تفسير سفر العدد ٣٣ للقمص تادرس يعقوب


الأصحاح الثالث والثلاثون

ملخص الرحلة

لقد صدر الأمر الإلهي لموسى النبي أن يسجل صورة مختصرة للرحلة منذ انطلاقها من أرض مصر حتى بلغت عربات موآب شرقي الأردن استعدادًا للدخول إلى أرض الموعد.

أ. الأمر الإلهي بتسجيل الرحلة                     1-2.

ب. محطات الرحلة                                3-49.

جـ. الاستعداد للعبور                              50-56.

أ. الأمر الإلهي بتسجيل الرحلة:

هذه رحلات بني إسرائيل الذين خرجوا من أرض مصر بجنودهم عن يد موسى وهرون. وكتب موسى مخارجها برحلاتهم حسب قول الرب” [1-2].

لقد سبق فسجل موسى هذه الرحلات بشيء من التفصيل في سفري الخروج والعدد، فما الحاجة لهذا الملخَّص المقتضب للرحلة؟

أولاً: إن ما فعله موسى النبي لم يكن من ذاته بل يقول “حسب قول الرب“، أي ما جاء استجابة لأمر إلهي. ولعله كما أمر الله بالإحصاء مرتين، الإحصاء الأول في بدء الرحلة في السنة الثانية في بدء الشهر الثاني، والثاني قبيل دخولهم أرض الموعد، هكذا سمح بتسجيل الرحلات مرتين، المرة الأولى يقدم تفاصيل معاملات الله مع الإنسان، والمرة الثانية أيضًا قبيل دخولهم أرض الموعد من أجل التذكرة. وكما يقول موسى النبي: “وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر لكي يُذلك ويُجرِّبك ليعرف ما في قلبك أتحفظ وصاياه أم لا” (تث 8: 2).

في التسجيل الأول كان يقدم لنا تفاصيل معاملات الله معنا وتذمرات الإنسان ضده لكي يبعث فينا روح الجهاد والغلبة، فنكون دائمًا في تحرك مستمر بغير توقف مجاهدين من أجل بلوغ أورشليم العُليا، أما التسجيل الثاني فيمثل أنشودة أو تسبيحًا للرب.

ثانيًا: في هذا السجل المقتضب ظهر تحرك الإنسان في بريّة هذا العالم، تارة يتقدم خطوات وأخرى يتراجع، لكنه مادام تحت قيادة الله نفسه المظلّل عليه كسحابة والمنير له الطريق كعمود نار، فإنه حتمًا يبلغ هدفه ويحقق رسالته. حقًا إن طريق الله هو أكثر الطرق أمانًا حتى وإن كان ليس أقصر الطرق ولا أسهلها.

ثالثًا: من يتطلّع إلى هذا الأصحاح يظن لأول وهلة أنه يحوي أسماء بلاد وسهول وتلال وجبال مع ذكر لآبار ونخيل… أمور قد يظنها البعض لا نفع لنا بمعرفتها. لكن العلامة أوريجينوس يُعلِّق على ذلك في حديث طويل جدًا نقتطف منه العبارة  التالية: [الدرس الذي بين أيدينا يبدو صعب الفهم وبلا فائدة للقراءة. لكننا لا نستطيع القول بأنه يوجد في كتابات الروح القدس شيء بلا نفع وزائد، حتى وإن بدا بالنسبة للبعض غامضًا. إنما يلزمنا بالحري أن نوجه عيون ذكائنا نحو (الرب) الذي أمر بالكتابة، ونطلب منه المعنى[294]].

في اختصار يرى العلامة أوريجينوس أن البعض يتطلَّعون إلى هذا العرض كشيء بلا نفع وزائد، فيكون مثلهم مثل الأسد الذي لا يأكل العشب بل اللحوم فيرى في وجود العشب على الأرض أمرًا لا نفع منه، بينما الماشية وهي تأكل العشب تجد شبعها في العشب بينما تظن في غيره من الأطعمة أنه بلا نفع. هكذا للإنسان طعام، وللحيوانات المفترسة طعام والحيوانات البريّة طعام والطيور طعام، فالأطعمة متنوعة لإشباع الكل. هكذا في الكتاب المقدس نجد أطعمة كثيرة تشبع هذا وذاك، فما يظنه إنسان أنه بلا نفع يجد غيره فيه لذته وشبعه. وقد قدَّم العلامة أمثلة لنفع هذا الأصحاح كعمل رمزي لخلاصنا ولتحريرنا من أرض العبوديّة إلى كنعان السماويّة، إذ يحمل كل اسم مدينة أو جبل أو سهل إلخ… مفهومًا روحيًا في طريق خلاصنا.

وصف موسى النبي الرحلة بقوله: “خرجوا من مصر بجنودهم عن يد موسى وهرون“. لقد خرجوا كرجال حرب روحيّين بقيادة موسى وهرون ليسوا هاربين في عجلة إنما تحت قيادة الله نفسه خلال وصيته (موسى) وذبيحته المقدسة (هرون الكاهن)، إذ يقول إشعياء النبي: “لأنكم لا تخرجون بالعجلة ولا تذهبون هاربين، لأن الرب سائر أمامكم وإله إسرائيل يجمع ساقتكم” (إش 52: 12). لقد ظهروا كهاربين لكن خروجهم في أعماقه يحمل خطة إلهيّة تسلّم الرب تنفيذها بنفسه.

ب. محطات الرحلة:

سجّل لنا موسى النبي “42” محطة تنتهي بدخولهم أرض الموعد. هذا يذكِّرنا بقول الإنجيلي: “فجميع الأجيال من إبراهيم إلى داود أربعة عشر جيلاً، ومن داود إلى سبي بابل أربعة عشر جيلاً، ومن سبي بابل إلى المسيح أربعة عشر جيلاً” (مت 1: 17). وكأن الأجيال من إبراهيم أب الآباء إلى السيد المسيح “42” جيلاً، مطابقًا عدد المحطات التي عبر بها الشعب قديمًا في انطلاقه من مصر إلى أورشليم. كأن هذه المحطات تمثل الخلاص وتاريخه خلال البشريّة. لقد خرج بنو إسرائيل من مصر بجنودهم، أي يحملون قوة للجهاد الروحي، هذه القوة في حقيقتها هي السيد المسيح الذي عبر بالبشريّة خلال التاريخ كسرّ قوتهم حتى ظهر بتجسده بعد اثنين وأربعين جيلاً.

هذا من جهة العدد، أما من جهة أسماء المحطات، فتحمل عملاً رمزيًا مستمرًا برفع النفس من حالة العبوديّة للعبور بها إلى أعالي السموات. لهذا يسميها العلامة أوريجينوس [مركبة من كلمات غامضة]. هذه المركبة تعبر بنا من قوة إلى قوة (مز 84: 7) ومن مجد إلى مجد، يتخللها آلام كثيرة وتجارب تزيد من قوتنا الروحيّة وأمجادنا… وفيما يلي ملخص لأسماء المحطات الاثنين والأربعين الواردة في هذا الأصحاح وما تحمله من معاني رمزيّة.

  1. رعمسيس: اسم مصري قديم يعني “ابن إله الشمس (رع)”، كما يعني “بيت رمسيس”، إذ بناها رمسيس الثاني كعاصمة للدلتا، في حدود مصر الشرقية وسماها باسمه. يظهر من (تك 47: 11) إنها في أرض جاسان، تسمى حاليًا “صَالحجر” أو “صان الحجر”. الأرجح أنها إحدى مدن المخازن التي بناها الإسرائيليّون في مصر (خر 1: 11).

يرى العلامة أوريجينوس أنها تعني “بلد الفساد[295]” أو “اضطراب مزعج” أو “اضطراب بالبرغوث[296]”. تبدأ الرحلة بالانطلاق من موقع الفساد، مكان العثرة والخطيّة، حيث تكون النفس في حالة اضطراب. في هذا الموضع يدفن الأشرار أبكارهم (ع 4) ويفقدون سلامهم، لهذا يهرب المؤمنون منها. يقول العلامة أوريجينوس: [كل ما في العالم يسقط فريسة للاضطراب والقلق والفساد، الأمور الممثلة في البرغوث. لهذا يجب على النفس ألاَّ تمكث فيه (محبة العالم وإغراءاته) بل ترحل منه إلى سكوت[297]].

  1. سكوت: اسم عبراتي يعني “مظلات” أو “خيام”، تقع غالبًا في وادي الطميلات، ظن البعض أنها المدينة المحيطة بفيثوم، لكن الرأي الأغلب أنها تل المسخوطة في نهاية شرق وادي الطميلات[298].

من الناحية الرمزيّة إذ تنطلق النفس من رعمسيس حيث الاضطراب الداخلي تنطلق إلى سكوت (الخيام) لتعيش متغربة ومتنقلة لا تستريح حتى تبلغ حضن الآب السماوي مستقرة في المسيح يسوع ربها. يقول العلامة أوريجينوس: [إذ تنفض عنك صدأ الفساد وتبتعد عن مجال الرذيلة أسكن في الخيام، هذه التي لا نريد أن نخلعها بل أن نلبس فوقها (2 كو 5: 4). يسكن في الخيام من يركض نحو الله حرًا بلا قيود ولا أحمال[299]]. وأيضًا: [أول تقدّم للنفس هو أن تتخلص من الاضطراب الأرضي وتعرف أنه يجب عليها أن تسكن في الخيمة كالبدو الرُحّل، فتكون كجندي تحت السلاح مستعد لمواجهة الأعداء (الروحيّين) ومتيقظ وغير مرتبك[300]].

  1. إيثام: شرقي مدينة سكوت (تل المسخوطة) على طرف البريّة في نهاية الطرف الشرقي لوادي الطميلات. أمام بريّة إيثام فتقع شرقي إيثام. ويظن أن إيثام كانت بالقرب من مدينة الإسماعيليّة الحالية.

يرى العلامة أوريجينوس أن كلمة “إيثام” تعني “علامة[301]”، أو “مضيق[302]”. وهي المحطة الثالثة في الرحلة، لهذا يرى العلامة أوريجينوس أنها تحمل رمز قيامة المسيح في اليوم الثالث. فعند بلوغهم هذه المحطة جاءوا إلى حافة البريّة، واستطاعوا أن يتمتعوا بظلّ الحياة المُقامة مع السيد المسيح، إذ رأوا الله يظللهم كسحابة في النهار، وينير لهم الطريق ليلاً كعمود نار. هذه العلامة التي لهذه الرحلة، أو هذه الرؤيا… إنها رحلة القيامة مع السيد المسيح التي سبق لنا الحديث عنها[303].

يُعلِّق العلامة أوريجينوس على معنى إيثام كمضيق بقوله: [يجب علينا في المضيق أن نحتمل مصارعة عظيمة وإعلان قتال ضد الشيطان وسلاطينه المضادة. هكذا حارب إبراهيم في وادي (عمق) السديم (تك 14: 8) ملوكًا أشرارًا وغلبهم. إذن سياحتنا هي نزول إلى سكان الأعماق والأماكن السفليّة (المضيق) لكي لا نبطيء هناك إنما لكي نحصل على الغلبة].

إذن دخولنا إيثام إنما هو دخول إلى الحياة المُقامة في المسيح يسوع ربنا حيث نغلب به إبليس الساكن في الأعماق السفليّة أو المضيق.

  1. فم الحيروث: أو فيهوحيروث: يظن الأب هابيل Père Abel أنها في مستنقعات جنفه Jeneffehعلى حافة الممر بين الجبل والبحيرة المُرَّة[304]. تقع بين مجدل والبحر أمام بعل صفون (خر 14: 2، 9). وقد سبق أن عرضنا التفسير الرمزي لهذا الاسم وموقعه، إذ يرى العلامة أوريجينوس أن “فم الحيروث” تعني “الصعود القاسي أو القفر”، وإنها تقع بين مجدل التي تعني “برج” والذي يشير إلى ضرورة حساب نفقته (لو 14: 28)، والبحر يشير إلى أمواج التجارب المستمرة، أما كونها أمام بعل صفون[305] التي تشير إلى “الصعود بسرعة أو بخفة”، إنما يعني أن الإنسان إذ يدخل البريّة يلزمه أن يقبل الصعود القاسي أو القفر ، واضعًا أمام عيني قلبه حساب النفقة، متقبلاً التجارب غير المنقطعة، مسرعًا في الجهاد غير متباطيء في حياته الروحيّة[306].

هذا ملخص ما قدمه لنا أوريجينوس في عظاته على سفر الخروج لكنه يعود فيقدم لنا تفسيرًا آخر أثناء عظاته على سفر العدد. إنه يرى في “فم الحيروث” معنى “فم الكفور”، أي مدخل أو فم البلاد الصغيرة التي تحسب كفورًا لا مدنًا. وكأن “فم الحيروث” تعني الدخول إلى البلاد الصغيرة الضيقة حتى لا يوجد ترف المدن الكبرى بل التقشف والزهد. فإن كانت هذه هي أول محطة في البريّة بعد الخروج من إيثام آخر حدود مصر في ذلك الوقت فإنه يجب علينا أن نصعد إلى فم الضيق والتعب والألم، نصعد خلال الكفور الضيقة متجهين نحو مدينة الله العظمي، أورشليم العُليا. أما كونها تقع بين مجدل والبحر، فإن “مجدل” تعني “برج” كما تعني “مجد”، فالمؤمن يدخل إلى الضيق ناظرًا إلى الأمجاد السماويّة كدافع لجهاده المستمر غير متخوِّف من أمواج بحر هذا العالم.

  1. مارَّة: اسم عبراني يعني “مرّ” أو “مرارة”. وهي عين مياه مُرَّة جدًا بلغها الشعب بعد عبورهم بحر سوف حوالي ثلاثة أيام. مرارة المياه جعلت الشعب يدرك مدى صعوبة الرحلة فتذمروا، ولكن الله أمر موسى النبي أن يلقي بخشبة في المياه فتصير حلوة (خر 15: 23-26). تقع هذه العين في بريّة شور في الطريق إلى سيناء، غالبًا هي عين حوارة، تبعد حوالي “47” ميلاً من السويس، وبضعة أميال قليلة من البحر الأحمر تفصلها عنه سلسلة تلال. عمق العين حوالي “25” قدمًا وإن كان الاتساع يزداد في العمق. تربة هذه المنطقة بها نسبة عالية من الصودا ومياهها مالحة ومُرَّة[307].

إذ دخلوا في بريّة إيثام ثلاثة أيام التقوا بالمياه المُرَّة التي صارت خلال الخشبة عذبة ومروية، إشارة إلى تمتع المؤمن بالحياة المُقامة في المسيح يسوع خلال دفنه في مياه المعموديّة المقدسة ثلاث مرات باسم الثالوث القدوس، هكذا يتحول الدفن إلى قيامة، ويصلب الإنسان القديم بأعماله المُرَّة ويظهر الإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. هنا أيضًا يشرب المؤمن مياه الناموس فلا يجدها مُرَّة خلال الحرف القاتل بل عذبة ومروية خلال نعمة الصليب الخشبة المحيية[308]

  1. إيليم: اسم عبري يعني أشجارًا ضخمة مثل السنديان والنخيل والبطم. تُعرف حاليًا بواحة وادي غرندل، على بعد “63” ميلاً من السويس، بها أشجار نخيل ونبات الطرفاء (عبل) وشجر السنط. عبر إليها الشعب القديم بعد مارة فوجدوا بها “12” عين ماء و”70″ نخلة (خر 15: 27؛ 16: 1)، فكان ذلك إشارة إلى انطلاق النفس من مرارة الناحية (مارة) إلى الحياة الإنجيليّة الغنيّة خلال الاثني عشر تلميذًا والسبعين رسولاً. إنها رحلة النفس من حرفيّة الناموس المُرَّة إلى عذوبة الفهم الروحي الإنجيلي. فلا يكفي للإنسان أن يشرب من مياه الناموس حتى بعد تحوله إلى ماء حلو خلال خشبة الصليب إنما يلزمه أن ينهل من المياه الإنجيليّة الرسوليّة ويتمتع بالطعام الجديد[309]
  2. شواطيء بحر سوف: “ارتحلوا من إيليم ونزلوا على بحر سوف” (ع 10). قلنا أن سوف تعني “قصب الغاب”، لأن المنطقة الشماليّة للبحر من جانب مصر كان يمثل مجموعة من المستنقعات يكثر حولها قصب الغاب.

إذ بلغ الشعب إيليم وتمتعوا بالحياة الإنجيليّة الرسوليّة التزموا ألاَّ يعبروا بحر سوف مرّة أخرى بل أن ينزلوا على شواطئه. إنهم دخلوه مرة واحدة إشارة إلى المعموديّة التي لن تتكرر حتى إن أنكر المؤمن إيمانه وعاد مرة أخرى بالتوبة، فإنه لا ينزل إليها بل ينزل إلى جوارها خلال التوبة ليستعيد عمله فيها. لهذا يقول الرسول بولس: “لأن الذين استُنيروا مرة (نالوا المعموديّة التي هي سرّ الاستنارة) وذاقوا الموهبة السماويّة وصاروا شركاء الروح القدس، وذاقوا كلمة الله الصالحة وقوات الدهر الآتي، وسقطوا لا يمكن تجديدهم (أي لا تُعاد معموديتهم التي هي سرّ تجديد الطبيعة) أيضًا للتوبة، إذ هم يصلبون لأنفسهم ابن الله ثانية ويشهرونه” (عب 6: 4-6). يقول القدِّيس كيرلس الأورشليمي: [إننا لا ننال المعموديّة مرتين أو ثلاثة… لأنه يوجد “رب واحد وإيمان واحد ومعمودية واحدة” (أف 4: 5)، فلا تُعاد إلاَّ معموديّة الهراطقة إذ لا تحسب معموديّة[310]]. ويقول العلامة ترتليان: [لا يمكن إعادة السرّ[311]].

إنهم يعسكرون على شاطيء البحر يذكرون عمل الله العجيب خلال المياه المقدسة، كيف خلصهم من فرعون وحطم الشيطان وكل قواته الشريرة. هذا والوقوف بجوار البحر يُذكِّرهم أيضًا بالأمواج الشديدة التي يتعرضون لها خلال رحلتهم لكنهم لا يخافونها بل يذكرون خلاصهم.

  1. بريّة سين: وهي غير بريّة صين. وهي غالبًا كلمة أكاديّة مشتقة من إله القمر “سين”. غالبًا مكانها الآن دبة الرملة وهي كومة رمال في الجنوب الغربي من الداخل عند شبه جزيرة عند سفح جبل التيه. فيها أنزل الله المن للشعب لأول مرة.

يرى العلامة أوريجينوس أن “سين” تعني “عليقة” أو “تجربة”، وهو يربط بين المعنيين معًا. فإذ ينزل الإنسان إلى شواطيء بحر سوف يتأمل أعمال الله معه خلال مياه المعموديّة إنما يذكر العليقة التي تشير إلى التجسد الإلهي والصلب والقيامة فينفتح أمامه الرجاء في الخيرات الحقيقيّة، إذ يقول العلامة: [يبدأ الرجاء في الخيرات الحقيقيّة يتبسم لك. لكن من أين يأتي هذا الرجاء؟ إنه في العليقة التي ظهر فيها الرب وتحدَّث مع موسى، وكان ذلك أول ظهورات الله لبني إسرائيل[312]]. ولما كانت “سين” تعني أيضًا “التجربة” فإننا إذ نتطلَّع إلى العليقة يلزمنا أن نميز بين الرؤيا الحقيقيّة التي من الله والرؤيا المخادعة التي يجربنا بها الشيطان، هذا الذي يُحوّل شكله إلى ملاك نور ليخدعنا (2 كو 11: 4). ولهذا عندما رأى يشوع بن نون رؤيا، سأل في الحال: “هل لنا أنت أو لأعدائنا؟” (يش 5: 13). كأن من يبلغ هذه المحطة الثامنة يلزمه أن يحمل روح التمييز ليتقبل الرؤى الإلهيّة ويفرزها، فلا يسقط في تجارب إبليس وفخاخه.

  1. دُفقة: اسم عبراني غالبًا يعني “سوق المواشي”، وهي في الطريق بين البحر الأحمر ورفيديم، ربما في سرابية الخادم أو بجوار وادي المغارة[313]. يرى العلامة أوريجينوس أن “دُفقة” تعني في العبريّة “صحة”، فإن النفس التي تدخل إلى بريّة سين وتُمحص بالتجارب ويكون لها روح التمييز الذي يفرز ما هو لله مما هو من الشيطان تُشفى من كثير من الأمراض الروحيّة وتتمتع بالصحة. حقًا إن لكثير من أمراضنا الروحيّة إنما هو ثمرة عدم تمييزنا الروحي.

في دُفقة تدرك النفس مسيحها كطبيب لها فترنم، قائلة: “باركي يا نفسي الرب، وكل ما في باطني يبارك اسمه القدوس… الذي يغفر لك ذنوبك، الذي يشفي كل أمراضك” (مز 103: 1-3).

  1. ألوش: بالقرب من رفيديم، يرى العلامة أوريجينوس أنها تعني “أعمال”. فإذ تدخل النفس إلى دُفقة أي إلى الصحة الروحيّة، وتُسبح الرب الشافي أمراضها تنطلق للعمل الروحي بفرح بلا ملل، فيقال للمؤمن: “لأنك تأكل تعب يديك، طوباك وخير لك” (مز 128: 2).
  2. رفيديم: اسم عبري يعني “متسعات[314]”، تقع بين بريّة سين وسيناء (خر 17: 1، 19: 2). لم يكن فيها ماء فتذمر الشعب على موسى الذي بأمر إلهي ضرب الصخرة بالعصا مرتين فأفاضت ماءً (خر 17: 5-6). وفي رفيديم تمت المعركة ضد عماليق فكان إذ يبسط موسى يديه يغلب شعبه، وإذ يخفضهما ينغلب (خر 17: 8-13). وإليها جاء حمو موسى وسجد للرب مع شيوخ إسرائيل (خر 18: 1-12)، الأمور التي سبق الحديث عنها في دراستنا لسفر الخروج. أما عن موقعها فيُحتمل أن يكون وادي رفايد شمال غرب جبل موسى. هناك يتصل وادي ردوا، وهو مجرى ماء بارد بوادي رفايد حيث توجد واحة عند سفح جبل رفايد[315].

أما التفسير الرمزي لرفيديم ففي رأي أوريجينوس تعني “مديح التمييز”، قائلاً: [من الصواب أن يتبع الأعمال المديح، ولكن أي مديح هو هذا؟ إنه مديح بروح التمييز. فإن النفس تصير مستحقة للمديح حينما يكون لها تمييز صالح، تمييز جيد فتحكم في كل شيء ولا يحكم فيها أحد (1 كو 2: 15)].

  1. بريّة سيناء[316]: كلمة “سيناء” مأخوذة عن الكلمة الأكاديّة “سين” إله القمر. ويُلاحظ أن كلمة “سيناء” تُطلق بصورة أعم على بريّة سيناء كما على جبل سيناء الذي يسمى أيضًا جبل حوريب. تبعد هذه البريّة المحيطة بالجبل عن قادش برنيع مسيرة “11” يومًا عن طريق جبل سِعِير (تث 1: 2). هذه البريّة متسعة تكفي أن يعسكر فيها الشعب عند سفح الجبل (خر 19: 20)، وهي ملاصقة للجبل، يمكن للجبل أن يلمسه الشعب (19: 12)، ويمكن للمعسكر أن يرى قمته (19: 16، 18، 20). على هذا الجبل استلم موسى الوصايا العشر وعند سفحه تم العهد بين الله وشعبه (خر 20: 1- خر 24: 8). لم يذكر فيما بعد الكتاب أي زيارة لهذا الجبل سوى هروب إيليا إليه عندما هددته إيزابل الشريرة (1 مل 19: 8).

هناك نظريات كثيرة بخصوص جبل سيناء، فالبعض يراه جبل سريال في وادي فيران، يرجع إلى عهد يوسابيوس المؤرخ، يمتاز بأنه جبل منعزل وعظيم جدًا، يبلغ ارتفاعه “6758” قدمًا، يُرى من مسافة بعيدة، لكن ليس حوله بريّة تتسع لمعسكر الشعب. أما الرأي الأخر فيرجع إلى جوستنيان، حيث يرى أن جبل موسى هو جبل سيناء وهو شديد الانحدار، في أسفله يوجد وادي الراحة الذي يبلغ مساحته حوالي أربعة أميال مربعة تكفي للمعسكر. لهذا الجبل أهميته العظمى فهو الجبل الذي تقدس بلقاء الله مع موسى على قمته ليهبه الوصايا العشر، وفيه وحوله نشأت عدة كنائس مسيحيّة، خاصة دير سانت كاترين الغني بمخطوطاته الأثريّة. في هذا الدير اكتُشفت النسخة السينائية للكتاب المقدس والتي ترجع للقرن الرابع الميلادي.

على أي الأحوال إن رجعنا إلى التفسير الرمزي يقول أن النفس بعد أن تدخل رفيديم وتستحق المديح خلال روح التمييز الصالح يمكنها أن تصعد على جبل سيناء لتلتقي مع إلهها في خلوة مقدسة تتسلّم فيها وصيته وتتعرف على أسراره، وتتمتع بانعكاسات مجده عليها.

  1. قبروت هتأوة: موضع ما بين جبل سيناء وحَضَيْروت، على بعد “15” ميل شمال شرقي شيناء. فيها اشتهى الشعب اللحم فأرسل الله لهم السلوى ليأكلوا لحمًا شهرًا كاملاً، وإذ أكلوا بشهوة ضربهم بالوبأ.

“قبروت هتأوة” تعني “قبور الشهوة” أو “قبور الشهوانيّين” (عد 11: 34). يقول العلامة أوريجينوس: [إنها بلا شك الموضع الذي تدفن الشهوات وتبطل، فتنطفيء الرغبات الشريرة كلها، ولا يشتهي الجسد ضد الروح (غل 5: 17) بل نموت عن الناموس بجسد المسيح (رو 7: 14)].

  1. حَضَيْروت: ربما هي عين خضراء التي تبعد حوالي “36” ميلاً شمال شرق جبل سيناء، هناك تذمرت مريم وهرون على موسى حيث صارت برصاء (عد 12).

كلمة “حَضَيْروت” تعني “استقرار”، ويرى العلامة أوريجينوس أنها تعني “بناء كامل (مستقر)” أو “تطويب”، لهذا يقول: [لاحظ أيها المسافر تتابع تقدم الرحلة، فإنك إذ تقبر شهوات الجسد وتسلّمها للموت تبلغ عظمة الموضع (الاستقرار) وتنال تطويبًا. حقًا طوبى لنفس التي لا تقهرها أي رذيلة جسديّة[317]].

يرى البعض أنها تعني “ديار” أو “حظائر”، وهو ذات المعنى “استقرار”، فإن النفس لا يمكن أن تستقر وتشعر بالراحة كمن في داره آمنًا ما لم يقبر أولاً بالروح القدس شهوات الجسد وقتلها بالصليب!

15: رِثمة: اسم عبراني يعني “رِثمة” وهو نبات من الشيح ينمو في المناطق الصحراويّة، يؤكل جذوره في المجاعات كما تُستخدم جذوعه وجذوره في صنع الفحم (مز 120: 4). ويرى العلامة أوريجينوس أن الكلمة تعني “رؤيا متممة”، فالنفس التي تقبر الشهوات الجسدانيّة وتستحق التطويب والاستقرار تتمتع برؤيا روحيّة سليمة، تتعرف على أسرار التجسد والتدبير الإلهي بطريقة كاملة وعميقة.

16: رِمُّون فارَص: لعلها “نقب البيار”. أما معناها فهو “رمانة الشق أو الثغرة”، أي الرمانة التي تنبت على شق أو ثغرة. ويرى العلامة أوريجينوس أن “فارص” هنا تعني “قطع” أو “شق” بمعنى أنه يليق بالنفس بعد عبورها على رِثمة وتمتعها بالرؤى المتممة أن تقطع الأمور العلويّة السماويّة عن الأمور السفليّة الأرضيّة، تفصل الأبديات عن الزمنيات.

  1. لِبْنَة: تعني “أبيض”. إذ تدخل النفس إلى رِمُّون فارَص وتنعم بالفصل بين ما هو سماوي وما هو أرضي تختار ما هو سماوي فتنعم بالبياض رمز السماء. فقد رأى يوحنا الحبيب السيد المسيح السماوي رأسه وشعره أبيضان كالصوف الأبيض كالثلج (رؤ 7: 14)، ورآه دانيال في ثياب بيض كالثلج (دا 7: 2) وأيضًا في تجليه “صارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت 17: 2). وفي أحداث القيامة والصعود ظهرت الملائكة بثياب بيضاء (أع 1: 10). وفي الملكوت يظهر الغالبون بثياب بيضاء (رؤ 7: 9) هؤلاء الذين غسلوا ثيابهم وبيضوا ثيابهم في دم الخروف” (رؤ 7: 14). لهذا يقول دانيال النبي “تتطهرون فتبيضّون” (11: 35).

إذن الدخول إلى لِبْنَة هو قبول الحياة المقدسة السماويّة، ورفض الأمور الدنسة.

  1. رِسَّة: ربما كانت في قنديلة الجرافي بين قسيمة والعقبة، شمال غربي جبل روبسة النجين[318]. وهو اسم عبراني يعني “تحطيم أوندي أو مطر”، غير أن أوريجينوس يرى أنه يعني “تجربة منظورة”، هذا يعني المعنى القريب من “التحطيم”، كما يرى أنه يعني “مستحق للمديح”. لهذا يقول: [مهما تقدمت النفس فإن التجارب لن تفارقها. واضح أن التجارب تلحق بها كحارس ووقاية لا. فكما أن اللحم يفسد بدون الملح مهما كان نوع اللحم، هكذا تفسد النفس إن لم تملح بتجارب متواصلة، إذ بدونها تتهاون النفس وتتراخى. لهذا السبب قيل: “وكل قربانك من تقادِمك بالملح تُملِّحه” (لا 2: 13). لهذا أيضًا يقول الرسول بولس: “لئلا أرتفع بفرط الإعلانات أُعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا أرتفع” (2 كو 12: 7). هذه هي التجارب المنظورة التي تجعلنا نستحق المديح[319]].
  2. قُهَيْلاتة: يرجح أنها “قنتلة قراية” والتي تُدعى أيضًا “عجرود”. حيث توجد بها آبار وخزان ماء، بها ممر يقود إلى بئر معين[320].

“قُهَيْلاتة” اسم عبري يعني “مجمع” كما يعني “رئاسة” أو “عصا[321]”. كان دخول النفس إلى رَسَّة أي إلى التجارب لا يضعفها مادامت تحمل السمة السماويّة بل بالعكس يربطها بالأكثر بمجمع السمائيّين ويهبها سلطانًا أعظم، فتصير كملكة، يسيطر على القلب والفكر وكل الحواس، تقبل الفكر الذي تريده وتطرد ما تشاء، تتحكم في كل أعماقها الداخليّة بسلطان. إنها تمسك بعصا التي هي الصليب به تقول في قوة: “قد صُلب العالم لي وأنا للعالم” (غل 6: 14). إنها تسمع صوت عريسها يناجيها قائلاً: “جمُلتِ جدًا جدًا فصلُحتِ لمملكة وخرج لكِ اسم في الأمم لجمالك، لأنه كان كاملاً ببهائي الذي جعلته عليكِ يقول السيد الرب” (حز 16: 13-14).

في قُهَيْلاتة تدخل النفس إلى مجمع السماء كملكة صاحبة رئاسة ومعها عصا عريسها، سرّ قوتها وجمالها، لتملك معه إلى الأبد.

  1. جبل شافَر: يُحتمل أن يكون جبل عرايف الناقة، جنوب قادش. كلمة شافَر تعني “جمال” أو “أناقة”. فالنفس التي تدخل إلى قُهَيْلاتة وتُحسب عضوًا في مجمع السمائيّين وتُوهب سلطانًا وعصا الصليب إنما تدخل إلى الجمال السماوي والأناقة على مستوى فائق. إنها تسمع صوت عريسها السماوي “ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة” (نش 1: 15)، مؤكدًا إعجابه بها.

ويرى العلامة أوريجينوس أن شافَر تعني “أصوات أبواق”، فإذ تملك النفس مع السيد المسيح إنما تمسك بأصوات البوق التي تشير إلى كلمة الله، التي هي سرّ نصرتها وبهائها السماوي. إنها تضرب بالكلمة الإلهيّة أصوات بوق الغلبة والفرح لكي تُعيِّد عيدًا سماويًا بلا انقطاع (عد 10).

  1. حَرادة: ربما في وادي لوسان[322]، أو وادي العين التي تبعد مسيرة يوم عن عين حضيرة.

حَرادة كلمة عبريّة تعني رعب أو خوف، فإن الإنسان مهما بلغ في تقدمه الروحي، حتى إن بلغ جبل شافَر، فصار له جمال السيد المسيح الروحي لكنه ينبغي أن يسلك في مخافة الرب، مكملاً خلاصه بخوف ورعدة. يرى العلامة أوريجينوس أن كلمة حَرادة تعني “يجعله مستحقًا”، بهذا فإن من بلغ جبل شافَر بأبواق كلمة الله يستحق الإكليل.

  1. مَقْهَيْلوت: ربما تكون هي بعينها قُهَيْلاتة عادوا إليها من جديد أم بلدة مشابهة في الاسم، إذ يرى البعض أنها أيضًا تعني “مجامع” ويرجحون أنها قنتلة قراية والتي تدعى عجرود[323]!

لعل العلامة أوريجينوس قد رأى أنها عودة للجماعة إلى ذات البلد الأولى حتى رأى فيها المعنى الرمزي “منذ البدء”، مع أن مَقْهَيْلوت تعني “مجامع”، قائلاً أن من يميل إلى التأمل في كلمة الله “جبل شافَر” ويتمسك بأبواقها ليغلب يلزمه أن يتأمل فيمن كان في البدء، أي في الله الكلمة ولا يتغرب عنه قط.

  1. تاحَت: اسم عبراني يعني “ما هو تحت”، فمن يريد أن يتمتع بمَقْهَيْلوت أي بالمجامع المقدسة متأملاً في ذاك الذي من البدء، يلزمه أن يكون آخر (تحت) الكل وخادمًا للجميع. بهذا يحيا في سلام مع الله والناس.

يرى العلامة أوريجينوس أن تاحَت تعني “التثبيت”. من يتضع “ينزل إلى تحت” يتأمل الذي كان من البدء لا تأملاً نظريًا، بل خلال الثبوت فيه (يو 15: 4).

يظن أن تاحَت موقعها عند جبل التيه.

  1. تمارح: غالبًا بين عين الحضرة والقسيمة، وكلمة “تارح” كلمة عبريّة تعني “وعل” أو “نوع من العنز الجبلي”. إلاَّ أن العلامة أوريجينوس يرى أنها تعني “الدهش” أو “الاختطاف بالروح”. وكأن ثبوتنا في السيد المسيح “كلمة الله” يدخل بنا إلى إدراك أسراره الإلهيّة غير المنطوق بها ولا مدركة، فندخل إلى مدينة الدهش، حيث تُختطف أرواحنا إلى حجاله السماوي.
  2. مِثْقة: ربما وادي أبو تقية الذي ينزل من نقب العرود إلى وادي الجرعفي. “مِثْقة” كلمة عبرانيّة تعني “حلاوة”، وكأنها تشير إلى عذوبة المسيح يسوع وحلاوته خلال ثبوتنا فيه.

يرى العلامة أوريجينوس أنها تعني “الموت الجديد”. فإن مدينة الدَهَش أو اختطاف الروح في الإلهيات تدفعنا بالأكثر إلى التمتع بموت السيد المسيح كموت جديد ليس ثمرة الخطيّة التي ارتكبناها أو ورثناها بل ثمرة الاتحاد مع السيد المسيح المصلوب والقائم من الأموات.

  1. حَشْمونة: غالبًا هي وادي الهشيم. كلمة حَشْمونة تعني “خصب”. فإن كانت مِثْقة تعني العذوبة في المسيح يسوع فإن حَشْمونة تعني خصوبة الحياة وإثمارها فيه.

يرى العلامة أوريجينوس أن حَشْمونة تعني “عظام”، فإن كانت مِثْقة في رأيه هي “الموت الجديد”، فإنه بموتنا مع المسيح لا نخاف ولا نضطرب فإن واحدة من عظامنا (الروحيّة) لا تنكسر.

  1. مُسِيروت: موضعها غير معروف، لكنها بجوار جبل هور على حدود أدوم. كلمة “مُسِيروت” تعني “رباطات” أو “قيود”، لهذا يرى العلامة أوريجينوس أن من يدخل مدينة مُسِيروت يقيد العدو إبليس ويطرحه، فلا يكون له فينا موضع (أف 4: 27).
  2. بني يَعقان: أي أبنا يَعقان، وهي قبيلة حوريّة من جبل سعير، اغتصبها الأدوميّين (تك 36: 20-21، 27؛ 1 أي 1: 38، 42؛ تث 2: 12). في أيام الخروج كَوَّن بني يَعقان قبيلة احتلت إقليمًا على حدود أدوم بالقرب من جبل هور حيث مات هرون، وقد عسكر بنو إسرائيل عند بعض آبارهم.

يرى العلامة أوريجينوس أن يَعقان تعني “ينابيع” أو “تنقية”، فإذ يطرح إبليس مقيدًا ولا يكون له فينا موضع، يلزمنا أن ننهل بالأكثر من ينابيع الله النقيّة، أي من كلمته أو وصيته التي تنقي أعماقنا الداخليّة.

  1. حور الجِدْجاد: أي “كهف الجِدْجاد”، وهي الجدجود (تث 10: 6-7)، ربما تقع على وادي غدغودة أو غداغد التابع لوادي جيرافي أو جيرعفي شمال قنتيلة الجيرافي.

يرى العلامة أوريجينوس أن “جِدْجاد” تعني “انقباض” أو “تجربة”. إذ تتخلل الدجلة مواقع كثيرة تمثل أنواعًا من التجارب بدونها لا تتقدم النفس في الفضيلة ولا تتزين بأكاليل المجد. لهذا يقول: [التجارب قوة للنفس وسور واقٍ لها، تختلط بالفضائل جيدًا، بدونها لا تكون الفضائل جميلة أو كاملة. ففي تقدمنا نحو الفضائل كثيرًا ما نجد محطات متنوعة للتجارب[324].

  1. يُطْبات: ربما تكون “الطابة”، تبعد حوالي 22 ميلاً شمال العقبة، والموضع به جداول مياه غزيرة (تث 10: 7). كلمة ” يُطْبات” عبريّة تعني “الطيبات”، فإنه كلما دخلنا مدينة تجارب “الجِدْجاد” ننعم بخيرات أكثر وصلاح، وتتحول مرارة التجربة إلى لذة نصرة في المسيح يسوع ربنا.
  2. عَبْرونة: وهي واحة تسمى حاليًا عين دفيه تبعد سبعة أميال ونصف شمال عِصْيون جابَر. كلمة “عَبْرونة” تعني “عبور” أو “ممر”. فإن النفس التي تتمتع بالخيرات الروحيّة (يُطْبات) يلزمها أن تكون في حالة عبور مستمر، فتجتاز من خير إلى خير أعظم، وترتفع من مجد إلى مجد بواسطة روح الله القدوس.
  3. عِصْيون جابَر: مدينة تقع على الطرف الشمالي لخليج العقبة بالقرب من إيلات وربما من غربها (تث 2: 8؛ 1 مل 9: 26، 10: 22، 22: 48؛ 2 أي 8: 17). يظن أنها تل الخليفة، تبعد 500 ياردة من ساحل البحر على منتصف الطريق بين العقبة والطرف الشرقي من خليج العقبة، ومرشراش على الطرف الغربي، وهي أسفل منحنى يميل على الجانب الشرقي من تلال أدوم. كانت مركزًا هامًا لتجارة الحديد والنحاس (تث 8: 9)، بنى فيها سليمان الحكيم أسطوله البحري مستغلاً موقعها الجغرافي، لكن أدوم استولت عليها فيما بعد، ثم عاد الملك أمصيا فاحتلها منهم وبنى مرفأ إيلات[325](2 مل 14: 22؛ 2 أي 26: 1-2).

أما من الناحية الرمزيّة فيرى العلامة أوريجينوس أنها تعني “مقاصد الرجال”. فإنه بدخولنا عَبْرونة أي قبولنا حياة العبور المستمر ننطلق من مرحلة الطفولة إلى نضوج الرجال، أو الرجولة الروحيّة. فيصير لنا مقاصد الرجال ومشوراتهم التي قيل عنها: “المشورة في قلب الرجل مياه عميقة وذو الفطنة يستقيها” (أم 20: 5). كما يقول الرسول “لما كنت طفلاً كطفل كنت أتكلم، ولكن لما صرت رجلاً أبطلت ما للطفل” (1 كو 13: 11).

  1. بريّة صين: ملاصقة للحدود الجنوبية لكنعان، وهي حد لأدوم غربًا وليهوذا إلى الجنوب الشرقي (يش 15: 1-3)، وكانت جزءًا من بريّة فاران أو كانت قادش حدًا بينهما. وهي تختلف عن بريّة سين[326]. تعني أيضًا “تجربة”. هكذا ننطلق في رحلتنا من تجربة إلى تجربة، هذه التي يدخلها من له مقاصد الرجال فيزداد نضوجًا وبهاءً. إنه يشبه الإناء المكرم الذي يدخل النار فيزداد نقاوة وبهاءً، إذ يقول العلامة أوريجينوس: [الصائغ الذي يريد أن يصنع إناءً نافعًا يقربه كثيرًا من النار ويشكله بالمطرقة، ويهذبه كثيرًا لكي يجعله أكثر نقاوة، ويهبه الشكل الجميل الذي يقصده الفنان[327]].
  2. قادَش: اسم سامي معناه “مقدس”. تسمى أيضًا “قادش برنيع”. وهي واحة هامة في شمال بريّة سيناء، عند طرف بريّة صين (عد 20: 1) إلى الجهة الغربيّة من وادي العربة قرب التخم الجنوبي لأرض سبط يهوذا أو الحد الجنوبي لبني إسرائيل، على مسيرة 11 يومًا من حوريب في اتجاه جبل سعير وعلى طريقه. وهي ليست بعيدة عن جبل هور وتخم أدوم. لعبت دورًا رئيسيًا في الرحلة بعد جبل سيناء مباشرةً. ففي قادَش حدث الآتي:

أ. تذمر الشعب على موسى بسبب عطشهم فضرب الصخرة بالعصا مرتين (عد 20).

ب. حدث عصيان قورح وجماعته (عد 16).

ج. موت مريم أخت هرون (عد 20: 1).

د. أرسل موسى الجواسيس إلى كنعان، وجاءوا إلى الجماعة يقدمون عنقود العنب محمولاً على خشبة عربونًا للأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً (32: 8، تث 1: 20).

هـ. أرسل موسى رسلاً إلى أدوم يستأذنه في عبور أرضه إلى بلاد موآب (عد 20: 14-21).

و. قضى الشعب أكبر فترة في الرحلة في هذا الموقع لهذا يرى البعض أن الخيمة كانت منصوبة في قادَش وكانت الجماعة تنتقل حولها وتعود لأجل العبادة والقضاء فيها.

يرى البعض أنها عين قديس على مسافة 50 ميلاً من بئر سبع جنوبًا، والبعض يرى أنها عين قضيرات القريبة منها والأكبر من الأولى.

من الناحية الرمزيّة فإن قادَش وهي تمثل حياة القداسة ليس لها موقع إلاَّ عند بريّة صين أي بريّة التجارب، فخارج الألم لا يدخل الإنسان إلى الحياة المقدسة. في هذه الحياة نرتوي بمياه الصخرة الحيّة التي تفيض لنا بالروح القدس خلال العصا (الصليب)، وفيها يتبدد كل عصيان وعجرفة لقورح وجماعته، ونتقبل الموت (مريم) بلا حزن، ونتمتع بعربون الملكوت (عنقود العنب)، وندخل في حرب مع الشيطان (أدوم)…

  1. جبل هور: عند حدود بلاد أدوم، مات عليه هرون وهناك دُفن (عد 20: 24-29، 33: 37-39، تث 32: 50). كان التقليد السائد على الأقل حتى أيام يوسيفوس[328] أن جبل هرون هو جبل هور، وهو يقع على منتصف الطريق بين خليج العقبة والطريق الجنوبي من البحر الميت، وهو صخر رملي يبلغ ارتفاعه 4780 قدمًا، البتراء قريبة من نحو الغرب. إلاَّ أن بعض الدارسين المحدثين يرون أن جبل هور هو جبل نضيرة على بعد 15 ميل شمال شرقي قادَش على الطريق بين قادَش وموآب. ويُعلّلون ذلك أن جبل هرون وسط أدوم وليس على حدودها، الأمر الذي يصعب فيه على الشعب في ذلك الوقت أن يعبروا إليه. هذا وارتفاع جبل هرون لا يعطي الفرصة للجماعة معاينة موته (عد 20: 22-29).

أما كلمة “هور” فتعني “جبل”، وكأن هرون الذي يصعد إلى هذا الجبل ليموت يرتفع ليرقد ويستريح دون أن يهتم باسم الموقع. يكفيه أن يرتفع ولا ينحدر كقورح وجماعته.

من يدخل قادَش أي الحياة المقدسة يشتهي أن يرتفع على جبل هور، ليستريح في حضن الله إلى الأبد.

  1. صَلْمونة: لعلها شرقي جبل هرون عند بئر مدكور. كلمة “صَلْمونة” تعني “ظلّ الملك”، فإن من يرتفع على جبل هور خلال حياته المقدسة في الرب لا يسقط في الكبرياء والتشامخ بل يعيش مستترًا في ظل الملك السماوي. لقد تمتعت القدِّيسة مريم بهذا الظل إذ سمعت البشرى “قوة العلي تظللك” (لو 1: 35). هذا ما تشتهيه كل نفس، قائلة: “تحت ظله اشتهيت أن أجلس” (نش 2: 3).
  2. فُونُون: يعتقد أنها تقع في الجانب الشرقي من العربة نحو خمسة أميال ونصف شرقي خربة نحاس، وهي منطقة تشتهر بالنحاس والحديد. ويرى العلامة أوريجينوس أن كلمة “فُونُون” تعني “حفظ اللسان”. لهذا فإن من يرتفع إلى جبل هور ويجلس تحت ظل الملك نفسه يلزمه أن يحفظ لسانه مقدسًا، يتكلم بالحق ولا ينطق بكلمة بطالة.
  3. أوبوت: تعني “قرب الماء”، تقع بالقرب من حدود موآب الجنوبيّة الشرقيّة، ربما عند عين الويبة، لعل قرب المياه تشير إلى شربنا من مياه الروح القدس التي تسندنا دومًا في رحلتنا.
  4. عَيي عَباريم: “عَيي” كلمة موآبيّة تعني “خراب”، وهي على حدود أرض موآب الجنوبيّة، وهي نفسها عييم، ربما هي مخاي شرق ذات الرأس بسبعة أميال.

يرى العلامة أوريجينوس أن “عَيي عَباريم” تعني “عمق العبور” أو “هوة العبور”. فإننا إذ نقترب إلى نهاية الرحلة ندخل إلى الأعماق في أحضان أبينا إبراهيم الذي يقول للأشرار “بيننا وبينكم هوة عظيمة” (لو 16: 26). في هذا الحضن الأبوي تستريح النفس بعبورها الدائم إلى أعماق الحياة الأخرى العظيمة.

  1. ديبون جاد: سبق لنا الحيث عن ديبون في الأصحاح الثاني والثلاثين.

إن كانت “ديبون” عند العلامة أوريجينوس تعني “خلية” فإن النفس الواعية كلما اقتربت من العبور الأبدي تزداد نشاطًا وجديّة فتكون كخليّة النحل التي لجاد (الجاد في حياته).

  1. عَلْمون دِبْلاتايم: أي “نعلم أن التين قد ذبل”. هذه هي المحطة قبل الأخيرة وهي بين نهر أرنون وجبال عَباريم، ربما كانت هي نفسها بيت دَبْلَتايم (إر 48: 22)، ويرجح أنها دليلات الغربيّة على بعد ميلين ونصف ميل شمال شرقي لبّ.

إننا إذ ندخل هذا الموقع نتحقق أن الألم قد صار كشجرة التين التي ذبلت. ندرك بحق “باطل الأباطيل الكل باطل وقبض الريح” (جا 1). لهذا لا نتستر بعد بأوراق التين كأبينا آدم بل نتقبل ذبيحة السيد المسيح الذي تستر ضعفنا وتنطلق بنا إلى الميراث الأبدي.

  1. جبال عَباريم أمام نَبو: سبق الحديث عنها في الأصحاح الثاني والثلاثين. إنها المرحلة الأخيرة حيث نقف مع موسى النبي على جبال العبور، ونرى كنعان أمامنا فنشتهي الانطلاق لننضم مع جماعة القدِّيسين الذين رقدوا في الرب.

هذه هي رحلة النفس من رعمسيس حيث الاضطراب والعبوديّة إلى جبل عَباريم حيث تتضح رؤيا كنعان السماويّة.

جـ. الاستعداد للعبور:

انتهت الرحلة إلى جوار الأردن، النهر المقدس، الذي فيه حلّ السيد المسيح ليعمد الكنيسة واهبًا إياها روح النبوة، مقدسًا إياها عروسًا له، وهيكلاً لروحه القدوس.

ختم موسى النبي بتشديد الرب في عدم ترك الوثنيّين وسطهم حتى لا تتسلل إليهم العبادة الوثنيّة، وإلاَّ صار هؤلاء كأشواك في أعينهم ومناخس في جوانبهم وسبب مضايقات مستمرة، بل أن الله نفسه يفعل بهم ما أراد أن يفعله بالأشرار.

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى