تفسير سفر العدد ٦ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح السادس

نذير الرب

بعد أن أعلن الالتزام بالتطهير على المستوى العام والشخصي والعائلي قدَّم شريعة خاصة بالذين يقدمون حياتهم مكرَّسة للرب أي للإنسان النذير.

  1. نذير الرب                                     1-2.
  2. صفاته والتزاماته                              3-8.
  3. تطهيره إذا لمس ميتًا                           9-12.
  4. شريعة إكمال أيام نذره                         13-21.
  5. مباركة الكهنة الشعب                           22-26.
  6. نذير الرب:

وكلَّم الرب موسى قائلاً: كلِّم بني إسرائيل وقل لهم إذا انفرز رجل أو امرأة لينذر نذر النذير لينتذر للرب” [1-2]. ولكي نفهم شريعة النذير الواردة هنا نقدم فكرة مبسطة عن نذير الرب عند اليهود قديمًا.

كلمة “نذير” مأخوذة عن الفعل العبري “نذر” أي “تكرَّس” أو “تخصَّص”. ففي سفر التكوين إذ بارك يعقوب أولاده طلب لابنه يوسف أن تحلّ عليه بركات السماء من فوق وبركات الغمر الرابض تحت… فدعاه “نذير إخوته” (تك 49: 26)، كأن قلبه قد تخصَّص للرب. وفي مراثي إرميا دعى أشراف أورشليم بهذا اللقب لتوبيخهم، إذ قيل “كان نذرها أنقى من الثلج وأكثر بياضًا من اللبن… صارت صورهم أشد ظلامًا من السواد” (4: 7-8). كأن النذير يجب أن يكون نقيًا وطاهرًا لكن للأسف وُجد أشد ظلامًا من السواد، عِوَض أن يتكرَّس قلبه للنور الإلهي سلَّم قلبه لظلمة الخطيئة.

لكن هذا اللقب خصّص للذين كرَّسوا وقتهم لله بناء على تعهد يتعهد به أناس في حضرة الرب. هؤلاء منهم من نُذروا وهم في بطون أمهاتهم وبقوا هكذا كل أيام حياتهم نذيرين للرب، ومنهم من نُذروا لمدة معينة. من هؤلاء النذيرين شمشون (قض 13: 5) وصموئيل (1 ص 1: 11) ويوحنا المعمدان (لو 1: 15) ولا يزال نذر الأبناء لمدة محددة شائعًا في الشرق خاصة بين إخوتنا الكاثوليك ولعل فكرة بيوت العذارى وجماعات المتبتلين التي ظهرت في الكنيسة الأولى وتطورت حتى ظهرت الحركة الرهبانيّة بكل أشكالها جاءت عن فكرة نذر الإنسان حياته لله، مشتاقًا أن يقدِّم كل طاقاته للعبادة، متخليًا بمحض إرادته عن مباهج الحياة الزمنيّة المحلّلة وعن كل رباط دموي لكي لا ينشغل إلاَّ بالله موضوع حب.

وما ورد في هذا الأصحاح لا يخص المنذورين كل أيام حياتهم بل لفترة من الزمن.

  1. صفاته والتزاماته:

أ. لعل أهم سمة للنذير أنه “نذير الرب“، أي يقدم حياته بكل طاقاتها لخدمة الله والعبادة له. في العهد القديم غالبًا ما كان النذير يقضي وقته في دراسة الشريعة وممارسة العبادة وأعمال المحبة للآخرين. كأن أساس النذر هو انشغال الإنسان بالله ووصيته وخدمته في إخوته الأصاغر.

ب. ترك مباهج العالم، فقد حرم النذير ليس فقط من شرب الخمر والمسكر وإنما أيضًا “لا يشرب خل الخمر ولا خل المسكر ولا يشرب من نقيع العنب ولا يأكل عنبًا رطبًا ولا يابسًا. كل أيام نذره لا يأكل من كل ما يعمل من جفنة الخمر من العجم (البذار) حتى القشر” [3-4]. يرى الأب ميثوديوس أن الكرمة نوعان: مقدسة وشريرة، وكأن النذير وهو يشرب من عصير كرم الله يلتزم بالتوقف عن عصير الكرمة الشريرة، إذ يقول: [هذا يعني أن الذي يكرِّس حياته للرب ويقدمها له لا يأخذ من ثمر زرع الشر… إذ يسبب سكرًا وتشتيتًا للذهن. فإننا نعلم من الكتب المقدَّسة نوعين من الكرمة تنفصل الواحدة عن الأخرى، وهما غير متشابهتين، واحدة تنتج خلودًا وبرًا والأخرى تنتج جنونًا وعتهًا[32]].

إن كان المسكر يفسد ذهن الإنسان ويفقده اتزانه فإن النذير ليس فقط يمتنع عن المسكر والخمر بل وكل ما يمت إليه بِصِلَة، فلا يشرب حتى عصير العنب الطازج أو المجفف ولا ما يعمل من العنب أو حتى بذاره أو قشرته! إنه من أجل الرب يترك حتى ما هو محللاً بمحض إرادته، لا كشيء دنس أو نجس يهرب منه ولكن لكي يهتم بالطعام الآخر، قائلاً مع السيد المسيح “طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله” (يو 4).

اعتبر الرب من يقدم خمرًا للنذير كمن يعثره ويجربه (عا 2: 11). ولعل الله أمر بامتناعهم عن الخمر خشية أن يسكروا فينسوا الوصيّة الإلهيّة (أم 31: 5، إش 28: 7)…

لقد تطلَّع اليهود إلى السيد المسيح كنذير لكنهم فوجئوا به يبدأ خدمته بتحويل الماء خمرًا في عرس قانا الجليل، يشارك الخطاة ولائمهم فاتهموه أنه أكول وشريب خمر، أما هو فقد أراد أن يوجه أنظارهم إلى المفهوم الروحي للتكريس لا الوقوف عند الحرف القاتل والشكليات الناموسيّة.

ج. التخلي عن المجد الزمني: يقول الرسول بولس “أم ليست الطبيعة تعلمكم أن الرجل إن كان يرخي شعره فهو عيب له!” (1 كو 11: 14)، ومع هذا يطلب الله من النذير أن “لا يمر موسى على رأسه، إلى كمال الأيام التي انتذر فيها للرب يكون مقدسًا ويربي خصل شعر رأسه” [5]. ففي ترك الشعر تنازل عن كرامته الزمنيّة وعدم انشغال بالجسديات، معطيًا الفرصة لنفسه أن ينشغل بالسماويات وأمجادها. لقد حاول اليهود أن يقيموا السيد المسيح ملكًا أرضيًا فاختفى عن أعينهم!

د. عدم الانشغال بعلاقات جسديّة دمويّة. يطلب الله من النذير ألاَّ يحزن عند انتقال أقربائه حسب الجسد، إذ يقول: “لا يتنجس من أجلهم عند موتهم لأن انتذار إلهه على رأسه” [7]. إنه يريد أن يرتفع بالنذير إلى فوق العلاقات الجسديّة، فيرى في الكل إخوته وعائلته، يهتم بخلاص نفوسهم وأبديتهم. لهذا قال السيد للذي استأذنه أن يدفن أباه “دع الموتى يدفنون موتاهم وأما أنت فاذهب ونادِ بملكوت الله” (لو 9: 60). وحينما قيل له: “هوذا أمك وإخوتك واقفون خارجًا طالبين أن يكلموك” (مت 12: 47) مدَّ يده نحو تلاميذه وقال “ها أمي وإخوتي، لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات هو أخي وأختي وأمي”. إنه لم يرفض العلاقات الدمويّة لكنه رفعنا لنرى في كل المؤمنين أعضاء معنا في العائلة السماويّة، فتبتلع الشركة الروحيّة كل علاقة جسديّة وترتفع بها.

  1. تطهيره إذا لمس ميتًا:

ارتبط الموت بالخطيئة كثمرة من ثمارها، لهذا حُسب لمس الميت نجاسة حسب الشريعة اليهوديّة، حتى وإن كان الميت نبيًا أو قدِّيسًا، لهذا حذَّر على النذير من لمس الميت. فإذا حدث موت مفاجيء فتنجس رأس النذير، يبقى النذير سبعة أيام ثم يحلق رأسه يوم طهره، وفي اليوم الثامن يقدم يمامتين أو فرخي حمام إلى الكاهن إلى بيت خيمة الاجتماع، فبقدم الكاهن ذبيحة خطيئة ومحرقة ليكفر عنه، ويبدأ النذير أيام نذره من جديد وتسقط الأيام الأولى لأنه نجس انتذاره.

مع أن ما حدث تم فجأة ولا ذنب للنذير فيها لكنه هكذا أراد الله أن يوضح لنا مدى بغضه للدنس وحبه للقداسة والطهارة، فإن الدنس حتى وإن جاء فجأة بغير إرادة لكنه يرد الإنسان إلى حيث بدأ من جديد ويفقده أيام جهاده الأولى. لقد أخطأ أبونا إبراهيم بذهابه إلى مصر (تك 12) فبدأ مسيرته من جديد (تك 12: 8)، إذ ذهب إلى الموضع الذي سبق أن كانت فيه خيمته بين بيت إيل وعاي، إلى موضع المذبح الذي عمله هناك أولاً (تك 13: 3-4). لقد خسر إبراهيم هذه الفترة من حياته لأنه انحرف عن الطريق الذي رسمه له الرب، وبعد مشقة بدأ من نقطة البداءة. حقًا إن الاستسلام للضعف مرة يفقد الإنسان الكثير من البركات الإلهيّة التي تمتع بها، ويجعل حياته فاترة وبالجهد يبدأ من جديد!

  1. إكمال حياة النذير:

قلنا أن الحديث هنا خاص بالنذير لفترة محدودة، وقد جاء في التلمود أن الحد الأدنى للنذر هو ثلاثون يومًا، حتى وإن نذر الإنسان مدة أقل. غير أننا قرأ في سفر أعمال الرسل (21: 27) عن بولس الرسول أنه نذر نفسه لمدة أسبوع.

عند إكمال النذير أيام نذره يلتزم بطقس معين يكشف الأساس الروحي الذي عليه تُبنى حياتنا في المسيح يسوع ربنا، حيث صارت مُكرَّسة له، هذه التي يصير كمالها بالحق عندما نخلع خيمتنا الأرضيّة وندخل إلى الراحة في حضن الآب. وقد جاء الطقس هكذا:

أ. يقدم النذير ذبيحة محرقة وسلامة وتقدمة، الأمور التي تمثل جوانب متمايزة ومتكاملة لسرّ الصليب[33]. وكأن نذرنا وجهادنا في هذا العالم لن يقبل ولا يصير كاملاً إلاَّ من خلال ذبيحة الصليب الكفاريّة.

ب. يقدم النذير تقدمة أخرى قدر إمكانيته (ع 21)، وهي غير محدودة. وكأن ذبيحة المسيح الكفاريّة تلتحم مع تقدمتنا ما استطعنا، فيرتبط حب الله بحبنا، وعمل الله المجاني بجهادنا. لقد ترك باب العطيّة مفتوحًا لكي يتسع قلبنا من يوم إلى يوم بالحب الباذل في غير حدود.

ج. يحلق شعره ويلقي به في نار ذبيحة السلامة لتعود إليه كرامته لا على أساس زمني عالمي بل كرامة شركة الأمجاد الأبديّة. أما إلقاء الشعر في نار ذبيحة السلامة فيشير إلى دموع المجاهدين التي يمسحها السيد المسيح بيديه في اليوم الأخير، وتصير أتعابهم وجهادهم سرّ سلام أبدي فائق في المسيح يسوع الممجد.

د. يشرب خمرًا كرمز إلى التمتع بالفرح والبهجة عِوَض الأتعاب والأحزان التي قبلناها في هذا العالم من أجل الإيمان بالسيد المسيح ربنا.

هكذا يكمل طقس إكمال أيام نذرنا حينما نخرج من هذا العالم، مختفين في ذبيحة الصليب المجانيّة مقدِّمين جهادنا الذي مارسناه بنعمته الإلهيّة، فيمسح الله دموعنا ويملأ حياتنا بالفرح الأبدي.

هذا الطقس في الحقيقة لا يكمل فينا إلاَّ لأن السيد المسيح رأسنا قد أكمله على مستوى إلهي فائق، فمن أجلنا صار كنذير مقدمًا حياته في طاعة كاملة لأبيه. إنه لم يقدم ذبائح وتقدمات خارجيّة بل بذل حياته مقدمًا جسده ودمه المبذولين ذبيحة حب للآب عنا، فيها نجد نار المحبة الإلهيّة مشتعلة خلال ذبيحة السلام الحقيقي. إن كان كل نذير ملتزم أن يقدم تقدمة قدر إمكانياته فالسيد قدَّم حياته التي وحدها قبوله لدى الآب، قدم إمكانياته الإلهيّة غير المحدودة، فصرنا جميعًا مقبولين لدى أبيه خلاله. أما حلق شعر النذير فيشير إلى كمال الحريّة التي وهبها لنا هذا النذير الإلهي خلال نار صليبه. وأما شرب الخمر فيشير إلى روحه القدوس المعزّي الذي يهبه لنا في كنيسته المقدَّسة يملأ حياتنا سلامًا وفرحًا حتى في أمر لحظات التوبة.

  1. مباركة الكهنة الشعب:

ختم الرب حديثه عن النذير بالكشف عن سرّ البركة التي يتمتع بها الشعب خلال كهنته. لعل الرب خشى أن يسقط النذير في الكبرياء فيظن في نفسه أنه أفضل من إخوته، لهذا أوضح أنه حتى البركة التي تحلّ على الشعب بواسطة الكهنة هي عطيّة الله نفسه، يقدمها الثالوث القدوس، وما الكهنة إلاَّ وسيلة يسألون الله ثلاث مرات ليبارك الثالوث القدوس الشعب، فقد كلَّم الرب موسى قائلاً:

كلَّم الرب هرون وبنيه قائلاً: هكذا تباركون بني إسرائيل قائلين لهم:

يباركك الرب ويحرسك،

يضيء الرب بوجهه عليك ويرحمك،

يرفع الرب وجهه عليك ويمنحك سلامًا،

… وأنا أباركهم” [22-27].

هكذا يؤكد الرب أنه هو الذي يبارك لا الكهنة، مهما علت درجتهم، هو الذي يحرس وهو الذي يرحم وهو الذي يمنح السلام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى