تفسير مراثي إرميا أصحاح ٥ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الخامس
انتظر الرب الملك الأبدي وتوسل إليه
في المرثاة الأولى بدأ الكاتب يصف ما حل بهم من دمارٍ كثمرة طبيعية للإصرار على المعصية والخطية. وكشفت المرثاة الثانية عن غضب الله ضد الخطية. وفيالثالثة انفتح بالأكثر باب الرجاء، وأن الله صالح ورحوم ومراحمه جديدة في كل صباح يقدم الشفاء للجرحى. وجاءت المرثاة الرابعة تكشف عن إمكانية السقوط حتى بعد الرجوع لله، فتقارن بين ما كان عليه الحال حين أقام الله العهد مع شعبه، وما بلغه الشعب بإصراره على كسر الميثاق. الآن في المرثاة الخامسةيُختم السفر بصلاة، يعلن فيها أن ما حدث يسجله التاريخ درسًا خطيرًا، حتى يرجع الشعب في كل العصور إلى الله بالتوبة خلال مساندة الله نفسه.
هذه المرثاة الأخيرة هي صلاة شعرية وتضرع أمام الرب، لكي يعود الله ويتراءف على شعبه الساقط تحت التأديب. هكذا يدعونا النبي مع يعقوب الرسول: “أحزين أحد فليصلِّ”. يسكب متاعبه أمام الله القادر وحده أن يشفيه من جراحات التأديب. وهي صلاة جماعية وشخصية في نفس الوقت، لأن الرجوع لله يتحقق على المستويين.
من جهتنا نعلن بالصلاة الحاجة إلى الله واهب الحياة والحرية والفرح والسلطان الروحي والميراث الأبدي. ومن جهة الله نفسه، يشتاق أن ينطلق بنا إلى بداية جديدة!
تتكون هذه المرثاة من 22 بيتًا، إلا أنها لا تتبع الترتيب الأبجدي، ويلاحظ أنها أقصر من المراثي السابقة، وذلك لأن أعدادها عبارة عن ثنائيات قصيرة.
تبدأ هذه المرثاة بوصف أمجاد أورشليم السابقة، وحالة بؤسها الحاضرة. ويمكن تقسيمها إلى:
- صهيون تتوسل بسبب أحزانها، وما وصلت إليه، وبسبب الذين يحتقرونها [1-18].
- التوسل إلى الرب على أساس سيادته المطلقة وعدم تغيره، مع صلاحه وأمانته [19-22].
تحتوى هذه الصلاة على أربعة عناصر رئيسية:
1. اذكر يا رب حالنا 1 – 15
هذه الصلاة أو الصرخة الخارجة من القلب، تمثل حال الباقين في أورشليم بعد تدمير المدينة والهيكل وسبي الأشراف والعظماء والقادة وأصحاب المواهب والمهن.
صوّر النبي الخراب الذي حلّ بهم، لا بتذمرٍ على الله، وإنما لاستعطاف مراحمه، إذ حملت هذه المرثاة اعترافًا أمامه مع طلب العون الإلهي، لا من أجل الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم، وإنما من أجل الرجوع إليه، فإن الخطر كل الخطر أنهم صاروا مرفوضين من الله، ولكن إلى متى، والله رحوم!
أ. إلحاق العار بهم [1]، ويعتبر هذا أبشع دمار، لأن فيه إهانة للشعب المعتز بكرامته كشعب الله وبإلهه وعبادته وقداسته، الآن صار في عارٍ أمام الأمم الوثنية!
ب. فقدان الميراث والبيوت [2]. فقد سبق فتحقق وعد الله لإبراهيم وبقية الآباء، وتمتعوا بأرض الموعد، والآن صارت خرابًا وامتلكها غرباء. وما هو أخطر أن الأعداء استولوا على بيوتهم الخاصة، فصاروا بلا مأوى.
ج. يُتم وترمّل [3]. فقد كان الله أبًا لهم، وعريسًا للأمة كلها، فارقهم، فصاروا في حالة يُتم وترمّل.
د. شراء مائهم من العدو بالفضة، وأيضًا الحطب الذي سبق فجمعوه، لم يكن لهم حق استعماله [4].
ه. المعاناة من الاضطهاد [5].
و. العمل لحساب الغرباء، من أجل قطعة خبز [6].
ز. تحمل ثمرة خطأ آبائهم [7].
ح. السقوط في العبودية لسادة هم عبيد [8].
ط. التعرض للقتل بالسيف من أجل قطعة خبز [9].
ي. مجاعة خطيرة [10].
ك. إذلال النساء والعذارى [11].
ل. إهانة للرؤساء، وقسوة على الشيوخ [12].
م. مذلة للشبان والصبيان [13].
ن. فقد الشيوخ دورهم، والشبان تعب أيديهم [14].
س. تحوُّل الفرح إلى نوح[15].
ا. إلحاق العار بهم
اُذْكُرْ يَا رَبُّ مَاذَا صَارَ لَنَا.
أَشْرِفْ وَانْظُرْ إِلَى عَارِنَا [1].
انسحقت نفس النبي تمامًا مع الباقين في البلاد، إذ لم يعد يقدر أن يرفع رأسه من العار العظيم الذي لحق بهم.
الله الحال في كل مكان، والذي يسمح بالتأديب، يعرف ما يحل بالمؤمن، كما يدرك ما في أعماق قلبه. لكنه يطلب منه أن يسأله أن يشرف ويتطلع إلى عاره، ليس لإذلاله، وإنما لتأكيد ما وهبه الله من حرية إرادة. كأنه يسأل: “أتريد أن تبرأ؟” (يو 5: 6) يشتهي الرب في أبوته أن ندخل معه في حوارٍ مفتوحٍ، فينتظر أن نسأله ليعمل فينا وبنا ومعنا، عمله هذا هو موضع سروره.
هكذا كان أناس الله، إذ يشعرون بضعفهم الشديد، وحاجتهم إلى التدخل الإلهي، لا يكفوا عن أن يطلبوا من الرب بروح الانسحاق مع الرجاء أن يذكر حالهم وظروفهم المرة، كما يذكر وعوده الإلهية وميثاقه:
“اذكر يا رب عار عبيدك الذي احتمله في حضني من كثرة الأمم كلها” (مز 89: 50).
“اذكر يا رب داود كل ذله” (مز 132: 1).
اذكر يا رب لبني أدوم يوم أورشليم، القائلين: هدوا، هدوا حتى إلى أساسها” (مز 137: 7).
“اذكر يا إلهي طوبيا وسنبلط حسب أعمالهما هذه، ونوعدية النبية وباقي الأنبياء الذين يخيفونني” (نح 6: 14).
“اذكر يا رب ميثاقك، واجعل الكلام في فمي، وثبت مشورة قلبي ليثبت بيتك في قدسك” (يهوديت 9: 18).
“أَشْرِفْ وَانْظُرْ إِلَى عَارِنَا”: في وقت الضيق نشتاق أن يتطلع حلفاؤنا وأقرباؤنا ومعارفنا إلينا لمعاونتنا. لكن للأسف كثيرًا ما نشعر أنهم لا يبالون بنا، حتى يقول النبي: “أبي وأمي قد تركاني، والرب يضمني” (مز 27: 10). وإن أراد أحد أن يتطلع إلينا بعين الحنو، فقد تعجز إمكانياته عن مساندتنا، كما قد لا يدرك حقيقة احتياجاتنا. لهذا يطلب النبي من الرب أن يذكرهم ويشرف بنفسه على حالهم، ويتطلع إلى عارهم.
عندما أنكر بطرس السيد المسيح، “التفت الرب ونظر إلى بطرس، فتذكر بطرس كلام الرب… خرج بطرس إلى خارج، وبكى بكاءً مرًا” (لو22: 61-62). اخترقت نظرات السيد المسيح قلب بطرس، وقدمت له توبة، الأمر الذي لم يكن ممكنًا لنظرات أحدٍ من الخليقة أو كلماته أن تعمل هكذا في قلبه.
ب. فقدان الميراث والبيوت
قَدْ صَارَ مِيرَاثُنَا لِلْغُرَبَاءِ.
بُيُوتُنَا لِلأَجَانِبِ [2].
الله الذي وهبهم أرض كنعان ميراثًا لهم (يش 24: 28؛ تث 4: 21) يسمح أن يسلمها لبابل الوثنية إلى حين لتأديب مؤمنيه.
حينما يسلك المؤمن بما لا يليق به كابن لله، حاملًا في داخله ملكوت الله، يسمح الله بتأديبه حتى بواسطة إبليس نفسه، لكي يرجع إلى الله بالتوبة. هذا ما عناه الرسول بولس حين طلب فرز ذاك الذي أراد أن يتزوج امرأة أبيه (1 كو 5: 13)، لكن حين تاب في حزنٍ شديدٍ، أسرع يطلب الترفق به لكي لا يبتلعه الحزن المفرط (2 كو 2: 7).
ج. يُتم وترمّل
صِرْنَا أَيْتَامًا بِلاَ أَبٍ.
أُمَّهَاتُنَا كَأَرَامِلَ [3].
إذ يرفض الإنسان أن يملك الرب في قلبه تصير نفسه في يتم وترمل، كمن فقدت أبيها وعريسها السماوي. يليق بالمؤمن أن يحرص على التصاقه بالله بكونه أباه، والمخلص كعريس نفسه.
* يليق بالمسيحي الصالح أن يسبح أباهوسيده، وأن يفعل كل الصالحات لأجل مجده، كما يقول الرسول الطوباوي: “فإذا كنتم تأكلون أو تشربون شيئًا، فافعلوا كل شيءٍ لمجد الله؟ (1 كو 10: 31) [1].
مكسيموس أسقف تورينو
* من يمارس البرّ وُلد من الله. أمنا هي الكنيسة التي عريسها هو ربنا يسوع المسيح. شرائعنا هي القوانين الرسولية[2].
القديس ديديموس الضرير
* تلك الزوجة (إسرائيل القديم) كانت جاحدة لرجلها، أما الكنيسة، فإنها إذ تخلصت من الشرور التي تسلمتها من آبائنا، استمرت تحتضن العريس [3].
القديس يوحنا الذهبي الفم
د. شراء مائهم من العدو بالفضة
شَرِبْنَا مَاءَنَا بِالْفِضَّةِ.
حَطَبُنَا بِالثَّمَنِ يَأْتِي [4].
أغلب البقية الباقية في يهوذا بعد السبي هم المُعدمون، كما ورد في 2 مل 24: 14؛ 25: 12. كانوا يعملون في الحقول، وقد وُضعوا تحت نير جزية ثقيلة للغاية يلتزمون بها.
النفس التي ترفض الالتصاق بالله أبيها السماوي، والاتحاد بالمخلص عريسها الأبدي، تنطلق في برية هذا العالم القاحلة دون الالتجاء إلى صخر الدهور رب المجد يسوع الذي يفيض بالمياه الحيّة المجانية، وتشقّ لنفسها آبارًا تكلفها الكثير، ولا تضبط ماءً يروي أعماقه (إر 2: 12-13). . تكلفة هذه الآبار قد تكون العمر كله، بل وفقدان الأبدية.
إذ تزول التعزية عن الإنسان يصير في عطشٍ إلى مياه الروح القدس القادر أن يروي النفس بالفرح السماوي الداخلي.
* إننا ندرك أننا أخذنا رحلة في أرض قاحلة… ماذا يعني هذا؟ إننا في برية! لماذا في برية؟ لأنه في هذا العالم يعطش الإنسان، وهو في طريقٍ ليس فيه ماء.
لكن لنعطش حتى نرتوي، لأنه “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ، لأنهم يشبعون” (مت 5: 6).
يُروى عطشنا من صخرة في أرض قاحلة، والصخرة هي المسيح (1 كو 10: 4). لقد ضُربت بالعصا لكي يفيض الماء. فلكي تفيض نُضرب مرّتين، إذ تُوجد قطعتا خشب في الصليب [4].
القديس أغسطينوس
هـ. المعاناة من الاضطهاد
عَلَى أَعْنَاقِنَا نُضْطَهَدُ.
نَتْعَبُ وَلاَ رَاحَةَ لَنَا [5].
يتحدث هنا عن الذين تُركوا في يهوذا تحت ثقل الجزية أنهم أشبه بعبيدٍ.
يشير تعبير “على أعناقنا” إلى المذلة التي تحل بالإنسان خلال نير العبودية. فمن ينحني أمام عدو الخير، يشعر بثقل هذا النير، يتعب ولا يجد راحة، سوى بقبوله نير صليب المسيح اللذيذ والهين.
* يقول (سليمان) “لكن (الخطية) عاقبتها مرّة كالأفسنتين، حادة كسيف ذي حدّين” (أم 5: 4). أما طبيعة البرّ فعلى العكس، في البداية يبدو مرًا، وأما في النهاية فينتج ثمار الفضيلة التي توجد أحلى من العسل [5].
العلامة أوريجينوس
* ليخشَ المتحرّرون (من الخطية) أن يُربطوا بها، وليصلِّ المربوطون بها كي يتحرروا منها. “كل أحد بحبال خطيته يُمسك” (راجع أم 5: 22)، ولا يُفك أحد من رباطاته خارج الكنيسة [6].
القديس أغسطينوس
و. العمل لحساب الغرباء، من أجل قطعة خبز
أَعْطَيْنَا الْيَدَ لِلْمِصْرِيِّينَ وَالأَشُّورِيِّينَ لِنَشْبَعَ خُبْزًا [6].
يعود النبي بذاكرته إلى الماضي حيث سقط آباؤهم في زنا روحي، سواء بتركهم عبادة الله الحيّ وسقوطهم في الوثنية، أو باعتبار عبادة الله هي عبادة إله مثل آلهة المصريين والأشوريين، وذلك خلال تحالفهم مع مصر وأشور (هو 5: 13؛ 7: 11-12: 1). الآن يحصد الأبناء ثمر ما فعله آباؤهم، لأنهم سلكوا ذات طريق آبائهم.
نير الخطية يسبب لنا جوعًا إلى الخبز، أما نير المسيح الحلو فيحررنا من أسر إبليس، يرفعنا إلى الحياة الفردوسية المُشبعة بالفرح والتهليل، أي بخبز الملائكة.
ز. تحمل ثمرة خطأ آبائهم
آبَاؤُنَا أَخْطَأُوا وَلَيْسُوا بِمَوْجُودِينَ،
وَنَحْنُ نَحْمِلُ آثَامَهُمْ [7].
إذ ينفتح قلبنا بروح الله القدوس، وننعم بنوعٍ من الاستنارة، نعترف مع كثير من الأنبياء ورجال الله، قائلين: “أخطأنا نحن وكل بيت آبائنا” (راجع نح 1: ؛ دا 9: 4-12).
* ليس شيء ثقيلًا هكذا ومرهقًا مثل الخطية والعصيان [7].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ح. السقوط في العبودية لسادة هم عبيد
عَبِيدٌ حَكَمُوا عَلَيْنَا.
لَيْسَ مَنْ يُخَلِّصُ مِنْ أَيْدِيهِمْ [8].
عوض ملوكهم وقادتهم العظماء حكمهم قادة بابليون، أغلبهم من طبقات دُنيا. ليس من قضاء أو قانون يحميهم من الظلم، لأنهم مسبيون في حكم العبيد. هنا يشير إلى المعاملة الوحشية التي تعرضوا لها.
من يرفض ملكية الله على قلبه، يخضع للعبيد كي يحكموه، مثل الأشوريين والبابليين وفرعون إلخ. إن ملك العبد يصير حكمه أشر أنواع الحكم. أما إبليس العبد الشرير، الذي يحث على الشر والعصيان ومقاومة الله فحكمه غاية في المرارة.
إن كانت الخطية تقدم لنا في البداية لذة، فنشعر كأن بدونها ليس للحياة طعم، لكن إذ نسقط في شباكها ونُستعبد لها، تتحول اللذة إلى مرارة. هذا ما يكشفه لنا القديس يوحنا الذهبي الفم حين يسقط الإنسان في خطية الشهوة كمثالٍ.
* لا تعرف الزانية كيف تحب، وإنما فقط كيف تصطاد. قُبلتها سُم، وفمها مخدِّر مميت. إن كان هذا لا يظهر في الحال، فيلزم بالأكثر أن نتجنبها، لأنها تحجب هلاكها، وتخفي هذا الموت، ولا تسمح أن يظهر من البداية [8].
القديس يوحنا الذهبي الفم
ط. التعرض للقتل بالسيف من أجل قطعة خبز
بِأَنْفُسِنَا نَأْتِي بِخُبْزِنَا مِنْ جَرَى سَيْفِ الْبَرِّيَّةِ [9].
بسبب الجوع الشديد أثناء الحصار اضطر البعض أن يخرج ويتعرض لسيف الكلدانيين “سيف البرية”، فيخسرون حياتهم لأجل خبز يأكلونه. يا لها من صورة بشعة للإنسان الذي من أجل لذة جسدية يُسلم نفسه ليد إبليس، فيهلك أبديًا.
ي. مجاعة خطيرة
جُلُودُنَا اسْوَدَّتْ كَتَنُّورٍ مِنْ جَرَى نِيرَانِ الْجُوعِ [10].
عانوا من مجاعات عامة، حتى إسودّ جلدهم من الجوع كما من النار. جفت جلودهم، فصارت كأنها محترقة بنار الجوع [10].
ك. إذلال النساء والعذارى
أَذَلُّوا النِّسَاءَ فِي صِهْيَوْنَ،
الْعَذَارَى فِي مُدُنِ يَهُوذَا [11].
ل. إهانة للرؤساء وقسوة على الشيوخ
الرُّؤَسَاءُ بِأَيْدِيهِمْ يُعَلَّقُونَ،
وَلَمْ تُعْتَبَرْ وُجُوهُ الشُّيُوخِ [12].
تعليق الرؤساء (الأمراء) بأياديهم، ربما تعني استخدام كل أنواع العذابات حتى يعترفوا عن الأماكن السرية التي كانوا يخفون فيها كنوزهم. وربما يشير هنا إلى تعليق جثثهم من أياديهم، كنوعٍ من المهانة حتى بعد موتهم.
م. مذلة للشبان والصبيان
أَخَذُوا الشُّبَّانَ لِلطَّحْنِ،
وَالصِّبْيَانَ عَثَرُوا تَحْتَ الْحَطَبِ [13].
استخدام الشباب للطحن، كنوعٍ من المهانة في ذلك الحين، حيث كان هذا من عمل النساء لا الرجال. وربما استخدامهم في المطاحن الكبيرة عوض الثيران، كما حدث مع شمشون للسخرية به. يرى Ewald هنا إشارة إلى الملك المسجون ومن معه [9]. أيضًا يرى Hitzig أن صدقيا أُلقي في “السجن”، وأُلزم أن يدور بالطاحونة كبقية المجرمين، كما أُلزم شمشون بذلك (قض 16: 21) [10].
أما أن يترنح الصبيان في هزال تحت الحطب، فقد كان هذا العمل خاص بالعبيد، فصار الصبيان يمارسون منذ صبوّتهم عمل العبيد القاسي والمهين.
ن. فقد الشيوخ دورهم والشبان تعب أيديهم
كَفَّتِ الشُّيُوخُ عَنِ الْبَابِ،
وَالشُّبَّانُ عَنْ غِنَائِهِمْ [14].
س. تحوُّل الفرح إلى نوح
مَضَى فَرَحُ قَلْبِنَا.
صَارَ رَقْصُنَا نَوْحًا [15].
فقدوا الفرح والتهليل، كما زال مجدهم وبهاؤهم، لأن مجد الرب فارقهم.
* حتى عندما يتطلع الخاطي إلى الشبع، فإنه لا يجد بهجة في ثمرة خطيته. وكما تقول حكمة الله في موضع آخر: “خبز الكذب لذيذ للإنسان، ومن بعد يمتلئ فمه حصى” (أم 20: 17). و”شفتي المرأة الزانية تقطران عسلًا إلى حين، ولكن عاقبتها مرّة كالأفسنتين، حادة كسيفٍ ذي حدّين” (راجع أم 5: 3-4). فهو يأكل ويبتهج إلى قليل، لكنه مؤخرًا عندما تُنتزع نفسه من الله يبغضها [11].
القديس أثناسيوس الرسولي
* مادامت حياتنا في هذا العالم تُعرف كما لو كانت طريقًا، يلزمنا أن نبلغ إلى الراحة كثمرة لتعبنا، عوض أن نبلغ إلى التعب كثمرة لراحتنا (تراخينا). حسن لنا أن نعمل لفترة قصيرة على الطريق، حتى نبلغ بعد ذلك إلى الفرح الأبدي في مدينتنا، وذلك بمعونة ربنا يسوع المسيح[12].
الأب قيصريوس أسقف آرل
2. اقبل يا رب اعترافنا 16-18
سَقَطَ إِكْلِيلُ رَأْسِنَا.
وَيْلٌ لَنَا، لأَنَّنَا قَدْ أَخْطَأْنَا [16].
يعترف النبي بأن الخطأ يرجع إلى عهود سابقة، “آباؤنا أخطأوا” [7]، كما يعترف بأن ما حدث ليس إلا ثمرة ما يفعله الكل كامتداد لعمل آبائهم: “ويل لنا لأننا أخطأنا”.
مِنْ أَجْلِ هَذَا حَزِنَ قَلْبُنَا.
مِنْ أَجْلِ هَذِهِ أَظْلَمَتْ عُيُونُنَا [17].
مِنْ أَجْلِ جَبَلِ صِهْيَوْنَ الْخَرِبِ.
الثَّعَالِبُ مَاشِيَةٌ فِيهِ [18].
العلامة الخطيرة لغضب الله أن الهيكل صار مسكنًا للوحوش. لقد رفض الكهنة الباقون في أورشليم أن يدخلوا الهيكل، ويقدموا أية ذبيحة بعد أن صار خرابه رهيبًا، ودنَّسه الوثنيون، وسكنته الثعالب وحيوانات البرية. شعورهم بالخطية والدنس منعهم من الدخول في الهيكل، وإلي اليوم يرفض اليهود الأرثوذكس المتشدّدون أن يدخلوا منطقة الهيكل، وإنما يكتفون بحائط المبكى خارج المنطقة المقدسة [13]
عوض الهيكل المُقام على جبل صهيون إشارة للحضرة الإلهية وسط شعبه، حلت الثعالب الماكرة التي ترمز للشياطين، تلهو وتجري فيه.
3. تمجد يا رب فينا 19-20
أَنْتَ يَا رَبُّ إِلَى الأَبَدِ تَجْلِسُ.
كُرْسِيُّكَ إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ [19].
إن كانت الثعالب هنا تشير إلى البابليين، فإنهم يملكون ويسودون إلى حين، لكن ما يعزينا أن الرب يملك فينا إلى الأبد [19]، هنا قمة التعزية الحقيقية (مز 45: 6؛ 93: 2؛ 102: 12؛ 103: 19؛ دا 4: 3، 34: 35).
لِمَاذَا تَنْسَانَا إِلَى الأَبَدِ،
وَتَتْرُكُنَا طُولَ الأَيَّامِ؟ [20]
بقوله: “تتركنا طول الأيام؟” نتذكر حالة الرعب التي يسقط فيها الإنسان حين يسمع كلمات الرب لموسى وهرون عندما لم يثق الشعب في وعد الله، وألزموهما أن يرسلا جواسيس إلى أرض الموعد. فقد عاقبهم الرب عن الأربعين يومًا للتجسس بالتيه أربعين عامًا، ومع هذا لم يدخلوا أرض الموعد، بل سقطوا موتى في القفر، أي عاقبهم عن اليوم بسنة كاملة، ومع ذلك لم ينعموا بالوعد الإلهي (عد 14: 34).
يقول الأب قيصريوس أسقف آرل [14]:
[إن كان كل خاطئ تتعين له عقوبة عن خطية يومٍ واحدٍ وحسب عدد الأيام التي يخطئ فيها يقضي بعددها سنوات في العقوبة. أخشى أنه بالنسبة لنا نحن الذين نخطئ يوميًا، ولا نقضي يومًا واحدًا من حياتنا بدون معصية، فإن أجيالًا وأجيالًا لا تكفي لنا أن نوفي عقوباتنا.]
حقًا إن طول الأيام لا يوفي شيئًا عن خطايانا، بل على النقيض يزداد استحقاقنا للعقوبة، فلا خلاص بطول الأيام، وإنما بالمخلص وحده الذي يكفر عن خطايانا، بكونه حامل خطايا العالم.
وللقديس القديس أغسطينوس أيضًا تفسير للعبارة: “في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين فصاعدًا الذين تذمروا عليّ” (عد 14: 29). يرى أن رقم 20 هو محصلة ضرب رقم 5 في 4، فالرقم 5 يشير إلى أسفار شريعة موسى، ورقم 4 إلى أسفار شريعة العهد الجديد أي الأناجيل، وكأن الإنسان لا يقدر بذاته أن يخلص، بل يهلك سواء كان من رجال العهد القديم أو العهد الجديد، ما لم يتدخل المخلص ذاته، هو وحده الذي يفدي إسرائيل من كل آثامه (مز 25: 22) [15].
يختم النبي مراثيه لا بطلب رفع الضيق، إنما أن يهبنا التوبة كعطيةٍ إلهيةٍ، فنرجع إلى الله في مصالحة صادقة، ولا يغضب بعد علينا. نحن في حاجة إلى معونة الله نفسه في توبتنا (مز 80: 3، 7، 19؛ إر 24: 7؛ 31: 18؛ يو 6: 44، 65). يشعر النبي أن المغفرة من قبل إنما هي عطية إلهية، نتمتع بها خلال نعمته ورحمته، وليس عن استحقاقنا الذاتي.
* ما كان يهدد غير التائبين إن كان لا يريد أن يسامح التائبين. هذا يكون فيه شك فقط لو أنه لم يعلن في موضع آخر عن فيض رحمته. ألم يقل: “الذي يسقط يقوم”، ويؤكد تمامًا أنه يريد رحمة لا ذبيحة (مت 9: 13؛ 12: 7). السماء والملائكة يفرحون بتوبة البشر.
انظر إلى نفسك أيها الخاطئ، وليكن قلبك صالحًا!
انظر إنه حيث توجد (التوبة) تكون علة الفرح [16].
العلامة ترتليان
* كما أن الموت هو الاستحقاق العادل للخزف (التراب) الذي للإنسان الأول، فإن من يخلص لا يكون ذلك عن استحقاقاته، بل من أجل رحمة الله…
لا يوجد ظلم في الله، فإنه ليس بظالمٍ سواء في مغفرته أو في حزمه في العقوبة. فالرحمة مجانية تتحقق في الوقت الذي كان يمكن أن توجد نقمة عادلة. بهذا من الواضح جدًا عظمة المنفعة التي توهب لمن يُعفى من عقوبة عادلة ويتبرر مجانًا، بينما يُعاقب آخر على نفس الخطأ بعدالة دون ممارسة أي ظلم من جانب الذي يعاقبه[17].
القديس أغسطينوس
4. جدد يا رب حياتنا 21-22
اُرْدُدْنَا يَا رَبُّ إِلَيْكَ فَنَرْتَدَّ.
جَدِّدْ أَيَّامَنَا كَالْقَدِيمِ [21].
كلمة “ارددنا” التي تعني “أرجعنا” ترد ثلاث مرات، فنقرأ: “يا الله أرجعنا، وأنر بوجهك فنخلص” [18-19]. مع كل ما بلغه الهيكل والعاملون فيه والشعب بكل فئاته من خرابٍ ومذلة، فإن باب التوبة لا يزال مفتوحًا، لكن ليس من يقدر أن يمارسها دون معونة الله نفسه (إر 31:18، 33-34؛ حز 36: 26-27).
يعلن النبي عن شوقه للعهد الجديد بقوله: “جدد أيامنا“. إيمان الكنيسة لم يتغير عبر الأجيال، لكنه قُدم في القرن الأول بطريقة تناسب ذلك العصر. وحينما ظهرت هرطقات التزمت الكنيسة أن تعرض إيمانها غير المتغير بطريقة تحفظ حياة أولادها من الهراطقة، وتواجه هؤلاء الهراطقة. وهكذا في كل عصر تقدم الكنيسة كنوز إيمانها بالثوب الذي يناسب احتياجات الناس .
لهذا حينما تحدث المتنيح نيافة الأنبا يؤانس مطران الغربية عن “التجديد الكنسي” في الجمعية العمومية لمجلس كنائس الشرق الأوسط، وإن كان قد رفض التعبير في ذاته، لكنه نادى بأن التجديد الحالي هو عودة الكنيسة الأولى إلى ما قبل الانقسام، لا في الشكل، وإنما في الروح والفكر والحياة، فتتقبل إنجيلها كما فهمته وعاشته وفسرته في الشرق والغرب قبل الانقسام، وتمارس عبادتها بروحها الخشوعي التقوى، وتسلك بروحها النسكي الأخروي، وتنعم بسماتها ككنيسة منفتحة على العالم تكرز خلال الحب الصادق . بهذا نستطيع أن نقول مع إرميا النبي: “جدد أيامنا كالقديم” (مرا 21:5). ومع عروس النشيد: “عند أبوابنا كل النفائس من جديدة وقديمة ذخرتها لك يا حبيبي” (نش 13:7). ونفهم الكلمات الإنجيلية: “كل كاتب متعلم في ملكوت السموات يشبه رجلًا رب بيت يُخرج من كنزه جددًا وعتقاء” (مت 52:13)، “ليس أحد إذا شرب العتيق يريد للوقت الجديد، لأنه يقول العتيق أطيب” (لو 39:5).
* قد برز لنا عالم جديد (بمجيء مخلصنا)، وقد صارت لنا فيه كل الأشياء جديدة [18].
القديس كيرلس الكبير
* إن التجديد الذي نجوزه في هذه الحياة، وانتقالنا من حياة أرضية حسب الجسد إلى حياة سمائية روحيَّة، إنما يحدث فينا بفعل الروح القدس [19].
القديس باسيليوس الكبير
* التجديد في الحقيقة هو من عمل الثالوث القدوس.. حتى وإن أظهرنا أننا ننسب لكل أقنوم على حده عملًا مما يحدث لنا أو للخليقة، ولكن علينا أن نؤمن أن كل شيء هو من الآب خلال الابن في الروح القدس [20].
القديس كيرلس السكندري
* لن يدعوها جميلة ما لم يرَ صورتها تتجدد يومًا فيومًا [21].
العلامة أوريجينوس
* الذي غيَّر طبيعة الخمسة أرغفة وصيَّرها أرغفة كثيرة، وأنطق طبيعة الحمار غير العاقل، وجاء بالزانية إلى العفة (يو 8)، وجعل طبيعة النار المحرقة بردًا على الذين كانوا في الأتون، ومن أجل دانيال لطَّف طبيعة الأسود الكاسرة، كذلك يقدر أن يغَّير النفس التي أقفرت وتوحشت بالخطية، ويحولها إلى صلاحه ورأفاته وسلامه بروح الموعد المقدس الصالح.
القديس مقاريوس الكبير
اعتاد اليهود عند قراءة هذا السفر أن يكرروا الآية 21 عدة مرات، يختمون بها السفر كله، حتى يمتلئ الكل بروح الرجاء.
هَلْ كُلَّ الرَّفْضِ رَفَضْتَنَا؟
هَلْ غَضِبْتَ عَلَيْنَا جِدًّا؟ [22]
في عتاب يصرخ إرميا لله باسم الشعب، طالبًا ألا تستمر فترة الغضب طويلًا، فالكل ينتظر مراحم الله ومغفرته.
* يقدم (الخطاة غير التائبين) توسلات، لكنهم غير معروفين لديه. الله يتجاهلهم كأشخاص غير معروفين. إنه لا يعرفهم الآن بسبب خطاياهم [22].
البابا غريغوريوس (الكبير)
يقدم لنا سفر المراثي صورة واقعية لحال الإنسان الذي استسلم للخطية. فامتلأت سماء نفسه بالسحب الكثيفة القاتمة، لكن يبقى شمس البرّ عاملًا، فيخترق بأشعته السحب لتقدم لنا قوس قزح واهب الوعود الإلهية. “لأجل نائحي صهيون، لأعطيهم جمالًا عوضًا عن الرماد، ودهن فرح عوضًا عن النوح، ورداء تسبيح عوضًا عن الروح البائسة، فيدعون أشجار البرّ غرس الرب للتمجيد” (إش 61: 3).
من وحي مرا 5
توِّبنا فنتوب!
* إلى من نصرخ ونشكو من نير الخطية الثقيل؟
من يردنا إليك، إلا غنى نعمتك؟
أنت هو الطريق،
نزلت إلينا وحملتنا على كتفيك،
لتأتي بنا إليك!
* تطلع إلى عارنا،
فقد نزعتْ خطايانا ثوب النور.
عوض صورتك فينا،
اعترانا العري والخزي والعار.
نعمتك تستر علينا،
وتكسونا ببرِّك!
اقتحم العدو بيتنا،
واستولى على ميراثنا،
وأفسد أعماقنا!
أعطيناك القفا،
فصرنا أيتامًا بلا أب رحيم،
وترمَّلت نفوسنا،
لأنها فقدت عريسها السماوي.
ردّنا إليك فنمارس بنوّتنا لأبيك،
وتتهلل نفوسنا بك يا أيها العريس السماوي!
تفيض علينا بمياه روحك القدوس في وسط قحط هذا العالم.
لا نطلب من العالم مياهه التي لا توري نفوسنا.
ولا نشتري حطب هذا العالم،
بل نلتصق بخشبة الصليب القوة الإلهية للخلاص.
أرجعنا إليك،
فلا يجسر العدو على مقاومتنا.
لا نخشى التعب،
لأنك أنت عزاؤنا وراحتنا!
* كيف نستجدي من العالم طعامه الفاني،
وأنت هو الخبز المجاني النازل من السماء؟!
آباؤنا أخطأوا إليك،
ونحن كملنا مسيرتهم.
ردنا إليك، فننعم بحنوك وبرّك.
* أذلتنا الخطايا،
فصرنا عبيدًا لسادة قساة كثيرين.
هب لنا كمال الحرية.
ليس من يخلصنا من نيرهم سوى نيرك الحلو.
العبودية لك هي كمال التحرير،
أيها العذب حتى في تأديباتك.
* نيران الشهوة والخطايا أحرقت حتى جلدنا،
نارك نور سماوي مفرح،
يلهب قلبي بالحب الحقيقي.
يحوّلني إلى خادم ناري شبه سماوي.
* عدو الخير لا يهدأ عن مقاومة الجميع.
لا يرحم امرأة أو عذراء،
ولا يشفق على شيخ مهما كان عمره.
لا يهدأ قط حتى يحوّل الحياة إلى قلق ومرارة.
عوض فرح الروح السماوي،
يبث روح الحزن المفرط.
* أنت ينبوع كل فرح،
وهو مصدر كل مرارة؛
من يرحمنا منه سواك؟
أنت ملك الملوك السماوي،
تجلس على عرشك السماوي،
لتقيم من كل مؤمنٍ ملكًا صاحب سلطان،
لا تهتز نفسه مهما اشتدت رياح التجارب!
ترفق بنا، ولا تحسبنا حسب خطايانا.
هل تغضب علينا جدًا،
وأنت طويل الأناة، كثير الرحمة ورءوف؟!
تفسير مراثي إرميا 4 | تفسير مراثي إرميا القمص تادرس يعقوب ملطي |
فهرس |
تفسير العهد القديم |