تفسير سفر يشوع ٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن

الأستيلاء على عاي

بسبب الخطية تحطم الشعب أمام قرية عاي الضعيفة، والآن إذ تقدس الكل ونُزع الحرام من وسطهم لم ينالوا الغلبة والنصرة عليها فحسب، إنما قدموا في طريقة غلبتهم نبوة رمزية لعمل الله الخلاصي.

عمل كمين لعاي  [1-17].

إذ نُزع الشر من وسط الشعب: “قال الرب ليشوع لا تخف ولا ترتعب. خذ معك جميع رجال الحرب وقم اصعد إلى عاي. أنظر، قد دفعت بيدك ملك عاي وشعبه ومدينته وأرضه” [1]. وأمره أن يقسم الشعب فريقين: الفريق الأول يمثل كمينًا يختفي وراء مدينة عاي، من جهة الغرب بينها وبين بيت إيل. ويبدو أن هذا الفريق أيضًا قد انقسم إلى قسمين: كمين يتكون من 30 ألف رجل جبار بأس [3] يختفي بالقرب من بيت إيل حتى يستطيعوا أن يصدوا أي تحرك لشعب بيت إيل لإنقاذ عاي، والآخر يتكون من نحو خمسة آلاف رجل [12] يكمن بالقرب من عاي ليقتحمها عندما يعطيهم يشوع إشارة بذلك؛ أما الفريق الثاني فهو الفريق الظاهر يقوم تحت قيادة يشوع بالانطلاق نحو عاي من مدخلها الأمامي، ويكون حين يخرج أهل عاي للقائهم يهربون من أمامهم فتخرج كل مدينة عاي وراءهم، وتبقى المدينة بلا ساكن فينطلق الكمين ويستولي عليها محاربًا أهل عاي من الخلف.

حمل هذا التصرف صورة حية لعمل الله الخلاصي على مستوى كنيسة العهد الجديد ككل وعلى مستوى كل عضو فيها، فهو يمثل غلبة الكنيسة الجامعة على الشيطان “ملك عاي”، وسلبه كل سلطانه وإمكانياته، كما يمثل غلبة كل نفس عليه.

 من جهة الكنيسة ككل فالفريقان يمثلان عنصرين في كنيسة العهد الجديد، جماعة من أصل يهودي وأخرى من أصل أممي، فالفريق الذي كان تحت قيادة يشوع، والذي اقترب من مدخل عاي من الأمام لكنه تظاهر بالهروب حتى يجتذب ملك عاي وكل جيشه وشعبه خارج مدينته إنما يمثل الجماعة التي من أصل يهودي والتي قبلت الإيمان بيسوع، وجاءت أمام المدينة علانية، إذ جاءت خلال الناموس والأنبياء، لتهجام بيسوعها مملكة الظلمة وتحطم الشيطان رئيسها. هذه الجماعة هي التي قال عنها السيد: “لم أُرسل إلاَّ لخراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 25: 24)، كما قال الرسول عنهم: “مجد وكرامة وسلام لكل من يفعل الصلاح اليهودي أولاً ثم اليوناني” (رو 2: 20). أما تظاهرهم بالهروب أمام مدينة عاي، فكما يقول العلامة أوريجانوس: [تظاهروا بالهروب كل الذين كانوا يتبعون يشوع، إذ هربوا من ثقل الناموس، وحفظ السبت حسب الشريعة، وختان الجسد، وتقديم ذبائح دموية. لكننا إذ نتأمل حركتهم الثانية نجد أن الذين تبعوا يشوع الكامل ومتمم الناموس لم يهربوا “بل رجعوا واقتحموا المدينة”[134]].

تظاهروا بالهروب حتى خرج ملك عاي وشعبه من مدينته وعندئذ ارتدوا عليهم وغلبوهم؛ هكذ ظهر اليهود الذين قبلوا الإيمان بالسيد المسيح أنهم تحت قيادة يشوع الحقيقي تقهقروا عن الناموس وأعماله لكنهم عادوا يدركون الناموس وأعماله بالروح لا الحرف. لقد انعتقوا من تحت الناموس ليعيشوا لا ككاسري الناموس أو مزدرين بأعماله وطقوس شريعته وإنما ليدخلوا إلى أسراره الروحية ويتفهموا أعماقه ويحققوا غايته تحت قيادة “يشوع الحقيقي” الحامل لعنة الناموس عنا.

أما الفريق الآخر فيمثل كمينين أحدهما يتكون من 30 ألف رجل بأس يقتربون من بيت إيل خلف عاي، والآخر يتكون من نحو 5 آلاف رجل خلف عاي مباشرة؛ هذان الكمينان يمثلان جماعة المؤمنين من أصل أممي. كان يشوع هو المدبر لهما وهو الذي اختارهما، لكنه لم يكن بالجسد في وسطهما، وذلك كالأمم الذين لم يحل رب المجد يسوع جسديًا في وسطهم كما حدث مع اليهود، وإنما سمعوا عنه سماع الأذن وعرفوه خلال كرازة التلاميذ والرسل. هؤلاء أيضًا لم يتقدموا إلى المدينة من الأمام بل كانوا مختفين من ورائها… إذ لم يكن لهم الناموس ولا الأنبياء ولا أُعطيت لهم عهود ولا مواعيد. وكما يقول الرسول: “إن الأمم الذين لم يسعوا في أثر البر (بالناموس) أدركوا البر، البر الذي بالإيمان” (رو 9: 30). جاءوا من خلف، ليس لهم معرفة سابقة بالناموس والشريعة والنبوات، لكنهم بالإيمان الذي في قلبهم اقتحموا المدينة وحطموا قوات الظلمة وسلبوا إبليس سلطانه وجبروته… وكان عملهم ملتحمًا مع كل الفريق الأول بقيادة يشوع نفسه!

ولعل الرقمين 30.000، 5000 الخاصين بالكمينين الغالبين لإبليس وكل جنوده يحملان مفهومان روحيين. فرقم 30.000 هو حصيلة ضرب 3 × 10 × 1000. فإن كان رقم 3 يُشير للإيمان بالثالوث القدوس أو لسرّ القيامة مع المسيح كما رأينا في الأصحاحات السابقة، ورقم 10 يُشير إلى الناموس حيث الوصايا العشر، ورقم 1000 يُشير للحياة السماوية، فإن هذا الرقم في كليته إنما يعني أن هذا الفريق من الأمم الذي لم يتسلم الناموس الموسوي ولا تعرف عليه، باللإيمان بالثالوث القدوس كما بتمتعه بالحياة المقامة في المسيح يسوع صار متممًا للناموس (10) ولكن بطريقة روحية أو سماوية (1000). لم يكسر الأمم (المؤمنون) الناموس ولا احتقروه وإنما في الإيمان صاروا في المسيح يسوع القائم من الأموات متبررين، كمن قد أكملوا الوصايا وحققوها بفكر روحي سماوي وليس بطريقة حرفية قاتلة. أما رقم 5000 فيُشير إلى تقديس حواس هؤلاء المؤمنين الذين كانوا قبلاً يعيشون في الظلمة ويتمرغون في الدنس، بالإيمان الحيّ تقدّست حواسهم الخمس وصارت لهم السمة الروحية السماوية (1000).

كما كانت الخطة متكاملة، فلا يمكن لفريق أن ينجح بمفرده، إنما يعمل الإثنان معًا، هكذا تظهر الكنيسة متكاملة بقبول أعضاء من أصل يهودي وآخرين من أصل أممي، بالرغم من اختلاف الثقافة والفكر والظروف.

إن تطلعنا إلى هذه الخطة التي قدمها الله ليشوع ليغلب عاي ويستولى عليها بكونها تمثل الحرب الروحية في حياة كل واحد منا، فإننا نحتاج نحن أيضًا إلى خطة مماثلة، فنحارب روحيًا خلال الجهاد الظاهر تحت قيادة يشوع مثل العبادة الليتورجية والأصوام والصلوات العائلية والشخصية والاشتراك في العطاء وعمل المطانيات إلخ… هذا كله يلتحم مع الحياة السرية الخفية التي تعمل ككمين تضعه النفس ضد الخطية ومملكتها وذلك تحت رعاية يسوع المسيح نفسه المخلص، مثل تنهدات القلب، والصلوات السهمية (صلاة يسوع الدائمة) وتقديس الإرادة والأحاسيس إلخ… الأمور التي لا يراها أحد ولا يدركها إلاَّ السيد نفسه. بمعنى آخر، نقول أن جهادنا الروحي ضد مملكة الظلمة إنما يكون بتقديس الجسد وأعماله الظاهرة وتقديس النفس بأعمالها الخفية، فلا انفصال للجسد في قدسيته عن الروح ولا تعارض بينهما ماداما يسلكان بالروح تحت قيادة ربنا يسوع الواحد، وهكذا تلتحم حياتنا الظاهرة مع الخفية كحياة واحدة متكاملة، تتناغم كل تصرفتنا سواء كانت في الكنيسة أو في البيت أو في العمل أو مع الأصدقاء أو المضايقين، فنعمل بروح واحد منسجم يليق بقائدنا الروحي محب البشر، وتصير حياتنا في مجملها ومن كل جوانبها حياة واحدة متناسقة أشبه بالقيثارة التي يضرب عليها رب المجد يسوع بروحه القدوس فيخرج من كل وتر نغم خاص به لكنه متناسق مع بقية الأوتار ومتكامل، يساهم في سيمفونية الحب التي لا يُنطق بها، التي يقدمها القائد لأبيه السماوي بروحه القدوس.

 

ضرب عاي  [18-28].

لم يكن ضرب عاي بحيلة بشرية، إنما بخطة إلهية استخدم الله فيها خدامه وشعبه؛ وإن كان هو الذي دبّر وهو الذي وهب النصرة. ففي البداية أمر خادمه يشوع أن يقوم ويصعد إلى عاي [1]، معلنًا أن يعطيه النصرة [1]، مقدمًا له خطة الحرب ذاتها [2]… وكان الرب نفسه يتابع كل خطواته، إذ يقول: “فقال الرب ليشوع مدّ المزراق الذي بيدك نحو عاي لأنيّ بيدك أدفعها… فقام الكمين بسرعة من مكانه وركضوا عندما مدّ يده ودخلوا المدينة وأخذوها وأسرعوا وأحرقوا المدينة بالنار” [18-20]. كان الله هو العامل وسط شعبه لكنه ليس بدونهم! إنه يفرح ويسرّ بأن يعمل لحسابهم وبهم ومعهم أيضًا! إنه يُقدّر الإنسان ويرفع من شأنه، فيهبه الخلاص مجانًا كنعمة إلهية لكنه ليس متجاهلاً الجانب الإنساني والإرادة الإنسانية بل والعمل الإنساني!

كان الأمر الإلهي أن يمد يشوع يده بالمزراق أو السهم نحو عاي لكي يدفعها الرب في يده… هذا الأمر إنما يرمز لعمل التجسد الإلهي حيث تُشير “اليد” إلى أقنوم الابن، أما بسطها فيعني إعلانها… وكأن الابن أعلن ذاته خلال التجسد، مصوبًا صليبه كمزراق يهدم به حصون إبليس ويحرق مملكته بنار روحه القدوس!

يؤكد الكتاب المقدس: “ضربوهم حتى لم يبق منهم شارد ولا منفلت” [22]. ويعلق العلامة أوريجانوس على هذه العبارة، قائلاً: [يحوي هذا النص أسرارًا، فالمعنى الذي نستخلصه هنا هو أنه يجب ألا نبقي شيطانًا واحدًا حيًا بل نقتلهم جميعًا حتى النهاية… فالقديسون هم الذين يقتلون سكان عاي ويدمرونهم ولا يتركوا أحدًا منهم يفلت. نعم إن هذا يجعل قلبهم مدققًا، فلا يخرج منه فكر شرير (مر 7: 21)؛ ويلاحظون أفواههم فلا تخرج كلمة ردية منها (أف 4: 29). هيا بنا إذن لنحارب هكذا، ونضرب عاي بحد السيف، فنطرد القوات المعادية. يمكنني أيضًا أن أهز قلب الخاطئ وذلك بسيف فمي، حيث أضرب الزنا والرذيلة، وإن بقى أي شر أزيله بحد السيف، أي بكلمات فمي فلا يبقى منهم شارد أو منفلت. آه! في اليوم الذي فيه يزول كل الأعداء (أي الخطايا) يتمجد الله كما في عيد، وأمام فشل أعدائنا نبتهج بفرح جليل. هذا على ما أظن ما قصده النبي عندما قال في مزموره: “باكرًا أبيد كل أشرار الأرض لأقطع من مدينة الرب كل فاعلي الإثم” (مز 101: 8)، أي يقطع العدو الشيطان الذي يدفع البشرية لفعل الإثم. عندما نسمع “مدينة الله” نذكر نفس كل واحد منا بكوننا “حجارة حية” (1 بط 2: 5)، تبنى بفضائل من كل نوع… لعلك لا تثق بكلامي إذ أتحدث عن الحرب ضد الخطية، لكن ثق في القديس بولس القائل لنا: “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4). فإذ يعرض لك الحرب ضد الخطية حتى الدم ألا تعني أن تقودها حتى النهاية. هذا ما يؤكده الكتاب الإلهي إذ قيل: قدسوا الحرب… “حارب حروب الرب” (1 صم 18: 17). ماذا يعني تقديس الحرب إلاَّ أن نقتل كل أعداء نفوسنا أي الشهوات القاتلة. “أميتوا أعضاءكم التي على الأرض” (كو 3: 5)، أي لتنزع عنكم كل شهواتكم الشريرة![135]].

 

صلب ملك عاي  [29].

“وأحرق يشوع عاي وجعلها تلاً أبديًا، خرابًا إلى هذا اليوم، وملك عاي علقه على الخشبة إلى وقت المساء. وعند غروب الشمس أمر يشوع فأنزلوا جثته على الخشبة وطرحوها عند مدخل باب المدينة وأقاموا عليها رجمة حجارة عظيمة إلى هذا اليوم” [29].

يعلق العلامة أوريجانوس على هذا التصرف، هكذا: [لقد سبق فقلنا أن ملك عاي يمكن مقارنته بالشيطان، فكيف عُلق هذا الأخير على خشبة؟ إن صلب يسوع كان يحمل جانبين… فقد صُلب ابن الله في الجسد بطريقة منظورة، بينما صُلب الشيطان بطريقة غير منظورة، “إذ جرّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا (كو 2: 14)… ويعلن الرسول: “إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًا لنا وقد رفعه من الوسط مسمرًا إياه بالصليب” (كو 2: 14). إذن، يوجد معنيان لصليب الله، المعنى الأول يذكره بطرس الرسول: “فإن المسيح أيضًا تألم لأجلنا تاركًا لنا مثالاً” (1 بط 2: 21)، والآخر أن الصليب يقدم كأس انتصار المسيح على الشيطان[136]].

إن كان السيد المسيح قد عُلق على خشبة الصليب ليعلن كمال محبة الله، “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16)، فإنه على الصليب قد سّمر السيد ديننا الأبدي وحطم قوة إبليس نازعًا إيانا من مملكته، فلم يعد له سلطان علينا (كو 2: 14-15). بالصليب قبلنا أن نُصلب مع ربنا يسوع فتُصلب فينا كل شهوة ردية وكل محبة زمنية باطلة، لذا يقول الرسول: “حاشا ليّ أن أفتخر إلاَّ بصليب ربنا يسوع المسيح الذي به قد صُلب العالم ليّ وأنا للعالم” (غل 6: 14). كأن الصليب يحمل وجهين: وجه الحب الإلهي الذي قدمه الابن الوحيد بقبوله إياه بسرور من أجلنا طاعة لأبيه، مما دفعنا لقبول شركة الصليب معه كإعلان لحبنا له، والوجه الآخر هو تسمير إبليس وأعماله وظلمته وخداعاته فلا يكون لها سلطان علينا!‍ بمعنى آخر عُلق السيد المسيح على الصليب جاذبًا إيانا بحبه، ومسمرًا عدونا الروحي! يقول القديس جيروم: [على الصليب خزى الشيطان وكل جيشه. بالتأكيد صُلب المسيح جسديًا، وإذ به يصلب الشيطان على الصليب[137]].

والعجيب أن تعليق ملك عاي على الصليب ارتبط بحرق عاي وجعلها تلاً أبديًا، وكأن صلب قوات الظلمة وسلبه مملكتها إنما يكون أيضًا بانفتاح نيران جهنم لإبليس وملائكته (مت 25: 41). ويعلق العلامة أوريجانوس على القول “أحرق يشوع عاي وجعلها تلاً أبديًا خرابًا إلى الأبد” [28]، قائلاً: [إن هذه العبارة تنطبق على المعنى الروحي أكثر من الحدث التاريخي، فإن الموضع الذي يشغله إبليس يصير خرابًا وتحرق مملكته، وذلك حين يملك الرب ويدين المسكونة، فلا يعود أحد يخطئ ولا يكون للخطية موضع، إذ يُقال للغالبين من الفريقين (اليهود والأمم): “تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعّد لكم منذ تأسيس العالم” (مت 25: 34)، ويقال للآخرين: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته” (مت 25: 41).

ليت يشوعنا الحقيقي يدخل كغالب ومنتصر في قلبنا؛ إن وجد فيه موضعًا لإبليس أي (عاي الداخلية) يحرقها بنار روحه القدوس ويجعلها تلاً أبديًا وخرابًا لا تعرف بعد للخطية مكانًا؛ ويُصلب ملكها فلا يكون له فينا سلطان! ليرفعه يشوعنا على خشبة لنراها “شجرة معرفة الخير والشر” (تك 2: 9)، عليها يُعلق السيد المسيح الخير الأعظم واهبًا إيانا قوة حياة (2 كو 13: 4)، وعليها يعلق الشر ليُفنى ويموت عنا!

إقامة مذبح للرب     [3-31].

 إذ دخل يشوع أرض الموعد وتحققت له النصرة على أريحا كما على عاي، تمم ما أمر به موسى من إقامة مذبح من الحجارة: “وأوصى موسى وشيوخ إسرائيل الشعب، قائلاً: “احفظوا جميع الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم، فيوم تعبرون الأردن إلى الأرض التي يعطيك الرب إلهك تقيم لنفسك حجارة كبيرة وتشيدها بالشيد وتكتب عليها جميع كلمات هذا الناموس حين تعبر لكي تدخل الأرض التي يعطيك الرب إلهك أرضًا تفيض لبنًا وعسلاً” (تث 27: 1-3). وقد حدد موضع إقامته وطريقة إقامته وغايته بكل دقة (تث 27: 4-8). ويلاحظ في إقامة هذا المذبح الأتي:

أولاً: لقد حدد الله مقدمًا موضع إقامته بـ “جبل عيبال”، وزمان إقامته: بعد عبور الأردن وقبل الانتهاء من الحروب والشعور بالراحة فيها (يش 11: 22).

جبل عيبال هو جبل السلامية حاليًا على الجانب الشمالي من نابلس، يعرف بارتفاعه (حوالي 3077 قدمًا فوق سطح البحر) سطحه صخري، لا ينبت الزيتون إلاَّ في أسفله. وهو موازي لجبل جرزيم، ليفصل بينهما مجرد وادي ضيق (تث 27: 12-13)، بالقرب من واحات مورا (تث 11: 30) وقرب شكيم (تل 12: 6، 35: 4)[138]. اختار الله هذا الجبل لكي يرتفع الشعب عليه بعد الاستيلاء على أريحا وعاي وقبل الدخول في بقية الحروب حتى ترتفع قلوبهم منذ بداية تمتعهم بمواعيد الله إلى فوق فلا ينشغلون بالأرض في ذاتها ولا بثمرها المادي من لبن وعسل، وإنما ينطلقون إلى الأعالي يطلبون السماويات مقدمين الشكر لله ويسألونه العون حتى يتممون جهادهم وينعمون بكمال الميراث. ليس لهم أن ينتظروا حتى تنتهي كل الحروب ويقيموا مذبح الرب في أورشليم، إنما يلزمهم من البداية أن ينعموا باللقاء مع الله خلال الذبيحة حتى يتمتعوا بكمال مواعيده.

إن مذبح الرب في أورشليم يُقام على يدي سليمان فيما بعد حين يتم الاستقرار تمامًا، وكأنه يمثل دخولنا السماء عينها لننعم بالوجود في حضرة الرب وجهًا لوجه خلال ذبيحته الأبدية، أما مذبح الرب في عيبال فيُشير إلى دخولنا إلى عربون السماء أثناء جهادنا على الأرض لننعم بالوجود الدائم في حضرة الرب خلال الإيمان لا العيان، خلال ذبيحته المقدسة!

ما أحوجنا في وسط جهادنا، بعد نصرتنا على أريحا وسقوطنا ثم قيامنا في عاي أن نرتفع على جبل عيبال لنقدم ذبيحة شكر لله، فننعم به هو شخصيًا بكونه غاية جهادنا وسرّ نصرتنا الروحية… بهذا يتحدد هدفنا وسط جهادنا الروحي فلا ننحرف حتى نكمل كل أيام غربتنا لننطلق إلى مذبح أورشليم العليا!

ثانيًا: يقام هذا المذبح من حجارة صحيحة “لم يرفع أحد عليها حديدًا” [30]. ما هي هذه الحجارة الصحيحة التي لم يرفع أحد عليها حديدًا، إلاَّ النفوس المؤمنة التي التفت بمسيحها فجعلها حجارة حيّة تتحد معًا خلاله “حجر الزاوية”؛ والتي صارت فيه صحيحة بعد أن حطمها عدو الخير؛ ولم يرفع أحد عليها حديدًا إذ صارت لعريسها رب المجد يسوع فلا يقدر العدو أن يقترب عليها بشره كما بحديد، بل هي محفوظة في يدي مخلصها (يو 10: 28) لا يمسها الشرير (1 يو 5: 18). هذه هي الحجارة التي تتحد معها كحجارة حيّة مقدسة فتظهر مذبحًا واحدًا للرب وهيكلاً مقدسًا له، يسكن بروحه فيه!

يتحدث العلامة أوريجانوس عن هذه الحجارة الحيّة، قائلاً: [إننا كلنا نحن الذي نؤمن بيسوع المسيح نُسمى “حجارة حيّة”، كقول الكتاب: “كونوا أنتم أيضًا مبنيين كحجارة حيّة، بيتًا روحيًا، كهنوتًا مقدسًا، لتقديم ذبائح روحية مقبولة عند الله بيسوع المسيح” (1 بط 2: 5). فيما يخص الحجارة الأرضية نضع أكثر الحجارة صلابة ومتانة أولاً حتى يمكن أن يُوضع عليها البناء كله، أما الحجارة التي تليه فهي الأقل متانة، وهكذا يكون الترتيب حتى أننا نجد في النهاية الأكثر ضعفًا في القمة تقريبًا بالقرب من السقف. هذا أيضًا ما نفهمه من جهة الحجارة الحية التي لبنائنا الروحي. ما هي الحجارة الموضوعة على الأساس؟ إنها “الرسل والأنبياء” كقول بولس: “مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية” (أف 2: 20). فلكي تجاور هذه الحجارة القائمة على أساس يجب أن تعرف أن المسيح نفسه هو أساس الذي يقوم عليه البناء، الأمر الذي يؤكده بولس الرسول بقوله: “فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساسًا آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح” (1 كو 3: 11). طوبى للذين استطاعوا أن يقيموا بناءً مقدسًا نقيًا على بناء أكثر طهارة[139]].

يقول أيضًا: [لكن في هذا البناء، أي الكنيسة، يجب أن يوجد هيكل، فإنني أعتقد من كان منكم “حجارة حيّة” يقدر أن يكون هيكلاً، فيهتم بالصلاة، ويقدم تضرعاته ليلاً ونهارًا، ويذبح ذبيحة توسلاته؛ بهذا يبني الله هيكله[140]].

ويتحدث عن مفهوم الحجارة الصحيحة التي لم يرفع عليها أحد حديدًا، قائلاً: [ماذا تعني الحجارة الصحيحة في رأيك؟ إنها الضمير الذي يليق أن يكون في كل أحد صحيحًا، ليس فيه نجاسة أو دنس جسدي أو روحي، فيحسب من الذين لم يرفع أحد عليهم الحديد، أي الذين لم يتقبلوا “سهام الشرير الملتهبة”، بل أطفأوها وحدّدوها بترس الإيمان. هؤلاء الذين لم يقبلوا قط حديد الحرب ولا حديد القتال والمنازعات وإنما يعيشون في سلام وهدوء كما يليق باتضاع المسيح. هذه هي الحجارة الحية التي يبني بها المسيح مخلصنا هيكله، حجارة صحيحة لم يرفع عليها أحد حديد، بهذا يريد أن يُقدم محرقات للرب وذبيحة سلامة. وإنني أعتقد أن الحجارة الصحيحة التي بلا دنس يمكن أن يكونوا الرسل القديسين الذي يشكلون معًا وبأجمعهم هيكلاً واحدًا، خلال وحدة قلوبهم ونفوسهم. يقول الكتاب: “كانوا يواظبون بنفس واحدة على الصلاة والطلبة” (أع 1: 14). كانوا يفتحون أفواههم قائلين: “أيها الرب العارف قلوب الجميع” (أع 1: 24). إنهم كانوا قادرين أن يصلوا معًا في كامل الاتفاق بصوت واحد وروح واحد، لذلك يمكن أن يبنوا هيكلاً واحدًا بكل سهولة، فيه يمكن أن يُقدم يسوع ذبيحة للآب! أما من جانبنا نحن فعلينا أن نسعى لكي يكون لنا القول الواحد، والنفس الواحدة والفكر الواحد (1 كو 1: 10)، “لا شيء بتحزب أو بعجب” (في 2: 3)[141]].

ليت يشوعنا الحقيقي يتقبل كل مؤمن منا كحجر حيّ ملتحم به، ومقدس فيه بروحه القدوس، فنُحسب حجارة صحيحة بلا عيب، نتحد بالحب معًا في انسجام وتكامل كمذبح واحد عليه تُقدم ذبيحته المقدسة موضع سرور أبيه!

ثالثًا: “وكتب هناك على الحجارة نسخة توراة موسى…” [22]؛ هكذا يلتحم المذبح بالشريعة؛ أو العبادة بالوصية. فلا قبول لحياتنا كذبيحة حب لله بالعبادة وحدها دون الطاعة للوصية الإلهية، ولا طاعة للوصية ما لم يعمل الله فينا خلال الذبيحة والعبادة. حياتنا مع الله وحدة واحدة، لا يمكن تقسيمها إلى حياة تعبدية وأخرى سلوكية، إنما هي حياة في المسيح يسوع الواحد، ونحن نعبد الله نقدم حياتنا السلوكية ذبيحة لله في المسيح يسوع الذبيح الفريد، وفي سلوكنا المسيحي نحن نمارس هذا السلوك لنقدمه ذبيحة لله في المسيح يسوع قائد نفوسنا.

إن كنا بيشوعنا الحقيقي نصير حجارة حيّة في مذبحه المقدس إنما لنحمل فينا ربنا يسوع المسيح الذبيح، وإن كان يشوعنا يكتب وصيته علينا إنما لكي نتقبل ربنا يسوع كلمة الله الحيّ في داخلنا. هو الذبيحة وهو الوصية، فينا يُعلن خلال ذبيحة صليبه، كما يُعلن خلال وصيته.

ما فعله يشوع من كتابة توراة موسى على حجارة المذبح إنما يُشير إلى سر الأفخارستيا الذي به تُقدم لنا الذبيحة المقدسة غير منفصلة عن كلمة الإنجيل والوصية. لهذا لا يُقام هذا السرّ بدون قداس الموعوظين حيث نتقبل فيه الكلمة المكتوبة والمعلنة خلال الكتاب المقدس[142]].

 

الاهتمام بالشريعة    [32-35].

إذ بنى يشوع مذبحًا للرب في جبل عيبال، وكتب نسخة توراة موسى أمام بني إسرائيل، يقول الوحي: “وجميع إسرائيل وشيوخهم والعرفاء وقضاتهم وقفوا جانب التابوت من هنا ومن هناك مقابل الكهنة اللاويين حملي تابوت عهد الرب، الغريب كما الوطني، نصفهم إلى جهة جبل جرزيم ونصفهم إلى جهة جبل عيبال كما أمر موسى عبد الرب أولاً لبركة شعب إسرائيل، وبعد ذلك قرأ جميع كلام التوراة البركة واللعنة حسب كل ما كُتب في سفر التوراة” [33-34].

هكذا يُقام احتفال مهيب حيث يقف ستة أسباط على جبل عيبال، هم رأويين وجاد وأشير وزبولون ودان ونفتالي؛ وستة أسباط على جبل جرزيم، يتبادلون القراءة، حيث يقرأ فريق جبل جرزيم البركة والفريق الآخر اللعنة؛ الفريق الأول يعلن بركة الرب لطائعي الوصية والفريق الآخر يعلن اللعنة على مقترفي الجرائم والآثام والحائدين على وصايا الرب.

لقد سبق فتحدثنا عن جبل عباريم، أما بالنسبة لجبل جرزيم فهو صخري منحدر، يكون الحد الجنوبي للوادي الذي تقع فيه نابلس أو شكيم. ارتفاعه حوالي 2849 قدمًا فوق سطح البحر المتوسط و700 قدمًا فوق المدينة، يبعد حوالي 40 ميلاً شمال أورشليم. يقول يوسيفوس[143] إنه في عهد الإسكندر الأكبر بنى سنبلط هيكلاً في جبل جرزيم مقابل هيكل أورشليم، ذلك لأن الكهنة اليهود قد هددوا زوج ابنته منسي أخا يدوع رئيس الكهنة ألا يقبلوه في الهيكل ما لم يُطلق ابنة سنبلط، فأقام له هذا الهيكل حتى لا يطلقها. ويعتبر هذا الهيكل هو أصل الهيكل السامري الذي أشارت إليه السامرية في حديثها مع السيد المسيح (يو 4: 20-21). وكانت بئر يعقوب في سفح الجبل والذي يُسمى الآن بجبل الطور[144].

حقًا لقد تسلم موسى الشريعة على لوحين حجريين، أما الآن فيكتب يشوع الشريعة على حجارة المذبح، لماذا؟ يقول العلامة أوريجانوس: [إن أردت أن ترى كيف صارت الشريعة الأولى بلا فائدة فكتب يشوع الشريعة الثانية اسمع ما يقول الإنجيل: “قد سمعتم أنه قيل للقدماء… وأما أنا فأقول لكم” (مت 5: 33)… هذه هي التوراة التي كتبها يشوع على حجارة حيّة وصحيحة، فتظهرون “أنكم رسالة المسيح مخدومة منا مكتوبة لا بحبر بل بروح الله الحيّ، لا في ألواح حجرية بل في ألواح قلب لحمية” (2 كو 3: 3)[145]]. هكذا بعد أن تسلم موسى الشريعة في لوحين منفصلين عن المذبح جاء يشوع ممثلاً ليسوع ربنا ليكتب الشريعة على الحجارة الصحيحة الحيّة، أي في قلوبنا الداخلية، المذبح الخفي لله، إذ يكمل العلامة أوريجانوس تعليقه على هذا الأمر قائلاً: [حتى الآن يكتب يشوع التوراة، بواسطة كلامنا، في قلوب الذي يتقبلون الكلمة بإيمان صحيح وبكل روحهم، وبأذن صحيحة وقلب صحيح وفكر غير رديء، فيرون بالإيمان ويسمعون ويتمسكون بما تقوله لهم حيث يجب أن تكتب التوراة على “حجارة صحيحة”[146]].

بعد كتابة الشريعة على الحجارة الحية أُقيم المحفل المهيب انطلقت فئة على جبل جرزيم، جبل البركة، والأخرى على جبل عيبال، جبل اللعنة التي تهدد الخطاة. ويلاحظ أن الأسباط الأكثر شرفًا ونبلاً ارتفعت إلى جبل جرزيم لتنطق بالبركة التي تحل على المؤمنين السالكين في طاعة للشريعة، أما الأسباط الأخرى الأقل نبلاً فارتفعت على جبل عيبال تردد اللعنة التي تحلّ بالأشرار العصاة. ويرى العلامة أوريجانوس أن هذا المحفل إنما يُشير إلى وجود فئتين من المؤمنين، إحداهما أكثر غيرة من الأخرى، وأكثر مبادرة نحو المخلص: [الفئة الأولى ملتهبة بالشوق نحو المواعيد السماوية، تُظهر حماسًا ونشاطًا عظيمًا حتى لا يفلت منها التطويب الأبدي، ترغب ليس فقط أن تستحوذ على البركة ويكون لها “شركة ميراث القديسين” (كو 1: 12) وإنما أن تكون دائمًا في الحضرة الإلهية، مع الرب على الدوام. أما الفئة الثانية فتبحث أيضًا عن الخلاص لكن بحب أقل التهابًا من الفئة السابقة، مكتفية ألا تذهب إلى النار الأبدية وألا تطرح “في الظلمة الخارجية” (مت 8: 12)… الذين يتقدمون إلى جبل جرزيم مختارون للبركة، وهم يتقدمون ليس خوفًا من العقاب إنما شوقًا للبركة ولتنفيذ الوصايا. أما الآخرون الذين يتقدمون إلى جبل عيبال والذين يطلق عليهم لفظ “اللعنة” فهم يمثلون المتقدمين خشية العقاب وخوفًا من العذابات، فيتممون ما هو مكتوب في الناموس ويبلغون إلى المخلص خلال هذا المنهج. الرب وحده هو الذي يعرف من كان بيننا يصنع الخير لأجل ذاته، والذين على العكس يبحثون عنه خوفًا من جهنم[147]].

 يؤكد الوحي الإلهي أن يشوع بن نون هذا هو الذي قرأ سفر التوراة، أو ناموس موسى قدام كل جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم [34-35]، وهنا يلاحظ الآتي:

أولاً: قام يشوع بنفسه بقراءة توراة موسى، وكأنه يمثل يشوعنا الحقيقي، ربنا يسوع الذي قام ليملك فينا بعد موت الحرف الموسوي ليقرأ لنا الناموس الموسوي، لكن ليس خلال البرقع، ولا خلال الرموز والظلال، إنما يدخل بنا إلى أسراره الخفية بفكر روحي فائق. يقول العلامة أوريجانوس: [لقد قرأ يشوع الناموس عندما أظهر سرّ الناموس. فإننا نحن أعضاء الكنيسة الجامعة لا نحتقر ناموس موسى بل نقبله بشرط أن يقوم يسوع بقراءته، فإننا لا نفهمه كما ينبغي ما لم يقرأه المسيح فندركه أحكامه ونظرته. نعم ألم يستلم بولس طريقة تفكير يسوع عندما قال: “نحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله” وأيضًا – تلميذا عمواس- “قالا بعضهما لبعض: ألم يكن قلبنا ملتهبًا فينا إذ كان يُكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب” (لو 24: 32)، إذ كان المسيح قد “ابتدأ من موسى ومن جميع الأنبياء يفسر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب (لو 24: 27)[148]].

ثانيًا: يتحدث ربنا يسوع إلى “جماعة إسرائيل والنساء والأطفال والغريب السائر في وسطهم” [35]. ماذا يقصد بهذه الفئات؟

أ. يتحدث عن الرجال الإسرائيليين بكونهم “جماعة إسرائيل”، وكما سبق أن تحدثنا في سفر العدد أن كل عضو في الكنيسة أو “جماعة إسرائيل الجديد” سواء كان رجلاً أو امرأة، شيخًا أو طفلاً، شبًا أو فتى… يلزم أن يلتزم بالرجولة الروحية أو النضوج لا يعرف تدليل النساء ولا عجز الأطفال، لذا جاءت الوصية الرسولية لكل الأعضاء “كونوا رجالاً”. ولهذا جاء إحصاء الشعب قديمًا يحوي الرجال دون النساء والأطفال (عد 1: 2-3).

ب. إن كان يشوع يتحدث إلى جماعة إسرائيل كرجال ناضجين يتقبلون الوصية الإلهية، هؤلاء الذين ينعمون بالطعام القوي بسبب التمرن إذ صارت لهم الحواس المدربة على التمييز بين الخير والشر (عب 5: 14) لكنه أيضًا يُقدم الطعام اللائق بالنساء واللبن الخاص بالأطفال. وكما يقول العلامة أوريجانوس: [إن فئة النساء والأطفال والغرباء تمثل النفوس الضعيفة التي لا تزال تحتاج إلى اللبن[149]]. إن كان الرجال يمثلون النفوس القوية ذات الحواس المدربة، فإن النساء يمثلن النفوسة الضعيفة والمحتاجة إلى من يسندها فتمتثل بالنفوس القوية. يسوعنا الحق لا يرفض حتى هذه النفوس بل يقوم بنفسه بالحديث معها حتى يرتفع بها من حالة التدليل والترف إلى المثابرة والنضوج. أما الأطفال روحيًا فلا يحتقرهم ربنا يسوع بل يحتضنهم ويعولهم باللبن حتى ينضجوا ويصيروا قادرين على التمتع بالطعام القوي. ولا يتخلى السيد حتى عن الغرباء، أي الموعوظين الذين يرغبون في الدخول إلى الجماعة المقدسة، فإنه يتحدث معهم حتى يسرع بهم إلى العضوية في جسده المقدس ويحسبون أبناء الله الحقيقيين.

إذ خشى العلامة أوريجانوس أن يُفهم النص الذي بين أيدينا على أساس وجود تفرقة بين الجنسين: الذكور والإناث، قال: [الكتاب المقدس في الواقع لا يُقيم تفرقة بين الرجال والنساء حسب الجنس، وإنما أمام المسيح لا يوجد فرق بين الجنسين، بل يتحقق الاختلاف في القلب الذي يقسم (المؤمنين) إلى رجال ونساء. فكم من نساء يمتثلن أمام الله كرجال أقوياء، وكم من رجال يحسبون كنساء متكاسلات؟! ألا تعتقد معي أنه يجب أن يُحصى بين النساء والرجال القائلين: “لا أستطيع أن أبيع كل ما ليّ وأعطيه للفقراء، ولا أقدر أن أقدم خديّ للضارب، ولا أن أبارك من يلعنني أو أُصلي من أجل المُسيئين إليَّ، أو أحتمل من يضطهدني؟![150]].

على أي الأحوال أيًا كان حال نفوسنا يلزمنا أن نسمع ليشوع الحقيقي وهو يتحدث معنا، فإن كان رجالاً نسمع لنثبت فيه وننمو إلى قياس ملء قامته، وإن كنا نساءً ننصت لكي ينزع تراخينا ويدخل بنا إلى النضوج الروحي، وإن كنا أطفالاً فلنجري إليه حتى يرفعنا إلى الرجولة الروحية، وإن كنا لا نزال غرباء لنقبل إليه حتى يُقربنا إليه ويحملنا فيه إلى أبيه السماوي.

فاصل

سفر يشوع: 12345  – 6789 –  101112131415161718192021222324

تفسير سفر يشوع: مقدمة12345  – 6789 –  10111213141516 1718192021222324

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى