تفسير سفر العدد ١٩ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح التاسع عشر
فريضة البقرة الحمراء
كانت شكوى الشعب: “من اقترب إلى مسكن الرب يموت” (17: 13)، وجاءت الإجابة في الأصحاح السابق والأصحاح الذي بيدينا. ففي السابق يعلن الرب أنه يمكن الاقتراب لله خلال الترتيب الكهنوتي واللاوي، أما هنا فيكشف عن الحاجة للتقديس الذي بدونه لا يقدر أحد أن يعاين الله.
- رماد البقرة وماء التطهير 1-10.
- الحاجة للتطهير لمن مسَّ ميتًا 11-13.
- طقس التطهير 14-22.
- رماد البقرة وماء التطهير:
لا أريد الدخول في تفاصيل الذبائح والمحرقات في الطقس الموسوي كرمز لجوانب ذبيحة الصليب، فإني أترك هذا الموضوع لتفسيرنا سفر اللاويّين إن سمح الرب وعشنا، لكنني هنا أود أن أوضح أن الاقتراب لمسكن الرب أو التمتع بالشركة معه والثبوت فيه لن يتم إلاَّ خلال ذبيحة الصليب والدخول في مياه التقديس. ففي الطقس الذي بين أيدينا يعلن الله لموسى وهرون “فريضة التقديس” بإعداد الرماد الذي يستخدم في مياه التقديس أو كما يسميها “ماء النجاسة” [9]، أي الماء الذي يطهر من النجاسة، وينقل الإنسان من حالة الدنس إلى حالة القداسة.
يتلخص هذا الطقس في الآتي:
أولاً: البقرة المقدمة كذبيحة خطيّة (ع 9) حمراء، إشارة إلى السيد المسيح الذي قدم دمه كفارة عن خطايانا، هذا الذي يتحدَّث عنه إشعياء النبي قائلاً: “من ذا الآتي من أدوم بثيابٍ حُمر من بُصرة هذا البهي بملابسه المتعظم بكثرة قوته؟ أنا المتكلم بالبرّ العظيم للخلاص. ما بالك لباسك مُحمَرّ وثيابك كدائس المعصرة؟ قد دست المعصرة وحدي ومن الشعوب لم يكن معي أحد” (إش 63: 1-3). هذا هو السيد المسيح الذي دخل الآلام بإرادته، واجتاز معصرة الغضب الإلهي عنا فحمل في جسده أجرة خطايانا، مقدمًا لنا خلاصًا هذا مقداره!
ثانيًا: “صحيحة لا عيب فيها ولم يعلُ عليها نير” [2]، فإن ربنا يسوع المسيح هو وحده بلا خطيّة، ليس فيه عيب ولم يسقط تحت نير خطيّة ما. لقد وبخ اليهود قائلاً “من منكم يبكتني على خطيّة؟” (يو 8: 46)، ويقول الرسول بولس “لأنه جعل الذي لم يعرف خطيّة خطيّة لأجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه” (2 كو 5: 21). يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [نعم، المسيح نفسه يقول: “من أجلكم أقدس أنا ذاتي” (يو 17: 19)، ويقول أيضًا “رئيس هذا العالم قد دين” (يو 16: 11)، مظهرًا أن الذي ذُبح هو بلا خطيّة[141]].
ثالثًا: تقدم ألِعازار الكاهن ليخرج بها خارج المَحَلَّة وتذبح قدامه (ع 3)، لم يكن ممكنًا أن تقدم لهرون لأنه كرئيس كهنة لا يخرج خارج المَحَلَّة لذلك تقدم لابنه ألِعازار. وكأن السيد المسيح وقد ذُبح خارج أورشليم على جبل الجلجثة، كأن في نفس اللحظة داخل قدس الأقداس كرئيس كهنة لا ينفصل عن أبيه، ولا يترك بلاهوته سمواته! إنه على الصليب خارج المَحَلَّة لأجلنا يكفر عن خطايانا، وهو في حضن أبيه ليضمنا إلى برّه.
يقول الرسول بولس: “لذلك يسوع أيضًا لكي يقدس الشعب بدم نفسه تألم خارج الباب. فلنخرج إذًا إليه خارج المَحَلَّة حاملين عاره، لأن ليس لنا هنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة” (عب 13: 12-14). وكأن الخروج خارج المَحَلَّة إشارة إلى الخروج من المدينة الزمنيّة واشتهاء الانطلاق إلى المدينة المستقبلة، أورشليم العليا أمنا.
رابعًا: “يأخذ ألِعازار الكاهن دمها بإصبعه وينضح من دمها إلى جهة وجه خيمة الاجتماع سبع مرات“: ما يفعله ألِعازار يشير إلى عمل السيد المسيح الكهنوتي الذي يقدسنا بدمه، ناضحًا الدم على وجه الكنيسة، خيمة الاجتماع الحقيقيّة فتتقدس وتصير لها الدالة أن ترفع وجهها أمام الآب. أما نضح الدم سبع مرات مع أن الذبح تم مرة واحدة فيشير إلى فاعليّة الدم والذبيحة، لقد تمت مرة لكنها ذبيحة حيّة وفعالة تعمل عبر الأجيال لتدخل بنا إلى الكمال. لأن رقم 7 يشير إلى كل أيام الأسبوع كما يشير إلى الكمال، كأن الذبيحة مستمرة عبر أسبوع هذا العالم كله، وفعَّالة بكل طاقاتها لتكميلنا. لهذا رأى القدِّيس يوحنا الحبيب السيد المسيح حملاً كأنه مذبوح (رؤ 5: 6)، فهو حي لا يموت، لكن الدم لا ينقطع فاعليته. وفي سرّ الإفخارستيا نحن لا نكرر ذبيحة الصليب مرات ومرات إنما ندخل بالروح القدس إلى الذبيحة الفعَّالة القائمة بغير انقطاع[142].
خامسًا: “تحرق البقرة أمام عينيه، يحرق جلدها ولحمها ودمها مع فرثها” [5]. إذ تحرق الذبيحة لا نرى سوى الرماد الذي يستخدم لتطهير الشعب من الخطيّة، وهكذا إذ حمل السيد المسيح خطايانا مات عنا محولاً خطايانا إلى رماد. أما حرق الجلد واللحم والدم… الخ فيشير إلى تأكيد موت المسيح حسب الجسد، فلا يقل أحد مثل ماني أنه يحمل جسدًا خياليًا ودخل في الآلام بهذا الجسد الخيالي.
أما إلقاء خشب الأرز والزوفا والقرمز في نارها بواسطة الكاهن (ع 6)، وهي الأشياء التي كانت تستخدم في طقس تطهير البرص (لا 4: 6-7) فإشارة إلى اختلاط رماد الذبيحة بما رسم للتطهير. الخشب يشير إلى الصليب، والزوفا تشير إلى الغسل، والقرمز يشير إلى الدم.
سادسًا: يربط الطقس بين رماد البقرة المذبوحة التي دخلت إلى آلام النار حتى النهاية والماء الذي يقدم لتطهير الجماعة من النجاسة (ع 9)، وكأنه ارتباط بين ذبيحة الصليب ومياه المعموديّة. يقول الرسول: “مدفونين معه في المعموديّة التي فيها أقمتم أيضًا معه” (كو 2: 12).
سابعًا: “الذي أحرقها بغسل ثيابه بماء ويرحض جسده بماء ويكون نجسًا إلى المساء” [8]، “والذي جمع رماد البقرة يغسل ثيابه ويكون نجسًا إلى المساء” [10]. لقد أراد الطقس أن يؤكد أن خطايانا قد حملها السيد المسيح، فإن كانت ذبيحة الصليب هي سرّ تطهيرنا لكنها حملت خطايا العالم كله!
- الحاجة للتطهير لمن مسَّ ميتًا:
“من مسّ ميتًا ميتة إنسان ما يكون نجسًا سبعة أيام، يتطهر به في اليوم الثالث، وفي اليوم السابع يكون طاهرًا. وإن لم يتطهر في اليوم الثالث ففي اليوم السابع لا يكون طاهرًا“.
يقول القدِّيس أغسطينوس: [الجسد الميت فاقد الحياة ليس خطيّة إنما يعني خطيّة النفس فاقدة البرّ[143]]. فموت الجسد كان في القديم رمزًا للخطيّة القاتلة للنفس، لهذا إن لمس أحد ميتًا، ولو كان الميت قديسًا أو كاهنًا يصير نجسًا.
أما كونه نجسًا سبعة أيام، أي يصير نجسًا كل أيام الأسبوع، رمزًا إلى عدم التطهر من الخطيّة كل أيام غربتنا مالم يتدخل هذا الرماد والماء! إذ لا خلاص للإنسان من دنس الخطيئة بدون ذبيحة الصليب والتجديد في مياه المعموديّة.
يتم التطهير في اليوم الثالث بواسطة هذه المياه المرتبطة برماد البقرة الحمراء المذبوحة إشارة إلى التطهير بمياه المعموديّة خلال القيامة مع السيد المسيح (اليوم الثالث) بفاعليّة الصليب. إنه يؤكد أن من لا يتطهر في اليوم الثالث لن يتطهر في اليوم السابع، وكأنه لا تبرير لنا إن لم نتحد مع السيد المسيح المقام من الأموات. أما تطهيرنا في اليوم السابع فيشير إلى استمرار عمل قيام المسيح في حياتنا الزمنيّة، وفاعليتها كل أيام غربتنا حتى نعبر إلى قيامتنا الأخيرة.
من لا يقبل قيامة المسيح لا يتطهر فيحسب قد نجس مسكن الرب وتقطع هذه النفس من الشعب المقدس (ع 13). كأن من لا يحمل قوة قيامة السيد كسرّ تبرير له يفسد جسده مسكن الرب، وتموت نفسه ولا يحسب من عداد أولاد الله.
- طقس التطهير:
يتلخص طقس التطهير بهذه المياه في الآتي:
أولاً: “إذا مات إنسان في خيمة فكل من دخل الخيمة وكل من كان في الخيمة يكون نجسًا سبعة أيام” [14]. قبل أن يتحدث عن طريقة التطهير أراد أولاً أن يبرز خطورة الموقف، ذلك كالجراح الذي قبل أن يمد يده بالمشرط في جسم المريض يكشف له أولاً الفساد الذي دبّ في جسده حتى يتقبل برضا يدّ الطبيب تمتد لتجرحه وتقتطع من جسده شيئًا. إن وجود ميت في خيمة يجعل من دخل الخيمة بإرادته أو بغير إرادته، عن معرفة بوجود ميت أو عدم معرفة، وأيضًا من كان داخل الخيمة يحسب هؤلاء نجسين أسبوعًا كاملاً، حتى إن تمت الوفاة فجأة، ولم يكن لهؤلاء ذنب! الخطيئة بشعة، خاطئة جدًا لا يطيقها الله القدوس لأنها تخالف طبيعته، مهما قدمنا من أعذار! بشاعتها أيضًا تظهر في بقاء هؤلاء نجسين سبعة أيام أي كل أيام غربتهم، علامة العجز عن التطهير فيها بذواتهم.
ثانيًا: “وكل إناء مفتوح ليس عليه سداد بعصابة فإنه نجس” [15]. لا تقف النجاسة عند الناس لكنها تمتد إلى الخليقة الجامدة، فالإناء المفتوح يُحسب نجسًا. لعله أراد أن يضع تحفظًا صحيحًا، لئلا يكون الميت قد أصيب بمرض معدي فتنتقل العدوى إلى الذين حوله خلال الآنية التي استعملها قبيل موته. أما من الناحية الروحيّة فإن هذه الأواني تمثل الحواس مثل العينين والفم… الخ، إن كانت الحواس مفتوحة ليس عليها سدادة الروح القدس الذي يضبطها تكون نجسة، تفسد حياة الإنسان.
يليق بالمؤمن أن يجاهد في حفظ حواسه محفوظة بالروح القدس حتى لا تتسرب النجاسة من الأموات بالخطايا إلى نفسه أو فكره أو جسده. ما أحوجنا إلى سدادة الروح القدس التي تحفظ أعماقنا بعيدة عن ميكروبات الخطيئة. لهذا يصرخ النبي قائلاً: “ضع يا رب حافظًا لفمي وبابًا حصينًا لشفتيّ، لا تمل قلبي إلى الشر”. يقول القدِّيس يوحنا سابا: [رتب حواسك أيها الأخ، واحذر لها، إذ منها يدخل موت الإنسان الداخلي. احذر بهذه الحراسة، وانظر إلى ما قاله القدِّيس أنطونيوس: إن كثيرين عملوا أعمالاً عظيمة، لكن لأنهم لم يعملوا هذه الأعمال بإفراز لم يدركوا طريق الله، وذلك الإيمان الطاهر لم يصلوا[144]].
ثالثًا: بعد أن أظهر بشاعة الخطيئة لمن يدخل الخيمة وبها ميت ومن بداخلها، وللأواني المفتوحة فيها، بدأ يوضح أنها تتسرب إلينا ليس فقط خلال الذين يموتون داخل الخيمة، لكنها تنتقل خلال الإنسان الذي يقتل بالسيف في الصحراء، أو خلال الميت في العراء، أو العظام أو حتى مجرد لمس القبر (ع 16).
الذي يموت داخل الخيمة غالبًا ما يكون ذلك بسبب تسلل مرض إلى جسده أو بسبب الشيخوخة، إنها حالة من تتسلل إليه الخطيئة وتهاجمه سريًا في قلبه حتى تقتله، أو حالة الضعف البشري والشيخوخة الروحيّة ثمرة الإهمال والفتور الروحي. أما الذي يقتل بالسيف في الصحراء، فهو من تهاجمه الخطيّة بكل عنفها في لحظات فتسقطه قتيلاً وهو في حيويته ونشاطه! أما العظام فتشير إلى حالة النفس التي عاشت زمانًا طويلاً في موت الخطيئة فصارت عظامًا يابسة مبعثرة في العراء أو مدفونة في قبر، ليس من يهتم بها بل يريد الناس الخلاص منها. هكذا يصوِّر لنا هذا الأصحاح المرض الروحي المزمن والقاتل للنفس، مقدمًا له العلاج.
رابعًا: أما العلاج فهو: “يأخذون للنجس من غبار حريق ذبيحة الخطيّة ويجعل عليه ماءً حيًا في إناء” [16]. هذا هو عمل الكنيسة إنها تأخذ ذبيحة الصليب لتقدمها تطهيرًا للنجسين خلال المياه الحيّة في إناء (جرن المعموديّة). يقول القدِّيس يوستين: [يجب أن نسرع في معرفة أي طريق هو لمغفرة الخطايا ورجاء ميراث الخيرات الموعود بها، فإنه لا يوجد سوى هذا الطريق: أن تتعرف على هذا المسيح، وتغتسل في الينبوع (المعموديّة) الذي تحدث عنه إشعياء لغفران الخطايا، وهكذا تبتديء أن تعيش بالقداسة[145]].
“ويأخذ رجل طاهر زوفا ويغمسها في الماء وينضحه على الخيمة وعلى جميع الأمتعة وعلى الأنفس الذين كانوا هناك وعلى الذي مسّ العظم أو القتيل أو الميت أو القبر، ينضح الطاهر على النجس في اليوم الثالث واليوم السابع” [19]. من هو هذا الطاهر إلاَّ السيد المسيح نفسه الذي يعمل بطريقة غير منظورة في المعموديّة، هو الذي يعمد بيد الكاهن. في هذا يقول القدِّيس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يعمد هو ابن الله الوحيد الجنس وليس إنسان (كاهن)]، [إذا ما رأيت جرن المعموديّة ويدّ الكاهن تلمس رأسك لا تفكر في الماء مجردًا ولا أن يدّ الأسقف فوق رأسك، فإنه ليس إنسان هو الذي يفعل ذلك بل نعمة الروح التي تقدس طبيعة المياه وتلمس رأسك مع يد الكاهن[146]…].
أما نضح الماء فإشارة إلى المعموديّة التي تتمتع بها الأمم، كما جاء في إشعياء النبي: “هكذا ينضح أممًا كثيرين، من أجله يسد ملوك أفواههم لأنهم قد أبصروا مالم يُخبروا به ومالم يسمعوه فهموه” (إش 52: 15)، إذ تمتعوا بسرّ الميلاد الجديد. ويقول الرسول بولس: “لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من خمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي” (عب 10: 22). وكأن المعموديّة تدخل إلى الأعماق الداخليّة لتغسل الضمير الشرير كما تقدس الجسد أيضًا. هذا ما أكدته الشريعة التي بين أيدينا فإن الرجل الطاهر الذي يسميه الرسول: “كاهن عظيم على بيت الله” (عب 10: 21)، ينضح المياه المطهرة على الخيمة أي على الجسد، وعلى جميع الأمتعة (ع 18)، أي بجميع طاقاته وغرائزه وعواطفه وعلى الأنفس الذين كانوا هناك، فيمتد أثرها إلى النفوس الخفيّة في الأجساد. وكما يقول العلامة ترتليان: [حقًا الجسد يغتسل لكي تتطهر النفس. الجسد يُدهن لكي تتقدس النفس. الجسد يُرشم بعلامة (الصليب) لكي تتقوى النفس. الجسد يُظلل بوضع الأيدي لكي تستنير النفس بالروح (القدس[147])!]. ويتحدَّث القدِّيس كبريانوس معلقًا على هذه الشريعة موضحًا أن نضح المياه المقدسة إنما يعني الخلاص، أي يدخل الإنسان كأن الله في طريق الخلاص، قائلاً: [من هنا يظهر أن نضح المياه يقف على قدم المساواة مع غسل الخلاص، الأمر الذي يتم في الكنيسة حيث الإيمان الذي يتمتع الإنسان به والذي يخدمه بطريقة سليمة ويتكمل بعظمة الرب والحق[148]].
أخيرًا، يؤكد أنه لا تمتع بالتطهير في اليوم السابع مالم يتطهر الإنسان في اليوم الثالث أي يتحد مع السيد المسيح القائم من الأموات.