تفسير سفر نحميا ١ للقمص تادرس يعقوب

بناء السور

الأصحاح الأول

اهتمام نحميا بأورشليم

 

قام نبوخذنصر بهدم السور، ومع محاولة إعادة بنائه (عز 4: 6- 23)، بقي خرائب تقريبا لمدة قرن ونصف، مما جعلها مفتوحة لأعداء كثيرين. وكانت هناك حاجه إلى قائد حّي مثل نحميا يقوم ببنائها. في عام 458 ق.م. عادت الدفعة الثانية من اليهود إلى أورشليم تحت قيادة عزرا. وكان عزرا الكاتب رجل الشريعة الذي يهتم بجمع أسفار الكتاب المقدس. مع هذا الاهتمام بكلمة الله كانت تلك الفترة في حاجة إلى رجل عمل بجانب رجل الشريعة. وقد هيأ الله نحميا لهذا.

كان لنحميا دوره الهام كساقي الملك ارتحشستا الأول Artaxerxes I حوالي عام 445 ق.م.، بعد حوالي 13 سنة من ذهاب عزرا إلى أورشليم. لقد جاءه أخوه حناني (ربما أحد أقربائه) بأخبار جديدة بخصوص خراب أورشليم. كان رد الفعل المباشر هو الالتجاء إلى الصلاة كما فعل عزرا (عز 9).

 

1. حامل أثقال إخوته 1-3

كَلاَمُ نَحَمْيَا بْنِ حَكَلْيَا:

حَدَثَ فِي شَهْرِ كَسْلُو فِي السَّنَةِ الْعِشْرِينَ،

بَيْنَمَا كُنْتُ فِي شُوشَنَ الْقَصْرِ [1]

شهر كسلو يعادل تقريبًا الجزء الأخير من شهر نوفمبر، والأكبر من شهر ديسمبر.

نَحَميا بن حكليا: هذا هو اسم واضع السفر، الأمر الذي لا نجده في أيّ من الأسفار التاريخية. سلسلة نَسَب نَحَميا هنا ليست طويلة، مثل سلسلة نَسَب عزرا. إذًا لا حاجة إلى الرجوع إلى زمن هارون، فنَحَميا ليس كاهنًا، ولا إلى زمن داود لأنه ليس ملكًا، وإن كان البعض يرى أنه من سبط يهوذا، ومن عشيرة داود الملكية [1]، بل من عامّة الشعب.

ثلاثة أشخاص دعوا باسم “نَحَميا”: أحد الذين عادوا من السبي، من بابل، إلى أورشليم، تحت قيادة زربابل (7: 7؛ عز 2: 2). وآخر ابن عزبوق، ساهم في ترميم سور أورشليم (3: 16)، وصاحبُنا ابن حكليا (1: 1، 10: 2؛ 12: 26) [2].

حكليا” مشتقة من “انتظر الرب”، أو الرجاء بالربّ، أو “يهوه محتجب” (إش 8: 17؛ 33: 20).

أما ذكر اسم الأسرة هنا، وقوله للملك “المدينة بيت مقابر آبائي” (2: 3) يكشف عن أنه من أسرة كانت لها شهرتها في أورشليم.

“شوشن”: مدينة هامة لعيلام في جنوب غرب إيران، معروفة عند اليونانيين بسوسا. كانت في السهل الخصب على بعد حوالي 150 ميلًا شمال الخليج الفارسي. كانت في ذلك الحين مقرًا شتويًا للملوك، لكنها شديدة الحرارة صيفًا. رأى دانيال نفسه في رؤيا كأنه في شوشن (دا 8: 2). عندما فتح كورش بابل سقطت شوشن في أيدي الفرس، وجعلها داريوس قصبة المملكة. وأسس هذا الملك القصر العظيم الموصوف في أس 1: 4-6. بعد موقعة أربيلا وجد الإسكندر الأكبر فيها جواهر الملك وذخائره. وقد فضل بابل عليها، فانحط شأنها. وقد زال مجدها تمامًا بعد القرن السابع الميلادي. حاليًا يشغل موضعها قرية شوشن أو سوسن بين نهري الخرخة وأولاي، تقع شرق بابل.

أثبت ما كُشف من آثار هذه المدينة التاريخ الوارد في أسفار الكتاب المقدس، خاصة سفر أستير. وبالقرب من النهر في الأرض المنخفضة قبر يظنه السكان قبر دانيال. كما اكتشف عمود أسود نقش عليه شرائع حمورابي ملك بابل، نقله العيلاميون من بابل.

لا نعجب من وجود قله مقدسة لحساب ملكوت الله حتى وإن عاشت في قصور ملوك أشرار أو وثنيين، نذكر على سبيل المثال موسى النبي الذي تبنته ابنه فرعون، في قصر ذلك الملك الذي صمم على قتل كل الأطفال الذكور للعبرانيين. ويقول عنه الرسول بولس: “تهذب موسى بكل حكمة المصريين” (أع 7: 22)، كما قال :”بالإيمان موسى لما كبر أبى أن يدعى ابن ابنة فرعون، مفضلًا بالأحرى أن يُذل مع شعب الله على أن يكون له تمتع وقتي بالخطية، حاسبًا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر، لأنه كان ينظر إلى المجازاة” (عب 11: 26). وتربى عوبديا في بيت أخاب من أشر ملوك إسرائيل (1 مل 18: 5-16)، وداود في قصر شاول الملك الشرير. كما وجد قديسون في قصر قيصر. هكذا وجد قادة قديسون يعيشون كما في المقادس، وهم يقطنون في القصور الملوكية حيث وجد الفساد والظلم في أبشع صوره.

هذه الشخصيات وأمثالها توبخنا!

*   ليس أحد منكم وهو يمكنه أن يكون ابنًا للملك استهان بهذا، أما موسى ففعل هذا ليس فقط ترك هذا، بل عبّر عن ذلك بالقول: “أبى” أن يكون هكذا، أبغض هذا، وترك ذلك هاربًا.

*   إذ وُضعت السماء أمام موسى صار الإعجاب بقصرٍ مصريٍ أمرًا تافهًا… لقد حسب العار من أجل المسيح أفضل من الحياة السهلة، وهذا في ذاته يحمل مكافأة… لقد ألقى موسى بنفسه في مخاطر كثيرة بمحض اختياره في الوقت الذي كان في إمكانه أن يعيش متدينًا وهو يتمتع بالخيرات…، لكن حسبه خطية ألاَّ يكون مستعدًا لاحتمال الآلام مع الغير، فصار احتماله للآلام خيرًا عظيمًا، ملقيًا بنفسه فيها تاركًا القصر الملكي. لقد فعل هذا لأنه رأى أمامه أمورًا عظيمة، حاسبًا عار المسيح أفضل من خزائن مصر [3].

القديس يوحنا الذهبي الفم

أَنَّهُ جَاءَ حَنَانِي وَاحِدٌ مِنْ إِخْوَتِي،

هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ يَهُوذَا،

فَسَأَلْتُهُمْ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَجُوا،

الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ وَعَنْ أُورُشَلِيمَ. [2]

حناني: اسم عبري معناه “منعم، كريم، رحوم، وهو اختصار “حنانيا”.

بعد السبي كان شعب إسرائيل يدعى “يهودًا“.

سأل نحميا عن أورشليم، حيث يوجد بيت الرب الذي صعد إليه الشعب، ويقدمون ذبائح الشكر للرب (مز 122).

يذكر المؤرخ يوسيفوس أن نحميا كان يتمشى حول أسوار القصر، فسمع بعض الأشخاص يتكلمون بلسان بلده، وإذ علم أنهم جاءوا من اليهودية مؤخرًا، تحدث معهم، وعلم أن حال أورشليم في دمار، وأن الراجعين من السبي في حالة بائسة، هذا ما بعث فيه روح الحزن أمام الملك [4].

يرى البعض أن هؤلاء الرجال جاءوا إلى شوشن، إما لطب العون من العرش الفارسي أو من نحميا. أو كانوا في رحلة عمل عادية تستلزم العلاقة بين اليهود في يهوذا والمشتتين في أنحاء الإمبراطورية[5].

هنا نقف بإجلال وتقدير لإنسانٍ يعيش في القصر لكن قلبه مع شعبه المتألم، فلن تستريح نفسه بينما تئن نفوس إخوته. هذا ما عبّر عنه الرسول بولس قائلًا: “فإني أود لو أكون أنا نفسي محرومًا من المسيح لأجل إخوتي أنسبائي حسب الجسد” (رو 9: 3). وعبرّ عنه موسى النبي حين صرخ: “والآن إن غفرت خطيتهم، وإلا فامنحني من كتابك الذي كتبته” (خر32: 32).

*   لما تدهش أن الرسول يود أن يكون محرومًا من أجل إخوته، إن كان هذا الذي هو في شكل الله أخلى نفسه، وأخذ شكل العبد وصار لعنة لأجلنا (في 2: 6-8)؟ لماذا العجب إن كان المسيح قد صار لعنة لأجل عبيده، أفلا يصير أحد عبيده لعنة من أجل إخوته؟ [6]

العلامة أوريجينوس

فَقَالُوا لِي:

إِنَّ الْبَاقِينَ الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ هُنَاكَ فِي الْبِلاَدِ،

هُمْ فِي شَرٍّ عَظِيمٍ وَعَارٍ.

وَسُورُ أُورُشَلِيمَ مُنْهَدِمٌ،

وَأَبْوَابُهَا مَحْرُوقَةٌ بِالنَّارِ. [3]

بالنسبة نحميا فإنه لا يفصل بين خير الشعب عن خير المدينة وحالها، فالاثنان هما جانبان لحقيقة واحدة.

دمار السور يعني أن المدينة عاجزة تمامًا عن مواجهة أي عدو. ما كان يحزن قلب نحميا ليس ما حدث للأسوار منذ 140 عامًا، حيث هدمها نبوخذنصر، وإنما ما حدث في أيام عزرا (عز 4: 7-23)، حين حاول اليهود إعادة بناء السور، في أيام أرتحشستا الأول. ولكن اعترض رحوم صاحب القضاء وشمشاي الكاتب على ذلك، فأصدر الملك أمره بوقف العمل.

لقد سمح الله بالضيقة الشديدة، حتى بدت الأمور مستحيلة، ليس من يدٍ بشريةٍ تقدر على إصلاح الموقف. وسط الشعور بالعجز التام، وجد نحميا أن لا ملجأ له إلا الله بالصلاة من كل قلبه!

في كل العصور، يحتاج شعب الله إلى من يصلي لأجله.

ما هو السور، وما هي الأبواب؟ يقول الرب نفسه: “أنا أكون سور نار حولها” (زك 2: 5). ويقول: “أنا هو الباب” (يو 10: 9). فالسور المهدم والأبواب المحروقة بالنار إنما تشير إلى فقدان الإنسان قوة الله الحصن الحصين، وتيه الإنسان عن قوة الله الحصن الحصين، لأنه لم يجد الباب الحقيقي، ليدخل إلى حضن الله. فالسور يشير إلى قوة الله العاملة في المؤمن، والباب يشير إلى الخلاص الإلهي الذي ينعم به.

2. جلسة مع الله 4

فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ،

جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا،

وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلَهِ السَّمَاءِ [4]

إذ اكتشف نحميا خطورة الأمر وضع على عاتقه أن يتعهده، لا بالجدال والحوار، ولا بالاعتزاز بقدرته وحكمته، وإنما بتقديمه لله الذي من اختصاصه حلّ المعضلات! وكما يقول يعقوب الرسول: “اقتربوا إلى الله، فيقترب إليكم… اتضعوا قدام الرب فيرفعكم” (يع 4: 8، 10).

كان موقف نحميا واضحًا أمام نفسه، فإنه لم يرد الدخول في معاركٍ، ولا أن يضع خططًا معينة، بل يقدم الأمر بقلبٍ منكسرٍ أمام الله، فهو يعلم أن الله قريب من منكسري القلوب.

بقوله “جلست” يعني أنه ترك كل شيء، ليجلس مع الله من أجل أمر خطير، ألا وهو ما حلّ بشعب الله من عارٍ وخزيٍ بسبب الخطية.

إذ جلس ليس مع نفسه وحده، إنما في حضرة الله، تجلى أمامه أمران: خطاياه وخطايا شعبه من جانب، ووعود الله الصادقة من جانب آخر، لذلك انسابت دموعه، وناح في قلبه بروح الرجاء في عمل الله وخلاصه؛ بكى وناح أيامًا.

يقول المرتل:

تعبت في تنهدي، أعوم في كل ليلة سريري، بدموعي أذوب فراشي (مز 6: 6).

استمع صلاتي يا رب، وأصغِ إلى صراخي. لا تسكت عن دموعي لأني أنا غريب عندك، نزيل مثل جميع آبائي (مز 39: 12).

صارت لي دموعي خبزًا نهارًا وليلًا، إذ قيل لي كل يوم أين إلهك؟ (مز 42: 3)

تيهاني راقبت، اجعل أنت دموعي في زقك، أما هي في سفرك؟ (مز 56: 8)

قد أطعمتهم خبز الدموع، وسقيتهم الدموع بالكيل (مز 80: 5)

إني قد أكلت الرماد مثل الخبز ومزجت شرابي بدموعٍ (مز 102: 9).

الذين يزرعون بالدموع، يحصدون بالابتهاج (مز 126: 5).

*   الرب نفسه بكى على أورشليم، إذ لم ترد أن تبكي هي على نفسها… إنه يريدنا أن نبكي لنهرب (من الهلاك)…

من يبكي كثيرًا في هذا العالم يخلص في المستقبل، لأن “قلب الحكماء في بيت النوح، وقلب الجهال في بيت الفرح” (جا 7: 4). وقال الرب نفسه: “طوباكم أيها الباكون الآن، لأنكم ستضحكون” (6: 21).

فلنبكِ إذن إلى زمان، فنفرح إلى الأبد. لنخفْ الرب وننتظره، معترفين بخطايانا، راجعين عن شرنا، حتى لا يُقال لنا “ويل لي… قد باد التقي من الأرض وليس مستقيم بين الناس” (مي 7: 1-2) [7].

القديس أمبروسيوس

*   الصلاة الممتدَّة والدموع الغزيرة تجتذبان الله للرحمة.

*   البكاء وحده يقود للضحك المطوَّب.

*   أراد يسوع أن يُظهر في نفسه كل التطويبات، إذ قال: “طوبى للباكين“، وقد بكى هو نفسه لكي يضع أساس هذا التطويب حسنًا [8].

العلامة أوريجينوس

إذ كشفت دموعه عن حزن قلبه على حاله وحال شعبه مع رجائه في الرب، التزم بالصوم والصلاة. ففي أثناء السبي صار الصوم أمرًا شائعًا، بجانب الصوم كتذكار لانهيار أورشليم وقتل جدليا (إش 4: 16؛ دا 9: 3؛ 10: 3؛ زك 7: 3-7).

*     عندما كان الخراب سيحيق بكل جنس أستير.. لم تفسد ثورة الطاغية إلا بالصوم والصلاة إلى الله، وهكذا حولت هلاك شعبها إلى حفظهم في سلام (أس 16:4)[9].

القديس أثناسيوس الرسولي

*     في جوعه (المسيح) اقترب إليه (إبليس)؛ ليعلّمك ما هي عظمة الصوم، وكيف أنه أقوى درع ضدّ الشيطان. لهذا يلزم بعد الجرن (جرن المعموديّة) أن يصعدوا لا إلى حياة الترف والشرب والمائدة الممتلئة، بل إلى الصوم. لقد صام لا عن احتياج وإنما لتعليمنا… فإنه بدون ضبط البطن طُرد آدم من الفردوس، وحدث الطوفان في أيام نوح وحلّت الرعود بسدوم. فمع ارتكابهم الزنا جاء التحذير يخصّ ضبط البطن. هذا ما عناه حزقيال بقوله: هذا كان إثم سدوم الكبرياء والشبع من الخبز ووفرة الترف (حز 16: 49). هكذا تعمق اليهود أيضًا في الشرّ العظيم بانسحابهم إلى المعصية خلال شربهم وترفهم (إش 5: 11ـ12) [10].

القديس يوحنا الذهبي الفم

*     أفضل عون لكم لكي تهرب منكم الشيّاطين هو النسك والصوم واحتمال الضيق. فإن كانت الشيّاطين تدخل أجساد البشر من أجل شركة الملذّات، فواضح إنّها تهرب باحتمال الألم [11].

الإكليمنضيّات

3. صلاته 5-11

يقدم لنا نحميا نموذجًا رائعًا لحياة الصلاة:

أ. يعلن المفهوم الحقيقي للصلاة في ظروف قاسية: يفتتح صلاته بالاعتراف بخطايا الشعب كله، حاسبًا نفسه عضوًا في الشعب، مشتركًا معهم في خطاياهم. يذّكر الله بوعوده الإلهية، ويختتمها بطلبة شخصية أن يعطيه الرب نعمة في عيني الملك، لا لأجل نفع خاص به، وإنما لمجد الله وبنيان الشعب. صلاة نَحَميا صلاة ليتورجيّة، تفَّوه بها باسم الجماعة، وكتبها فعبّر فيها عن حياة اليهود الدينية، وعن إيمان الشعب بالله الذي يستجيب لأبنائه، حتّى في طَلَبٍ صغير، كنجاح نَحَميا عند الملك أرتحشستا [12].

ب. مع صلواته لمدة طويلة من أجل الضيقة التي حلت بشعب الله، يمارس ما ندعوها بالصلاة السهمية، حيث يرفع قلبه لله وهو في حضرة الملك قبل أن يطلب من الملك شيئًا.

*   الصلاة هي استنجادنا بالمضخة في منع السفينة من الغرق، تستخدم كل الأصوات والأيدي. فالآن نستخدم أصواتنا عندما نقول اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا، ونعمل بأيدينا عندما نصنع هذا: “أن تكسر للجائع خبزك، وأن تدخل المساكين التائهين إلى بيتك” (إش 58: 7). اصنع إحسانًا في قلب الفقير فيشفع فيك أمام الرب (راجع سي 29: 12) [13].

القديس أغسطينوس

*  أقوى من العاصفة. لقد اخترقت الغيوم، وطارت في الهواء (سيراخ 35: 17)، فتَحت السماوات وقربت من عرش العظمة بواسطة جبرائيل الذي يقدِّم الصلاة أمام الله. كنتيجة لذلك لفظت الأعماق النبي، وأوصل الحوت يونان بأمان على البر [14].

*  عندما صلَّى دانيال أيضًا سدَّت صلاته أفواه الأسود (دا 6)، لقد انسدَّت الأفواه المفترسة أمام لحم وعظام إنسانٍ. لقد بسطت الأسود مخالبها، وتلقفت دانيال حتى لا يسقط على الأرض، احتضنته بين ذراعيها، وقبَّلت قدميه. وعندما وقف دانيال في الجب لكي يصلِّي رفع يديه إلى السماء وعلى مثال دانيال تبعته الأسود وقلَّدته.

ذاك الذي تقبَّل صلاته. نزل وسدَّ أفواه الأسود. وذلك لأن دانيال قال لداريوس: “إلهي أرسل ملاكه، وسدَّ أفواه الأسود، فلم تضرُّني” (دا 6: 22).

وبالرغم من أن الجب كان مغطَّى ومختومًا إلاَّ أن النور أشرق داخله، وسُرَّت الأسود عندما رأت النور الذي ظهر لأجل دانيال. وعندما غلب النوم دانيال وأراد أن ينعس ركعت الأسود حتى يمكنه أن ينام فوقها وليس على الأرض. لقد كان الجب أكثر استنارة من عُليَّة ذات نوافذ كثيرة. وفي الجب قدَّم صلوات كثيرة أكثر من عليَّته، حيث كان يصلِّي فقط ثلاث مرَّات في اليوم (دا 6: 10)، وعندما انتصر وفرح دانيال. وأُلقي الذين اتَّهموه في الجب بدلًا منه، فانفتحت أفواه الأسود والتهمتهم وسحقت عظامهم [15].

القدِّيس أفراهاط

أ. حافظ العهد والمملوء حنوًا ورحمة

وَقُلْتُ: أَيُّهَا الرَّبُّ إِلَهُ السَّمَاءِ الإِلَهُ الْعَظِيمُ الْمَخُوفُ،

الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالرَّحْمَةَ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَأيَاهُ [5]

إذ وجد نحميا في الصلاة ملجأ له وطريقًا للتغلب على المستحيلات، كيف اقترب إلى الله في صلواته؟

لقد التقى مع الله خلال ثلاثة أمور:

  1. عرف شخصية الله أنه الرب إله السماء الذي يحرك كل شيء، والمهتم بكل الخليقة السماوية والأرضية، فهو الله القدير. كثيرًا ما اُستخدم تعبير “إله السماء” في الفترة ما بعد السبي. فإن كان اليهود قد فقدوا أورشليم مدينة اللهوهيكل سليمان الذين كانوا يحسبونه أقدس موضع في العالم، لذا صاروا يدعون الله إله السماء التي لا يقترب إليها عدو، ولا يحطم أحد أسوارها أو يسبي سكانها.

إنه الإله العظيم المخوف. وكما يقول موسى النبي: “لا ترهب وجوههم، لأن الرب إلهك في وسط إله عظيم ومخوف” (تث 7: 21).

  1. إله العهد، الذي أعطى لموسى شريعة، وأعلن مواعيده لشعبه. الأمين في حبه وفي عهوده ووعوده الإلهية. “فاعلم أن الرب إلهك هو الله الإله الأمين الحافظ العهد والإحسان للذين يحبونه ويحفظون وصاياه إلى ألف جيلٍ” (تث 7: 9). تعبير “أمين هو الله” محبوب جدًا لدى اليهود القدامى، يفهمونه بأن الله أمين في حفظ وعده لهم كشعبٍ خاص به، لهم الوعود الإلهية الفائقة. ويرون في إخلاص بعض المؤمنين وأمانتهم توضيحًا لإخلاص الله وأمانته
  2. المملوء حنوًا ورحمة (عب 4: 16)، يرحم مُحبّيه والعاملين بوصاياه. هو فوق الإنسان، لكنّه قريب منه، يستمع إليه كما يستمع الصديق إلى صديقه.

بتحليل صلاة نحميا يظهر الآتي:

أ. صلاته تكشف عن علاقة شخصية فعّالة بين نحميا والله إلهه. فالصلاة ليست كلامًا في الهواء، بل حديثًا صادقًا مع الله.

ب. نحميا مثل عزرا يتكلم على لسان الشعب كله، فنسب ما يحل بهم يحل به شخصيًا. يعترف عن خطاياه وخطايا الشعب، أو الأمة كلها [6-7].

ج. يتذكر تحذيرات الله ويتمسك بالوعود الإلهية [8-9].

د. يلجأ إلى العهد مع الله وعمله الخلاصي مع شعبه [10].

هـ. يقدم طلبة خاصة لنوال قوة ونجاحًا في الخطوات التالية [11].

أما ثمرة الصلاة المتواضعة فهي أن الله يحرك الأحداث فيما هو لصالح نحميا وشعبه، ويهبه قوة للعمل.

*     كون الله أمينًا يعنى أنه يمكننا أن نثق في إعلانه عن ذاته. كلمته تعلن عنه أنه الله الأمين [16].

القديس إكليمنضس السكندري

ب. اعتراف

لِتَكُنْ أُذْنُكَ مُصْغِيَةً وَعَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ،

لِتَسْمَعَ صَلاَةَ عَبْدِكَ،

الَّذِي يُصَلِّي إِلَيْكَ الآنَ نَهَارًا وَلَيْلًا،

لأَجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدِكَ،

وَيَعْتَرِفُ بِخَطَأيَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخْطَأْنَا بِهَا إِلَيْكَ.

فَإِنِّي أَنَا وَبَيْتُ أَبِي قَدْ أَخْطَأْنَا. [6]

لم يستبعد نحميا نفسه ولا أعضاء أسرته من الاعتراف بخطاياهم. يحسب نحميا خطايا الشعب خطاياه [6-7] ، وحاجتها للعون الإلهي حاجته هو [11].

“الَّذِي يُصَلِّي إِلَيْكَ الآنَ نَهَارًا وَلَيْلًا”: تكمُن الخطية في نِسيان الله، ويرتبط الرجاء بتذكّر رحمة الله ومواعيده.

شعورنا بمهابة الله ومخافته يدفعنا نحو الاعتراف بخطايانا. عندما رأى إشعياء مجد الرب في الهيكل، وامتلأ البيت دخانًا، يقول: “فقلت ويل لي إني هلكت، لأني إنسان نجس الشفتين، وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عيني قد رأتا الملك رب الجنود” (إش 6: 5).

وعندما أدرك سمعان بطرس سلطان الرب يسوع على البحر والسمك، “خّر عند ركبتي يسوع، قائلًا: اخرج من سفينتي يا رب لأني رجل خاطئ” (لو 5: 8).

* لنتوسل إلى مخلص نفوسنا لكي ما يحطم رباطاتنا، وينزع عنا سجننا القاسي هذا، ويهبنا التحرر من ثقل تلك القيود الحديدية، ويجعل أرواحنا خفيفة أكثر من أي جناح. إذ نتوسل إليه علينا أن نساهم من جانبنا بغيرةٍ متقدةٍ ساميةٍ لها اعتبارها، فإننا بهذا يمكننا في وقتٍ قصيرٍ أن نتحرر من الشرور التي تضغط علينا، وندرك حالنا الذي كنا عليه سابقًا، ونتمسك بالحرية التي صارت لنا، والتي ننالها كهبة من الله بنعمة ربنا يسوع المسيح ومحبته للبشر، الذي له المجد والسلطان إلى الأبد. آمين [17].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لَقَدْ أَفْسَدْنَا أَمَامَكَ،

وَلَمْ نَحْفَظِ الْوَصَأيَا وَالْفَرَائِضَ وَالأَحْكَأمَ،

الَّتِي أَمَرْتَ بِهَا مُوسَى عَبْدَكَ. [7]

اعتراف نحميا بخطاياه وخطايا شعبه. فيطلب من الله أن يسمع وينظر، ويعطي توبة وتطهيرًا.

نحتاج إلى الاعتراف بخطايانا، فنمجد الله غافر الخطايا.

*     اعترف يا إنسان بخطاياك لتنال المغفرة، “اظهر آثامك فتتبرر” (إش 43: 26 LXX).

لماذا تخجلون من الاعتراف بها وأنتم قد وُلدتم فيها؟ (مز 51: 7). من ينكر ذنبه ولا يعترف به ففي الحقيقة ينكر مولده…

ليعترف الخاطي وغير المقدَّس، ولا يرتفع البار ولا يتشامخ، لئلاَّ يفقد مكافأة برِّه بالكبرياء (أي 10: 15) [18].

القديس أمبروسيوس

ج. تمسك بالوعود

اذْكُرِ الْكَلاَمَ الَّذِي أَمَرْتَ بِهِ مُوسَى عَبْدَكَ قَائِلًا:

إِنْ خُنْتُمْ فَإِنِّي أُفَرِّقُكُمْ فِي الشُّعُوبِ [8]

كلمة “اذكر” هي مفتاح السفر، تكررت كثيرًا (4: 14؛ 19:5؛ 14:6؛ 14:13، 22، 29، 31). بعد الغزو البابلي تفّرق اليهود وتشتتوا في أماكن كثيرة، يرى البعض أنه في بداية العهد الجديد، كان عدد اليهود المتفرقين في أنحاء العالم ومجتمعاتهم في الشرق أكثر من الذين كانوا في أرض الموعد (يو 35:7؛ أع 9:2 -11؛ يع 1:1؛ 1 بط 1:1).

وَإِنْ رَجَعْتُمْ إِلَيَّ وَحَفِظْتُمْ وَصَأيَأيَ وَعَمِلْتُمُوهَا،

إِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّونَ مِنْكُمْ فِي أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ،

فَمِنْ هُنَاكَ أَجْمَعُهُمْ وَآتِي بِهِمْ

إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي اخْتَرْتُ لإِسْكَانِ اسْمِي فِيهِ. [9]

“أجمعهم وآتي بهم إلى المكان الذي اخترت لإسكان اسمي فيه”. هذا وعد إلهي تكرر في مواضع كثيرة (تث 1:30-5؛ إش 12:11؛ إش 3:23 إلخ.).

كانت وصية الله لشعبه ألا يعبدوا الأصنام ولا يشتركوا في هياكل الوثن. “لا تفعلوا هكذا للرب إلهكم، بل المكان الذي يختاره الرب إلهكم من جميع أسباطكم ليصنع اسمه فيه سكناه تطلبون، وإلى هناك تأتون” (تث 4:12-5).

د. صرخة من القلب

فَهُمْ عَبِيدُكَ وَشَعْبُكَ،

الَّذِي افْتَدَيْتَ بِقُوَّتِكَ الْعَظِيمَةِ وَيَدِكَ الشَّدِيدَةِ. [10]

مع اعتراف بخطأ كل الشعب بما فيهم نحميا نفسه وبيت آبائه، يتمسك بأنهم عبيد الرب وشعبه، لا عن استحقاقاتهم، وإنما من أجل الخلاص الذي قدمه لهم بقوته الإلهية العظيمة ويده الشديدة.

ينطلق نَحَميا من الحاضر، فيعود إلى الماضي، ويتطلعّ إلى المُستقبل، حيث يتحقّق وَعْدُ الله، حين يَرُدّ شعبه من كلّ أقطار الأرض إلى أورشليم. هذا ما قاله الأنبياء الذين رأوا بداية المُلك المسيحانيّ، في إعادة تنظيم الشعب في المدينة المُقدّسة. قال إرميا: “أجمع بقيّة غنَمي… أقيم عليها رُعاة… أقيم لشعبي مَلِكًا حكيمًا يُجري الحُكْمَ والعَدْلَ” (إر 23: 3-8؛ راجع حز 37: 21-28) [19].

يَا سَيِّدُ لِتَكُنْ أُذْنُكَ مُصْغِيَةً إِلَى صَلاَةِ عَبْدِكَ،

وَصَلاَةِ عَبِيدِكَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ مَخَافَةَ اسْمِكَ.

وَأَعْطِ النَّجَاحَ الْيَوْمَ لِعَبْدِكَ،

وَأمْنَحْهُ رَحْمَةً أَمَامَ هَذَا الرَّجُلِ.

لأَنِّي كُنْتُ سَاقِيًا لِلْمَلِكِ. [11]

طلب التدخل الإلهي، فبدون بركته ونعمته لن يتحقق الخلاص.

“ساقيًا للملك”، الترجمة الحرفية: “من يقدم شيئًا (لشخص ما) ليشربه”. التعبير هنا يعني أنه أحد سقاة الملك، وليس الساقي الوحيد له.

ساقي الملك؛ وظيفة ترجع إلى العصور القديمة، كان لها تقديرها الخاص وكرامتها في البلاط الفارسي. إذ كان ساقي الملك في نوبته يقف يوميًا في حضرة الملك، يراه في فترات راحته ليقوم بخدمته الشخصية، لذا يجد فرصًا كثيرة لملاطفة الملك لا يجدها غيره. كان سقاة الملك عادة خصيان، ووجدت نقوش كثيرة لهم في الأثريات الأشورية. في هذه النقوش نجد ساقي الملك ممسكًا بكأس الخمر بيده اليسرى ومروحة من سعف النخل لطرد الحشرات في يده اليمنى . يضع على كتفه منديلًا طويلًا مطرزًا به هدب، يستخدمه الملك لمسح فمه بعد شرب الخمر. كان ساقي الملك عند مادي وفارس يسكب القليل من الخمر في الكأس على راحة يده اليسرى ويشربه، حتى يطمئن الملك أن الخمر ليس به سم.

كان الفراعنة أيضًا لديهم سقاه، وكذلك سليمان الملك (تك 40: 2؛ 1 مل 10: 5؛ 2 أي 9: 4) [20].

من وحي نح1

ليرتفع قلبي إليك، وليتسع لمحبة البشر!

 

*     طأطأت أيها الحب الحقيقي السماوات ونزلت إلينا.

اشتقت أن تحمل كل البشر في أحضانك.

وترفع الكل إلى أمجادك الفائقة.

هب لي أن أسلك بروحك.

فترتفع نفسي إليك، كما نزلت أنت إليها.

ويتسع قلبي لمحبة كل البشر،

فأشتهي أن ينعم الكل بأمجادك.

*     كل أمجاد العالم لا موضع لها فيّ.

مجدك سباني تمامًا.

تصرخ أعماقي إليك:

متى أرى كل إخوتي في البشرية في أحضانك؟

متى تحوط بكل البشر كسور نارٍ إلهي.

فلا يقدر عدو الخير بكل سهامه النارية أن يقترب إليهم.

حتى تقيم في وسطنا، فيُعلن مجدك فينا.

هذا العمل أعظم من أن يقوم به بشر ما.

ولا حتى القوات السمائية مع كل قدرتها الفائقة.

إنه عملك الإلهي يا مخلص العالم!

أنت هو إله المستحيلات.

*     لأنسحب من العالم إلى حين.

وأجلس في حضرتك الإلهية.

أعترف لك أننا أفسدنا أورشليمنا الداخلية بخطايانا.

من يهبنا التوبة إلا روحك القدوس؟

بنعمتك ونقوم ونبني أسوارها ونقيم أبوابها.

وعودك صادقة وأمينة إلى الأبد.

*     في وسط قصر الملك الوثني أعددت نحميا القائد الفريد.

طلب منك أن تهبه نعمة لكي يسمح له الملك في العمل.

أعطيته نعمة لكي يقدم له إمكانيات لمساندته في العمل.

من عندك تحقق نجاحه.

انطلق للعمل لا بسماح الملك، بل بالحري بمرافقتك له.

لترافقنا، فنلتصق بك.

لتعلن ذاتك فينا، وتقيم أورشليمك في أعماقنا.

أنت سورنا وحصننا الحصين!

فاصل

فاصل

مقدمة تفسير سفر نحميا 
القمص تادرس يعقوب ملطي
تفسير سفر نحميا 2
تفسير العهد القديم

 

 

 

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى