تفسير مراثي إرميا – المقدمة للقمص تادرس يعقوب

أناشيد جنائزية
حزن مر أم مراحم سماوية جديدة؟!

 

مقدمة 

يقف الإنسان في دهشة أمام السفر، فينسحب كل كيانه الداخلي ليرى محبة الله الفائقة لكل البشرية، كما يتلامس مع قداسة الله الذي لا يطيق الخطية مع محبته للخطاة حتى أثناء تأديبه لهم. يبقى هذا السفر مصدر تعزية للنفوس الجريحة، تفتح أمامها أبواب السماء. ويحمل هذا السفر أيضًا صورة نبوية خاصة بالسيد المسيح مخلص العالم الذي يقدم ذاته ذبيحة عن البشرية، لكن خاصته لا تقبله، بل تود الخلاص منه. أيضًا هو سفر كل مؤمنٍ يحترق بالحب قلبه المنكسر والمخلص مشتهيًا خلاص العالم كله.

  1. رأى إرميا النبي وراء خراب الهيكل وسبي الشعب صورة مؤلمة لشعب اختاره الله لينعم بحضنه الإلهي، ويقيم منه نموذجًا حيًا تقتدي به البشرية، فتترك عبادة الأصنام ورجاساتها لتؤمن بالله الحي، وتلتصق به وتتمتع بأبوته. فإذا بهذا الشعب ينحرف نحو الشر، مفضلًا الحياة الفاسدة عن الشركة مع الله. فمن أجل تأديبه تركه الله أو سمح بتسليمه لشعب وثني يستعبده، حتى يذوق مرارة الخطية وثمرها المُهلك، فيرجع عنها بالتصاقه به، كما ترجع البشرية كلها إليه عبر الأجيال.
  2. تصف هذه المراثي مرارة الخطية، فندرك أن ما يحل بنا من تأديب -مهما بدا قاسيًا- إنما يصدر عن أبٍ سماوي محب يحبنا ويترقب رجوعنا إليه. إن كنا نحبه، إنما لأنه هو أحبنا أولًا (1 يو 4: 19).
  3. يشير عنوان هذا السفر إلى أنه أناشيد جنائزية أو ألحان لمناسبة مؤسفة تعادل الموت ذاته. لكن مع ما حملته هذه المراثي من مرارة، تقدم تعزية للنفوس الجريحة، تفتح أمامنا أبواب السماء، وتردنا إلى الأحضان الإلهية.
  4. يحمل هذا السفر أيضًا صورة نبوية عن السيد المسيح المتألم حيث يبدأ السفر بالكشف في مرارةٍ عما حلّ بالشعب القديم بسبب جحوده للمسيح الذي طالما انتظره الآباء والأنبياء وكل الأتقياء، فصوَّر مدينة أورشليم وأرض الموعد في كارثة، تبدو كأن لا رجاء في الخلاص منها، ولكن في منتصف السفر (أصحاح 3) يلمس النبي مراحم الله التي تشرق مع كل صباحٍ، حيث يتخلى الإنسان عن جحوده، ويقبل الإيمان بشمس البرّ (3: 22-23)، فتظهر نعمة الله الغنية ومراحمه التي لن تنتهي بالنسبة للبشرية.
  5. تكشف هذه المراثي عن انكسار قلبٍ مُخْلِصٍ يحترق بالحب نحو شعبه، يشتهي أن يرى الكل قد استرد مجده المفقود. فالكاتب شاهد عيان لخراب أورشليم على يد جنود نبوخذنصر البابلي في أكتوبر عام 587 ق.م.

لم يكن دمار أورشليم بالنسبة لإرميا النبي هو مجرد خسارة لعاصمة حصينة رائعة، كانت تُحسب بارعة الجمال، بكونها مدينة الله، تحتضن الهيكل الفريد، فتمثل حضور الله وسط شعبه. إنما شعر النبي بأن هذا الدمار يشير إلى مفارقة مجد الله للمدينة والهيكل والشعب، وفي رجاءٍ يترقب الخلاص الإلهي المجيد. كانت الصدمة بالنسبة له أكثر من أن تُحتمل، سواء بالنسبة لتحقيق الأسر البابلي أو جحد اليهود للسيد المسيح، فصرخ متوجعًا، وبكي، ونادى بالصلاة والرجوع إلى الله بالتوبة العملية.

إنه سفر كل مؤمن يلتهب قلبه بمحبة البشرية كلها، فلا يحتمل هلاك إنسانٍ ما، أيا كانت جنسيته أو ظروفه، فيئن طالبًا خلاص البشرية كله. يصرخ مع النبي، قائلًا: “أحشائي أحشائي، توجعني جدران قلبي، يئن في قلبي! لا استطيع السكوت، لأنكِ سمعتِ يا نفسي صوت البوق وهتاف الحرب”. (إر 4: 19) “يا ليت رأسي ماء، وعينيّ ينبوع دموع، فأبكي نهارًا وليلًا قتلى بنت شعبي”. (إر 9: 1)

*   إنه وقت مناسب لي أن أنطق بهذه الكلمات الآن. نعم، بل وأكثر مما كان في أيام النبي. فإن كنت لا أحزن على مدنٍ كثيرة، أو كل الأمم، لكنني أحزن على نفسٍ توازي أممًا كثيرة كهذه، بل وأثمن منها.

إنني لا أحزن لأجل دمار مدينة أو أسر الأشرار لها، بل لأجل تدمير روحك المقدسة… وهلاك الهيكل الحامل للسيد المسيح وإبادته… هذا الهيكل أقدس من ذاك (هيكل العهد القديم)، فإنه لا يتألق بذهبٍ أو فضةٍ بل بنعمة الروح القدس، وبدلًا من تابوت العهد وتمثاليّ الشاروبيم يوجد في القلب السيد المسيح وأبوه والباراقليط [1].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*   إني أبكي أيامًا كثيرة على الشعب الذي انسحب للهلاك خلال التعاليم الشريرة، فإن آذان البسطاء قد ضلت واعتادت أن تسمع الشرور الهرطوقية [2].

القديس باسيليوس

مقدمة في مراثي إرميا

يُدعى في العبرية Eikhah أو ệķāh، وتعني “كيف“، وهي الكلمة الأولى في السفر كما في المرثاتين الثانية والرابعة.

ويوضع عند اليهود مع مجموعة الأسفار التي يطلق عليها بالعبرية الكتوبيم ketubim وباليونانية الهايوجرافا αγιογραφία والتي تعني الكتابات المقدسة. وجاء في الترجمة السبعينية بعد سفري إرميا وباروخ.

واضع السفر

كاتبه حسب التقليد اليهودي وأيضًا المسيحي هو إرميا النبي الذي كان يعمل في البلاط الملكي أثناء غزو نبوخذنصر على أورشليم، وخراب الهيكل الأول. قام هذا التقليد على ما ورد في (2 أي 35: 25)، بأنه وضع مرثاة على يوشيا الملك.هذا وينسب كل من الترجوم Targumوالترجمة السريانية البسيطة (بشيتا) Peshitta السفر لإرميا.

قيل إن إرميا انسحب إلى كهف خارج باب دمشق، حيث كتبه هناك. إلى يومنا هذا يشير المرشدون في السياحة إلى هذا الكهف؛ وهو في مواجهة تل صخري، على الجانب الغربي من المدينة، يدعى هذا الموقع كهف إرميا grotte of Jermiah[3].

حقًا ليس من كاتب مملوء حزنًا ومرارة على هذا الحدث مثل إرميا النبي.

تبرز لغة السفر أن الكاتب شخص واحد، وإن كان بعض الدارسين يرون أنه من وضع أكثر من كاتب.

توجد شهادات داخلية (في السفر نفسه) وخارجية تؤكد أن الكاتب هو إرميا النبي:

كتبه إرميا النبي بعد حصار أورشليم وسقوطها تمامًا، كما جاء في الترجمة السبعينية: “حدث أنه بعد أن اُقتيد إسرائيل إلى السبي، ودُمرت أورشليم، جلس إرميا يبكي وينتحب بهذه المرثاة على أورشليم وقال:” (مرا 1: 1).

يرى البعض أن هذه الكلمات كانت موجودة في الأصل العبري الذي منه تمت الترجمة السبعينية. جاءت نفس المقدمة في الترجمة اللاتينية: “الفولجاتا” مع الإضافة: “وفي مرارة قلب كان يندب ويصرخ، قائلًا:”

وجاء في مرا 3: 48، 49 أن إرميا سكب ينابيع من عينيه بلا انقطاع.

وجاء في إر 7: 29 أن الرب طلب من إرميا أن تجز يهوذا شعرها وترفع على الهضاب مرثاة.

إرميا كشاهد عيان للأحداث

كتب إرميا مراثيه كشاهد عيان (1: 13-15؛ 2: 6، 9؛ 4: 1-12)؛ ؛ ربما بمعاونة كاتبه الخاص باروخ (إر 36: 4؛ 45: 1)، وذلك أثناء سقوط أورشليم سنة 586 ق.م. أو بعده بقليلٍ. كان ذلك في منتصف يوليو حين سقطت المدينة، ومنتصف أغسطس عندما حُرق الهيكل. أيضًا رأى إرميا انهيار السور والأبراج والبيوت كما القصر الملكي والهيكل. كتب مراثيه بينما كانت ذكريات الأحداث ذاتها لا تزال باقية في ذهنه لم يمر عليها زمن طويل، كما لم يكن بعد قد حُمل إلى مصر لا إراديًا 583 ق.م. (إر 43: 1-7). وقد جاءت مراثيه تطابق ما سجله لنا في نبواته (سفر إرميا).

مناسبته

كتبه النبي أثناء حزنه على الخراب الذي حلّ بأورشليم والأراضي المقدسة بواسطة الكلدانيين، كما قُتل كثيرون، وسُبي أيضًا كثيرون، ولم يترك في أورشليم سوى الفقراء وغير المهرة في عملٍ ما، وزال كرسي المملكة تمامًا.

لم تُكتب المراثي كسجلٍ تاريخيٍ للحدث، ولا كوصف للكارثة في ذاتها، وإنما لتكشف عما وراء الحدث ومعاملات الله مع شعبه ومؤمنيه، خاصة إن أصروا على العصيان والعناد، وأيضًا مع الذين يستخدمهم كآلة لتأديب المؤمنين متى تشامخوا على الله نفسه.

جاء سفر إرميا في الأصحاحات التسعة وعشرين الأولى يتنبأ عن هذه الكارثة، أما في مراثيه، فركَّز على الكشف عن آلامه وانكسار قلبه.

كان هذا السفر مع أسفار راعوث واستير ونشيد الأناشيد والجامعة من الأسفار التي وردت في العهد القديم والتي تُدعى “Megilloth الخمسة برديات Scrolls“، كانت تُقرا في المجمع في مناسبات معينة. كان سفر المراثي يقرأ في التاسع من آب (يوليو/ أغسطس) تذكارًا لخراب أورشليم بواسطة نبوخذنصر. هذا التاريخ عينه اُستخدم أيضًا بكونه يوم خراب هيكل هيرودس على يدي تيطس الروماني عام 70م.

بعد أن صوّر لنا إرميا النبي ما حلّ بأورشليم وشعب يهوذا، مؤكدًا أن هذا الضيق الشديد تحقق بسماح من الله لأجل تأديب شعبه، يتساءل: لماذا يبلغ الحزم الإلهي هذه الدرجة، ويستمر السبي سبعين عامًا؟

ما يؤكده الكتاب المقدس على الدوام هو أبوة الله، فهو أب حين يقدم فيضًا من البركات، وأب حين يسمح بالتجارب مهما بلغت حدّتها.

إن كان الله قد سمح لهذا الشعب بهذا التأديب، فلسنا ننسى الآتي:

  1. قبل أن يدخل الشعب أرض الموعد، قبل حدوث هذا السبي بأكثر من ثمانية قرون قدم الله خلال موسى النبي تحذيرًا للشعب، في شيءٍ من التفصيل من عصيانهم للرب والعناد والاندفاع نحو عبادة الأوثان، والاشتراك في الرجاسات الوثنية، مهددً بالسبي، إذ قال:

“وتأْتي عليْك جميع هذه اللعنات، وتتّبعك وتدْركك حتّى تهْلك، لأنّك لمْ تسْمعْ لصوْت الرّبّ إلهك، لتحْفظ وصاياه وفرائضه التي أوْصاك بها.

فتكون فيك آيةً وأعْجوبةً وفي نسْلك إلى الأبد. منْ أجْل أنّك لمْ تعْبد الرّبّ إلهك بفرحٍ وبطيبة قلبٍ لكثْرة كلّ شيْءٍ.

تسْتعْبد لأعْدائك الذين يرْسلهم الرّبّ عليْك في جوعٍ وعطشٍ وعرْيٍ وعوز كلّ شيْءٍ. فيجْعل نير حديدٍ على عنقكحتّى يهْلكك.

يجْلب الرّبّ عليْك أمّةً منْ بعيدٍ منْ أقْصاء الأرْض، كما يطير النّسْر، أمّةً لا تفْهم لسانها أمّةً جافية الوجْه، لا تهاب الشّيْخ، ولا تحنّ إلى الولد، فتأْكل ثمرة بهائمك وثمرة أرْضك حتّى تهْلك ولا تبْقي لك قمْحًا ولا خمْرًا ولا زيْتًا ولا نتاج بقرك ولا إناث غنمك حتّى تفْنيك.

وتحاصرك في جميع أبْوابك، حتّى تهْبط أسْوارك الشّامخة الحصينة التي أنْت تثق بها في كلّ أرْضك.

تحاصرك في جميع أبْوابك في كلّ أرْضك التي يعْطيك الرّبّ إلهك.

فتأْكل ثمرة بطْنك لحْم بنيك وبناتكالذين أعْطاك الرّبّ إلهك في الحصار والضّيقة التي يضايقك بها عدوّك.

الرّجل المتنعّم فيك والمترفّه جدًّا تبْخل عيْنه على أخيه وامْرأة حضْنه وبقيّة أوْلاده الذين يبْقيهمْ بأنْ يعْطي أحدهمْ منْ لحْم بنيه الذي يأْكله، لأنّه لمْ يبْق له شيْء في الحصار والضّيقة التي يضايقك بها عدوّك في جميع أبْوابك.

والمرْأة المتنعّمة فيك والمترفّهة التي لمْ تجرّبْ أنْ تضع أسْفل قدمها على الأرْض للتّنعّم والتّرفّه تبْخل عيْنها على رجل حضْنها وعلى ابْنها وابْنتها بمشيمتها الخارجة منْ بيْن رجْليْها وبأوْلادها الذين تلدهمْ لأنّها تأْكلهمْ سرًّا في عوز كلّ شيْءٍ في الحصار والضّيقة التي يضايقك بها عدوّك في أبْوابك.

إنْ لمْ تحْرصْ لتعْمل بجميع كلمات هذا النّاموس المكْتوبة في هذا السّفْر لتهاب هذا الاسْم الجليل المرْهوب الرّبّ إلهك”(تث 28: 45-58)

  1. قبل حدوث السبي بحوالي 800 سنة تنبأ يشوع بن نون بعد توزيع أرض الموعد عن هذا السبي (يش 23: 15-16)، لعلهم يحذرون العصيان والانغماس في الشر.
  2. أرسل الله لعدة قرون أنبياء كثيرين يحذرون الشعب، أما بالنسبة لإرميا فلمدة تزيد عن 40 عامًا (حوالي 645-605 ق.م.) كان ينذر الشعب والملك والقادة على كل المستويات، وعوض التوبة والرجوع إلى الله اتهموا النبي بالخيانة الوطنية، والتصقوا بالأنبياء الكذبة الذين كانوا يتكلمون بالناعمات لكسب ودّ الشعب والقادة، سواء لنفع مادي أو أدبي، واضطهدوا النبي. وعندما تحقق ذلك بمجيء نبوخذنصر وجيشه، استمر إرميا يحذر الشعب المُصرّ على العصيان، وهو يتحدث معهم في حزنٍ شديدٍ.

إذن لم يكن السقوط تحت السبي قرارًا متسرعًا، ولا دون تقديم كل فرصة للخلاص منه.

غاية السفر

  1. كُتبت هذه المراثي خصيصًا لليهود خلال ثلاثة شهور من السبي البابلي، لينشدها بروح الحزن المسبيون في بابل، وأيضًا الذين بقوا في إسرائيل وهم في عارٍ شديدٍ بسبب دمار بلادهم، خاصة أورشليم وهيكلها. غايتها ليس مجرد البكاء على ما بلغوه، وإنما اكتشاف أمرين رئيسيين في حياتهم: ماذا فعل بهم الإصرار على الخطية ومقاومة الأنبياء، والرجاء الحيّ في الله غافر الخطايا وواهب المجد. الخطية تكلفتها غالية جدًا، لكن مراحم الرب لن تفشل قط!
  2. أكد إرميا بروح النبوة العودة من السبي، فإن الله يود نجاح أولادهوعزّهم ومجدهم حتى في لحظات التأديب عينها.
  3. أعلن إرميا مرارة نفسه، فمع ما عاناه من الشعب والقادة حين حذّرهم بما سيحل بهم، فإنه إذ حلّ بهم العار لم يشمت فيهم لمقاومتهم له كما لله نفسه، بل تمرّرت نفسه فيه. إنه رجل المحبة! ليس من شخصٍ مخلصٍ لشعبه بقلبٍ متقدٍ بنار الحب الحقيقي مثل هذا النبي.
  4. يدفعنا هذا السفر إلى التوبة، فنرجع إلى الرب واهب الفرح، بحزننا على خطايانا التي تسببت لنا في فقداننا للسلام الداخلي، كما بسببها نسمع الصوت الإلهي: “في وسطك حرام يا إسرائيل” (يش 7: 13). عندما خان عخان بن زارح خيانة في الحرام كان السخط على كل جماعة إسرائيل (يش 22: 20). يقول الحكيم: “الذهاب إلى بيت النوح خير من الذهاب إلى بيت الوليمة… قلب الحكماء في بيت النوح، وقلب الجهال في بيت الفرح” (جا 7: 2، 4).
  5. كانت مدينة أورشليم بهجة كل الأرض لأنها مدينة الله، أما سرّ جمالها فهو حضرة الله. لكن إذ فارقها مجد الله بسبب إصرارها على الخطية، فقدت جمالها وقوتها وأفراحها، سُبي شعبها، ومن بقي في الأرض صار عبدًا لملك بابل.

استخدام السفر

يقول شاف Schaff إن اليهود يجتمعون كل يوم جمعة بعد الظهر وينوحون على سقوط أورشليم وخرابها وذلك عند حائط المبكىWailing-place، ويقرأون هذه المراثي مع مزامير مناسبة، وهم يقبّلون حجارة الحائط ويروُونه بدموعهم.

المرثاة الخامسة أو القصيدة الخامسة هي مزمور أو صلاة، تُدعى “صلاة إرميا“، لا يزال بعض اليهود إلى اليوم يتلونها في مجامعهم في تموز – آب – من كل سنة، حيث يذكرون دمار أورشليم الأول سنة 587 ق.م.، وخراب الهيكل النهائي سنة 70 م.

تبدأ الكنيسة القبطية خدمة الساعة الثانية عشرة من يوم الجمعة العظيمة حيث تحتفل بإنزال جسد السيد المسيح من على الصليب ودفنه، بالتسبيح بجزء من هذه التسبحة، يرنمها الأسقف إن كان حاضرًا أو الكاهن. حيث تكشف هذه المراثي عن حزن السيد المسيح المصلوب على العالم كله، كما على كل نفسٍ ترفض الإيمان به، فتختار لنفسها ما اختارته أورشليم بجحدها لمخلصها، وفي نفس الوقت يعلن السيد أن ما حلّ به كذبيحة فريدة وحيدة، إنما لأنه قبل أن يحمل آثامنا، وبإرادته مات لكي ينزغ الغضب عنا، ويهبنا القيامة معه.

بنيانه اللغوي

  1. السفر عبارة عن خمس قطع قصائد عبرية شعرية لا تظهر روعتها في الترجمات كما هي في اللغة الأصلية. وُضعت القصائد الأربع الأولى على شكل مراثٍ في مأتم، وجاءت أبيات كل مرثاة مرتبة حسب الحروف الأبجدية العبرية. هذا الترتيب الأبجدي نجده في بعض المزامير مثل مز 25، 34، 37، 111، 119، 145.
  2. تتكون كل من المراثي الثلاثة 1، 2، 4 من 22 آية مرتبة حسب ترتيب وعدد الحروف الأبجدية العبرية Acrostics.
  3. المرثاة 3 تتكون من 66 آية، كل ثلاثة منها تبدأ بحرفٍ واحدٍ حسب ترتيب الحروف الهجائية العبرية.
  4. المرثاة الخامسة وإن كانت تتكون من 22 آية، لكنها لا ترتبط بترتيب الحروف الهجائية، مع أنها قطعة شعرية مشابهة للمراثي الأخرى.

سماته

  1. يكشف الكاتب عما وراء هذه الكارثة، فلا نعجب أن صوَّر المدينة خربة لا ساكن فيها (1: 3)، وفي نفس المرثاة أنهم قاطنون فيها (1: 11). يمكن القول أنها تصور ما بلغه الشعب من وحشية، وأنهم آكلو لحوم بشر Canniblism (2: 20؛ 4: 9-10). وأن الذين أجرموا في حقهم هم الكهنة والأنبياء الكذبة (4: 13)، صاروا في حاجة إلى شراء ماء للشرب (5: 4)، مع غياب تام للفرح والموسيقى في أورشليم (5: 14) [4].
  2. يقدم لنا السفر ما يشبه شعائر جنائزية للمدينة الجميلة والتي كانت تُحسب مدينة الله، فقد بلغت كما إلى الموت. لكنه يفتح لنا باب الرجاء في الرب، ويضع لنا الطريق العملي لمعالجة المتاعب والكوارث المُرة.
  3. يكشف السفر عن شخصية إرميا النبي الذي كان يحذر القادة والشعب، والآن بعد حلول التأديب لا تتوقف دموعه. كتب أروع رثاء عرفه العالم، ينطلق من قلبٍ محبٍ ومخلصٍ! لم يكن أمام إرميا النبي وسط دموعه التي لا تجف إلا أن يختم كل قصيدة بصلاة، يصرخ بها نحو الله، ماعدا القصيدة الرابعة.
  4. جاء جوهر الرسالة أن ما يزرعه الإنسان إيّاه يحصد (غل 6: 7)، وأن ندرك أن التمرد على الله، ورفض عمل نعمته، وعصيان وصيته إنما هو دعوة لحلول كوارث مُرة مع فقدان لأبدية مطوّبة، وشركة مع السمائيين.
  5. عدم استجابة الله لصلوات إرميا من أجل الشعب، لأن الله يطلب توبتهم وتقديسهم. يقوم الله بالتأديب، لا للنقمة، بل للإصلاح والتعلم والنمو في الروح.
  6. دعوة للعمل الجاد، خاصة في سن الشباب (3: 27)، فقد دُعي يوسف للعمل وهو شاب، وأيضًا يشوع وصموئيل وداود، وبولس وتيموثاوس.
  7. تقدم لنا هذه المراثي الخط الواضح للتصرف في وقت الشدة والتجارب. “ارْددْنا يا ربّ إليْك فنرْتدّ. جدّدْ أيّامنا كالْقديم. هلْ كلّ الرّفْض رفضْتنا؟ هلْ غضبْت عليْنا جدًّا؟”(5: 21-22).
  8. تكشف هذه المراثي عن فتح أبواب الرجاء في مراحم الله، فإنه لا يوجد وقت يُقال فيه إنها قد أُغلقت، وأنه قد فات الأوان، حتى وإن اشتدت الظلمة تمامًا. مادام يوجد نفَس ولو كان النفس الأخير، فالله ينتظر رجوعنا إليه. “لأنّ السيّد لا يرْفض إلى الأبد. فإنّه ولوْ أحْزن يرْحم حسب كثْرة مراحمه. لأنّه لا يذلّ منْ قلْبه، ولا يحْزن بني الإنْسان” (3: 31-33). “يشرق الله بنوره على مؤمنيه وسط الظلمة”(22:3-27). هذا وتكشف هذه المراثي عن ممارسة التوبة في جدّيةٍ، وليس بفكرٍ ضحلٍ.
  9. مع أن الحديث في معناه الحرفي يشير إلى السبي البابلي، إلا أن كلمة “بابل” لم ترد في السفر، ليعلن الكاتب أن المراثي لا تُحد بحدثٍ معينٍ، وإنما تقدم صورة مرة لثمار عدم الإيمان الحيّ، والعصيان ضد الله، والتهاون في الوصية الإلهية.
  10. إن كان الله لا يتردد في تأديب شعبه المحبوب (تث 32: 10)، فماذا يفعل بالأمم التي ترفض كلمته؟
  11. حملت المراثي تعزيات إلهية، وهي تُحسب دعوة للصلاة والالتجاء إلى الله وسط الضيق.
  12. جوهر هذا السفر هو أن الله عظيم في أمانته (3: 22-24).
  13. يرى البعض أن هذه المراثي تكشف عن خطة الله لخلاص هذا الشعب في عناده المستمر، فاستخدم التأديب الذي يبدو قاسيًا أشبه بصدمات كهربائية في يد طبيبٍ ماهرٍ للعلاج [5]. في وسط مرارة التأديب يلزمنا أن ندرك أبوة الله (عب 12: 10)، ففي كل مرثاة يكشف النبي عن نعمة إلهية:

أ. في المرثاة الأولى مع الإحساس بالأسى الشديد، وتخلي الله عنه فجأة يقول النبي: “بار هو الرب، لأني قدْ عصيت أمْره” (1: 18).

ب. في المرثاة الثانية تمتع النبي ببصيرة أعمق للحق فقال: “فعل الرب ما قصد. تمم قوْله الذي أوْعد به منْذ أيام الْقدم. قدْ هدم ولمْ يشْفقْ، وأشْمت بك الْعدو. نصب قرْن أعْدائك” (2: 17).تحقق إرميا أن الله وعد بأن يفتح لشعبه كوى السماء إن أطاعوا وصاياه. وأن الله كشف له بأن السبي سينتهي بعد سبعين عامًا (إر 25: 11).

ج. في المرثاة الثالثة عبّر النبي عن آلامه، لكنه وسط نحيبه يقدم لنا عبارات مملوءة تعزية، فيقول: “إنه منْ إحْسانات الرب أننا لمْ نفْن، لأن مراحمه لا تزول. هي جديدةٌ في كل صباحٍ. كثيرةٌ أمانتك. نصيبي هو الرب قالتْ نفْسي، منْ أجْل ذلك أرْجوه. طيبٌ هو الرب للذين يترجونه، للنفْس التي تطْلبه” (3: 22-25).

د. في المرثاة الرابعة يعلن في ختامها: “قدْ تم إثْمك يا بنْت صهْيوْن. لا يعود يسْبيك. سيعاقب إثْمك يا بنْت أدوم، ويعْلن خطاياك” (4: 22).

هـ. في المرثاة الخامسة يظهر بهاء الحق الإلهي الذي يملأ النفس رجاءً فيه: “أنْت يا رب إلى الأبد تجْلس. كرْسيك إلى دوْرٍ فدوْرٍ” (5: 19).

الفكر اللاهوتي للسفر

بجانب ما اتسم به هذا السفر من الجانب الأدبي اللغوي، إذ تعتبر من أروع القطع للمرثاة في العالم، خاصة في لغتها الأصلية، إلا أنها أيضًا مصدر لفكرٍ لاهوتيٍ حيّ:

  1. تكشف هذه المراثي أن كل ما يحل بنا من كوارث هو بسماح من الله الكلي الرحمة، فإن كان يصعب على الإنسان أن يئن وسط المتاعب القاسية، لكن يلزمه أن يطلب من الله أن يكشف له عما وراءها من هدف إلهي، كالتوبة والرجوع إليه.
  2. إن الله كُلي الصلاح، يلزم الثقة فيه وسط الضيقات، والالتجاء إليه.
  3. خبرة المعاملات مع الله في الماضي تسند المؤمن ليجتاز الضيقة الحاضرة مهما بلغت شدتها بروح الرجاء.
  4. غاية التوبة لا أن يرفع الله الضيقة، بل أن نلتقي به ونحيا معه بروح الشكر، هذا هو الإصلاح الحقيقي (إش 35: 1-10؛ إر 30: 1-31: 40؛ حز 37: 1-28؛ هو 3: 5؛ 14: 1-9؛ يوئيل 3: 18-21؛ عا 9: 11-15؛ مي 7: 14-20؛ زك 14: 1-11؛ ملاخي 4: 1-6).
  5. لا يتركنا الله وسط ضيقاتنا، إنما يبغي خلاصنا.

خدمة السيد المسيح وسفر المراثي [6]

يرى البعض أن الرجل الذي رأى المذلة في المرثاة الثالثة هو إرميا النبي حيث حسب ما حلّ بشعبه إنما حلّ به، ورأى آخرون إن المتحدث هنا هو باسم صدقيا ملك أورشليم، وآخرون قالوا إنه شخصيه اعتبارية، لكن ترى الكنيسة أن المتألم الحقيقي هو السيد المسيح، آدم الثاني، الذي بإرادته ومسرته احتمل المذلة لينقذ آدم الأول وبنيه، لذلك يترنم الكاهن بهذه المرثاة في بدء الساعة الثانية عشرة من الجمعة العظيمة حيث تذكر دفن السيد المسيح.

على أي الأحوال يتحدث إرميا في هذا السفر على لسان الرب المخلص، كما قال الرب نفسه له: “مثل فمي يكون” (إر 15: 19). فإن كان إبراهيم أب الآباء حين قدم ابنه ذبيحة، كان بعمله هذا يقدم نبوة صادقة لعمل الآب الذي بذل ابنه الوحيد ذبيحة لخلاص العالم، هكذا إرميا النبي بفيض آلامه اجتاز المعصرة رمزًا ونبوة للسيد المسيح.

تعلن آلام إرميا النبي وحزنه ودموعه عن مشاعر الله الحزين على شعبه، كما تتنبأ عن الآلام التي احتملها السيد المسيح على الصليب.

يكشف هذا السفر عن ما وراء بكاء السيد المسيح على أورشليم في الأسبوع الأخير حين صعد إلى جبل الزيتون وتطلع إلى المدينة (مت 23: 37). لقد جرت دموع إرميا حزنًا على المدينة التي رفضته، ولم تقبل صوت الرب على فمه. وفي هذا رمز للسيد المسيح كلمة الله نفسه الذي جرت دموعه حزنًا على نفس المدينة التي رفضته كمخلصٍ لها.

دموع إرميا (3: 48-49) تشير إلى دموع السيد المسيح على نفس المدينة (مت 23: 37-39؛ لو 19: 41-44). مع أن الله هو الذي سمح بالضيقة للتأديب، لكنه يحزن على هذا الخراب الذي يّحل بالإنسان بسبب خطاياه. ففي ضيقهم تضايق (إش 63: 9)، وسيأتي اليوم الذي فيه يمسح كل دمعة (إش 25: 8؛ رؤ 7: 17؛ 21: 4) حيث لا يكون للخطية بعد وجود.

ضم هذا السفر عبارات كثيرة لها مفاهيم مسيانية (12:1؛ 15:2؛ 14:3، 15، 19، 30).

  1. جاء السيد المسيح كعريس للبشرية التي ترملت (مرا 1: 1).
  2. انكسار قلب التلاميذ وهم يتطلعون إلى الصليب (مرا 1: 12).
  3. سخرية الجماهير بالمسيح المصلوب (مرا 1: 15).
  4. تحقيق ما ورد في إشعياء 50: 6 عن بذل ظهره للضاربين وخدّيه للناتفين، وإشعياء 53: 3 عنه كرجل أوجاعٍ ومختبر الحزن (إر 3: 14-15، 19، 30).

سفر الدموع

غالبًا ما تعبر الدموع عن صرخات القلب الخفية، وعجز اللغة البشرية عن التعبير عما في أعماق النفس؛ تعبر عن المرارة الداخلية كما أحيانًا عن الفرح الشديد. الدموع أيضًا وسيلة غالبًا لا إرادية لطب النجدة ومساعدة المحيطين بنا، خاصة الأحباء والأقرباء. يستخدمها الرضيع ليعبر عن جوعه أو ألمه، والطفل للضغط على من هم حوله لتحقيق رغبة ما أو نوال شيء معين.

يُدعى إرميا بالنبي الباكي، فقد كانت دموعه تجري وتفيض لا من عينيه فحسب، بل ومن أحشائه التي كانت تذوب في مرارة على بنت شعبه.

لم تحمل دموعه نوعًا من الأنانية، إذ لم يكن يبكي لخسارة شخصية أو ألم شخصي حلّ به، حملت دموعه حبًا فياضًا نحو الله وشعبه ومدينته وهيكله!

دموعه تكشف عن شخصيته كرجل الله المملوء حبًا وحنوًا مثل سيده، ورعاية واهتمامًا، وتقديسًا وتكريسًا لخدمة الله.

إن كان العالم مملوءًا بالظلم، والبشرية تعاني من الفقر والحروب والكوارث المتعددة مع التمرد على الله، وعدم المبالاة بالمصير الأبدي، لذا يليق بنا أن نحزن مع ربنا يسوع الباكي على أورشليم والمشارك مريم ومرثا حزنهما.

جاء سفر إرميا الباكي بنبواته يكشف عن حزنه على ما سيحل بأورشليم وشعب الله، ومراثيه تحمل ذات المرارة بعد حدوث الخراب.

المراثي وجبل الجلجثة

جاء في أحد التقاليد أن إرميا سجّل هذه المراثي في “كهف إرميا” وهو بجوار أورشليم أسفل جبل الجلجثة حيث صُلب السيد المسيح. هكذا سكب إرميا الدموع بغزارة وسجّل مراثيه الحزينة من أجل الخطايا التي ارتكبها شعبه، ولكن تطلعه بروح الرجاء إلى جبل الجلجثة، ملأ قلبه رجاءً، وحوّل المراثي إلى أغنية المسيح التي يترنم بها وهو حامل خطايا شعبه في طريقه إلى الجحيم لكي يحطم ثمر الخطية، ويحمل مؤمنيه كغنائم، ويدخل بهم بقيامته إلى فردوس النعيم.

الشخصيات الرئيسية

  1. مملكة يهوذا المسبيّة: يستحضر سفر المراثي أمامنا أورشليم كمن أصبحت أرملة، ترمّلت بإرادتها، إذ فقدت عريسها السماوي باختيارها للخطية عريسًا باطلًا. فقدت الاحتفالات بالعيد، فصار الحزن نصيبها. صار أُمراؤها في حالة عار، ولهذا يبكي عليها النبي، ويرثي الحالة التي وصلت إليها. لقد بكى الرب يسوع المسيح على أورشليم حيث نقرأ القول: “وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة (أورشليم) وبكى عليها، قائلًا إنكِ لو علمتَ أنت أيضًا حتى في يومك هذا ما هو لسلامك… (لو 41: 19-44). وقبل أن يبكي الرب على أورشليم بكى لنفس السبب النبي الباكي حيث كلّت عيناه من الدموع، ويقول التقليد اليهودي إن إرميا جلس يبكي خارج السور الشمالي للمدينة على رابية تدعى الجلجثة التي عليها صُلب سيدنا له المجد.
  2. السيد المسيح: هو عريس شعبه ومخلصه، أعطاه الشعب القفا لا الوجه، بل وقاومه، وأراد الخلاص منه بأية وسيلة، فحرم نفسه منه كمصدرٍ للفرح. إن كان الله لا يطيق الخطية، لكنه حزين من أجل ما حلّ بشعبه.

وسط الضيقات “مراحمه جديدة كل صباح” (3: 23). فالله ليس بإله النقمة ضد البشر، إنما ضد الشر؛ هو رحوم يطلب تقديس شعبه ليتمتع به.

  1. إرميا: رجل الله، مرارة قلبه من جهة شعبه ووطنه ليست مشاركة عاطفية مجردة، لكنها شركة صادقة مع المتألمين كعضوٍ في جسمٍ سقيمٍ. لم يقف صامتًا، لأنهم لم يسمعوا له، ولا معاتبًا، بل وقف نائحًا في مرارة. لأن ما حلّ بهم حلّ به. مرضهم هو مرضه. إنه كرجل الله يعبِّر بصدق ما يحمله الله من مشاعر نحو شعبه حتى في أمر لحظات التأديب.
  2. أصدقاء يهوذا تحوّلوا إلى أعداء. مصر التي كانت في تحالف مع يهوذا ضد بابل، إذ انهارت يهوذا صارت مقاومة لها.
  3. الجيران: مثل أدوم، وهي بمثابة الأخت، صارت شامتة. كانت تقبض على الهاربين من يهوذا وتسلمهم لبابل كعبيدٍ مسبيين (عو 14). صارت أورشليم بالنسبة لأدوم أرضًا قفرًا لا تصلح إلا لرعاية الغنم. أما بالنسبة للمتحالفين معها مثل مصر، فعندما حوصرت أورشليم بواسطة الكلدانيين لم ترد أن تعرض نفسها للخطر والمواجهة معهم لإنقاذ يهوذا.
  4. العدو (بابل): استخدمه الله للتأديب، لكن إذ ظن أن بذراعه غلب، وعيّر الرب إله الجنود، يعود الله ويعاقب العدو ويحطمه.

أقسامه

الأصحاح الأول: أورشليم المترمِّلة المنسيَّة!

الأصحاح الثاني: في غضب تود أن ترفعني إلى سماواتك!

الأصحاح الثالث: رجاء مشرق وسط الظلمة.

الأصحاح الرابع: حلول عار الخطية.

الأصحاح الخامس: انتظر الرب الملك الأبدي وتوسل إليه.

المرثاة الأولى: أورشليم المترمِّلة المنسيَّة!

يصور الكاتب أورشليم بأرملة، لا تكف عن البكاء، وليس لها من معزٍ. زال بهاؤها، وتدنس هيكلها وتهدم، وصارت في حدادٍ فريدٍ، ليس من ألم يفوق آلامها، لأن الرب نفسه سمح لها بذلك، بسبب معاصيها. إنها تتوسل طالبة الرحمة. أما الخطوط العريضة لها، فهي:

*   الخطية تعد الإنسان بالغنى، لكنها تسلب منه كل الخيرات الإلهية.

*   رفضت أورشليم نير الخضوع للرب (إر 27-28)، فحملت نير العدو المر (مرا 1: 14؛ إر 5: 5).

*   الأصدقاء الذين يشجعون على الخطية، يسخرون بالإنسان حين يعاني من ثمارها.

*   الله قدوس، والخطية لا بُد أن تُدان.

المرثاة الثانية: في غضبك تود أن ترفعني إلى سماواتك!

يصور الكاتب هذه الأرملة وقد غُشي على أطفالها ورُضعها بسبب الجوع الذي حلّ في ساحات المدينة، وحلت المذلة بشبابها، وتشرد ملكها وأمراؤها بين الأمم، وجلس شيوخها على الأرض صامتين. يصور عابري الطريق، وهم يُصفِّرون ويسخرون بها، يهزُّون رؤوسهم على بنت أورشليم، المدينة التي كانوا يحسبونها بهجة الأرض.

لم يعد لها إلا أن تذرف الدموع أمام الله، ليترفّق بأطفالها، وتنعم بالرحمة الإلهية.

الخطوط العريضة لها، هي:

*   تجلب الخطية الدمار والعار. بحسب السجلات التاريخية بابل هي العدو، في الواقع الحقيقي الله صار كعدوٍ إلي حين لأحل خلاصها الأبدي (4-5). أما بابل فهي فأس المعركة.

*   العابرون ليس فقط لا يبالون وإنما أيضًا يساهمون في جلب العار [15].

*   العدو يفتخر بنصرته العظيمة لكنه لا يمجد الله.

المرثاة الثالثة: رجاء مشرق وسط الظلمة

*   هي نقطة تحول في خبرة إرميا، عوض التركيز على ما بلغته أورشليم (النفس) من دمار، والعدو من عنفٍ واستعبادٍ، يركز عينيه على الرب المخلص حامل عارنا!

*   إنه لا يرفضنا إلى النهاية، لأنه أب محب ورحوم.

*   لا تخف [57]. مراحمه الرب جديدة كل صباح، اسمح له بالعبور إلى أعماقك، فتبدأ حياة جديدة، بغض النظر عن خبرة الفشل السابقة. يصور الشعب كله كشخصٍ واحدٍ، وقد صار أضحوكة لجميع الشعوب، وأغنية لهم طول النهار. جرَّعه الله العلقم. كاد أن يفقد رجاءه، غير أنه يتطلع إلى مراحم الله، فيراها جديدة كل صباح. يصرخ قائلًا: “نصيبي هو الرب، قالت نفسي” (3: 24).

المرثاة الرابعة: حلول عار الخطية

يتطلع الكاتب إلى الكوارث التي حلت بدمار أورشليم. فيرى الخراب الخطير ليس في المباني ولا في الإمكانيات، إنما في النفس التي كانت كالذهب الإبريز والحجارة الكريمة فصارت طينًا ووحلًا. الشباب صار كآنية فخار قد تهشمت. يرى الذين كانوا في حياة الترف، قد صاروا في الشوارع لا بيوت لهم. الذين كانوا يرتدون القرمز قد احتضنوا المزابل. القادة الذين كانوا أنصع من الثلج، وأنقى من اللبن، لصقت جلودهم بعظامهم، ويبسوا كالخشب. أيادي النساء الحنونات امتدت لتطبخ أولادهن ليأكلن. بسبب خطايا الأنبياء الكذبة والكهنة سُفك دم الأبرياء، ونُفي الشعب إلى السبي، فتهللت أدوم في شماتةٍ.

المرثاة الخامسة: انتظر الرب الملك الأبدي وتوسل إليه

يرثى الكاتب في صلاته فقدان الشعب للحرية، وانحناء رقابهم لنير العبودية في السبي. تسلط العبيد (الكلدانيون) عليهم، وليس من يخلصهم من أياديهم. صار الكل من شيوخ وشباب في مناحة لا تنقطع. تحول جبل صهيون إلى قفرٍ لسُكنى بنات آوي. وأخيرًا، ما وراء هذا كله إنما الخطية والعصيان والبُعد عن الله. ولكن من يقدر أن يردهم إلى الله سوى الله نفسه. يصرخ الكاتب: أرجعنا يا رب إليك فنرجع، جدد أيامنا كما كانت في القدم [7].

مقارنة بين مراثي إرميا و سفر إرميا و2 ملوك

جاء الكثير من العناصر التي وردت في سفر المراثي تطابق ما ورد في سفري إرميا وملوك الثاني (وأيضًا 2 أي 36: 11-21).

 

مراثيإرميا

إرميا

2 مل 25

حصار أورشليم

2: 20-22؛ 3: 5-7.

39: 1-3؛ 52: 4-5.

1-2.

المجاعة

1: 11، 19؛ 2: 11-12، 19-20؛ 4: 4-5، 9-10؛ 5: 9-10.

37: 21؛ 52: 6.

3.

هروب الجيش والملك

1: 3، 6؛ 2: 2؛ 4: 19-20.

39: 4-7؛ 52: 8-11.

4-7.

حرق القصر والهيكل والمدينة

2: 3-5؛ 4: 11؛ 5: 18.

39: 8؛ 52: 13.

8-9.

ثغرة في السور

2: 7-9.

33: 4-5؛ 52: 7.

10.

الترحيل إلى السبي

1: 1-5، 18؛ 2: 9، 14؛ 3: 2، 19؛ 4: 22؛ 5: 2.

28: 3-4، 14؛ 39: 9-10.

11-12.

نهب الهيكل

1: 10؛ 2: 6-7.

51: 51.

13-15.

قتل القادة

1: 15؛ 2: 2، 20.

39: 6.

18-21.

مذلة يهوذا

1: 1؛ 5: 8-9.

40: 9.

22-25.

انهيار العون الخارجي

4: 17؛ 5: 6.

27: 1-11؛ 37: 5-10.

24: 7.

اعتراضات النقاد والرد عليهم[8]

اعتراض 1

جاء في سفر أخبار الأيام الثاني: ورثى إرميا يوشيا، وكان جميع المُغنين والمغنيات يندبون يوشيا في مراثيهم إلى اليوم… وها هي مكتوبة في المراثي” (2 أي 35: 25). أصر بعض النقاد المتطرفين أن الحديث هنا يُشير إلى سفر المراثي القانوني، وأن كاتب سفر الأخبار أساء فهم ما ورد في مراثٍ (2: 7؛ 4: 20)، إن هذا السفر هو لحن جنائزي قدمه إرميا على يوشيا.

الرد

إن مجرد قراءة السفر في شيء من الدقة يظهر أنه ليس بلحن جنائزي خاص بيوشيا. المراثي التي يذكرها كاتب أخبار الأيام الثاني، لا تمت بصلة بهذا السفر، وربما أشار إليه يوسيفوس المؤرخ اليهوديبقوله: “وضع إرميا ترنيمة جنائزية “لجنازة يوشيا لا تزال باقية إلى اليوم[9]”.

لا يُعقل أن يوسيفوس لم تكن له دراية بهذا السفر، فلو أنه هو الترنيمة التي يقصدها هنا لذكر ذلك. فما ورد في سفر أخبار الأيام الثاني وفي يوسيفوس إنما يؤكد أن إرميا وضع ترانيم جنائزية أو مراثٍ (لا تخص يوشيا الملك).

يذكر Driver [10] مقارنة بين ما ورد في هذا السفر وما ورد في سفر إرميا موضحًا وجود تناسق بينهما.

اعتراض2

وضع السفر بين أسفار الكاثوبيمKethubhim في رأي البعض أنه ينفي نظرة اليهود إلى أنه من وضع إرميا النبي.

الرد

لم يرد دائمًا في قسم الكاثوبيم، بل كان يوضع أحيانًا من بين خمسة أسفار Megilloth في الأسفار العبرية لأنه يقرأ في المجمع في التاسع من شهر آب في ذكرى خراب الهيكل.

اعتراض 3

يعترض البعض على ما ورد في السفر من عبارات لا يُمكن نسبها لإرميا النبي مثل:

“أنبياؤها أيضًا لا يجدون رؤيا من قبل الرب” (مرا 2: 9).

الرد:

هذه العبارة تحمل ما ورد بأكثر قوة ضد الأنبياء الكذبة (إر 14: 14؛ 23: 16).

“في برجنا أمة لا تُخلص” (مرا 4: 17).

اعتراض 4

الاعتراض هنا أن الكتاب يُنسب نفسه إلى الشعب الذي ترقب الخلاص عن طريق فرعون؛ هذا كان رأى الكثيرين، لكن إرميا لم يكن موافقًا على ذلك.

الرد:

لم يربط إرميا نفسه بهذه الجماعة المتكئة على مصر، وإنما كان هذا هو رأى الغالبية العظمى. وهو كمن يقول: “نحن فعلنا كذا وكذا”، لأن شعبه فعل هذا حتى بالرغم من عدم موافقته على تصرفاتهم.

من وحي سفر المراثي

مراثي أم تعزيات سماوية؟!

 

*   هب لي يا رب روحين من إرميا النبي الباكي.

 بروح النبوة رأى ما سيحل بشعبه،

 فأنَّت أحشاؤه عليه.

 وتحوَّلت رأسه إلى ينبوع يفيض بالدموع.

 في إخلاصه ومحبته لشعبه تحوَّلت حياته إلى بكاءٍ لا ينقطع.

 لم يرتعب من الملك ولا الرؤساء والعظماء،

 ولم يخشَ القادة الدينيين، ولم يبالِ باتهامات أهل قريته ضده.

 لم يشغله شيء سوى خلاص الكل!

*   كلما عبر بالهيكل، تمرّرت نفسه فيه،

 لم يكن يستطع أن يرى مدينة الله تصير خرابًا،

 ولا هيكل الرب يقتحمه الوثنيون ويدنسونه،

 ولا الشعب مُلقى كجثثٍ في الشوارع.

 رأى بعين النبوة هذا كله، فكان يصرخ.

 لكن ليس من يسمع، ولا من يبالي،

 بل تحول الكل إلى أعداء يضطهدونه.

 يطلب الكل الخلاص منه مهما تكن التكلفة!

*   ما تنبأ به تحقق بالفعل.

 صار الكل في مرارةٍ،

 أما هو فلم يأخذ موقف المتفرج.

 ولا برَّر نفسه، لأنه سبق فأنذر ولم يسمع له أحد.

 شعر بأن ما حلّ بهم، إنما حلّ به شخصيًا!

*   كتب مراثيه وهو في كهفٍ بجوار أورشليم.

  كتب ليعبِّر عما في أعماقه.

 كتب ليدعو الكل إلى التوبة.

*   أكد لهم وعود الله بالعودة من السبي،

لكن الله ينتظر رجوعهم إليه ليخلصهم.

 يدعو النبي الجميع للعمل بروح الإخلاص والجدّية،

 ليفتح أمامهم باب الرجاء،

 ويدعوهم لتذكر معاملات الله معهم عبر الأجيال.

*   بروح النبوة يعلن إرميا عن مجيء المسيّا المخلص.

 يبكيهم إرميا وهو في عجز،

 أما يسوع فيبكيهم ويخلصهم.

 مراحمه جديدة في كل صباح،

 يطلب على الدوام خلاصهم.

*   إن كان أصدقاء يهوذا تحوّلوا إلى أعداء.

 إن لم يقفوا في سلبية متفرجين،

 فقد شمتوا، بل وأعانوا العدو على سبيهم.

*   يرى إرميا أورشليم كأرملة وحيدة منسيّة.

 لكن عريسها السماوي ينتظرها.

 يعد لها بيت الزوجية السماوي،

 ويهيئ لها الأمجاد.

 أما المقاومون لها فإن لم يتوبوا سيرتد عملهم على رؤوسهم!

فاصل

فاصل

فهرس تفسير مراثي إرميا
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير مراثي إرميا 1
تفسير العهد القديم

 

زر الذهاب إلى الأعلى