تفسير سفر العدد ٢٣ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح الثالث والعشرين

نبوات بلعام

يتحدث هذا الأصحاح عن:

  1. إقامة سبع مذابح                                1-6.
  2. نبوته الأولى                                   7-10.
  3. تغيير المكان                                   11-15.
  4. نبوته الثانية                                    16-24.
  5. تغيير المكان ثانية                              25-30.
  6. إقامة سبع مذابح:

أخذ بالاق بلعام إلى مرتفعات بعل، وهناك طلب الأخير من بالاق أن يبني له سبعة مذابح ويهييء له سبعة ثيران وسبعة كباش، وقدَّم بالاق وبلعام ثورًا وكبشًا على كل مذبح (22: 41، 23: 1) قبل أن ينطلق إلى رابية ليسمع صوت الرب. لقد أخطأ بلعام إذ بنى هياكل وقدَّم عليها ذبائح للشياطين، ومع هذا “وضع الرب كلامًا في فم بلعام” [5]. فقد أراد الله أن يشهد للحق أمام الأمم ولو خلال عرَّاف.

  1. نبوته الأولى:

استغل الله هذا الموقف لكي يقدِّم للأمم خمسة نبوات على فم بلعام بقيت في سجلات الأمم:

النبوة الأولى (22: 7-10) تتحدث عن التجسد الإلهي.

النبوة الثانية (22: 16-24) تتحدث عن آلام السيد وقيامته.

النبوة الثالثة (23: 1-14) تتحدث عن يوم البنطيقستي.

النبوة الرابعة (23: 15-19) تتحدث عن الكرازة بالسيد المسيح.

النبوة الخامسة (23: 21-25) تتحدث عن اقتناء المسيح يسوع ربنا.

هكذا حملت النبوات فيما احتوته عرضًا سريعًا عن أعمال الله الخلاصيّة في ملء الأزمنة من تجسد الابن الوحيد، آلامه وموته وقيامته، وحلول الروح القدس على الكنيسة، الكرازة بين الأمم، وأخيرًا غاية إيماننا “اقتناء السيد المسيح”.

أما نص النبوة الأولى فهو:

من أرام أتى بي بالاق ملك موآب من جبال المشرق،

تعال العن لي يعقوب وهلم اشتم إسرائيل،

كيف ألعن من لم يلعنه الله وكيف أشتم من لم يشتمه الرب؟

إني من رأس الصخور أراه، ومن الآكام أبصره،

هوذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يُحسب،

من أحصى تراب يعقوب، ورُبع إسرائيل بعدد؟

لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم” [7-10].

قبل أن ندخل في المعاني الرمزيّة التفصيليّة لهذه الكلمات أريد أن أوضح أن جوهر هذه النبوة أن بلعام لم يقدر أن يلعن هذا الشعب ولا أن يشتمه، لأنه قد ارتفع إلى رأس الصخور إلى السيد المسيح نفسه الصخرة الحقيقيّة فنظر الشعب وإذا به ليس كسائر الشعوب، رآه جسد المسيح يسوع السري، له طبيعة جديدة على صورة خالقه لا يمكن أن تُلعن ولا تُشتم، قد تبررت في دم السيد المسيح وتقدَّست. رأى تراب يعقوب أي أموره الأرضيّة قد تباركت وتقدَّست. إذ يتقدس المؤمنون روحًا وجسدًا، بل صار حتى موتهم- في المسيح يسوع- بركة يشتهي بلعام أن ينعم بها.

يقول: “من أرام أتى بي بالاق ملك موآب من جبال المشرق” [7]. ولعل “أرام” وهي أكادية تعني “الأرض المرتفعة”، أطلق على هذا الإقليم في الترجمة السبعينيّة “المصيصة Mespopotania” أو “سوريا”، وقد ظهرت عدة دويلات أراميّة في الوقت الذي فيه نشأت مملكة في أرض إسرائيل، منها “أرام النهرين” (تك 24: 10)، والنهران هما دجلة والفرات. ويظن البعض أنهما نهر خابور والفرات، وكان “فدان أرام” يقع في هذا الإقليم (تك 29: 4-5). في هذا الإقليم كانت تقع مدينتا نصيبين والرها اللتين اشتهرتا كمركزين للثقافة والآداب السريانيّة.

يتأمل العلامة أوريجينوس في هذا النص، حيث يرى بالاق قد جاء ببلعام إلى ما بين النهرين على الجبال من جهة المشرق. لقد دخل به إلى ما بين الأنهار، ليست الأنهار المقدسة التي تنبع عن نهر الحياة كقول السيد “من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 38)، الأنهار الدائم التسبيح لله بالأعمال المقدسة كما يقول المرتل: “الأنهار لتصفق بالأيادي” (مز 98: 8)، إنما انطلق به إلى أنهار بابل التي كُتب عنها: “على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون” (مز 137: 1). يدعوها العلامة أوريجينوسأنهار الفتور“، قائلاً: [إذا ما أتى بنا وسط هذه الأنهار التي لبابل، إذا ما فاضت مجاري اللذة واستحممنا في أمواج عدم العفة… هناك سبونا في هذا الموضع[212]

جاء به من أنهار الفتور والملذات من الجبال… أي جبال هذه؟ إنها ليست الجبال المقدسة التي كُتب عنها: “أساساته في الجبال المقدسة” (مز 78: 1)، وفي موضع آخر “أورشليم المبنية كمدينة متصلة كلها. أورشليم الجبال حولها، والرب حول شعبه” (مز 122: 3، 125: 2). إنها جبال الفتور (القائمة بين النهرين)، دُعيت بجبال العتمة (إر 13: 16)، وعنها قيل: “أتوا إليك، جبل الفساد”. إنها الجبال التي خصصت لهذا العمل “كل علو يرتفع ضد معرفة الله” (2 كو 10: 5). هذه هي الجبال التي أُخذ بلعام إليها[213]].

أما كونها “من المشرق“، فإنه “لها أيضًا نورها الذي يشرق”، إذ “يغير شكله إلى شبه ملاك نور” (2 كو 11: 14). لها هذا النور الذي قيل عنه “نور الأشرار ينطفيء” (أي 18: 5)… وهو مضاد للنور القائل: “أنا هو نور العالم” (يو 8: 12). إنه من الشرق المضاد للشرق الذي كُُتب عنه في زكريا: “هوذا الرجل الغصن (الشرق) اسمه[214]” (زك 6: 12)].

يقول له بالاق: “العن لي يعقوب، وهلم اشتم إسرائيل” [7]. لعله أراد أن يؤكد أنه يلعن يعقوب ويزيد اللعنات على إسرائيل، فحين قَبِل يعقوب البركة من أبيه إسحق هاج العدو عليه حتى اضطر إلى الهروب، أما وقد صارع بعد أن رأى الرؤى فقد ازداد هياج العدو. هكذا كلما التقت النفس مع الله وصارع الإنسان مجاهدًا من أجل الملكوت تزايدت الحرب الروحيّة ضده.

يجيب بلعام: “كيف ألعن من لم يلعنه الله؟ وكيف أشتم من لم يشتمه الرب؟” [8]. كان فم بلعام مملوء من اللعنة، “تحت لسانه مشقة وإثم” (مز 10: 7). وُجد في الدسائس مع الأغنياء، إذ كان ينتظر الأجرة من الملك لأجل قتل الأبرياء بطريقة غير ظاهرة. لكن الله “الصانع العجائب وحده” (مز 136: 4) يستخدم حتى أعدائه في صنع السلام. وضع كلماته في فم بلعام، مع أن قلبه لم يقدر أن يتقبل كلمات الله… لم يحمل بلعام كلام الله في قلبه وإنما على لسانه فقط. لكنه على أي الأحوال نطق بكلام الله[215]…].

ربما يتساءل البعض: هل الله يلعن؟

يُجيب العلامة أوريجينوس هكذا: [أعتقد أن الله يلعن أي شخص (أو كائن) آخر، إذ نقرأ أن الرب يقول للحيّة: “ملعونة أنتِ من جميع البهائم ومن وحوش البريّة” (تك 3: 14)، ولآدم: “ملعونة الأرض بسببك” (تك 3: 17)، ولقايين: “ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك” (تك 4: 11)، وفي موضع آخر يقول: “ملعون الإنسان الذي يصنع تمثالاً منحوتًا أو مسبوكًا” (تث 27: 15). لا تعتقد أن هذه التعبيرات لا نجدها إلاَّ في العهد القديم فإننا نجد ما يشبهها في الأناجيل. إذ جاء فيها أن الرب يقول للذين عن يساره: “اذهبوا عني يا ملاعين إلى النار الأبديّة” (مت 25: 41)، وعندما يقول: ويل لكم أيها الكتبة والفريسيّين” (مت 23: 29)، “ويل لكم أيها الأغنياء” (لو 6: 24)، ماذا يفعل إلاَّ أن يلقي عليهم اللعنات. إذًا ما هو موقف الوصيّة المُعطاة من الرسول: “باركوا ولا تلعنوا” (رو 12: 14)؟… عندما يلعن الله إنما عن استحقاقهم للعنة، إنه ينطق بالحكم لأنه لا يخطيء لا في حكمه على طبيعة الخطيّة، ولا على نية الخطاة. لكن الإنسان لا يقدر أن يدخل إلى العمق، لا يقدر أن يرى إرادة غيره أو يدركها. فإننا أن لفظنا باللعنة حسب نظرة الديان الذي يصدر الحكم، نفعل ذلك خارج حقنا إذ نجهل شعور الخاطيء[216]].

إني من رأس الصخور (قمة الجبال) أراه، ومن الآكام أبصره (ألاحظه)، هوذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يُحسب” [9]. إن كان بالاق قد جاء بي إلى جبال الفتور إلى خداعات الشياطين، لكن الرب نقله إلى جبال الله إلى “قمة الجبال” وإلى التلال المقدسة، هناك يرى شعب الله ويدرك أسراره. “لأن إسرائيل (الروحي) يقع على الجبال المرتفعة وعلى التلال العالية، أي يعيش حياة فاضلة وصعبة، حيث لا نستطيع بسهولة أن نكون جديرين بالتطلع إليها أو إدراكها ما لم نتسلق المرتفعات وقمم المعرفة، لهذا لم يلعنه الله. إن حياته عالية ومرتفعة، وليست دنيئة أو منحطة. لكن يبدو لي أن الله لا يقول هذا عن إسرائيل حسب الجسد بل عن ذاك الذي يسير في الأرض وسيرته في السموات[217] (في 3: 20)].

هكذا على المرتفعات العالية رأى بلعام أولاد الله، أو كنيسة الله التي تتأسس على السيد المسيح “الصخرة” الحقيقيّة.

إن أردنا أن ننظر كنيسة الله، إسرائيل الروحي الجديد، فلنرتفع على جبال الشريعة المقدسة ونصعد على تلال النبوات العالية، خلالها نرى رأس الكنيسة نفسه، السيد المسيح، ومن خلاله نرى كنيسته المقدسة، بكونها جسده السري. لهذا يقول “هوذا شعب يسكن وحده، وبين الشعوب لا يُحسب”. إنه يسكن في المسيح يسوع، حاملاً الطبيعة الجديدة التي تميزه. لا يراه شعبًا بالمفهوم الزمني، فيُحسب وسط الشعوب، إنما يراه الكنيسة الواحدة المقدسة، تحيا في السمويات. هكذا يرى بلعام التجسد واضحًا خلال ظلال الشريعة والنبوات، ويرى الكنيسة واضحة خلال التجسد، لكنها فوق كل إدراك.

من أحصى تراب يعقوب ورُبع إسرائيل بعدد؟” [10]. وفي الترجمة السبعينيّة “من أحصى بذار يعقوب تمامًا، ومن أحصى عائلات إسرائيل؟”. يقول العلامة أوريجينوس: [هذا يذكرنا بالقول: “ثم أخرج الله إبراهيم إلى خارج وقال: انظر إلى السماء وعدّ النجوم إن استطعت أن تعدها. وقال له: هكذا يكون نسلك. فآمن إبراهيم بالرب فحُسب له برًا” (تك 15: 5-6). لا يستطيع إبراهيم ولا أي إنسان آخر ولا ملاك ولا رئاسات عليا أن تحصي عدد النجوم ولا نسل إبراهيم، إذ كُتب عنه “هكذا يكون نسلك”. أما الله فقيل عنه “يُحصي عدد الكواكب، يدعو كلها بأسماء” (مز 147: 4). هذا الذي قال: “قد أعطيت أوامري لكل الكواكب”، فإنه يقدر أن يُحصي تراب يعقوب وربع إسرائيل بعدد. هو وحده الذي يعرف بحق من هو يعقوب الحقيقي من هو إسرائيل الحقيقي. فإن الأمر لا قيمة له من جهة اليهودي حسب الظاهر، ولا الختان الذي في الظاهر في الجسد، بل “اليهودي في الخفاء” (رو 2: 28)، ختان القلب لا الجسد، إنه وحده القادر أن يعدّ وأن يسجل، بحسب حكمته الفائقة الوصف غير المدركة…. هذا الإحصاء لا يكون مقدسًا وعجيبًا إلاَّ إذا تم بناء على أمر إلهي. أما إذا أراد أحد أن يصنع تعدادًا بغير ما أمر به الرب، حتى ولو كان داود النبي العظيم هو الذي أمر به (2 صم 24)، يُحسب هذا التصرف ضد الشريعة، ويصير الشخص موضع اتهام ويسقط تحت العقاب[218]].

لتمت نفسي موت الأبرار، ولتكن آخرتي كآخرتهم” [10]. وفي الترجمة السبعينيّة “لتمت نفسي مع نفوس الأبرار”. وكأن بلعام وقد رأى كنيسة العهد الجديد المقدسة خلال التجسد الإلهي لم يشتهِ العضويّة فيها فحسب بل أراد أن ينعم بحياتها خلال التمتع بالموت مع السيد المسيح. وكأنه أدرك خلال الظل كلمات الرسول بولس: “إننا كل من اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا لموته، فدفنا معه بالمعموديّة للموت” (رو 6: 3-4)، و”إن كنا قد متنا معه فسنحيا أيضًا معه” (2 تي 2: 11). يقول العلامة أوريجينوس: [بخصوص هذا الموت يقدِّم بلعام نبوءة مدهشة، وبواسطة كلمة الله جعل لنفسه صلاة رائعة، فإنه يطلب أن يموت عن الخطيّة ليحيا لله[219]]. ويقول القدِّيس إمبروسيوس: [اشتاق بلعام إلى هذا الأمر بروح النبوة إذ رأى فيه القيامة الأبديّة للبشريّة، بهذا لم يَخَفْ أن يموت إذ يقوم ثانية. إذن ليت نفسي لا تموت في خطيّة ولا ترتكب شرًا بل تموت في نفس البار فتتقبل برّه فيها. فإن من يموت في المسيح يصير شريكًا لنعمته داخل الجرن[220]].

للأسف لم يتحقق لبلعام هذا الطلب إذ ختم حياته بمشورته الشيطانيّة التي قدمها لبالاق ليسقط أولاد الله في الزنا، فيحلّ عليهم غضب الله (أصحاح 25). انتهت حياته بالقتل بالسيف (عد 31: 8، 16، يه 11). يقول القدِّيس إيرينيئوس: [ذُبح بلعام بن بوعز بالسيف لأنه لم يعد ينطق حسب روح الله بل أقام ناموسًا آخر هو ناموس الزنا المضاد لناموس الله (رؤ 2: 14). لم يعد يُحسب نبيًا وإنما مثل عرَّاف، إذ لم يستمر في إعلان وصيّة الله بل تقبَّل الجزاء العادل لمشورته الشريرة[221]].

لم تتحقق هذه الطلبة في حياته الخاصة، لكنها تحقت في تلاميذه، جماعة المجوس، الذين جاءوا من المشرق وقبلوا السيد المسيح كملك، مقدِّمين له ذهبًا ولبانًا ومرًا، مؤكدين ملكوته الروحي وكهنوته وآلامه. لقد تنبأ بلعام في شخصه عن الأمم التي قبلت الموت مع السيد المسيح.

أخيرًا لم يكن سهلاً أن ينطق بلعام بهذه الكلمات مشتهيًا الموت، في وقت كان فيه الموت عند اليهود كما عند الأمم علامة غضب الله، وعلامة نجاسة. لكن رؤيته بروح النبوة موت السيد المسيح جعل “الموت” شهوة يطلبها من يرغب في التبرر بدم السيد.

  1. تغيير المكان:

أُصيب الملك بفزع إذ رأى بلعام ينطق بغير ما كان يتوقع. سمعه يبارك عِوَض أن يلعن، فلم يحتمل، بل عاتبه قائلاً: “ماذا فعلت بي؟ لتشتم أعدائي أخذتك، وهوذا أنت قد باركتهم؟” [11]. وإذ أصرّ بلعام أن ينطق بالكلمات التي يضعها الرب في فمه، أخذه بالاق إلى موضع آخر يرى منه إسرائيل، لكنه لا يرى إلاَّ أقصاءه وليس كل الجماعة ليلعنه من هناك. أخذه إلى صوفيم في رأس الفسجة وبنى له هناك سبع مذابح وأصعد ثورًا وكبشًا على كل مذبح.

أخذه إلى موضع جديد لعل الله يغيِّر رأيه، وقد أطاع بلعام بغير تردد أملاً في الأجرة. أما اختيار المكان فغريب، منه يرى أقصى الجماعة لكنه لا يرى كل الجمهور، والحكمة في ذلك إن بالاق ربما ظن أن بلعام كان يرتعب من كثرة الجمهور، فكان يخشى أن يلعنه، فيسيء إليه الشعب عندما يغلب موآب. أراد من بلعام أن يكون كالنعامة التي تخفي رأسها في الرمل حينما ترى الخطر محدقًا بها عِوَض أن تهرب من الخطر أو تواجهه.

حقل صوفيم” بالعبريّة يعني “حقل الناظرين”، في رأس الفسجة وتعني “قسم أو منطقة”. هذه الأخيرة جزء من منطقة جبل عباريم الواقعة في الطرف الشمالي الشرقي من البحر الميت. إذ كان البحر تحت سفوحها، قمتها تشرف على البريّة، وفي نفس الوقت يمكن من قمتها التطلّع على جزء كبير من أرض كنعان غرب نهر الأردن. هناك نظر موسى أرض الموعد (تث 3: 7، 34: 1-4)، حاليًا غالبًا هي رأس السياغة.

على رأس الفسجة على جبال عباريم تطلَّع بلعام نحو البريّة ليرى الشعب في أقصائه ولا يراه جميعه فيلعنه، وعلى نفس الجبال تطلَّع موسى إلى أرض الموعد فانفتح قلبه على السماء واشتهى العبور إليها! أقول بالعين الشريرة ينظر الإنسان إلى الأرضيات فيمتليء قلبه شرًا ويشتهي اللعنة للآخرين، وبالعين البسيطة ينظر المؤمن إلى السمويات فينفتح قلبه على البركة والسلام. ما أحوجنا لا إلى تغيير الأماكن أو الظروف التي نعيش فيها بل تغيير النظرة وتقديسها، فعِوَض تركيزها على العالم والزمنيات ترتفع إلى فوق نحو الله والسمويات.

  1. نبوته الثانية:

إن كانت النبوة الأولى قد ركَّزت على التجسد الإلهي، من خلاله تطلع إلى إسرائيل الجديد أو كنيسة العهد الجديد التي حملت طبيعة جديدة فصارت ليست شعبًا بين الشعوب، بل له طبيعته، وأيضًا بركته فلا يقدر أحد أن يحصيه غير الله وحده! الآن يركز على عمل الفداء من آلام الرب وصلبه وقيامته، إذ يقول:

قم يا بالاق واسمع، اصغَ إليَّ يا ابن صفور،

ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم،

هل يقول ولا يفعل؟ أو يتكلَّم ولا يفي؟

إني قد أُمرت أن أبارك، فإنه قد بارك فلا أرده،

لم يبصر إثمًا في يعقوب ولا رأى تعبًا في إسرائيل،

الرب إلهه معه، وهتاف ملك فيه،

الله أخرجه من مصر، له مثل سرعة الرِّئم،

إنه ليس عِيافة على يعقوب، ولا عِرافة على إسرائيل،

في الوقت يقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعل الله،

هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد،

لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى” [18-24].

مع أن هذا الشعب كثير التذمر، وتعرَّض لتأديبات قاسية جدًا ومُرَّة أثناء رحلته في البريّة، لكن خلال الصليب والقيامة لم يرى الله في شعبه إثمًا ولا تعبًا، بل يجد فيه برّ المسيح وسرّ راحته، يصير موضع سروره. لقد أخرجه من أرض العبوديّة وعبر به إلى الراحة واهبًا إياه الغلبة على قوات الظلمة (العِيافة والعِرافة). أقامه كعروس مقدسة، كامرأة الأسد الخارج من سبط يهوذا، لبوة تنجب أشبالاً أقوياء… الخ.

يبدأ نبوته الثانية الخاصة بأعمال السيد المسيح الخلاصيّة بقول: “قم يا بالاق”. مع أن بالاق كان واقفًا عند محرقته مع رؤساء موآب (ع 17)، لكنه يأمره “قم يا بالاق”. إن كانت كلمة “بالاق” تعني “المتلف” أو “المخرِّب”، فإن الدعوة هنا موجهة إلى جماعة الأمم التي عاشت زمانًا طويلاً تتعبد للأوثان فصارت بكل طاقتها في حالة سقوط وانهيار، بل صارت متلفة للنفس ومخرِّبة للقلب، لهذا صارت إليها الدعوة أن يقوم مع السيد المسيح القائم من الأموات فلا تصير بعد مخرِّبة ولا مُتلِفة، بل تحمل طبيعة الحياة المُقامة فيها.

هذه هي الدعوة التي سمعها شاول الطرسوسي الذي كان يُخرِّب كنيسة الله ويُتلفها بإفراط: “قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل” (أع 9: 6). لقد نادى الرب الإنسان وهو مُلقى في الطريق محطم النفس ودعاه أن يتمتع بالقيامة معه ليدخل المدينة الجديدة وهناك يعرف كيف يسلك في الرب. لقد تمتع الرسول بقوة القيامة، لهذا صارت كلماته الكِرازيّة تدور حول خبرة القيامة، إذ يقول: “قم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أف 5: 14).

“اصغَ إليَّ يا ابن صفور”؛ إن كانت كلمة “صفور” تعني “عصفور”، فإن بالاق وهو كالعصفور الساقط بلا ثمن في عيني الناس لكنه ليس منسيًا لدى الله (لو 12: 6).

ليس الله إنسانًا فيكذب، ولا ابن إنسان فيندم،

هل يقول ولا يفعل؟

أو يتكلم ولا يفي؟” [19].

لقد وعد أنه يبارك شعبه، وهو ملتزم بالوعد، لا بأن ينطق بكلمات البركة إنما ملتزم “أن يفعل، وأن يفي”. مباركته لشعبه تكلفه الكثير، إذ يلتزم أن يحمل أجرة اللعنة التي سقطوا تحتها حاملاً عار الصليب عنهم، ويقوم فيقيمهم إلى الحياة المباركة الجديدة. يدخل بهم إلى قوة قيامته، فلا يظهر فيهم إثم ولا يوجد فيهم تعب. إنهم يتمتعون ببره عِوَض إثمهم، وبراحته عِوَض تعبهم.

يكمل النبوة هكذا: “الرب إلهه معه، وهتاف ملك فيه” [21]. لقد حلّ وسط شعبه وملك فيهم بصليبه، معلنًا كمال حريتهم فيه وبه. لهذا يقول “الله أخرجه من مصر” [22]. هذه هي الحريّة، أنه وهبهم فصحًا حقيقيًا بعبوره بهم من أرض العبوديّة إلى حريّة مجد أولاد الله.

هذا العبور الإلهي في حياة المؤمنين يتم بقوة وبسرعة فائقة “له مثل سرعة الرئم” [22]. الرئم هو حيوان يرجح أنه الأوروخس، نوع من الثور الوحشي انقرض من العالم، يمتاز بسرعته الفائقة، وقوته العظيمة (عد 24: 8)، لا يمكن إحناء عنقه للنير أو تسخيره لخدمة الإنسان في الأعمال الزراعيّة (أي 39: 9-12). يشير الرئم إلى السيد المسيح القائم من الأموات، إذ له قرن علامة الملك (دا 8: 22)، قيل “قرناه قرنا رئم، بهما ينطح الشعوب معًا إلى أقاصي الأرض” (تث 33: 7). وكأن السيد القائم من الأموات يملك روحيًا على الشعوب، ولا يكون لملكه نهاية (لو 1: 33).

إذ يملك الرب على الأمم روحيًا يحطم كل قوى الشيطان تحت أقدامهم، إذ يقول: “أنه ليس عِيافة على يعقوب، ولا عِرافة على إسرائيل” [23].

إن كان الله قد حرّم استخدام العِيافة والعِرافة بواسطة شعبه، أي معرفة الغيب عن طريق السحر، مستخدمين في ذلك حيوانات وطيور معينة، هذه التي اعتبرها الكتاب دنسة، ليس لأجل ذاتها وإنما بسبب إساءة الإنسان استخدامها، في نفس الوقت يعطي الرب طمأنينة لأولاده أنه لا يستطيع أحد أن يستخدم السحر لضررهم ما داموا محفوظين في يده.

إذ ملك الرب على شعبه لا يستطيع الشيطان بكل فنون سحره أن يسيطر عليهم، فتوجد الكنيسة كامرأة الأسد (لبوة) تتمتع بقيامة عريسها وترتفع معه إلى سمواته: “هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد“… هذه هي صورة الكنيسة الحيّة وأولادها الأقوياء كأشبال يحملون قوة مسيحهم الأسد الغالب.

يقول العلامة أوريجينوس: [في الواقع الأسد والشبل لا يخشيان أي حيوان آخر… بل كل الحيوانات تخضع لهما. هكذا إذ يحمل المسيحي الكامل صليبه ويتبع المسيح (مت 16: 24)، يستطيع أن يقول: “قد صُلب العالم لي وأنا للعالم” (غل 6: 14) ويدوس كل شيء تحت قدميه، قاهرًا كل شيء. بالحق يحتقر كل ما في العالم ويرذله، مقتديًا بالأسد الخارج من سبط يهوذا[222] (رؤ 5: 5)].

يختم النبوة الثانية بقوله: “لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى” [24]. هذا الشعب الذي صار عروسًا للأسد لا يستريح حتى يأكل فريسة، أي حتى يغتصب ملكوت السموات اغتصابًا (مت 11: 12). إنه يجاهد كل أيام غربته حتى النفس الأخير من أجل التمتع بالملكوت. أما قوله “يشرب دم قتلى” فلا تحمل مفهومًا حرفيًا، بل كما قيل في سفر التثنية “دم العنب شربته خمرًا” (تث 32: 14)، مشيرًا إلى التمتع بدم السيد المسيح الذي ذُبح لخلاصنا.

إن كان السيد المسيح قد ربض على الصليب فحطم إبليس كفريسة، وأهلك جنوده الشريرة، هكذا بالاتحاد معه نحمل روح الغلبة على الشيطان وكل أرواحه المقاومة.

أخيرًا نلاحظ أنه في النبوة الأولى قد أعلن سرّ بركة هذا الشعب أنه مرتفع على الجبال الشاهقة لا تقدر سهام اللعنات الشيطانيّة أن تقترب إليه، إنه شعب فريد (روحيًا) ينمو ويتكاثر روحيًا. أما في هذه النبوة فيؤكد عدم إمكانية لعنته، لقد يئس تمامًا من ذلك أولاً لأن مواعيد الله له ثابتة لا تتغير، ولأنه حاليًا بلا لوم ولا شرّ، ولأنه قوي بأعماله الماضية (خروجه من مصر) وأعماله الحاضرة (كلبوة يقوم وكأسد يرتفع). بهذا لم يعد هناك أي رجاء لبالاق.

  1. تغيير المكان للمرة الثانية:

لم يعد لبالاق إلاَّ أن يطلب من بلعام أن يُغيِّر موضعه مرة أخرى لعل الله يأذن له بلعنهم. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [ظن الملك البائس أنه لم تتهيأ الأماكن المناسبة لسحر بلعام لأجل تحقيق اللعنات، ولم يدرك أن الأمر يحتاج إلى الإرادة. لقد ظن أنه ينجح بتغيير الموضع[223]].

لقد دعاه إلى رأس (قمة) فغور، التي تعني قمة الفجور والملذات. أراد أن يسحب نظره من الله إلى الفجور والملذات. والعجيب أن هذا الموضع كما يوضح الكتاب “يشرف على وجه البريّة”، فحيث توجد الملذات الزمنيّة يوجد الجفاف الروحي والتغرب عن الله.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى