تفسير سفر يهوديت 12 للقمص تادرس يعقوب ملطي

يهوديت في خيمة أليفانا

 

1. يَهوديت لم تتدنس بأطاييب أليفانا

 

1 –4.

2. يَهوديت في خيمة أليفانا

 

5 –6.

3. يَهوديت تتطلب إذًا للخروج للصلاة

 

7 –9.

4. يهوديت في مأدبة أليفانا

 

10 –20.

1. يَهوديت لم تتدنس بأطاييب أليفانا

ثُمَّ أمَرَ بإِدخالِها إلى حَيث وُضِعَت آنِيَته الفِضّة،

وأَوصى بِأَن تُطعَمَ مِن مأكولاتِه،

وتَشرَبَ مِن خَمرِه [1].

منح أليفانا امتيازات خاصة ليهوديت وإن كانت تحت حراسة مشددة، وأمر أن يُقدم لها من طعامه الخاص، وعلى مائدته الرسمية.

آنيته الفضية“: يُعتبر هذا امتياز كبير يُقدم لها أن تأكل بذات أدواته الذهبية والفضية.

فقالَت يهوديت: “لا آكُلُ مِنها،

لِئَلاَّ يكونَ في ذلك سَببُ عَثرَة،

بل يَكفيني ما أَتَيتُ بِه” [2].

في جرأة وشجاعة وبأدبٍ رفضت أن تتنجس بأطايب القائد الوثني، متمسكة بصومها وطقوس الشريعة. حقًا لقد استخدمت الحيلة لأجل إنقاذ شعبها، لأنه لم يكن أمامها بديل، لكنها لم تتهاون في طهارتها وقداستها وتنفيذها للشريعة ما دامت تستطيع ذلك.

قالَ لَها أَليفانا: “إِذا فَرَغَ الَّذي مَعكِ،

مِن أَينَ نأتيكِ بِمِثلِ ذلك لِنُقدِّمَه لَكِ؟

فلَيسَ عِندَنا أَحَدٌ مِن نَسلِك” [3].

قالَت لَه يهوديت: “تحيا نَفْسُكَ، سَيِّدي،

إِنَّ أَمتَكَ لا تَستَنفِدُ ما معي حَتَّى يَصنَعَ الرَّبّ بِيَدي ما أَرادَه” [4].

تحيا نفسك سيدي“: استخدمت يهوديت هذا التعبير ليس على سبيل التحية والدعاء، وإنما على سبيل القسم، مثل القول: “حية هي نفسك” (2مل2: 2). لقد أقسمت بأن الله يحقق لها ما خرجت من أجله قبل أن تنفذ خبزاتها الطقسية القليلة.

2. يَهوديت في خيمة أليفانا

وقادَها ضُبَّاطُ أَليفانا إلى الخَيمة،

 فنامَت حَتَّى نِصفِ اللَّيل.

ثُمَّ نهَضَت عِندَ هَجيعِ الفَجْر، [5]

في مثل هذه المواقف يصعب على الإنسان أن ينام، إذ يشغل الأمر فكره، ويجعله في حالة ارتباك شديد، لكن يهوديت نامت لهي مطمئنة وواثقة في عمل الله معها وخلالها. إنها كبطرس الرسول الذي نام في السجن في طمأنينة.

وأَرسَلَت إلى أَليفانا تَقول:

“لِيأمُرْ سَيِّدي بِأَن يُؤذَنَ إلى أَمَتِه في الخروجِ لِلصَّلاة” [6].

إذ جاءت اللحظة الحاسمة وقفت يهوديت أمام السرير تصلي بدموعٍ وفي صمتٍ (13: 6).

3. يَهوديت تتطلب إذًا للخروج للصلاة

فأَوصى أَليفانا حُرَّاسَه بعَدَمِ التَّصَدِّي لَها.

وبَقِيَت في المُعَسكَرِ ثَلاثَةَ أَيَّام.

وكانَت تَخرُجُ لَيلًا إلى وادي بَيتَ فَلْوى،

وتَغْتَسِلُ في المُعَسكَرِ في عَينِ الماء [7].

يهوديت تسأله الدخول والخروج 3 أيام لتتعبد للّه (رمز القيامة) ولقاؤها معه وإعجابه الشديد بها. حملت قوة القيامة الغالبة (12). في اليوم الرابع وافقت أن تجلس مع القائد وتأكل وتشرب، لكنها أكلت مما هيأته لها جاريتها، وطلب القائد من بوغا خصيه أن ينطلق ويتركهما. شرب القائد كثيرًا جدًا أكثر مما شرب في جميع حياته.

غالبًا ما أُعطيت علامة “كلمة سرّ” تنطق بها فتعبر وسط المعسكر وتخرج وتدخل في أمان.

كانت يهوديت تبدأ يومها بالصلاة عند الفجر، تقدم باكورة اليوم لله.

كانت يهوديت تحرص على طهارة الجسد كما على طهارة النفس، فكانت تبدأ يومها بالاغتسال والتطهر بعيدًا عن معسكر الوثنيين الذين اضطرت أن تسكن إلى حينٍ في وسطهم. واختارت أن تغتسل بمياه يهودية، عند سفح الجبل المقامة مدينتها عليه.

وبَعدَ صُعودِها كانَت تتَضَرَّعُ إلى الرَّبِّ إِلهِ إِسْرائيل،َ

أَن يُرشِدَ طَريقَها لِلنُّهوضِ بِبَني شَعبِها [8].

كان من عادة الملوك والقادة أن يحتفظوا بسلاحٍ شخصي يُعلق في أحد أعمدة سريره، ربما كنوعٍ من الافتخار بقوته وعمله العسكري، أو تحسبًا لأي طارئ قد يهدد حياته، لا سيما من قِبل رجال البلاط الملكي. كما كان كل منهم يحمل سلاحه أثناء الطريق. وقد اعتاد كثيرون على تعيين شخص يحمل سلاحًا لحمايته، يُدعى “حامل السلاح” (1صم3: 4-6).

جاء في بعض ترجمات أن هذا السلاح هو خنجر والبعض سيف، ولعله كان سيفًا صغيرًا.

استمدت يهوديت في هذه اللحظة التاريخية الحاسمة قوة من الله وضربت العنق مرتين حتى انفصلت الرأس عن الجسم. نزعت الناموسية ولفت بها الرأس حتى تؤكد أنه قُتل في عُقر داره.

لم تقتل يهوديت أليفانا عن عداءٍ شخصي أو انتقامًا لضرر شخصي أصابها، ولا رغبةً في نوال شيء مادي أو معنوي، إنما غيرةً على الله الذي يود الملك بقائده أن يحتل مركزه في قلوب البشر، ودفاعًا عن شعبها والمدينة المقدسة وهيكل الرب.

كان موقفها كموقف القائد الذي يدخل في معركة دفاعًا عن وطنه.

وإذا عادَت طاهِرة،

كانَت تُقيمُ في الخَيمة،

إلى أَن يُقَدَّمَ لَها طَعامُها عِندَ المَساء [9].

بجانب الاغتسال والتطهر بمياه يهودية، وتقديم ذبيحة الصلاة والشكر مع بداية النهار، كانت تعود لتقضي يومها في خيمتها التي حولتها إلى مكانٍ للعبادة، وتمارس الصوم فلا تأكل إلاَّ في المساء. هكذا اقترن سهرها بالصلاة والتأمل والصوم (مز63: 7؛ 119: 62؛ مز147؛ مز148؛ حك16: 28).

لقد حولت خيمة الوثنيين التي يحيط بها خيام الوثنيين الأشرار إلى مكان مقدس للعبادة.

4. يهوديت في مأدبة أليفانا

وكانَ في إلىَومَ الرَّابِعَ أَنَّ اليفانا أقامَ مأدُبةً لخدامِه وَحدَهم،

ولم يَدْعُ إليها أَحدًا مِن ضُبَّاطه [10].

وضعت الوصيفة الرأس في جعبتها التي اعتادت أن تحملها أثناء خروجهما من المعسكر للصلاة.

إذ حان وقت الفجر حيث اعتادتا على الخروج للصلاة انطلقتا في هدوءٍ واجتازتا المعسكر، دون أن يعير ذلك انتباه الجنود. انطلقتا لا إلى خارج المعسكر فحسب، وإنما بلغتا هذه المرة إلى باب مدينة بيت فلوي.

استمرت عبادة يهوديت لمدة ثلاثة أيام، وهي المدة التقليدية في التكريس والانقطاع للعبادة والتوسل إلى الله في فترات الضيق والخطر، وهي المدة التي كثيرًا ما يتفرغ فيها رجال الله للعبادة لطلب مشورة الله في أمرٍ خطير. وقد انقطع يونان للعبادة في بطن الحوت ثلاثة أيام، وأيضًا أهل نينوى للتوبة والرجوع إلى الله.

إذ أقام أليفانا وليمة لكبار ضباطه، دُعيت إليها يهوديت، أدركت أن هذا الأمر قد تحقق بسماحٍ إلهي لتُنفذ خطتها.

وقالَ لِبوغا خَصِيِّه القائمِ على جَميعِ أَعْمالِه:

“اِذهَبْ وأقنِعِ المرأَةَ العِبرانِيَّةَ الَّتي عِندَكَ بِالَمجيءَ إِلَينا

والأَكلِ والشُّربِ معَنا [11].

فإِنَّه عارٌ عِندَنا أَن نُخلِيَ سَبيلَ مِثلِ هذِه المرأَةِ دُونَ أن نُعاشِرَها.

وإن لم نَستَمِلْها سَخِرَت بِنا” [12].

فخَرَجَ بوغا مِن وَجهِ أَليفانا، ودَخَلَ إِلَيها فقال:

“لا تتردَّدْ هذه الخادِمةُ الحَسْناءُ في المَجيءَ إلى سَيِّدي،

لِتُكَرَّمَ أَمامَ وَجهِه وتَشْرَبَ مَعَنا خَمرًا بِفَرَح،

فتُصبِحَ في هذا إلىَومِ كاَبنَةٍ مِن بَناتِ بَني ًأشُّور،

اللَّواتي يُقِمنَ في بَيتِ نَبوخَذنَصَّر” [13].

ظن أليفانا ورجاله أن دعوة يهوديت للمأدبة وضمها إلى الجواري في بيت الملك أمر يشرفها ويبهج قلبها، ولم يدركوا أنها قدمت قلبها وحياتها مكرسة للعريس السماوي.

قالَت لَه يَهوديت: “ومَن أَنا حتَّى أُخالِفَ سَيِّدي؟

كُلُّ ما حَسُنَ في عَينَيه أَصنَعُه مُسرِعةً،

ويكونُ ذلك فرَحًا لي حتَّى أَيَّامَ مَوتي” [14].

ثُمَّ قامَت وتزَيَّنَت بِمَلابِسِها وبِجَميع زبنَتِها النِّسائيّة،

ودَخَلَت وَصيفَتُها،

وفَرَشَت لَها على الأَرضِ تُجاهَ أَليفانا

الجُزَزَ الَّتي حَصَلَت علَيها مِن بوغا لاستعمالها إلىَومِيِّ في الأَكلِ،

وهي مُتَّكِئةٌ علَيها [15].

ثُمَّ دَخَلَت يَهوديتُ واتَكأَت،

فشُغِفَ بِها قَلبُ أَليفانا واضطَرَبَت نَفسُه،

واشتَدَّت شَهوَتُه لِمُضاجَعَتِها.

وكانَ يتَرَقَّبُ الفُرصةَ لإِغوائِها مِن يومِ رآها [16].

إذ خلق الله آدم وحواء رأى كل شيء حسنًا جدًا. فالإنسان بروحه وجسده وطاقاته ومواهبه وكل إمكانياته هو عطية الله الصالحة. إن اُحسن استخدمها كانت لمجد الله وبنيان البشرية وخلاص الإنسان، وإن أساء استخدامها حطمته وأساءت إلى الجماعة، كما قد يُجدف على اسم الله بسبب سوء استخدامنا لما وُهب لنا.

كانت دليلة جميلة، واستخدمت جمالها ورقتها لتسحب من شمشون تعقله، وتفقد قوة الله العاملة فيه. وكانت يهوديت جميلة، وتقَّدس جمال جسدها بجمال روحها وغيرتها وتعقلها، فخلصت من الشر الذي كان سيلحق بها كما أنقذت كل شعب الله بروح الإيمان مع الصلاة والطهارة والعفة والحكمة.

فقالَ لَها أَليفانا: “اِشرَبي وشارِكينا في الفَرَح” [17].

فقالَت يَهوديت: “أَشرَبُ، يا سَيِّدي،

فقَد كَرُمَت عِندي الحَياةُ في هذا إلىَومِ أَكثَرَ مِنها في جَميعِ أَيَّامِ حَياتي” [18].

وتَناوَلَت ما كانَت قد هيَّأَته وَصيَفَتُها،

فأَكَلَت وشَرِبَت بِحَضرَتِه [19].

ففَرِحَ أَليفانا بِها، وشَرِبَ مِنَ الخَمرِ شَيئًا كثيرًا جِدًّا،

أَكثَرَ مِمَّا شَرِبَ مِنها في يَوم واحِدٍ مُنذُ مَولدِه [20].

فرح أليفانا يهوديت وشرب خمرًا كثيرًا ليحقق شهواته الجسدية والملذات، بينما تهللت يهوديت إذ رأت عمل الله واضحًا وأنه قد أنجح طريقها لإنقاذ شعبه.

لقد فقد أليفانا وعيه وعقله بل ورأسه قبل أن تطيح بها يهوديت.

* لماذا أتحدث عن الرجال؟ لم تتأثر يهوديت قط بمأدبة أليفانا المترفة، فحققت النصرة التي يئس منها رجال الجيوش، وذلك خلال ضبط نفسها وحدها. لقد أنقذت بلدها من الاحتلال الأجنبي، وقتلت قائد الحملة بيديها. هذا برهان واضح أن الترف أضعف ذلك المقاتل المرعب للأمم؛ وأن ضبط النفس جعل هذه المرأة أقوى من الرجال. في هذا المثال لم تسمً طبيعة جنسها (كامرأة)، وإنما غلبت خلال نسكها(107).

القديس أمبروسيوس

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى