تفسير سفر يشوع ١ للقمص تادرس يعقوب

الفصل الأول
الحروب الروحية والنصرة
ص 1   ص 12

  1. الاستعداد للميراث            [1-5].
  2. ميراث القسم الأوسط        [6-8].
  3. ميراث الجنوب               [9-10].
  4. ميراث الشمال               [11-12]. 

الإستعداد للميراث

قدم لنا سفر الخروج صورة حية للعبور من أرض العبودية والإنطلاق من أسر فرعون، لكن هذا العمل يبقى ناقصًا بلا نفع ما لم يدخل العابرون إلى أرض الموعد ويتمتعوا بمواعيد الله. العبور في سلبيته خروج، وفي إيجابيته دخول! هو تحرر من أسر إبليس لأجل التمتع بالدخول إلى الأحضان الإلهية في المسيح يسوع قائد العبور الروحي الحق.

وكما استلزم الخروج استعدادات طويلة ظهرت في ظهور موسى كأول قائد للشعب، وعمل الله معه في علاقته بفرعون وبالشعب، وتجلى الله في الخلاص خلال الضربات خاصة ضربة البكور التي استلزمت ذبح خروف الفصح، وانشقاق البحر الأحمر… هكذا أيضًا احتاج الدخول إلى الميراث إلى استعدادات كثيرة سجلها سفر يشوع في الأصحاحات الخمسة الأولى:

ففي الأصحاح الأول: أعلن الله أنه هو العامل الحقيقي في هذا الخلاص. هو الذي يختار يشوع، وهو الذي يسنده ويسند الشعب بكلمته واهبة الحياة، وبطعامه الروحي الذي يقدمه لهم، وأمانته في تحقيق مواعيده.

وفي الأصحاح الثاني: يبرز الجانب البشري في شخص راحاب الأممية الزانية، التي بالرغم من فقرها الشديد في التمتع بالخلاص، لكنها بالإيمان الحيّ دخلت كعضوة في الجماعة المقدسة، بل وجاء المسيّا المخلص من نسلها.

وفي الأصحاح الثالث: قدم لنا إمكانية الأردن، حيث يدخل بنا يسوع المسيح بنفسه إلى مياهه الحلوة، لنعطي للبرية ظهرنا، متأملين في الميراث الأبدي ليس كأمر غريب أو بعيد عنا!… بالمعمودية المقدسة تتحقق الاستنارة فندرك ما لا يدرك!

وفي الأصحاح الرابع: تظهر الكنيسة المختفية في مياه الأردن حيث يحمل الأسباط اثني عشر حجرًا تُمثل الكنيسة. فلا عبور للميراث الأبدي خارج الكنيسة الخفية، أي العضوية في جسد المسيح.

أخيرًا في الأصحاح الخامس: يتم الختان الثاني ويعيّد الفصح، فلا دخول للميراث بالإنسان العتيق، إنما يلزم ختان القلب ليحّل الإنسان الجديد عوض القديم. هذا كله إنما يتحقق خلال المسيح يسوع فصحنا.

في إختصار نقول إن الإمكانيات التي صارت لنا للتمتع بالميراث الأبدي هي:

  1. أدراك أن الله هو العامل فينا وقائدنا الروحي (ص 1).
  2. التمتع بالإيمان الحيّ العملي                   (راحاب الزانية ص 2).
  3. التمتع بالبنوة خلال المعمودية                (عبور الأردن ص 3).
  4. الدخول فى العضوية الكنسية                  (ص 4).
  5. خلع الإنسان القديم ولبس الجديد خلال الفصح الجديد   (ص5 ).

 

الأصحاح الأول

الله هـو العـامل

“اختيار يشوع”

أُفتتح السفر بإعلان موت موسى وتسليم يشوع القيادة، وقد أبرز الوحي بكل وضوح في إعلان تسليم يشوع القيادة أن القائد الحقيقي هو الله، الذي يختار خدامه ويهبهم عونًا وحكمة، ويسندهم بشريعته “كلمته الإلهية”، ويرافقهم في كل عمل.

موت موسى ليملك يشوع   [1-2].

“وكان بعد موت عبد الرب أن الرب كلّم يشوع بن نون خادم موسى قائلاً: موسى عبدي قد مات، فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل” [1-2].

الله الذي سبق فاختار موسى لقيادة الشعب بالانطلاق به من أرض العبودية إلى جبل سيناء حتى يتسلم الشريعة الإلهية كمرشد ومعين وسط برية هذا العالم، مؤكدًا له: “إني أكون معك” (خر 3: 12)، وهو بعينه يُعلن موت موسى وإقامة يشوع كقائد عبور ومحقق للميراث. كان لابد لموسى أن يموت ليظهر يشوع، فينتهي عهد الناموس لننعم بعهد النعمة، فإن الله هو العامل في العهدين بخطته الإلهية المتكاملة… إن سّر القوة في خدمة موسى أو يشوع إنما في الدعوة التي تقدم لهما من الله لتحقيق مقاصد إلهية.

الله الذي اختار موسى ممثلاً لناموسه هو الذي سمح بموته ليقيم يشوع ممثلاً ليسوع ابنه الوحيد الجنس، وقد سبق لنا في مقدمة هذا الكتاب الحديث عن الارتباط بين موت موسى وقيام يشوع، أو إبطال الناموس للتمتع بالنعمة.

يقول الأب قيصريوس أسقفArles : [مات موسى وحكم يشوع! لقد بطل الناموس القديم وحكم يشوع الحقيقي، أي يسوع. حقًا يشهد الإنجيلي: “كان الناموس والأنبياء إلى يوحنا” (لو 13: 13). هذا وقد جاء في الإنجيل “موسى” بمعنى “الناموس” إذ قيل: “عندهم موسى والأنبياء” (لو 16: 29)، أي عندهم الناموس والأنبياء، ويقول الرسول: “لكن حتى اليوم حين يُقراء موسى” (2 كو 3: 15)، أي يُقرأ الناموس. إذًا، يبطل الناموس يصعد يسوع ربنا إلى العرش[36]]. وفي تعبير أخر يقول القديس إيريناوس: [كان لائقًا أن يُخرج موسى الشعب من مصر، وأما يسوع فيدخل بهم إلى الميراث. كان موسى كممثل للناموس يجب أن يتوقف، أما يشوع (يسوع) فبكونه الكلمة الذي صار جسدًا فيُبشر للشعب…[37]].

الله هو الذي دعى موسى للعمل، الآن يدعو يشوع، أو على حد تعبير الرسول بولس أن الله كلمنا قبلاً خلال الناموس والأنبياء كلمنا في هذه الأيام في ابنه (عب 1: 1).

لم يقف الأمر عند دعوة يشوع، وإنما بقى الله هو القائد الروحي الحقيقي العامل خلال يشوع، فقد أصدر له أمره “قم أُعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم” [2]. نستطيع في شيء من التجاسر أن نقول أن هذا الأمر الإلهي يمثل عملاً رمزيًا يكشف عن العلاقة بين الآب وابنه الحبيب يسوع. فإن كان يسوع قد أطاع حتى الموت موت الصليب (في 2: 8). فقد أقامه الآب ليس كعطية خارجية يمنحه إياها، وإنما كإعلان عن قبول الصليب خلال إرادة الآب بأن يقوم الابن، فيعبر هو وشعبه نهر الأردن (مياه المعمودية)، فننال شركة الميراث الأبدي. يسوع هو القيامة ( يو 11: 25)، سبق فأعلن عن نفسه أنه صاحب السلطان أن يضع نفسه حتى الموت وأن يأخذها (يو 10: 18). من أجلنا يقبل الموت ومن أجلنا يتقبل القيامة التي هي ليست بطبيعة خارجية تمنح له، إذ هو واهب الحياة (يو 11: 25). هذا ما أعلنه رمزيًا بقول الله ليشوع: “قم أُعبر” فقد قام الابن في طاعة للآب وعبر بنا قبرنا، واهبًا إيانا قوة القيامة خلال معموديته، حتى نترنم قائلين: “أقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات” (أف 2: 6).

لم يكن ممكنًا لموسى النبي أن يعبر الأردن ليدخل ارض الميراث، فإنه لا يحمل قوة القيامة ولا السلطان لتحطيم التنين الراكد في المياه (إش 27: 1)، أما يشوع فحمل رمز المسيح يسوع الذي يعبر بقوة محطمًا التنين وكاسرًا شوكة الموت بقيامته (رؤ 20: 2، 1 كو 15: 55).

 

أمانة الله في وعوده              [3-5].

 “كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمت موسى” [3].

 لقد سبق فأكد الله لموسى أن يهبهم الأرض التي سبق فوعد بها الآباء: إبراهيم وإسحق ويعقوب، فإن الله يبقى أمينًا في وعوده بالرغم من عدم أمانتنا، كقول الرسول: “فماذا إن كان قوم لم يكونوا أمناء؟! أفلعل عدم أمانتهم يبطل أمانة الله؟! حاشا! بل ليكن الله صادقًا وكل إنسان كاذبًا (رو 3: 3-4). فإن كان الجيل الخارج من مصر من عبودية فرعون قد عصى الله، لكن الله يبقى أمينًا فيحقق وعوده لأولادهم.

إنه أمين في وعوده، وهو الذي يعرف “ملء الزمان” الذي فيه يقدم عطاياه بخطته الإلهية المحكمة لخلاصنا وخيرنا. فالإنسان بسبب ضعفه البشري وإرتباطه بالزمن الزائل يود أن يرى الله واهبًا إياه كل شيء في الحال، لكن الله الذي يهتم بخلاصنا ليس فقط يعرف ماذا يقدم وإلى أي مدى يهب وإنما يحدد الموعد المناسب أيضًا حتى تُحقق هباته غايته فينا… لقد طلب إبراهيم وسارة ابنًا ربما لسنوات طويلة حتى شاخا ويئسا، فطلبت سارة من رجلها أن أن يقيم له نسلاً من جاريتها، لكن الله أعطاها إسحق من أحشائها (التي صارة في حكم الموت) ابنًا مباركًا، جاء في الوقت المناسب ليُحقق نصيبًا من خطة الله لخلاص البشرية كلها! أعطاها ما لم تكن تتوقعه أو تحلم به، لكن في الوقت الذي يحدده هو!

الله أمين في مواعيده، حتى إن حسبناه قد تأخر في العطية، هذا من جانبه أما من جانبنا فلا يليق بنا أن نقابل إيجابية حب الله نحونا بسلبيتنا، ولا أمانته بعدم الأمانة، لهذا يقول الرب لأسقف كنيسة سميرنا: “كن أمينًا إلى الموت فسأعطيك إكليل الحياة” (رؤ 2: 10). لكن من أين لنا أن نحمل هذه السمة، أي سمة الأمانة، إلاَّ باتحادنا بالأمين وحده، القادر أن يهبنا سماته عاملة فينا؟! يقول الرسول بولس: “أمين هو الذي يدعوكم الذي سيفعل أيضًا” (1 تس 5: 24)، إنه الأمين وحده القادر أن يهبنا أمانته عاملة فينا خلال شركتنا معه!

هذا من جهة أمانة الله وإلتزامنا بالأمانة أيضًا خلال اتحادنا معه، أما من جهة العطية التي قدمها فيقول: “كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته”.

كأن الله يُريد أن يدخل بنا إلى سباق بلا نهاية، فإنه يعطي بلا حدود، إنما نحن الذين نقدم الحدود. لنجر سريعًا مادمنا في العالم، ولنطأ كل محبة للعالم تحت بطون أقدامنا، فإنه كل موضع تدوسه بطون أقدامنا يقدمه لنا الله ملكًا وهبة من عندياته!

لقد عاش آباؤنا في هذا السباق، يريدون أن ينعموا بالميراث المجاني خلال جهادهم بالرب الذي لا ينقطع، كقول الرسول: “لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات، ليس أني قد نلت أو صرت كاملاً لكني أسعى لعلي أدرك الذي لأجله أدركني أيضًا المسيح يسوع. أيها الإخوة أنا لست أحسب نفسي أنيّ قد أدركت، ولكني أفعل شيئًا واحدًا إذ أنسى ما هو وراء وأمتد إلى ما هو قدام، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع” (في 3: 11- 14).

أما عن الميراث، ألعل الله يهمه أن نرث أرضنا أو يقصد المعنى الحرفي لوطء الأرض ببطون أقدامنا؟! لست أظن هذا، فإن كان قد سبق فوعد الشعب في العهد القديم بالأراضي التي تطأها أقدامهم، إنما كان هذا في جوهره يحمل ما هو أعظم: ميراثنا لمواضع علوية ندخل إليها ونقطن فيها! يرى بعض الآباء أن هذه الأراضي إنما تُشير إلى المركز الذي كان لإبليس وجنوده قبل السقوط، حيث كان ملاكًا نورانيًا مقربًا لله، كوكب الصبح المنير، هذا الذي سقط مع ملائكته، وبسقوطه أيضًا وطأ قلوبنا تحت قدميه، إذن، علينا تحت قيادة يشوع الحقيقي أن نسترد أرضنا ونطأ إبليس وجنوده تحت أقدامنا كوعد السيد أنه وهبنا سلطان أن ندوس على الحيات والعقارب وكل قوة العدو (لو 10: 19). فلا نسترد قلوبنا فحسب إنما نحتل المركز الذي كان لإبليس قبلاً.

في هذ يقول العلامة أوريجانوس: [أنظروا بماذا وعد يشوع جنوده في ذلك الحين؟ “كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته” (1: 23). كان الوعد بالنسبة للذين كانوا في ذلك الوقت يمثل أرض الكنعانيين والفرزيين واليبوسيين وكل الأمم التي نُزعت عنهم أرضهم ميراثًا بعد طرد سكانها غير المستحقين لها! أما بالنسبة لنا فهذه الكلمات تضم وعودًا أخرى: توجد أجناس شيطانية مقتدرة، نشن عليها الحرب ونصارعها بعنف شديد في هذه الحياة. فإن وطأنا بأقدامنا هذه القوات العظيمة وغلبناها في القتال نحتل أرضهم ومقاطعاتهم وممالكهم هذه التي يوزعها علينا الرب يسوع، فإن هؤلاء المقتدرين كانوا قبلاً ملائكة، لهم شركة في بهاء ملكوت الله. ألم نقرأ في أشعياء ما يقوله عن أحدهم: “كيف سقطت من السماء يا زهرة بنت الصبح؟‍‍‍!” )إش 14: 12). كان مسكن رئيس الشياطين ظاهرًا في السموات، لكنه إذ صار ملاكًا ساقطًا أستطيع أن أغلبه وأطأه تحت قدمي؛ فإذ تأهلت بالرب يسوع أن أسحق الشيطان تحت قدمي (رو 16: 20) صار ليّ الحق في التمتع بمكان رئيس الشاطين في السموات. بهذا نفهم وعد ربنا يسوع أن كل موضع تدوسه بطون أقدامنا يهبه لنا. لكي لا تظنوا أننا نقدر أن ننعم بهذا الميراث ونحن نيام في غفوة الجمود والإهمال[38]]. ويقدم لنا العلامة أوريجانوس (شيطان الغضب) كمثال ينبغي أن نذله تحت أقدامنا لكي نطرده من أرض الموعد (قلوبنا) ليماك يسوع فيها عوضًا عنه، قائلاً: [لقد أسقط الغضب الملاك من رتبته، فإن لم تنتصر عليه في قلبك، إن لم تستبعد عنك كل حركات الإثارة والغضب لن تقدر أن تنال الموضع الذي شغله هذا الملاك كميراث. لكن لا يمكنك طرده من أرض الموعد وأنت متراخ. هكذا أيضًا بالنسبة للكبرياء والحسد والأنانية والنجاسة. كل هذه الرزائل لها ملائكتها المؤذية التي توحي بالشر وتحرض عليه، إن لم تنتصر عليها في قلبك مطهرًا إياه منها، هذا الذي سبق فتطهرّ بنعمة المعمودية، لن تنعم بالميراث الموعود قط[39]].

وللعلامة أوريجانوس تفسير رمزي آخر، وهو أن المؤمن لكي ينعم بالميراث الروحي الأبدي يلزمه أولاً أن يطأ بقدميه الأراضي المنخفضة أي يطأ التفسير الحرفي القاتل لكي ينعم بالتفسير الروحي الذي يرفعنا إلى السمويات. الذي يسلك بروح الناموس الحرفي يعيش بفكر أرضي، أما من يسلك بالنعمة فيحيا روحيًا في السمويات. إنه يقول: [ما هي هذه المواضع التي تدوسها بطون أقدامنا؟‍‍! إنها رسالة الناموس الموضوعة على الأرض وترقد في الأعماق المنخفضة فلا يمكنها أن ترتفع قط مادمنا نسلك في حرفية الناموس. لذلك إن أردت أن ترتفع من الحرف إلى الروح، وتعلو من المدلول التاريخي إلى إدراك أسمي، فإنك بهذا تكون قد ارتفعت إلى المواضع السامية التي يُورثها لك الله. إن كنت تقدر أن تدرك الرموز فيما هو مكتوب وتفهم الأمور الإلهية، إن كنت تبحث بروحك وإدراكك “الأشياء التي من فوق حيث يجلس المسيح عن يمين الله” (2 كو 3: 1)، فإنك ترث هذه الأمور كقول مخلصنا وفادينا: “حيث أكون أنا هناك يكون خادمي أيضًا” (يو 12: 26). إن كنت قد بلغت إلى المسيح الجالس عن يمين الله بإيمانك وحياتك ونقاوتك وفضيلتك وبطن قدميك الذين غسلهما يسوع (يو 13: 5) فإن ترث هذه المواضع التي يهبها الله لك، وتصير وارثًا لله ووارثًا مع المسيح (رو 8: 17)[40]]. هكذا يرى العلامة أوريجانوس أن وطء الأرض بالقدمين إنما تعني انطلاقة النفس بإدراكاتها الروحية إلى الفكر الروحي والتفسير العميق لكلمة الله خلال الحياة الإيمانية النقية والمقدسة بالرب.

أما إمتداد الأرض التي يرثونها فيحددها الله هكذا: “من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات[4]. ويلاحظ في هذا النص:

أولاً: تبدأ حدودها بالبرية، فإن أرض الموعد في الحقيقة هي قلوبنا التي صارت خلال انفتاحها لعدو الخير كبرية خربة بلا حياة، يدخلها يشوع الحقيقي لتتحول من حالة البرية القاحلة إلى الجنة المثمرة التي تُفرح قلب الله. لذلك يقول النبي “تفرح البرية والأرض اليابسة” (إش 35: 1)، كما يقول أن: “بني المتوحشة أكثر من بني ذات البعل” (54: 1). وفي سفر النشيد يُقال للعروس: “من هذه الطالعة من البرية مستندة على حبيبها” (نش 8: 5). يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [نحن الذين كنا قبلاً غير مستحقين للمجد الأرضي، نصعد الآن إلى ملكوت السموات، وندخل السموات، ونأخذ مكاننا أمام العرش الإلهي[41]]. هكذا نرتفع عن البرية لا لندخل إلى جنة أرضية أو فردوس زمني، إنما إلى السموات عينها، ونكون أمام العرش الإلهي.

ثانيًا: يقول “من البرية ولبنان هذا”؛ وفي الترجمة السبعينية “موضع لبنان Antilibanon وليس لبنان ذاتها… فالميراث لا يوهب فقط لمن كانوا في البرية وإنما أيضًا للذين كانوا في “موضع لبنان”. ويرى العلامة أوريجانوس أن لبنان تُشير إلى اليهود، أما “موضع لبنان” فيُشير إلى الأمم التي احتلت مركز اليهود خلال الإيمان. فيقول: [إذا تأملت الأمة الأولى التي حسب الجسد، إسرائيل، والتي كانت الزيتونة الجيدة (رو 11: 24) فإفهم أنها لبنان الحقيقية، لكن بسبب قلة إيمانها نُزع ملكوت الله منها وأعطى لأمة تعمل أثماره (مت 21: 43). متى رأيت الأمة المطرودة، والأخرى تحتل موضعها في الملكوت إفهم أن الأمة الثانية هي “موضع لبنان” التي هي “كنيسة الله الحيّ” (1 تي 3: 15)، والتي جمعت من الأمم أيضًا (رو 9: 24) بيسوع المسيح ربنا[42]].

ثالثًا: “إلى النهر الكبير نهر الفرات… وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم” [4]. دخل نهر الأردن في تخم العبرانيين بكونه “نهر الحياة” أي المعمودية المقدسة التي بدونها لن ننعم بالميراث، ولا تكن لنا حياة. يقول الرائي: “وأراني نهرًا صافيًا من ماء الحياة لامعًا كبلور خارجًا من عرش الله والخروف” (رؤ 22: 1)، لكن لا تدخل إلى أرض الموعد مياه هذا العالم التي تملأ النفس تلفًا فلا النهر الكبير ولا البحر الكبير… يقول الرائي عن الأبدية: “ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا والبحر لا يوجد فيما بعد” (رؤ 21: 1). لتبقى مياه هذا العالم خارج تخم أرض الموعد فلا تدخل إلى قلوبنا ولا تقلق نفوسنا حتى تعبر أيامنا بسلام!

“نحو مغرب الشمس يكون تخمكم” [4]، وكأن شمس البر لن يغرب عن أرضنا قط، إنه يبقى دائمًا يشرق فينا، واهبًا إيانا إستنارة روحية لا تتوقف!

 

معيته للخدام                      [5-7].

“لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك.

كما كنت مع موسى أكون معك.

لا أهملك ولا أتركك.

تشدد وتشجع.

لأنك أنت تُقسم لهذا الشعب الأرض التي حلفت لآبائهم أن أُعطيهم” [5-6].

إن كان الله قد دعى يشوع للعمل، إنما ليكون الله نفسه هو العامل به وفيه… “كما كنت مع موسى أكون معك“. كأنه يقول له: “إن كان موسى قد نجح في تحقيق رسالته فأنا سرّ نجاحه، وأكون أيضًا معك كسرّ نجاحك!

خلال هذه المعية الإلهية لا يكون للخادم عدو شخصي، فيرى كل الناس أحباء له، يشتهي خلاصهم. وإن وجد مقاوم فهو عدو الخير الذي يُهيج الناس، وليس الناس أنفسهم، لذلك يقول له: “لا يقف إنسان في وجهك كل أيام حياتك” [5]. لا يعني هذا أن الخادم لا يجد من يقاومه، إنما يدرك أن المقاوم الحقيقي هو رئيس مملكة الظلمة! في هذا يقول الرسول: “فإن مصارعتنا ليست مع دم ولحم بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات” (أف 6: 12).

وخلال المعية مع الله أيضًا يدرك الإنسان أنه مختف في الله قائد المعركة الحقيقي فلا يخاف ولا يرهب قوات الظلمة، لأنها ليست ثائرة عليه وإنما على القائد الإلهي نفسه. لهذا يؤكد الله ليشوع: “لا أهملك ولا أتركك، تشدد وتشجع”. فالله يُريد في خدامه أن يكونوا مملوئين رجاء وثقة فيه، كما يثق الجند في قائدهم. هذا ما نلمسه بقوة في كلمات معلمنا بولس الرسول الذي أدرك أن سيده هو الغالب الحقيقي، الذي غلب كرأس حين جاءنا بالجسد، ولا يزال يغلب قوات الظلمة خلال الجسد أي خلال خدامه وكنيسته، إذ يقول: “شكرًا لله الذي يقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين ويظهر بنا رائحة معرفته في كل مكان” (2 كو 2: 14). كما يقول: “في هذه جميعها يعظم انتصارنا بالذي أحبنا” (رو 8: 37).

 

شريعته كسفر للخدام             [8-9].

إن كان الله هو الذي يختار الخادم وهو الذي يدعوه ويسنده ويكون معه كسرّ غلبته فلا يقف إنسان في وجهه كل أيام حياته، إذ يخفيه داخله هو بمواجهة كل هجوم يثيره إبليس، فإنه أيضًا يُقدم شريعته لخادمه ليلهج فيها نهارًا وليلاً، تكون كسرّ تقديس له وسرّ حكمته الإلهية تُعينه في خدمته. لهذا يؤكد الله على يشوع:

“إنما كن متشددًا وتشجع جدًا، لكي تتحفظ للعمل حسب كل الشريعة التي أمرك بها موسى عبدي،

لا تمل عنها يمينًا ولا يسارًا لكي تفلح حينما تذهب.

لا يبرح سفر هذه الشريعة من فمك، بل تلهج فيه نهارً وليلاً…” [7-8].

أمران هامان في حياة الخادم يركز عليهما الله في هذا الحديث مع يشوع، وهما أيضًا مترابطان معًا ومكملان بعضهما البعض:

أولاً: التأكد أن الله معه فيسلك متشددًا ومتشجعًا، يعمل بقوة ويقين شديد، واثقًا في الله العامل به ومعه تحت كل الظروف يقول الرسول: “إن إنجيلنا لم يصر لكم بالكلام فقط بل بالقوة أيضًا وبالروح القدس ويقين شديد” (2 تس 1-5). لهذا أكثر من مرة يؤكد الله على يشوع “كن متشددًا وتشجع، لا ترهب ولا ترتعب، لأن الرب إلهك معك حيثما تذهب” [7-9]، وبنفس الروح يقول لأرميا النبي: “لا تقل إنيّ ولد… لا تخف من وجوههم لأنيّ أنا معك لأنقذك يقول الرب… فيحاربونك ولا يقدرون عليك لأنيّ أنا معك يقول الرب لأنقذك” (إر 1: 7-8، 19). بقدر ما يختفي الخادم في الله لا يخاف غيره، إذ يبقى مطمئنًا فيه، وكما يقول القديس يوحنا الدرجي: [الذي صار خادمًا لله يخاف سيده وحده، أما من لا يخاف سيده فغالبًا ما يخاف حتى من خياله[43]].

ثانيًا: التمسك بشريعة الله عمليًا، فإنه إذ يختفي في الله مرسله يخاف الله وحده، أي يخش أن يجرج مشاعر أبوته الإلهية بكسر وصيته وعده تحقيق إرادته، لهذا يلهج في شريعة الرب ليلاً ونهارًا حتى تشغل كل قلبه وفكره وأحاسيسه وسلوكه الخفي والظاهر. بهذا تصير كلمة الله طعام الخادم وشرابه وسلاحه وسرّ راحته، أو قل جزءًا لا يتجزأ من حياته إن صح هذا التعبير. هذا هو سرّ القوة في حياة الخادم الداخلية وفي كرازته. يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: [يليق بنا حقًا لا أن نطلب معونة الكلمة المكتوبة فحسب، بل أن تظهر حياتنا نقية هكذا، فتكون لنا نعمة الروح عوض الكتب بالنسبة لنفوسنا. فكما كتبت بالحبر في الكتب تسجل بالروح في قلوبنا[44]]. كما يقول: [عدم معرفة الكتب المقدسة هو علة كل الشرور؛ إذ ندخل المعركة عُزل من السلاح، فكيف نقدر أن نغلب؟![45]].

هكذا يرى القديس يوحنا ذهبي الفم أن كلمة الله هي السلاح الحقيقي للخادم، لا يتقبلها خلال المعرفة الذهنية فحسب، أو الحفظ عن ظهر القلب، إنما خلال الحياة بها، فتشهد حياته لها عمليًا. حقًا ما أحوج العالم اليوم إلى قادة روحيين يعيشون الحياة المقدسة، ويمارسون كلمة الله كسرّ حياة لهم قبل أن يكرزوا بها بأفواههم!

 

الزاد الإلهي                      [10-11].

طلب يشوع من عرفاء الشعب أن يخبروا الشعب ألا يتسرعوا بل يتهيأوا للعبور حاملين معهم زادًا لمدة ثلاثة أيام. فمن هم هؤلاء العرفاء؟ وما هو الزاد؟

كان هؤلاء العرفاء هم المدبرين الذين يعملون تحت المسخرين المصريين لحساب عدّ الطوب (خر 5: 6)، أما بعد الخروج فيعملون كرؤساء ألوف ومئات وعشرات لتحقيق العدالة (تث 1: 15).

ما هو هذا الزاد؟…

أولاً: يرى الأب قيصريوس أن هذا الزاد لمدة ثلاثة أيام ثم بعده يعبرون الأردن للتمتع بالميراث إنما هو الإيمان بالثالوث القدوس. إذ يقول: [اليوم الثالث كما نعلم هو سرّ الثالوث. أي طعام يلزمنا أن نعده حتى نبلغ اليوم الثالث؟ يبدو ليّ أنه يليق بنا أن نفهم الزاد بالإيمان، فالمسيحيون يبلغون سرّ المعمودية (نهر الأردن) بالإيمان بالثالوث… حقًا أيها الإخوة لن يعاين الإنسان أرض الموعد الحقيقية أي الطوبى الأبدية ما لم يعبر خلال سرّ المعمودية[46]].

ثانيًا: يرى نفس الأب في الزاد لمدة ثلاثة أيام لعبور الأردن أنه التمتع بسمات الإيمان والرجاء والمحبة إذ يقول: [الإيمان والرجاء والمحبة[47]].

ثالثًا: يرى العلامة أوريجانوس أن الزاد الذي يلزمنا أن نحمله في داخلنا لكي نتبع يشوعنا الحقيقي لندخل أرض الموعد الأبدية إنما هو الكتاب المقدس أو كلمة الله مدركة بطريقة روحية ومعلنة عمليًا في حياتنا. يقول العلامة: [بعد ذلك يقول يشوع: “هيئوا لأنفسكم زادًا للطريق”، واليوم إن أصغيت يقول لك يسوع: “إن تبعتني فهيئ لنفسك زادًا للطريق”. الزاد في الحقيقة هي الأعمال التي ترافقنا في سفرنا مع المخلص خلال الطريق العتيد. ليتنا في دراستنا للكتاب المقدس نحذر من القراءة السريعة المتهاونة، وإلاَّ فكيف نستخلص الزاد؟‍‍![48]].

رابعًا: يمكننا أن نقول بأن هذا الزاد الذي يبقى معنا ثلاثة أيام إنما هو إمكانية الحياة المقامة في المسيح يسوع. فنحن نعلم أن رقم “3” يُشير إلى القيامة التي بدونها لا نقدر أن نعبر الأردن، ولا ندخل أرض الموعد، إن الزاد الذي نهيئه لأنفسنا ليس من عندياتنا، لكنه إقتناء حياة المسيح المقامة كحياة لنا، بدونها نبقى في البرية حتى نتحول إلى جثث هامدة غير قادرة على الحركة. في دراستنا لسفر الخروج تحدثنا عن سرّ الأيام الثلاثة حيث كان الحديث مع فرعون “الآن نمضي سفر ثلاثة أيام في البرية ونذبح للرب إلهنا” (خر 3: 18)، وكان فرعون يبذل كل الجهد ألا يدخلوا إلى سرّ الأيام الثلاثة، وكأنه بإبليس الذي يُريد أن يحرم الإنسان من قوة القيامة مع المسيح، فلا تُقبل عبادته ولا ينعم بالميراث. قد سبق فاختبر أبونا إبراهيم هذا السرّ حيث سار ثلاثة أيام ليقدم ابنه ذبيحة حب الله (تك 22: 4)، متطلعًا إلى علامة القيامة من الأموات، فقدم ابنه الحبيب في يقين أن الله قادر على الإقامة من الأموات (11: 9) [49].

الدور الإنساني        [12-18].

علامة حب للإنسان ليس فقط أن يهبه ولكنه يُشركه معه في العمل، لكي تلتحم إرادة الله الفائقة بإرادة الإنسان التي تتقدس باتحادها مع الله في ابنه… هذا ما برز بكل وضوح في الحديث الإلهي مع يشوع بن نون، فإن كان الله هو العامل في الدخل كواهب قوة القيامة والعبور فإن يشوع ملتزم مع الشعب أن يقوم ويعبر [1]. الله يهب الميراث مجانًا كوعده لكن ليس للكسالى والمتراخين، وإنما يقدم كل موضع تدوسه بطون أقدامهم [3] مشجعًا إياهم على السير لأجل الميراث. إنه يعلن معيته مع خادمه [5] ومساندته له ضد كل هجوم من العدو لكن الخادم ملتزم أن يتشدد ويتشجع لا يخاف إنسانًا [6-7]. الله يهبه شريعته كسند له، ولكن الخادم ملتزم أن يلهج فيها نهارًا وليلاً حتى تصلح طريقه وينجح [8]. يطلب منهم أن يهيئوا لأنفسهم زادًا، وهو يقدم لهم الزاد! يا للعجب فإن محبة الله الغنية تهب كل شيء مجانًا لكنها دون احتقار لإرادة الإنسان أو تجاهل لجهاده ومحبته!

وقد برز هذا الجانب الإنساني بكل وضوح في تصرف يشوع مع السبطين والنصف (رأويين وجاد ونصف منسي) الذين أرادوا أن يستقروا غرب نهر الأردن (عد 23: 1-5) في أرض جلعاد، وقد وافق موسى على ذلك مشترطًا أن يتركوا نساءهم وأطفالهم ومواشيهم في الأرض، لكن الرجال يعبرون مع بقية الأسباط نهر الأردن ولا يعودوا إلى جلعاد حتى يتمموا كل الجهاد مع إخوتهم ويمتلك الكل أرض كنعان… وقد حمل ذلك رمزًا لكنيستي العهد القديم والعهد الجديد، الأولى يمثلها السبطين والنصف، والثانية التسعة أسباط ونصف، وقد سبق لنا الحديث عن ذلك بأكثر تفصيل[50]. لقد كان الله قادرًا أن يُخلص التسعة أسباط ونصف دون جهاد السبطين والنصف… لكن الله يُقدس العمل البشري والوحدة، فألزمهم بالعمل مع إخوتهم مادامت لهم قوة للعمل. ماداموا قادرين على الجهاد. لا يستخدم الله المعجزات إلاَّ بالقدر الذي فيه لا يوجد طريق آخر للخلاص من المأزق!

في شيء من الوضوح أود أن أوكد تقديس الله لمؤمنيه، روحيًا وفكريًا وعاطفيًا وجسديًا، إحدى علاقات هذا التقديس أنه يستخدم الإنسان للعمل والجهاد ولا يتدخل بالعمل المعجزي الفائق إلاَّ عند الضرورة، في حالة العجز البشري! فقد كان يمكن لله الذي أخرج الشعب بيد قوية وذراع رفيعة، وعالهم أربعين سنة في البرية، وصنع لهم معجزات بلا حصر أن يقدم لهم أرض الموعد دون جهاد هذه الأسباط (السبطين والنصف) أو حتى دون جهاد كل الأسباط، لكن لو حدث هذا لما تقدست وحدة الشعب ككل ولما نالت هذه الأسباط بركة عمل الله بها.

أقول حينما نطلب أن تكون حياتنا مليئة بالعمل المعجزي الفائق إنما نطلب حرماننا من تقدير الله لنا الذي يُريد أن يعمل بقلبنا وفكرنا وأحاسيسنا وأيدينا، مقدسًا كل ما وهبنا للعمل بطريقته الخفية فينا حتى يدخل بنا أرض الميراث مكللين.

فاصل

سفر يشوع: 12345  – 6789 –  101112131415161718192021222324

تفسير سفر يشوع: مقدمة12345  – 6789 –  10111213141516 1718192021222324

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى