامة مثل جناحي “مالك الحزين” وجناحي الصقر، من يقدر أن يجهل كيف يفوق مالك الحزين heron  والصقر بقية الطيور في سرعة طيرانه؟

للنعامة جناحان يشبهان أجنحتهما، لكن ليس لها سرعة طيرانهما. فإنها بالحقيقة لا تقدر أن ترتفع عن الأرض وتمارس طيرانًا حقيقيًا. هكذا كل المرائين الذين يتظاهرون بسلوك الصالحين ولهم ذات المظهر الصالح، ليس لهم سلوك صالح حقيقي. وكأن الله يقول: لك مظهر جناحيك، فتبدو كمن يقدر أن يرتفع، لكن ثقل سلوكك ينحدر بك إلى أسافل العمق.

جسما الصقر ومالك الحزين صغيران، لكن يسندهما أجنحة كثيفة. لهذا يطيران بسرعة لأن ما يثقلهما قليل وما يسندهما للطيران كثير… شخصية الإنسان المختار يُشار إليها حسنًا بمالك الحزين والصقر. مادام المختارون يعيشون في هذه الحياة لن يمكنهم أن يكونوا غير مصابين بخطيةٍ ما، مهما بدت صغيرة. لكن مادامت قليلة فيهم هذه التي تثقل إلى أسفل يكون لهم فيض من فضيلة العمل الصالح الذي يرفعهم إلى الأعالي.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لأَنَّهَا تَتْرُكُ بَيْضَهَا،

وَتُحْمِيهِ فِي التُّرَابِ [14].

وَتَنْسَى أَنَّ الرِّجْلَ تَضْغُطُهُ

مع ما للنعامة من ريش جميل فتتبختر كالطاؤوس في كبرياء، لكنها تسلك في غباوة بدون حكمة. إذ لا يقترن جمالها ولا ضخامة حجمها بالحكمة. فهي لا تبالي بصغارها، إذ تعرض بيضها للخطر. إنها لا تتوارى في مكان منعزل لتصنع لنفسها عشًا كالعصفور والسنونة (مز 84: 3)، ولا ترقد على البيض حتى يفقس. تترك بيضها على الأرض في أي مكان، يمكن أن يفقس بفعل دفء الشمس والرمل، ولا تهتم أن تقوم هي بتدفئته.

إنها صورة مؤلمة لبعض المؤمنين الذين لا يبالون بخلاص أولادهم سواء حسب الجسد أو الذين ولدوهم في الإنجيل، بل يتركونهم كما في تراب هذا العالم، لكن نعمة الله كثيرًا ما تطلبهم وتسندهم بدفء شمس البرّ، حتى يتمتعوا بالحياة المقامة.

*   ترك البيض في الأرض هو عدم الاهتمام بتربية الأبناء الذين ولدوهم بالاهتداء، برفعهم عن العمل الأرضي بتقديم النصائح. ترك البيض في الأرض هو عدم مساندتهم بتقديم مثال للحياة السماوية للأبناء.

ماذا يقصد بالتراب سوى الخاطي…؟ ماذا يشير إليه التراب إلا عدم ثبات الأشرار؟ لهذا فإن الرب يدفئ البيض الذي يُترك في التراب، إذ يُشعل نار حبه للنفوس الصغيرة المحرومة من الرعاية الجادة للكارزين، حتى حينما تقطن بين الخطاة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَوْ حَيَوَانَ الْبَرِّ يَدُوسُهُ! [15]

في غباوة تترك النعامة بيضها في التراب، دون اعتبار أن تطأه رجل إنسان أو يحطمه حيوان. وإن كان الله في حبه يبعث حرارة الشمس لتدفئته حتى يفقس.

يرى البابا غريغوريوس بتفسيره الرمزي أن بعض المبشرين بعد أن يقدموا لله أبناء خلال كرازتهم، يتركون الذين قبلوا الإيمان كما في التراب، وسط الأشرار، ولا يبالون بما يتعرضون له من وطأة الأقدام عليهم حيث يحاول الأشرار تثبيط هممهم، كما يتعرضون لوحشٍ مفترسٍ يحطمهم، أي لتجارب إبليس الشرير.

تَقْسُو عَلَى أَوْلاَدِهَا كَأَنَّهَا لَيْسَتْ لَهَا.

بَاطِلٌ تَعَبُهَا بِلاَ أَسَفٍ [16].

لا نعجب إن كانت النعامة تقسو على صغارها كأنها ليست لها، فيصير كل تعبها بلا ثمر، على خلاف غالبية الطيور والحيوانات التي تعرض نفسها للخطر حتى الموت من أجل صغارها. لكن ما نعجب له أن الإنسان العاقل يتجاهل أبناءه حسب الجسد أو الروح، وكأنهم ليسوا له، وتصير حياته كلها بلا طعم.

*   ذاك الذي لا يتمتع بنعمة الحب يتطلع إلى قريبه كأنه غريب، حتى وإن كان قد ولده لله.

يا لأحشاء الحنو التي حملها بولس عندما كان يركض من أجل أبنائه بدفء الحب العظيم هكذا:” (الله) شاهد لي كيف بلا انقطاع أذكركم، متضرعًا دائمًا في صلواتي عسى الآن أن يتيسر لي مرة بمشيئة الله أن آتي إليكم، لأني مشتاق أن أراكم” (رو 1: 9-11)… فإنه لم يكن مثل النعامة، ينسى أولاده، إنما كان يخاف جدًا على تلاميذه إذ يعانون من اضطهادات أثناء كرازتهم يستخفون بالإيمان… لقد حسب جراحات جسده فيه كلا شيء خشية إصابة قلوب أبنائه بجراحات.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لأَنَّ اللهَ قَدْ أَنْسَاهَا الْحِكْمَةَ،

وَلَمْ يَقْسِمْ لَهَا فَهْمًا [17].

لقد سمح الله ألا تتمتع النعامة الضخمة الجميلة بالحكمة، بينما تتمتع بها النملة الصغيرة التي نستخف بها. لقد أراد لنا أن نتعلم من كليهما أن نطلب الحكمة ونعتز بها ونمارسها.

إذ تمثل النعامة الشخص المرائي الذي له المظهر الجميل الصالح دون القلب المقدس لم تتأهل لنوال الحكمة.

فالله في حبه يود أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون، مقدمًا الحكمة لكل من يطلبها بإخلاص واشتياق. فإن لم نبالِ بها تُنزع عنا حتى الحكمة الطبيعية.

عِنْدَمَا تُحْوِذُ نَفْسَهَا إِلَى الْعَلاَءِ،

تَضْحَكُ عَلَى الْفَرَسِ وَعَلَى رَاكِبِهِ [18].

بالرغم من استخفاف النعامة بصغارها، لكن إذ يحدق بها خطر ما ترفع جناحيها وتنطلق بسرعة فائقة، حتى تسخر بالفرس وراكبه.

*   ليكن الله هو رجاؤكم، قدرتكم على الاحتمال، قوتكم. ليكن كفارتكم، تسبيحكم، غايتكم وموضع راحتكم، وعونكم في جهادكم…

الجبار هو الإنسان المتغطرس الذي يرفع نفسه (متشامخًا) على الله، كما لو كان شيئًا في ذاته وما يخصه. مثل هذا الإنسان لا ينجو بقوته الذاتية.

الآن، لديه فرس رشيق وقوي، سليم وسريع الخطى، إذا ما حدث هجوم أما يستطيع أن ينجي راكبه من الخطر الملحق به؟ ليسمع: “خلاص الفرس كاذب”… يلزم ألا يعدك الفرس بالنجاة…

يمكننا أن نأخذ الفرس رمزًا لأية ممتلكات في هذا العالم، أو لأي نوع من الكرامة نتكل عليها في كبرياء، حاسبين خطًأ أنكم كلما ارتفعتم يزداد أمانكم وعلوكم. ألا تدركون بأي عنف سوف تُلقَون، كلما ارتقيتم إلى أعلى يكون سقوطكم بأكثر ثقلٍ… فكيف إذن يتحقق الأمان؟ إنه لا يتحقق بالقوة ولا بالسلطة ولا بالكرامة ولا بالمجد ولا بالفرس.

القديس أغسطينوس

5. الفرس

هَلْ أَنْتَ تُعْطِي الْفَرَسَ قُوَّتَهُ،

وَتَكْسُو عُنُقَهُ عُرْفًا؟ [19]

بعد أن تحدث عن الحيوانات المفترسة وطيور البرية قدم له مثًلا بحيوان أليف خادم للإنسان وهو الفرس.

يسأله إن كانت الخيول تُستخدم لحماية الإنسان في المعارك، فمن الذي أعطاها القوة. إنها ليست عطية من الإنسان، لكنها من قبل الله. مع هذا فمن يعتمد على الخيل دون التطلع إلى الله واهب القوة يفقد النصرة. يقول المرتل: “باطل هو الفرس لأجل الخلاص، وبشدة قوته لا ينجي” (مز 33: 17) ، كما قيل: “لا يُسر بقوة الخيل” (مز 147: 10؛ راجع هو 14: 3؛ مز 20: 7 ؛ إش 31: 1، 3).

تستخدم الخيول في الكتاب المقدس لتحمل معانٍ كثيرة، منها:

  1. الاتكال على الكرامة الزمنية: “قد رأيت عبيدًا على الخيل، ورؤساء ماشين على الأرض كالعبيد”(جا 10: 7). فالعبيد هنا يشيرون إلى الأشرار المستعبدين للخطية، لكنهم يتشامخون بالمراكز الزمنية والكرامة الباطلة.

ب. تحمل معنى صالحًا، كما قيل: “الفرس مُعد ليوم الحرب؛ أما النصرة فمن الرب” (أم 21: 31). الفرس هنا يشير إلى إمكانيات المؤمن وطاقاته التي تواجه مقاومة إبليس وتغلب خلال عمل الله بها.

ج. تشير الخيول أيضًا إلى الكارزين: “سلكت البحر بخيلك، كوم المياه الكثيرة” (حب 3: 15).

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) إن الفرس في هذا الموضع (أي 39: 19) تعني الكارزين الصالحين الذين يكسبون النفوس بعمل الله بهم وفيهم.

مع ما للفرس من قوة كان الإنسان يعتمد عليها في الدفاع عن نفسه وعن بلده وممتلكاته، لكن يمكن لصبي صغير أن يقودها دون تمرد من جانبه.

أَتُوثِبُهُ كَجَرَادَةٍ؟ نَفْخُ مِنْخَرِهِ مُرْعِبٌ [20].

يسأل الله أيوب إن كان يقدر أن يخفيه كجرادة صغيرة، فإن نفخات أنفه في المعارك مرعبة! يهجم على العدو ولا يخشى الخطر على حياته.

يَبْحَثُ فِي الْوَادِي وَيَقْفِزُ بِبَأْسٍ.

يَخْرُجُ لِلِقَاءِ الأَسْلِحَةِ [21].

سبق أن تحدث عن وحيد القرن الذي بقوته يسخر بالإنسان، ولا يقوم بخدمته، أما هنا فيقدم الفرس الذي مع قوته العظيمة يخضع للإنسان، ويعمل لخدمته على حساب حياته نفسها. يخرج للقاء الأسلحة بلا خوف من الموت!

جاء النص في الترجمة السبعينية: “يضرب بحافره في أرض السهل مبتهجًا”. إنه كمن يطلب السماويات فيضرب الأرض بحافره بكل قوة وجسارة، غير خاضع لشهوات جسده. بحق يقول سليمان الحكيم: “هيئ عملك في الخارج، وأعده في حقلك، بعد تبني بيتك” (أم 24: 27).

يَضْحَكُ عَلَى الْخَوْفِ وَلاَ يَرْتَاعُ

وَلاَ يَرْجِعُ عَنِ السَّيْفِ [22].

عَلَيْهِ تَصِلُّ السِّهَامُ وَسِنَانُ الرُّمْحِ وَالْحَرْبَةِ [23].

من أجل الإخلاص لصاحبه يضحك الفرس على الموت، ولا يرتاع من هجمات الأعداء، سواء بالسيف أو الرمح، ولا يتراجع بل يستمر في تقدمه إلى الأمام وسط المعركة، يبعث في راكبه روح الشجاعة!

حقًا يقف الإنسان في خزي حينما لا يستهين بالموت من أجل إخلاصه وحبه لخالقه!

يقدم لنا الرسول بولس نفسه مثًلا رائعًا للحب حتى الموت، إذ يقول: “من سيفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ كما هو مكتوب من أجلك نُمات كل النهار، قد حُسبنا مثل غنمٍ للذبح” (رو 8: 35-36).

فِي وَثْبِهِ وَغَضَبِهِ يَلْتَهِمُ الأَرْضَ،

وَلاَ يُؤْمِنُ أَنَّهُ صَوْتُ الْبُوقِ [24].

إن كان الفرس في المعركة مملوء حمية وحماسًا ورباطة جأش، يلتهم الأرض، أفلا يليق بالمؤمن في معركته الروحية أن يتسم بالشجاعة واليقين في عمل الله معه.

“ولا يؤمن أنه صوت البوق” ماذا يعني هذا؟ عندما كرز الرسل بالإنجيل ضرب رئيس الكهنة بالبوق، لا للعمل لحساب الرب، وإنما لإبطال عمل الكرازة بالملكوت. “ودعوا الرسل وجلدوهم وأوصوهم أن لا يتكلموا باسم يسوع” (أع 5: 40). أما الرسل فأدركوا أن هذا ليس بصوت البوق الحق، لذا قالوا: “لأننا نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع 4: 20).

عِنْدَ نَفْخِ الْبُوقِ يَقُولُ: هَهْ!

وَمِنْ بَعِيدٍ يَسْتَرْوِحُ الْقِتَالَ صِيَاحَ الْقُوَّادِ وَالْهُتَافَ [25].

*   حينما يحصل (المؤمن) على سلاح الرب، فإنه بمجرد أن يسمع بوجود الحروب ويشعر بها يتقدم “بصياحٍ وهتافٍ” كما يقول في أيوب (أي 39:25) لأن نفس صوت صلاته يوقع الأعداء ساقطين على الأرض(1360).

القديس مقاريوس الكبير

6. العقاب والنسر

أَمِنْ فَهْمِكَ يَسْتَقِلُّ الْعُقَابُ،

وَيَنْشُرُ جَنَاحَيْهِ نَحْوَ الْجَنُوبِ؟ [26]

يتسم العقاب بسرعة طيرانه وقوته، وهو من الطيور الجارحة، ينشر جناحيه ويطير نحو الجنوب، هربًا من المناطق الباردة في الشمال، خاصة عندما ينزع ريشه ويستبدله بريش جديد. من الذي وهبه هذه الحكمة سوى الله؟(1361)

*   ما هو إذن الصقر الذي يتمتع بريشه (الجديد) في الجنوب إلا كل قديسٍ يلتهب عندما يتلامس مع نسمة الروح القدس، فيطرح عادة الحوار القديم، ويأخذ شكل الإنسان الجديد؟ ينصح بولس قائلًا: “خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد” (كو 3: 9-10). وأيضًا: “وإن كان إنساننا الخارج يفنى، فالداخل يتجدد يومًا فيومًا” (2 كو 4: 16).

أن ننشر أجنحتنا نحو الجنوب يعني أن نفتح قلوبنا في الاعتراف، بحلول الروح القدس، فلا نجد بعد مسرتنا في إخفاء أنفسنا بالدفاع عنها، بل نفضحها باتهامنا لها.

البابا غريغوريوس (الكبير)

*   من يقدر أن يميز طبيعة طيور السماء؟! كيف يتمتع بعضها بأصوات ملحنة، وآخر مرقش بكل الألوان في أجنحتها، والبعض يهيم في الهواء كأنه بلا حراك مثل النسر. فإنه بأمر إلهي “ينشر (العقاب(1362)) جناحيه نحو الجنوب“. من يقدر أن يرى الارتفاع الشامخ للصقر…؟! فكيف تريد أن تفهم خالق الكل؟!(1363)

القديس كيرلس الأورشليمي

أَوْ بِأَمْرِكَ يُحَلِّقُ النَّسْرُ وَيُعَلِّي وَكْرَهُ؟ [27]

يقدم لنا النسر-ملك الطيور- مثًالا للإمكانيات الجبارة التي يقدمها الله حتى لهذا الطائر، كرمز لإمكانيات الإنسان الذي يستطيع أن يستخدمها للبنيان لحساب ملكوت الله في داخله وفي قلوب الآخرين، أو للهدم والعنف والافتراس.

يبرز هنا سمات النسر، وهي:

  1. تحليقه عاليًا جدًاأثناء طيرانه بقوة أجنحته. من أين جاء بهذه الإمكانية، هل هي عطية من الإنسان للنسر؟ لكنها غريزة طبيعية وهبه الله إياها.

الذي خلق النسر بين الطيور لأجل الإنسان ووهبه إمكانية التحليق في العلاء، ألا يهب الإنسان أن يرتفع بروح الله القدوس لينعم بالانطلاق نحو السماويات؟

يستخدم النسر الطيران عاليًا لكي يختفي عن الأنظار، وبقوة بصره وسرعة حركته ينقض فجأة على الفريسة. هكذا الإنسان الشرير يستخدم الإمكانيات المقدمة له لأذية الآخرين عوض معاونتهم ومساندتهم.

  1. يجعل وكره في الصخور العاليةعلى سن الصخر، حتى لا يصل أحد إلى صغاره.

يَسْكُنُ الصَّخْرَ وَيَبِيتُ عَلَى سِنِّ الصَّخْرِ وَالْمَعْقَلِ [28].

يليق بالمؤمن أن يجعل عشه في المسيح يسوع، الصخرة الحقيقية، فلا يقترب إليه الشر.

أما الذي في تشامخ وكبرياء يتعالى ويظن أنه أقام لنفسه صخرة لا يقترب منها أحد، فيسلك في الشر آمنًا، يسمع الصوت: “إن رفعت كنسرٍ عشك، فمن هناك أُحدِرك يقول الرب” (إر 49: 16)

  1. حدة بصره، فالمؤمن تنفتح بصيرته الداخلية ليرى عربون السماء ويتمتع بها. أما الشرير فيستخدم حدة بصره للتطلع إلى أسفل، وقلبه مملوء بالعنف والافتراس.

مِنْ هُنَاكَ يَتَحَسَّسُ قُوتَهُ.

تُبْصِرُهُ عَيْنَاهُ مِنْ بَعِيدٍ [29].

  1. تمتص فراخه الدم منذ صباها وتعيش مع النسر الكبير على الفريسة.

فِرَاخُهُ تَحْسُو الدَّمَ،

وَحَيْثُمَا تَكُنِ الْقَتْلَى فَهُنَاكَ هُوَ [30].

يتعطش الكل إلى سفك الدم كطعامٍ يومي لهم. أما المؤمنون فيجتمعون كالنسور المقدسة حول السيد المسيح الذبيح لأجل إقامتهم أبديًا. يصير المسيح طعامهم الروحي: “حيثما تكن الجثة فهناك تجتمع النسور” (مت 24: 28).

*   في الكتاب المقدس كلمة نسر تشير أحيانًا إلى أرواح حقودة، مفسدة للنفوس؛ وتشير أحيانا إلى قوات العالم الحاضر. لكنها أحيانًا تشير إلى مفاهيم القديسين الحاذقة، أو إلى الرب المتجسد، تطير بسرعة فوق السفليات وتطلب العلويات.

يشهد إرميا للأرواح الراقدة في ترقبٍ: “طاردونا أخف من نسور السماء” (مراثي 4: 19)… يرمز أيضًا إلى القوة الأرضية، كما قيل بالنبي حزقيال: “نسر عظيم كبير الجناحين، طويل القوادم، واسع المناكب ذو تهاويل، جاء إلى لبنان وأخذ فرع الأرز، قصف رأس خراعيبه” (حز 17: 3-4). فإنه بهذا النسر الذي بالحقيقة إلى من يشير إلا نبوخذنصر ملك بابل…؟

بكلمة “نسر” يُشار إلى فهم القديسين الحاذق، أو طيران صعود المسيح. لهذا فإن النبي عينه (حزقيال) عند وصفه الأربعة الإنجيليين الذين رآهم، تحت مظهر خلائق حيَّة أعلن أنها ظهرت له في شكل وجه إنسان وأسد وثور ونسر، بالتأكيد أشار بالنسر المخلوق الرابع الحي، يوحنا، الذي في طيرانه ترك الأرض، وخلال الفهم الحاذق اخترق أسرارًا داخلية برؤيته للكلمة…

لنتطلع إلى مبنى النسر نفسه، عش الرجاء في العلويات. يقول بولس: “سيرتنا نحن هي في السماوات” (في 3: 20). وأيضًا: “وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات” (أف 2: 6)… فكما أن من يصعد جبًلا يتطلع إلى أسفل، فيرى الأمور السفلية صغيرة، هكذا كلما تقدم الإنسان إلى درجات عليا، مجاهدًا أن يثبت اهتمامه في العلويات، يجد بذات الجهد أن مجد الحياة الحاضرة كلا شيء، ويرتفع فوق أماكن الأرض.

البابا غريغوريوس (الكبير)

من وحي أيوب 39

خليقتك تدعوني للقاء معك!

 

*     من أجلي خلقت الأرض وكل ما عليها.

هوذا حتى الحيوانات والطيور تدعوني لألتقي بك!

هب لي مع وعول الصخور، أجري إليك،

وأختفي فيك يا صخر الدهور.

*     هب لي مع الأيائل أعطش إليك.

فأضرب بك رأس الحية.

ولا يتسلط إبليس عليَّ.

بك أسحقه، إذ أسقطته من السماء كالبرق،

وإن بدا منيرًا، لكن إلى لحظة وينكشف خداعه.

*     هب لي أن أكون إيلة ولود.

أنجب بالإنجيل لك أبناء!

إنه عملك يا راعي الكل!

*     لأتعلم حتى من الحمار الوحشي حرية البرية.

لماذا أحبس نفسي في مربض الحيوانات.

لأنطلق إلى برية الروح،

ولتَطِر نفسي بالفرح والتهليل إليك.

*     أرى وحيد القرن، فترتعب نفسي من السقوط في الكبرياء.

لماذا أتشامخ بما وهبتني من قوة وقدرات ومواهب؟

لماذا لا ألتزم بروح التواضع أن أقترب من المذود.

أنت طعام نفسي.

أنت شبعي وسروري!

*     أرى النعامة الجميلة الضخمة،

فأخشى أن أنشغل بالمظاهر الخارجية دون حكمة الروح.

أخشى أن أسلك في غباوة، فأترك الصغار في التراب.

لا أقدم للضعفاء دفء الحب وقوة الروح!

*     احسبني كفرس مقدس، أحملك في قلبي يا أيها الفارس الفريد.

لا أخشى المعارك الروحية، ولا أضع لموت الجسد حسابًا.

لا أرتبك من رماح العدو،

ولا أخشى سيف إبليس!

بك أغلب وأكلل!

*     لأجدد مع الصقر على الدوام ريشي.

أخلع على الدوام الإنسان القديم وكل أعماله،

وألبس دومًا الإنسان الجديد.

ليتجدد كل يوم بعمل روحك القدوس.

لأتغنى بك قائلًا:

هوذا الكل قد صار جديدًا!

*     لأطير مع النسر في السماويات.

لتنطلق أعماقي إلى عربون الأبدية.

لتتطلع عينا قلبي إلى الأكاليل المعدة.

لأرتمي في أحضانك وأحيا بك ومعك!

 

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى