تفسير سفر الأمثال ١٠ للقمص تادرس يعقوب

القسم الثاني

 وصايا موجهة إلى الجميع

أمثال 10-20

وصايا الحكمة

في الأصحاحات التسعة السابقة يدعونا سليمان الحكيم للتعرف على الحكمة وبركاتها، ويسألنا أن نطلبها لكي نقتنيها بكونها حكمة الله، أو أقنوم الحكمة الإلهي، يسكن فينا ويعمل بنا، ويدخل بنا إلى الأبدية. الآن يقدم لنا تعاليم الحكمة أو وصاياها، من جوانب كثيرة، قد تتكرر بعض الأمثال أو تتشابه، وذلك لتأكيد أهميتها، أو لإبراز جوانب مختلفة لموضوع واحد.

يُمكن أن نُعطي العناوين التالية للأصحاحات 10-20[276].

  1. وصايا الحكمة عن مكافآت الحياة الساميةص 10.
  2. وصايا الحكمة عن طرق البرّ مملوءة أمانًاص  11.
  3. وصايا الحكمة عن السلوك المتناقض ص 12.
  4. وصايا الحكمة عن سعادة الحياة المستقيمة  ص 13.
  5. وصايا الحكمة عن مخافة الرب  ص 14.
  6. وصايا الحكمة عن القلب الفرح   ص 15.
  7. وصايا الحكمة من العناية الإلهية   ص 16.
  8. وصايا الحكمة عن بيت المحبة ص 17.
  9. وصايا الحكمة عن العزلة المقدسة والعزلة الشريرةص 18.
  10. وصايا الحكمة عن عظمة السلوك بالكمال ص 19.
  11. وصايا الحكمة عن وسائل الحياة وغايتها   ص 20.

الأصحاح العاشر
مكافآت الحياة السامية
مقابلة بين الحكيم والجاهل

في الأصحاحات 10-25 تكاد كل آية تتحدث عن موضوعٍ مستقلٍ، غير أننا نجد في الأصحاح العاشر مقابلة بين الإنسان الحكيم والإنسان الجاهل، وبين البار والشرير، والمجتهد والكسلان، وبين المحبة والبغضة، واللسان الناطق بالحق والناطق بالأكاذيب.

رأس الحكيم البار يُتوج ببركات سماوية وأرضية، يترك وراءه ذكريات مباركة. أما الشرير فطريقه يصب على رأسه العار، وبعد موته يصير موضع سخرية الكثيرين.

ركز الحكيم في هذا الأصحاح على دور اللسان الذي بدون تقديسه يفقد الإنسان كل تدين حقيقي.

واضح في هذا الأصحاح تأثر سليمان الحكيم بالبيئة الزراعية التي عاش فيها، فإن الطبيعة تسند المشتاق للحكمة على التمتع بها، وإن كانت الحكمة هبة إلهية مجانية.

في [ع 5] يرى الحكيم في الجاهل إنسانًا كسولاً، حتى إن بذر الحبوب واهتم بالزراعة، يأتي في وقت الحصاد وينام عِوض أن يجمع الحصاد.

وفي [ع 11] يرى في فم الصدِّيق الحكيم ينبوع حياة، يفيض بمياه حيّة تروي جنة الله التي في قلبه، وتحول براري الكثيرين الداخلية إلى فراديس تمتلئ بأشجار الروح المتنوعة.

وفي [ع 25] يرى الزوابع التي تعبر بالحقول، فالشرير الذي يترك حقوله مكشوفة وبيته بلا أساس يفقد كل شيء، أما الحكيم وقد سوّر أرضه بأشجار ضخمة، وأقام بيته على صخر الدهور، فلا تسبب له الزوابع قلاقل.

في [ع 31] يرى فم الصدِّيق شجرة تُثمر حكمة، فيعتز بها الكثيرون، أما لسان الجاهل فمملوء أكاذيب، أشبه بشجرة تستحق قطعها من جذورها.

يشير الحكيم إلى فضائل تسند الحياة وتنميها (1-14)، كما يكشف عن الحياة في مرتفعات السمو (15-32). فالحياة ثمينة للغاية يلزم أن نحوط بها لنحفظها مهما كلفتنا من الثمن، فقد سبق فقال: “فوق كل تحفظ احفظ قلبك، لأن منه مخارج الحياة” (4: 23). وقد وردت كلمة الحياة في العبرية 31 مرة في هذا السفر.

في مقارنته بين الحكيم والجاهل، أو بين الصدِّيق والشرير يُعالج سليمان كل جوانب حياة الإنسان وارتباطها بحكمته أو غباوته:

الأثر العائلي 1

“أمثال سليمان: الابن الحكيم يُسِر أباه،

 والابن الجاهل حزن أمه” [ع 1]

جاء في بدء الأصحاح العاشر “أمثال سليمان“، أو كما جاء في بعض نسخ الفولجاتا القديمة “الكتاب الثاني للأمثال“.

يعتبر البعض الأصحاحات السابقة (أمثال 1-9) أشبه بمقدمة للسفر، تكشف عن أهمية الحكمة وبركاتها.

في هذه الأصحاحات نصغي إلى الحكمة وهي تدعونا إلى الدخول في بيتها، والاتحاد معها، والحياة بها. فنستنير في كل تصرف، وتحت كل الظروف. كما تدعونا إلى عدم الإصغاء إلى الجهالة، لأنها مخادعة تنحرف بنا عن طريق الحق. لم تعالج الأصحاحات السابقة المشاكل التي تواجهنا في تفاصيلها، وإنما وضعت الخطوط العريضة، والروح التي نسلك بها. وقد ركزت بشيءٍ خاص على الشباب ليرتبطوا بالحكمة ويرفضوا الجهالة.

الآن يبدأ بالأصحاح العاشر، حيث يبدأ في تقديم الأمثال، وهي تتسم بصغر المثل، لكن له وزنه في حياة الإنسان، لذا يحتاج هذا القسم إلى قراءة هادئة ممتزجة بالصلاة مع الجهاد لممارسة الحياة الحكيمة.

يرى البعض أن صُلب السفر يبدأ بالأصحاح العاشر حيث يعالج هذا القسم بالأمثال المواقف التي يتعرض لها المؤمن. هذا ويرى البعض أن الكتاب المقدس ككل بكل أقسامه (الشريعة والتاريخ والحكمة والنبوات) تتناغم مع هذا القسم وترتبط به ارتباطًا وثيقًا، كما تقدم هذه الأسفار أمثلة عملية عبر التاريخ تكشف عن عمل حكمة الله فينا وغناها، وأمثلة عن رافضي الحكمة الملتصقين بإرادتهم بالجهالة.

من هو الأب الذي يُسر بابنه الحكيم؟ ومن هي الأم التي تحزن على الابن الجاهل؟

ا. حسب التفسير الحرفي يقصد الحكيم هنا الأب والأم حسب الدم، فإنهما ينظران في ابنهما رجاءهما في الحياة ليرثهما، لا في أموالهما وخبرتهما في الحياة فحسب، بل وشركتهما مع الله في المسيح يسوع بالروح القدس. لاشك سلوك الابن أو الابنة ينعكس على نفسية الوالدين، لكن حكمة الابن تملأ بالأكثر قلب الأب سرورًا، إذ يفتخر به، وربما يلجأ إليه كأخٍ صغيرٍ يشاركه المشورة، وقد يسلمه تدبير كل أمواله ببهجة قلب. أما جهل الابن أو الابنة فينعكس بالأكثر على الأم، لأنها أكثر عاطفية من الأب، ولا تحتمل هلاك أبنائها أو ضياعهم.

إن كان سليمان الحكيم يحدثنا عن الابن الحكيم الذي يجلب الفرح لأبيه، فإنه هو نفسه مثال لذلك (1 أي 22: 12؛ 2 أي 1: 7-12)، أما عن الأم التي تحزن لغباوة ابنها فمثال لذلك رفقة التي ذاقت المُر من غباوة ابنها عيسو (تك 26: 34-35، 27: 46).

ب. إذ يتقدم سليمان الحكيم في هذا السفر كأب يتحدث مع كل عضو في شعبه كابن له، فإن الأب والأم هنا هما كل إنسان يشعر بالتزام نحو المسئول عنهم، فإنه إن كان ملكًا أو رئيسًا أو مدرسًا لا يطلب أن يسيطر ويأمر وينهي، بل بالحب يقدم أبوة أو أمومة لكي يتمتع كل من حوله بالحياة الإيمانية الحكيمة.

ج. إن كان كل مؤمن في مركز قيادي يشعر بأبوة أو أمومة نحو من حوله، بالأكثر الأسقف والكاهن وقد تمتع بشركة كهنوت السيد المسيح الفريد، يحمل مع الرسول بولس أحشاءً ملتهبة حبًا لخلاص كل نفس والدخول بها إلى شركة الأمجاد السماوية.

V   كن مطيعًا لأُسقفك، ولترحب به كأب لنفسك… هذا وأقول أيضًا إن الأساقفة يلزمهم أن يعرفوا أنفسهم أنهم كهنة، وليسوا لوردات… إنها لعادة سيئة تنتشر في بعض الكنائس أن يلتزم الكهنة بالصمت في حضور الأساقفة[277].

 القديس جيروم

د. التعليم الإنجيلي الكنسي عمل أبوي، فيه يبذل الكاهن لا عصارة فكره وإنّما كل حياته من أجل الدخول بكل إنسان من فساد العالم إلى مجد أولاد الله. هذا ما عناه الرسول بولس بقوله: “أنا ولدتكم في المسيح يسوع بالإنجيل” (١ كو ٤: ١٥).

V      عندما يتعلّم إنسان من فم آخر يُقال عنه أنّه ابن ذاك الذي يعلّمه، ويُحسب الأخير أباه[278].

القدّيس إيريناؤس

V      الكلام ابن النفس، لهذا ندعو الذين يعلّموننا آباء لنا… ويُحسب الذي يتعلّم في خضوع الابن[279].

القدّيس إكليمنضس السكندري

هـ. كل مؤمن حقيقي، تحت كل الظروف، بالتغاضي عن عمره يحمل في أعماقه نوعًا من الأبوة أو الأمومة، فتشتهي نفسه أن ترى كل البشرية تتمتع بما يتمتع به من حياة إنجيلية مطوّبة.

و. أما ما هو فوق هذا كله فإن لنا الأب السماوي الذي يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1 تي 2: 4). إن كان الأب يشتهي أن يسعد ابنه، مقدمًا كل إمكانياته حتى صحته ووقته لأجل سعادته، فإن الأب من جانبه يسعد بنجاح ابنه. السعادة مشتركة بين الأب الحكيم والابن السالك بالحكمة. هكذا فإن الله مصدر الحكمة قدم حكمته (الابن) المتجسد مبذولاً من أجلنا، ليُقيم منّا أبناء حكماء، ويجد مسرّته فينا أن نصير أيقونته، ونسلك على مثاله بروح الحكمة. وكما يُسر الأب السماوي بابنه إن سلك بروح البنوة الحكيمة، فإن الكنيسة كأمٍ تحزن على كل نفسٍ تتسم بالجهل، لأنها في أُمومتها الحانية تود أن ترفع كل نفس بشرية إلى الأمجاد المُعدّة لها. الكنيسة التي تحملنا في أحشائها كأعضائها الذين يليق بهم أن يحملوا حكمتها متشبهين بالعريس حكمة الله نفسه، والمتمتع بشركة طبيعته.

بمعنى آخر فإن الحكيم، وإن كانت نفسه تفرح وتتهلل بعمل الله فيها واهب الحكمة، فإن رب السماء نفسه يفرح، كما يفرح قلوب أسرته وكل محبّيه، أما إن انحرف إلى الشر في غباوة، فيفقد فرحه الداخلي كما يُحزن قلوب الكثيرين. هكذا يستخدم سليمان الحكيم كل وسيلة ليحثنا على التمتع بالحكمة وترك الجهالة.

غنى الحكيم بالبرّ 2

ربما يقول قائل: إني أطلب ما لنفسي، لا يشغلني سرور أبي ولا يؤلمني حزن أمي. إني لست صغيرًا، أنا اهتم بما يسرني، لذلك يؤكد الحكيم أن كل ما يجمعه الإنسان في شره وغباوته لا ينفعه شيئًا.

“كنوز الشر لا تنفع،

أما البرّ، فيُنجي من الشر” [ع 2]

نصيب البار هو السعادة والحياة والشبع، أما نصيب عدم المؤمن فهو المرارة والموت والجوع. يعتبر هذا البرّ هو مقدمة لكل الفضائل المذكورة في هذا الفصل.

الثروة التي يقتنيها الإنسان بطريقة غير مشروعة لن تبقى، فإنها سرعان ما تختفي. وفي لحظات الموت لا تسند صاحبها.

قد يكون الشرير غنيًا، لكن كنوزه لا تُشبع أعماقه، ولا تهبه سلامًا داخليًا، فيشعر دائمًا بالعوز، أما البار فإنه وإن كان فقيرًا لكن الله يجعله غير محتاجٍ إلى أحدٍ أو إلى شيءٍ ما، بل يهبه شبعًا روحيًا ونفسانيًا مع حماية من الشر. البرّ ينجي صاحبه من الموت، إذ يصير بالنسبة له عبورًا إلى لقاءٍ مع الله وجهًا لوجه. فيرى المؤمن في برّ المسيح نصرة على الموت، وغلبة على الهاوية.

يحدثنا إرميا النبي عن الغني الشرير الذي يتكل على غناه، فيجمع ما استطاع بوسائل غير لائقة، فيقول: “حجلة تحضن ما لم تَبِضْ، مُحصل الغنى بغير حقٍ، في نصف أيامه يتركه، وفي آخرته يكون أحمق” (إر 17: 11). هكذا يحتضن الغني الغبي المال والممتلكات، الأمور التي وهبها الله للإنسان ليشاركه فيها إخوته، فيظنها ملكه دون سواه، يشقى ويخسر، وفي آخر حياته عندما يترك كل ما جمعه يكتشف أنه كان أحمق. أما الإنسان البار، فمهما عانى من متاعب وآلام في هذه الحياة، ينجو من الموت الأبدي.

تقدم لنا قصة أستير صورة عملية تتحقق عبر التاريخ، فهامان صاحب السلطان والغنى فقدَ كل شيء، وأحدق به الشر، بينما مردخاي التقي مجَّده الله في هذا العالم، ويتمتع بالأمجاد الأبدية.

V      “لا تنفع الكنوز الشرير” (راجع أم 10: 2) ماذا إذن، ألم يتجنب البعض الموت بدفع المال (كمن يدفع فدية فلا يُقتل أو يُحكم عليه بالموت)؟ بالتأكيد يحدث هذا. لكنهم لا يقدرون أن يتبرأوا من الخطية، وإنما بالحقيقة يعدون لأنفسهم حياة أشر من الموت. لذلك يلزمنا ألا نضع ثقتنا في الغنى بل في الفضيلة… أما البرً فليس فقط ينجي من يقتنونه، بل ويقود آخرين كثيرين لاشتهائه، وينقلهم على الدوام من الموت إلى الخلود الأبدي[280].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

V      إن كان إنسان يلقي بذاره في أرض مملوءة بالأشواك، وكثرة الحشائش، ومغطاة بجذامة بنفايات الحصاد، فإنه يتعرض إلى خسارة مزدوجة. فإنه يخسر بذاره الأولي، كما يعاني تعبًا كثيرًا. لذلك فلكي تزدهر البذرة الإلهية جيدًا فينا، لننزع أولاً من قلوبنا الاهتمامات العالمية والقلق غير النافع الذي يجعلنا نسعى أن نكون أغنياء، لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ، ولا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ” (1 تي 6: 7). لأنه أية منفعة من امتلاك الأشياء الزائدة؟ “كنوز الشر لا تنفع، أما البرّ فينجي من الموت” (أم 10: 2)[281].

 القديس كيرلس الكبير

شبعه 3

“الرب لا يُجيع نفس الصدِّيق،

ولكنه يدفع هوى الأشرار” [ع 3]

لا يسمح الرب لنفس الصدِّيق أن تموت جوعًا، لأنه هو الذي يقوتها، مقدمًا كلمته خبز الحياة. يقول المرتل: “كنت فتى والآن شخت، ولم أرَ صديقًا تُخليَّ عنه، ولا ذُرِّية له تلتمس خبزًا” (مز 37: 25).

ليس ما يُشبع قلب البار أو يُجيع قلب الشرير الإمكانيات المادية والنفسية والاجتماعية، أو الظروف المحيطة بكل منهما، وإنما يرتفع قلب المؤمن كما إلى المائدة السماوية، فتتهلل أعماقه وسط الضيقات التي تحل به، بينما تتحول أعماق الشرير إلى فراغٍ ليس ما يشبعه .

لقد تغنى رجال الله بهذا الشبع، كما حذروا الأشرار من حالة القحط والجوع والعطش التي تحل بهم، نذكر على سبيل المثال:

أما أنا فبالبرّ انظر وجهك، أشبع إذا استيقظت بشبهك (مز 17: 15).

يأكل الودعاء ويشبعون، يسبح الرب طالبوه، تحيا قلوبكم إلى الأبد (مز 22: 26).

لا يخزون في زمن السوء و في أيام الجوع يشبعون (مز 37: 19).

كما من شحم ودسم تشبع نفسي، وبشفتيّ الابتهاج يسبحك فمي (مز 63: 5).

طوبى للذي تختاره وتُقربه ليسكن في ديارك، لنشبعن من خير بيتك قدس هيكلك (مز 65: 4).

أكل الإنسان خبز الملائكة، أرسل عليهم زادًا للشبع (مز 78: 25).

اَشبعنا بالغداة من رحمتك، فنبتهج ونفرح كل أيامنا (مز 90: 14).

من طول الأيام أشبعه وأريه خلاصي (مز 91: 16).

الذي يُشبع بالخير عمرك، فيتجدد مثل النسر شبابك (مز 103: 5).

الساقي الجبال من علاليه، من ثمر أعمالك تشبع الأرض (مز 104: 13).

تشبع أشجار الرب، أرز لبنان الذي نصبه (مز 104: 16).

تعطيها فتلتقط تفتح يدك فتشبع خيرا (مز 104: 28).

تفتح يدك فتشبع كل حي رضى (مز 145: 16).

الذي يجعل تخومك سلامًا، ويشبعك من شحم الحنطة (مز 147: 14).

عين البخيل لا تشبع من حظه وظلم الشرير يضني نفسه (سيراخ 14: 9).

V      “ويشبعك من شحم الحنطة” (مز 147: 14). لاحظوا أنه لم يقل: “حنطة” فقط، بل “شحم richestالحنطة”، مشيرًا إلى الوفرة العظيمة، أكثر الثمار وفرة. فعطايا الله هي هكذا كما ترون، سامية مزدهرة. يتحدث عنها هنا بأنها تهب شبعًا من أفضل أنواع الحنطة وبسخاء فائض، ليشير أنه ليس يعطيكم بل يشبعكم[282].

V      إنه لا يعطي مجرد الطعام، بل ما هو نافع لكل أحدٍ، وما هو موضع شهوة كل أحدٍ، وما هو مشبع لكل أحدٍ[283].

 القديس يوحنا الذهبي الفم

V      هل تخشى نقص ميراثك إن بدأت تعطي بسخاء منه؟ أين حدث أن عجزت مصادر شخص بار، وقد كتب: “الرب لا يُجيع نفس الصدِّيق” (أم 10: 3).

إيليا عالته الغربان في الصحراء.

وأُعدت وجبة طعام من السماء لدانيال وهو في الجب، عندما أُغلق عليه بأمر الملك ليكون فريسة للأسود، وأنت تخشى أن تعتاز إلى خبزٍ… لقد وبخ الرب بنفسه في الإنجيل الذين لهم شك في فكرهم، وإيمانهم ضعيف، قائلاٍ: “انظروا إلى طيور السماء، إنها لا تزرع ولا تحصد ولا تجمع إلى مخازن وأبوكم السماوي يقوتها، ألستم أنتم بالحري أفضل منها؟” (مت 6: 26).

يقوت الله الطيور، مقدمًا طعامًا يوميًا للعصافير، وللمخلوقات التي ليس لها إحساس بالإلهيات، فلا تحتاج إلى طعامٍ أو شرابٍ. ، فهل يمكن أن يعتاز مسيحي إلى شيء؟! هل يعتاز خادم الرب؟ هل يعتاز من يُمارس الأعمال الصالحة، ومن هو عزيز عند الرب؟![284]

القديس كبريانوس

إن كان الله هو الخير الأعظم الأبدي، فإن غنى هذا العالم لا يستطيع أن يشبع النفس التي على صورة خالقها، إنما اتحادها بالله، وتمتعها بسكناه فيها يشبعها ويملأها فرحًا.

V      يا نفسي المسكينة، ماذا تطلبين؟!

إن أردتِ الحكمة، تجدين يسوع مصدر الحكمة وينبوعها، بل هو الحكمة ذاته!

وإن طلبتِ القوّة والقدرة، فهو القدير!

إن بحثتِ عن اللذّة والسرور، فهو ينبوع الفرح الحقيقي!

إن اشتقتِ إلى السكر، فمحبّته تسكر النفس!

إن جُعتِ إلى الخبز، فهو خبز الحياة!

وإن شغفتِ بالغنى ، فهو خالق الكل!

وإن أردتِ الراحة، تجدين فيه وحده راحتك!… اقبليه فليس لك غيره من يشبعكِ.

القدِّيس أغسطينوس

  1. العمل والاجتهاد 4-5

“العامل بيدٍ رخوة يفتقر،

أما يد المجتهدين فتُغني” [ع 4]

الحكيم دائم العمل والحركة، يقتطف الغنى. أما الجاهل فكسلان يفضل النوم والتراخي عن السهر والاجتهاد، نصيبه الفقر.

خلق الله آدم وأقامه في الفردوس لكي يعمل، فإنه يُبارك اليد المجتهدة، وبعنايته يسمح لليد المتراخية أن تفتقر، فمن لا يعمل لا يأكل. من يزرع إهمالاً يحصد فقرًا، ومن يزرع غيرة واجتهادًا يحصد بركة ونجاحًا.

العمل والقدرة عليه هما هبة يقدمهما الله للإنسان، فيليق بالمؤمن ألا يتوقف عن العمل ما استطاع، وقدر ما يهبه الله من قوةٍ وقدرةٍ ومواهبٍ. وقد جاءت الدعوة للعمل وصية كتابية. يقول الرسول: “إذ أنتم تعرفون كيف يجب أن يتُمثل بنا، لأننا لم نسلك بلا ترتيب بينكم، ولا أكلنا خبزًا مجانًا من أحدٍ، بل كنا نشتغل بتعبٍ وكدٍ ليلاً ونهارًا، لكي لا نُثقل على أحدٍ منكم” (2 تس 3: 7-8). كأن الرغبة الجادة والعملية للعمل ترافق الإيمان الحيُ وتعبر عنه.

الأرض التي لا يتعب المزارع فيحرثها ويزرعها تخرج له شوكًا عِوض العنب أو غيره من الفواكه أو المحاصيل. الأرض بكل مواردها الغنية لا تقدم لنا ثمارًا أو كنوزًا بلا عمل، مثل الزراعة والتنقيب عن مناجم المعادن الثمينة، وصيد السمك… فإنه ما كان يمكن للأرض أن تصلح للحياة لو لم يُمارس العمل.

لقد أدركت أغلب حكومات العالم خطورة البطالة وعدم العمل على سلوكيات المجتمع لذلك حسبت البطالة أخطر عدو يهدد المجتمع ويفقده سلامه. فالعمل ليس فقط مصدرًا لزيادة الإنتاج، وإنما لنمو شخصية الإنسان وسلامه الداخلي.

جاءت رسالة الإنجيل المفرحة دعوة صريحة للعمل بلا انقطاع، وذلك بغنى نعمة الله، لعلَه يبلغ الإنسان إلى قياس ملء قامة المسيح، أي يبقى المؤمن مجاهدًا كل أيام غربته ليختبر عذوبة الملكوت الداخلي.

V      في البداية أعطانا الله حياة خالية من الهموم ومُعفاة من الكد. أما نحن فلم نستخدم العطية حسنًا، بل أفسدنا راحتنا، وخسرنا الفردوس. لهذا جعل حياتنا متعبة… يعمل الكسل على إفسادنا ويسبب لنا متاعب كثيرة.[285]

V      في البدء كان يمكن أن تعمل دون كدٍ… لأن الله نفسه أراد هذا، لكنك لم تسمح بذلك. فإن الله لم يمزج العمل بالكد. لو أن الإنسان اختبر الكد منذ البداية لما أُبتلي به كعقابٍ بعد ذلك. وفي واقع الأمر يمكنك أن تعمل وفي نفس الوقت لا تصل إلى مرحلة العمل الشاق، كما في حالة الملائكة.[286]

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      لنتأمّل في خوف الله في حياة هؤلاء القدّيسين. نعم، نجد أنّه قد كُتب عن موسى وهرون أنهما عملا وعاشا مع رجال يسلكون على مثالهما، وهكذا يشوع بن نون[287].

رسالة منسوبة للقديس إكليمنضس الروماني

V      يتقبل العامل الصالح أجرة عمله بجرأة، أمّا الكسول والمتهاون فلا يجسر أن ينظر بعينيه إلى رب عمله[288].

القديس إكليمنضس الروماني

V      كل من يأتيكم باسم الرب اقبلوه (مت ٢١: ٩؛ مز ١١٧: ٢٦)، بعد ذلك اختبروه واعرفوه، لتميزوا اليمين من اليسار.

فإن كان الآتي عابر سبيل أعينوه قدر استطاعتكم، ولا يبقى عندكم أكثر من يومين أو ثلاثة عند الضرورة.

إذا أراد أن يمكث عندكم كصاحب مهنة فليعمل ليأكل (٢ تس ٣ : ١٠).

أما إذا لم يكن صاحب حرفة، فوجِّهوه أنتم لكيلا يعيش بينكم كمسيحي عاطلاً.

إذا لم يرد أن يعمل فهو متاجر بالمسيح (١ تي ٦: ٥)، احترزوا من أمثاله[289].

الديداكية

جاء النص في الترجمة السبعينية: “الفقر يجعل الإنسان في مذلة، أما أيدي المجتهدين فتُغني

V      قيل: “الفقر يجعل الإنسان متواضعًا” [4 LXX]. وأيضًا يقول المسيح: “طوبى للمساكين بالروح (مت 5: 3). هل تحزن لأنك على الطريق الذي يقود إلى الفضيلة؟ ألا تعلم أن هذا يُعطينا ثقة عظيمة (إنه يهتم بنا بالرغم من فقرنا)؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      قيل: “الفقر يجعل الإنسان في مذلة”، يقصد بالفقر البُخل الذي به يصير الغني فقيرًا، ليس لديه ما يُقدمه للغير.

القديس إكليمنضس السكندري

“من يجمع في الصيف فهو ابن عاقل،

ومن ينام في الحصاد فهو ابن مُخزٍ” [ع 5]

هنا يوجه سليمان الحكيم اللوم على من لا ينتهز الفرصة المناسبة للعمل، فإذا أهمل الإنسان في موسم الحصاد يكون قد فقد تعبه الذي عمله أثناء الزراعة. وكأنه يليق بالإنسان أن يجتهد ليس فقط في موسم الحرث والبذر فيهتم بالزرع، بل وفي الصيف حيث الحصاد. وقد حثّ السيد المسيح تلاميذه على العمل، قائلاً لهم: “ارفعوا أعينكم وانظروا الحقول إنها قد ابيضت للحصاد” (مت 4: 35).

يصور لنا الحكيم حياتنا على الأرض بكوننا أبناء نعمل في كرم أبينا، فلا يليق بنا أن ننام في وقت الحصاد، فنُحسب أبناء عارٍ وخزي، وإنما نعمل ونجمع وكما يقول الرسول: “مفتدين الوقت، لأن الأيام شريرة” (أف 5: 16). إنه وقت ثمين للعمل في كرم أبينا، يقدم لنا بولس الرسول مثلاً عمليًا للعمل بلا توقف، وأما ديماس فيمثل الإنسان الذي ينام وقت الحصاد. “لأن ديماس قد تركني، إذ أحب العالم الحاضر، وذهب إلى تسالونيكي” (2 تي 4: 10)

  1. ثمار الحكمة 6

“بركات على رأس الصدِّيق،

أما فم الأشرار فيغشاه ظلم” [ع 6]

يسلك البار باستقامة ويخضع للنصح ويطيع الأوامر في الرب، فيكون نصيبه الطوبى والأمان. غير المؤمن يسلك في طرقٍ معوجةٍ، ومخادعٍ في رعبٍ داخلي، ونهايته الدمار.

إن كان العالم لا يطيق الصدِّيقين لكن إلى حين، فحتمًا ينال هؤلاء بركات كثيرة في أعماقهم في هذا العالم، وعلانية في العالم العتيد. أما الأشرار ففمهم المملوء عُنفًا يشهد ضدهم ويحرمهم حتى من البركات الزمنية، فمهم يدينهم!

شريعة الحصاد هي أن ما يزرعه الإنسان إياه يحصد، فمن يزرع الاستقامة يحصد بركات الله ومديح الغير. أما من يزرع زوان الخطية، فيُسيطر الظلم والعنف على فمه، وتصدر كلماته نابعة عن قلبٍ فاسدٍ.

  1. ذكرى الحكيم 7

“ذكر الصدِّيق للبركة،

واسم الأشرار ينخر” [ع 7]

الصدِّيق والشرير كلاهما يموتان، لكن مصيرهما مختلف، حتى تذكارهما مختلف، فالصدِّيق تبقى ذكراه بركة لكثيرين، والأشرار يصير اسمهم كثوبٍ مُصاب بالعثة. فإننا لا نجد بعد قرابة عشرين قرنًا من يدعو من المسيحيين ابنه يهوذا بل نجد كثيرين يدعونه “بولس”.

لقد وقف بولس وحده أمام أسد خطير يزأر ليفترسه، هو نيرون الظالم. لكته رأى الرب واقفًا أمامه، لا يقدر الموت أن يحطم أبديته وذكراه: “ولكن الرب وقف معي وقوَّاني لكي تتم بي الكرازة ويسمع جميع الأمم، فأُنقذتُ من فم الأسد، وسينقذني الرب من كل عمل رديء ويخلصني لملكوته السماوي” (2 تي 4: 17-18).

بعد موت إليشع النبي إذ طرح غزاة موآب رجلاً في قبره، ومس الجثمان عظام إليشع عاش وقام على رجليه (2 مل 13: 21). هكذا حملت ذكراه قوة ظهرت من عظامه! وقال السيد المسيح عن المرأة التي كسرت قارورة طيب وسكبته على رأسه: “الحق أقول لكم حيثما يكرز بهذا الإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها” (مر 14: 9). وقالت القديسة مريم: “فهوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني” (لو 1: 48).

تبقى ذكرى الأبرار تحمل رائحة المسيح الذكية، وتقدم بركات عبر الأجيال، فلا نعجب إن رأينا القديس غريغوريوس النزينزي يرثي أخاه القديس قيصريوس ولا ينكر المشاعر البشرية، لكن يطلب أن تكون باعتدال. يقول: [إنه حتى في دموعي وإعجابي يلزمني أن احترم القانون الذي يُنظم هذه الأمور، فإن هذا ليس غريبًا عن فلسفتنا. يقول: “ذكر الصدِّيق تصحبه البركات“. وأيضًا لتنهمر الدموع من عيوننا وتبدأ بالرثاء، كمن أُصبتم بضرر عظيم (بموته)، فتنزع عنا عدم الإحساس والمبالغة.]

V      “ذكر الصدِّيق يُمتدح“. لم يقل هذا ليعني أن النفوس المنتقلة يعينها مديحنا. إنما قال هذا لأن الذين يمدحون الراحلين ينالون النفع الأعظم من ذكراهم، لذلك إذ ننال نفعًا كثيرًا من ذكرهم المقدس، ليتنا لا نزدري بكلمات الإنسان الحكيم، بل بالحرى نعطي اهتمامًا بها[290].

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. حكمته 8

“حكيم القلب يقبل الوصايا،

وغبي الشفتين يُصرع” [ع 8]

إذ يمتلئ قلب المؤمن بالحكمة السماوية، حيث يسكن حكمة الله فيه، ينحني بكل كيانه أمامه، وتتهلل نفسه بالطاعة للوصية الإلهية، أما الجاهل فيظن في نفسه أنه حكيم، لا يريد أن ينصت إلى الصوت الإلهي، بل في عنادٍ يصمم على فكره الخاص.

إذ كان إبراهيم أب الآباء حكيمًا “لما دُعي أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدًا أن يأخذه ميراثًا، فخرج وهو لا يعلم إلى أين يأتي” (عب 11: 8). هكذا وجد إبراهيم وبنوه حسب الروح فرحًا وبهجة في الطاعة للوصية.

الإنسان الحكيم بقلبه يحول معرفته إلى عمل، فيقبل الوصايا ويتممها، إذ يشتاق أن يسمع ويطيع في الرب. إنه يعطش إلى كلمة الرب كالأرض العطشى التي تشتاق إلى المياه لترويها وتحولها إلى فردوس. أما الغبي في كلماته، فيخرج كلمات فارغة لا تسنده بل تسبب له السقوط.

  1. سلوكه 9

“من يسلك بالاستقامة (في بساطة) يسلك بالأمان،

ومن يعوج طرقه يُعرف” [ع 9]

الإنسان المستقيم دائمًا في أمان، يتسم بالبساطة، ليس له وجهان أو شخصيتان، يسلك باستقامة بغير خوف، لأنه ليس للرياء ولا للخبث موضع في حياته. أما من يُعوِّج طرقه، ظانًا أنه يقدر أن يخفي خداعاته، فإنها حتمًا ستنكشف وينفضح أمره.

سلك يوسف باستقامة في بيت أبيه، كما كان عبدًا أمينًا ومستقيمًا في بيت فوطيفار المصري، بل وكان أمينًا حتى كسجين، لذا عاش في أمانٍ بالرغم من الضيقات التي حلت به وكانت تلاحقه. وأخيرًا جلس كرجلٍ ثانٍ في قصر فرعون. هذا كله يزكيه أمام الله ليحيا إلى الأبد في الأحضان الإلهية في سلامٍ سماويٍ وأمانٍ أبديٍ.

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن الاستقامة هنا تعني البساطة، حيث يحيا المؤمن بفكر بسيط لا مركب أو معقد، يسلك الطريق المستقيم، ولا يعرج بين هذا الطريق وذاك.

V      إننا لسنا نوصي أن نقتني بساطة بلا معرفة، فنمثُل لكل ما يُقال، وننخدع لكل تعليمٍ غاشٍ، بل نعني بالبساطة التي كل هذيذها في الفضيلة لله والصلاح، كمثل الطفل الذي لا يعرف إلاَّ معلم واحد ويخاف منه وحده، ولا ينفذ إلاَّ أمره، بل ولا يقبل من معلمين آخرين سواه.

هكذا ينبغي على المؤمن أن يكون طفلاً في سلوكه مع المسيح، ومخافته مالكة على حياته ولا يقبل تعليمًا من معلمٍ آخر سواه. لأن الطفولة هي نقية بالطبع، ولا يفسد عقل الطفل طغيان ما.

فلنُسر الآن بالتلمذة للمسيح في الطريق الذي أظهره لنا، ونجتهد أن نسلك بالبساطة ونكون أطفالاً لقبول التعليم الحسن. ونتحكم كالحيات مقابل العدو الذي يتحايل لإيذائنا ونذكر في كل وقت قول ربنا أن كل من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله (لو ١٨: ٧). الرب يؤهلنا له المجد لعظمته. آمين.

مار فيلوكسينوس

V      “طوبى لكل نفس بسيطة (مستقيمة)” (راجع 11: 25 LXX)، “من يسلك ببساطة يسلك بالأمان” [ع 9].

فإن هذه هي علة كل أنواع الشر، أن كثيرين لا يعرفون كيف يُطبقون الأمر باستقامة حتى شهادة الكتب المقدسة. هكذا في هذا الوضع لا يعني الكاتب (بالبساطة) الإنسان الغبي، أو الذي لا يعرف شيئًا، بل ذاك الذي هو متحرر من الشر، الذي ليس بصانع شر، فهو حكيم.

V      ألم يُكرز بالإنجيل أولاً للرعاة (البسطاء)؟ وأيضًا ليوسف الذي إذ كان بسيط الذهن لم يسمح للشك في الزنى أن يرهبه فيرتكب خطأ؟ ألم يختر الله البسطاء، أناس مخلصون بالطبيعة؟ فقد كتب: “طوبى لكل نفس بسيطة“، وأيضًا من يسـلك ببساطة يسلك بالأمان” [9].

تقول: “حقًا، لكن التعقل مطلوب”.

أسألك: “ما هي البساطة ألا التعقل؟!” فإنك حين لا تشك بالبشر، ولا تتصنع أمرًا ما، عندما لا يكون عندك قلاقل ولا تقدر أن تتذكر الأذى!

V      كان أبشالوم إنسانًا مخادعًا سرق قلوب كل البشر (2 صم 6: 15). لاحظوا كم كان قدر خداعه، فقد سُجل أنه كان يتقدم ويقول: “ألم يحكم لك أحد؟” راغبًا في أن يستميل كل أحدٍ إليه. أما داود فكان بريئًا. ماذا إذن؟ اُنظروا إلى نهاية كليهما. اُنظروا كيف كان الأول مملوء جنونًا! فإنه إذ ركز بالكلية على أذية أبيه، ًاصيب بالعمي في كل شيء، لأن “من يسلك بالاستقامة يسلك بالأمان” (أم 9: 10)[291].

القديس يوحنا الذهبي الفم

لينصت غير المخلصين إلى ما قد كتب: “من يسلك بالبساطة يسلك بالأمان” [ع9]. حقًا بساطة السلوك هو ضمان للأمان. ليستدفئوا بما يقوله فم الحكيم: “يهرب الخداع بتأديب الروح القدس” (حك 1: 5). ليسمعوا أيضًا ما تؤكده شهادة الكتاب المقدس: “علاقته القوية (سرَّه) لدى المستقيمين (أم 3: 32)، فإن معاملات الله القوية هي إعلانه عن أسراره للعقول البشرية باستنارة حضرته.

أما من يعوِّج طرقه يُعرف“، مقابل البساطة الخداع أو السلوك في طريق معوج. فالمخادعون يظنون أنهم قادرون بخبرتهم ومهاراتهم أن يخدعوا الغير، ولا يُكتشف أمرهم. لكن “ليس شيء خفي لا يظهر، ولا مكتوم لا يعلم ويعلن (مر 4: 22). لقد خطط يهوذا مع الفريسيين على تسليم السيد المسيح، وكان يظن أن أمره لن يكتشف، لكن ما فعله في الخفاء حمل فضيحة على مستوي الأرض والسماء، وعبر القرون.

  1. حركاته 10

“من يغمز بالعين يسبب حزنًا،

والغبي الشفتين يُصرع” [ع 10]

لقد سبق لنا الحديث عن المقطع الأخير من هذه الآية (راجع ع 8). وقد جاء النص في الترجمة السبعينية: “من يوبخ بحرية يصنع سلامًا“. وجاء النص في السريانية مطابقًا للترجمة السبعينية. فمن ينتهر الخطية بأمانة وانفتاح، يسند سلام الجماعة أكثر ممن يتجاهلها أو لا يبالي بها. فإن كثير من الخطاة يعودون إلى الله خلال كلمة التوبيخ المملوءة صراحة وحبًا، خاصة إن ارتبط التوبيخ بروح الحنو والتواضع. فإن كان التوبيخ يجرح مشاعر الخاطئ، فإن امتزاجه بالحب والحنو يدفعه إلى التوبة الصادقة.

الغمز بالعين يُشير إلى الخداع والمكر، وقديمًا كانت تُشير إلى النظرات الفاسدة المثيرة للشهوات الجسدية.

يرى البعض أن غمز العينين يشير أن ما ينطق به غير ما يبطن في داخله. أو ما يقوله غير ما يفكر فيه. يرى آخرون أن قبلة يهوذا للسيد المسيح عند تسليمه كانت نوعًا من أنواع الخداع مثل غمز العين[292].

يرى القديس إكليمنضس السكندري أنه صورة من صور الزنا، حيث يعبر الإنسان عن شهوات جسده بعينيه. فنظرات العين وحركاتها تكشف إما عن الاستنارة الداخلية، أو عن شهوات الجسد الخفية.

V      النظرات الغرامية الساخرة التي هي الغمز بالعيون ليست إلا ارتكابًا للزنا بواسطة العينين، فالشهوة تحارَب خلال العينين. فإنه من كل الجسد تهلك العينان أولاً. “العين التي تتأمل جمال الأشياء تبهج القلب”، بمعنى أن العين التي ترى باستقامة تبتهج.

الغمز بالعين بالغش يجمع ويلات على البشر“. هؤلاء يمارسون تخنث ساردانبالوس Sardanapalus ملك الآشوريين، الذي كان يجلس على عرشه ويرفع رجليه إلى فوق، ويتحسس بميوعة ثوبه الأرجواني، ويحرك بياض عينيه إلى فوق. هكذا تفعل النساء اللواتي يمارسن نفس الأمر، فيعرضن رغبتهن في الخطية من خلال نظراتهن.

وكما يقول الكتاب المقدس: “نور الجسد هو العين، فيظهر إشراق النور خلال الاستنارة الداخلية.

“زنا المرأة هو في رفع العينين” (ابن سيراخ 26: 9).

القديس إكليمنضس السكندري

  1. فمه 11

“فم الصدِّيق ينبوع حياة،

وفم الأشرار يغشاه ظلم” [ع 11]

فم الشرير مملوء عنفًا وغشًا، مثير للنزاعات، نصيبه العقوبة والدمار. أما حديث البار فمصدر راحة ومعرفة لسامعيه، يُقدم بروح الحب [ع12]. نصيبه شركة الصلاح مع الآخرين واكتناز المعرفة والحكمة.

فم الصدِّيق دائمًا ينطق به الرب الساكن فيه، وكما قيل لموسى النبي: “فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك، وأُعلمك ما تتكلم به” (خر 4: 12). ولإرميا النبي: “قد جعلتُ كلامي في فمك” (إر 1: 9). لذا فهو يفيض بمياه حيّة، أي كلمات نافعة للتعليم وللتعزية والإرشاد.

جاء تعبير “ينبوع حياة” في العبرية يعني “يفيض في شرايين الحياة“، وكأن فم الإنسان البار يصير كالقلب الذي يستقبل الدم الفاسد وينبض ليفيض بالدم النقي في شرايين الجسم كله. هكذا لا تخرج من فم الصدِّيق كلمة شريرة أو ضارة، بل يفيض بكلمات الحياة الإلهية فيستريح كل إنسان يلتقي معه، ويتمتع بعمل الله فيه.

يتجلى السيد المسيح الساكن في الإنسان الروحي في كل كلماته، فيقدمه سرّ حياة للغير.

يعيش الإنسان الروحي متشبهًا بسيده، فيصير كل القلب ينبض بالحياة بلا انقطاع من أجل حياة الآخرين ونموهم في كل جوانب حياتهم.

فم الصدِّيق كبئر تفيض مياه عذبة على الأرض المحيطة فترويها، كما تروي ظمأ الناس والحيوانات والطيور.

أما عن المقطع الأخير من الآية فقد سبق الحديث عنه في الآية 6.

إن كان فم البار يشبه ينبوعًا، يفيض بمياه الروح على من حوله، فيحوِّل البراري إلى جنات مملوءة بالثمار، فإن فم الشرير يشبه بحرًا مملوء اضطرابًا، يلقي من أعماقه المياه المالحة على الشواطئ. صوت تياراته لا يهدأ قط ليلاً ونهارًا، ولا يمكن حتى للأعشاب أن تنمو على شواطئه، وإن فاض بمياهه على حقل مزروع أفسد كل زرعه!

هكذا كل إنسانٍ يصدر من فمه ما يفيض من قلبه، إما عذوبة تهب حياة ونموًا، أو ملوحة تحطم الحياة، وتبعث الموت.

هذه العبارة تذكرنا بقول السيد المسيح للمرأة السامرية: “من آمن بي كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حيّ” (يو 7: 38).

  1. قلبه 12

“البغضة تُهيِّج خصومات،

والمحبة تستر كل الذنوب” [ع 12]

إن كان سليمان الحكيم قد ربط بين الحكمة والبرّ، فإن ثالثهما هو الحب، بدونه يفقد الإنسان روح الحكمة والبرّ الإلهي. وأيضًا يربط بين الجهل والشر وثالثهما البغضة، فإن الغباوة والشر مصدرهما انغلاق القلب ورفضه للحب، وفي نفس الوقت يغذيان البغضة وينميانها. فالبُغضة علتهما ومصدرهما، وهي تنمو وتترعرع بهما.

بروح البغضة يتذكر الإنسان الأحداث الماضية التي تثير نفسه وتحثه على الخصومات، فلا يقدر أن ينسى ولو بعد عشرات السنوات، ولا يستطيع أن يغفر أخطاء إخوته. أما روح الحب فيكون أشبه بستائر جميلة تستر على عيوب الآخرين وأخطائهم، وبالتالي لا يغلي في داخله من جهتهم. إن كانت المحبة “تحتمل كل شيء”، فتحفظ سلام النفس ووحدة الجماعة، فإن البغضة تثير النفس مما يثير اضطرابات في الداخل، وخلافات ومنازعات في الخارج. تطلب البغضة أن تجد فرصة لتثير العداوة، فإنها تجد مسرتها في الانشقاقات والخصومات، أما المحبة فتهب توافقًا ومصالحات، وتنزع من كل نفس المُثيرات الشريرة، فيجد الشخص لذته في بنيان إخوته ساكبًا مياهًا على كل لهيب كي يُطفئه.

اقتبس كل من يعقوب الرسول وبطرس الرسول هذه العبارة. “من أين الحروب والخصومات بينكم؟ أليست من هنا من لذاتكم المحاربة في أعضائكم” (يع 4: 1). “لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا” (1 بط 4: 8).

V      من فيه محبة لا يعتبر أحدًا غريبًا، بل يعتبر الكل من ذويه وأهله، ولا يعرف الغيظ، ولا يتغطرس، ولا يلتهب حنقًا، ولا يظلم، ولا يسلب عرض الغير، ولا يحسب له عدوًا قط إلا إبليس وحده.

مار إفرام السرياني

V      كما أن عدونا يفصل بين الإخوة الذين لا يزالون ضعفاء وجسدانيين وذلك بتفجير مفاجئ للغضب لبعض الأسباب التافهة ولأمور أرضية، هكذا يزرع بذار الخصومة حتى بين الأشخاص الروحيين على أساس الاختلاف في الأفكار، ومنها بالتأكيد تصدر منازعات وصراعات بالكلمات، هذا يدينه الرسول… بها يزرع عدونا الحاقد والخطير خصومات بين الإخوة الذين كانوا بفكرٍ واحدٍ. فإن كلمات الحكيم سليمان هي حقيقة: النزاع يولد بغضة، أما الصداقة فتكون حصنًا لكل الذين لا يتصارعون.

القديس يوحنا كاسيان

  1. نفعه 13 – 14

“في شفتيّ العاقل توجد حكمة،

والعصا لظهر الناقص الفهم” [ع 13]

أحاديث الإنسان العاقل تسند الآخرين، أما الغبي فلا ينفع أحدًا، إنما ينجح في جذب العقوبات لتحل عليه.

من يحمل الحكمة في قلبه كما في فكره، تُعلن عن وجودها خلال كلماته، فيكون فمه مباركًا، وشفتاه مخزن حكمة. أما ناقص الفهم، أي ذاك القادر أن يتعلم لكنه لا يريد أن يتعلم، فإن العصا هي المعلم له، تنزل على ظهره فينحني منكسرًا. بمعنى آخر من لا يطلب الحكمة والمعرفة عن قلبٍ ملتهبٍ محب يؤهل ظهره لضربات قاسية فينحني قسرًا وفي مرارة.

لعل حياة كل من سليمان نفسه وابنه رحبعام يوضحان هذا المثل. الأول لم يعتمد على حكمته الشخصية، بل طلب الحكمة من الله، فجاء كثيرون من أقاصي المسكونة ليسمعوا حكمته وينتفعون. “كانوا يأتون من جميع الشعوب ليسمعوا حكمة سليمان من جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته” (1 مل 4: 34). أما رحبعام فاتكل على حكمته البشرية ومشورة أصدقائه الشبان، ولم يستشر الله، ولا قبل مشورة الشيوخ، وبسببه انقسمت المملكة، ونزلت عصا التأديب على ظهره (1 مل 12: 8-19).

“الحكماء يُذخِّرون معرفة،

أما فم الغبي فهلاك قريب” [ع 14]

الحكيم إنسان حاذق، كلما وجد معرفة خزَّنها في أعماقه، خاصة كلمة الله، يخفيها ويصونها بالحياة التقوية المُقدسة حتى متى احتاج إليها وجدها ليست ببعيدة عنه، بل في داخله. إنه يُذخِّر المعرفة خلال الإيمان الحي العملي مع الصلاة والدراسة الجادة لكلمة الله حتى يتمتع بالسيد المسيح، حكمة الله، فيقتنيه، قائلاً مع النفس المقدسة: “فأمسكته ولم أرخِه حتى أدخلته بيت أمي وحجرة من حبلت بي. أُحلفكن يا بنات أورشليم بالظباء وبأيائل الحقل ألا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء” (نش 3: 4-5).

يحتفظ الحكيم بالمعرفة لكي ينطق بها في الوقت المناسب، والمكان المناسب، وبطريقة لائقة، وللشخص المناسب.

إذ يُدرك الحكيم قيمة الكلمات، يحسبها جواهر يلزم تخزينها في مكان أمين، أما الغبي فلا يتوقف عن الكلام الذي بلا معنى مما يجعله قريبًا من الهلاك. إنك لا تعرف ماذا سيقول، لأنه يخرج الكلمات بلا اتِّزان، تجلب له ولغيره مشاكل بلا حصر.

لأجل سلام الإنسان وبنيان إخوته يليق به أن يفكر كثيرًا ويتكلم قليلاً، ولا ينطق بكلمة بدون أن يسبقها تفكير.

القديس تيموثاوس يمثل الإنسان الحكيم الذي يزخر بالمعرفة الصادقة: “وأما أنت فأثبت على ما تعلمت وأيقنت، عارفًا ممن تعلمت، وأنك منذ الطفولة تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تُحكِّمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع” (2 تي 3: 14-15). وعلى العكس عليم الساحر يمثل الغبي المتشامخ فيدمر نفسه (أع 13: 6-11).

V      يقول القديس بولس: “فإن كنتم قد قمتم مع المسيح، فاطلبوا ما فوق”. ويضيف: “لأنكم قد مُتُّم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضًا معه في المجد” (كو 3: 1-4).

تختفي فينا الحياة حسب الجسد إذا لامتنا طبيعتنا الدنيئة، ثم نقلنا طموح حياتنا من الأرض إلى السماء. كما يقول المثل: “الحكماء يدخرون معرفة” (أم 10: 14). ثم ننتظر الحياة الحقيقية، ويظهر المسيح فينا ونمتلئ بمجده، ونتحول إلى حالة مقدسة.

دعونا الآن نستمع إلى كلمات النشيد، وكأننا متنا بالجسد، فلا ننجذب إلى الكلمات ذات المعنى الجسدي. فيحوَل الشخص الذي مات عن الأهواء، المعنى اللفظي لكلمات النشيد إلى معانٍ نقية وغير ملوثة. ولما كان فكره خاليًا من الأمور الأرضية، لذلك يُشغل فكره بالأشياء العليا حيث المسيح الخالي من الهوى، والجالس عن يمين مجد الله (كو 3: 1). دعونا الآن نستمع إلى الكلمات التي تصف جمال العروس النقي. ليتنا نستمع وكأننا لا نشارك في طبيعة الجسد، بل اِنتقلنا إلى دائرة الروح[293].

القديس غريغوريوس النيسي

  1. سلامه 15

“ثروة الغني مدينته الحصينة،

هلاك المساكين فقرهم” [ع 15]

هذا المثل لا يمثل نصيحة يقدمها الحكيم، إنما هو تقرير لواقعٍ مؤسفٍ، حيث يرى الغني في غناه مدينته الحصينة، فيولع بالأكثر نحو تضخيم ممتلكاته، أما الفقير فإذ يرى الغني يسلبه حقوقه ينهار فلا يحمل دافعًا للخلاص من حالة الفقر التي تأسره.

يرى البعض أن هذا المثل يعني أن الغني يزداد غنى، والفقير يزداد فقرًا. بمعنى أن الغني الحقيقي يجتهد بالأكثر دون توقف، والفقير المهمل يتمادى في إهماله دون التزام وشعور بالمسئولية.

كثير من الأغنياء يفقدون سلامهم الداخلي، ويعيشون في رعبٍ، خشية فقدان ممتلكاتهم بسبب السرقة، لذلك يشعرون بحاجتهم إلى مدينة حصينة وآمنة يضعون فيها كنوزهم. كذلك كثير من الفقراء يحطمهم التذمر وعدم الرضا.

أما من الجانب الروحي فثروة الغني مدينته الداخلية، متى صار قلبه أورشليم الجديدة العُلوية، أي أيقونة السماء، لا تقدر خطية ما أن تتسلل إليها ولا عدو أن يسطو عليها، فيعيش الإنسان غنيًا بسماوات الله المعلنة في داخله. أما الفقير فهو ذاك الذي لا تتطلع عيناه إلى الغنى الداخلي، فيخسر ذاك الذي لنا فيه كنز.

V      الغنى في ذاته ليس بالأمر الشرير. “فدية حياة إنسان غناه” (أم 13: 3)، لأن من يعطي الفقير يفدي نفسه، لذلك فإنه حتى في الغنى يوجد مجال للفضيلة. إنكم تشبهون مديري دفة في بحرٍ عظيمٍ، إن قاد إنسان طريقه حسنًا يعبر من البحر سريعًا ويبلغ الميناء. أما الذي لا يعرف كيف يدبر ممتلكاته حسنًا، فيغرق في شحنته. هكذا مكتوب: “ثروة الغني مدينة قوية” (أم 10: 15)[294].

 القديس أمبروسيوس

V      أن نتمتع بأي شيء يعني أن نلتصق به بقوة لأجل الشيء في ذاته. وأما أن نستخدم شيئًا فهو أن نوظف ما نناله، لنحصل على ما نحتاج إليه، بشرط أن يكون من اللائق بنا أن نحتاجه[295].

V      لا تظن أن الفضة أو الذهب يجب أن يُلاما بسبب الجشعين، ولا الطعام والخمر بسبب النهمين والسكارى، ولا الجمال النسائي بسبب الزناة والفاسقين. وهكذا في كل الأمور الأخرى، خاصة حينما ترى طبيبًا يستخدم نارًا بطريقة صالحة بينما قاتل يستخدم خبزًا به سم لتنفيذ جريمته[296].

V      إذ فقد أيوب كل غناه وبلغ إلى أقصى الفقر، احتفظ بنفسه غير مضطربة، مركزًا على الله ليظهر أن الأمور الأرضية ليست بذات قيمة في عينيه، بل كان هو أعظم منها، والله أعظم منه. فلو أن رجال أيامنا هذه لهم ذات الفكر، لما كنا مُنعنا بإصرارٍ في العهد الجديد من امتلاك هذه الأشياء لكي ما نبلغ الكمال. لأن امتلاكنا مثل هذه الأشياء دون التعلق بها لشيء جدير بالثناء أكثر من عدم امتلاكها نهائيًا[297].

القديس أغسطينوس

  1. تعب يديه 16

“عمل الصدِّيق للحياة،

ربح الشرير للخطية” [ع 16]

ربما لا يملك الصدِّيق إلا تعب يديه، فهو يعمل لكي يأكل ويعيش، ويجد في عمله حياة وعذوبة. أما الشرير فيُنفق ما يكسبه على الخطية، سواء بإسرافه أو ببخله. إنه ينفق كل بركة، فيعيش كمن هو ميت.

يرى البعض أن الصدِّيق يمد يده للعمل الشريف المشروع الذي يعطي للحياة طعمها، مقدمًا ما هو لبنيان الجماعة. أما الشرير فيمد يده للأعمال غير اللائقة، لأنها أكثر ربحًا، فيُقدم للآخرين ما هو لدمارهم، وتزداد خطاياه خطايا، يستمر في هذا بلا توقف حتى يُدمر نفسه وغيره.

V      لأننا نتذكر أنه يجب علينا أن نكون شاكرين للرب إلهنا وخالقنا. إننا لا نرذل أية ثمرة لأعماله؛ إننا نستخدمها باعتدال وليس بتطرفٍ خاطئ. لهذا فإننا لا نفشل في التردد على الساحات والأسواق والحمامات والمتاجر والمصانع والفنادق وفي كل أعمالكم، وأن تكون لنا كل العلاقات الأخرى حتى نعبر عن حياتنا معكم في هذا العالم. معكم نبحر في البحر، ونلتحق بالخدمة العسكرية، ونعمل في الأرض ونتاجر، ونبيع علانية ما تستخدمونه من منتجات تجارتنا ومصنوعاتنا[298].

العلامة ترتليان

يقول العلامة أوريجينوس إنه ليس من أحد خامل في بيت الحكيم[299].

  1. طريقه 17

“حافظ التعليم (التأديب) في طريق الحياة،

ورافض التأديب ضال” [ع 17]

يحيا الإنسان كمن في رحلة نحو السماء، فالمؤمن إذ يحفظ التأدب، يقبل المشورة، فلا ينحرف عن طريق الحياة. أما الشرير فيرفض المشورة ولا يقبل التأديب فيضل ويبقى في ضلاله.

V      كما يُلقي ممحص الذهب بقطعة الذهب في الفرن لتحتمل النار إلى حين، حتى يراها قد تنقت، هكذا يسمح الله بامتحان الأنفس البشرية بالضيقات حتى تتنقى وتحصل على نفعٍ عظيمٍ…

فليتنا لا نضطرب ولا نيأس عندما تحل بنا التجارب. لأنه كما أن ممحص الذهب يعلم الزمن الذي ينبغي أن يُترك فيه الذهب في الفرن، فيُخرجه في الوقت المعين ولا يتركه بعد في النار حتى لا يفسد ولا يحترق، كم بالأكثر يعلم الله ذلك. فعندما يرانا قد تنقينا بالأكثر، يعتقنا من تجاربنا حتى لا ننطرح ونُطرد بسبب تزايد شرورنا.

عندما يحل بنا أمر ما لم نكن نتوقعه لا نتذمر ولا تخور قلوبنا، بل نقبله من الله الذي يعرف هذه الأمور بدقةٍ، حتى يمتحن قلوبنا بالنار كيفما يُسر، إذ يُفعل هذا بقصد فائدة المجربين. لذلك يوصينا الحكيم قائلاً بأن نخضع لله في كل الأمور، لأنه يعرف تمامًا متى يخرجنا من فرن الشر (حكمة يشوع 1 :1-2).

يليق بنا أن نخضع له على الدوام، ونشكره باستمرار، محتملين كل شيءٍ برضا، سواء عندما يمنحنا بركات أو يقدم لنا تأديبات. لأن هذه الأخيرة هي نوع من أنواع البركات.

فالطبيب ليس فقط يسمح لنا بالاستحمام (في الحمامات)… أو الذهاب إلى الحدائق المبهجة، بل وأيضًا عندما يستخدم المشرط والسكين هو طبيب!

والأب ليس فقط عندما يلاطف ابنه، بل وعندما يؤدبه ويعاقبه… هو أب!

وإذ نعلم أن الله أكثر حنوًا من كل الأطباء، فليس لنا أن نستقصي عن معاملاته، ولا أن نطلب منه حسابًا عنها، بل ما يحسن في عينيه يفعله. فلا نميز إن كان يعتقنا من التجربة أو يؤدبنا، لأنه بكلا الطريقين يود ردنا إلى الصحة، ويجعلنا شركاء معه، وهو يعلم احتياجاتنا المختلفة، وما يناسب كل واحدٍ منا، وكيف، وبأية طريقةٍ يلزمنا أن نخلص…

لنتبعه حيثما يأمرنا، ولا نفكر كثيرًا إن كان يأمرنا أن نسلك طريقًا سهلاً وممهدًا أو طريقًا صعبًا وعرًا[300].

القدِّيس يوحنا الذهبي الفم

  1. لسانه 18 – 21

“من يخفي البغضة فشفتاه كاذبتان،

ومُشيع المذمَّة هو جاهل” [ع 18]

اهتم سفر الأمثال بالحديث عن تقديس الفم واللسان، مُقارنًا بين شفتيّ الصدِّيق وشفتيّ الغبي، حيث ينطق الأول بكلمات مقدسة، أو يُسلم شفتيه للسيد المسيح الساكن فيه، يقدسهما ويستخدمهما لبنيان نفس المتكلم ونفوس المستمعين. بينما يعبر الثاني عما في أعماقه من جفاف وفراغ، بل وموت؛ فتخرج كلماته قاتلة لنفسه ولمستمعيه.

وفي العهد الجديد قدم لنا القديس يعقوب رسالته التي يدعوها البعض “سفر أمثال العهد الجديد” حديثًا عن خطورة اللسان موضحًا الآتي:

 لنُسرع في الاستماع، ونُبطئ في التكلم” (1: 19).

 من لا يضبط لسانه فهو ليس متدينًا (1: 26).

 لا يُحسب الإنسان مؤمنًا حقًا ما لم تُطابق أعماله كلماته (2: 14-24).

 يقوم اللسان بأعمال عظيمة بالرغم من صغر حجمه (3: 5).

 “اللسان هو نار عالم الإثم” (3: 6)؛ “شر لا يُضبط مملوء سُمًا مميتًا” (3: 8)؛ “ينبوع يخرج إما بركة أو لعنة” (3: 10)، شجرة تُخرج ثمرة معينة (3: 12).

 يليق ألا نستخدمه لنحلف به (5: 12)، وأن نكون دائمًا صادقين فيما نعد به.

اهتم هذا السفر بحديث الإنسان خلال الحياة اليومية، فهو يكشف عما في الأعماق. يجب أن يكون الحديث صادقًا غير كاذبٍ [ع18]، له حدوده [ع20]، فيصير ثمينًا [ع20] ومشبعًا [ع21].

يُقدم في هذا المثل تقابل بين من يخفي بالرياء كراهيته، فيُقدم كلمات معسولة كاذبة، وبين من يُعلن ما في قلبه من كراهية فيذم إخوته. الأول مرائي والثاني جاهل وغبي، ولا يليق بنا أن نختار بين هذا وذاك، فالاثنان شريران. أما الاختيار الصحيح فهو ألا نحمل الكراهية نهائيًا، لا في قلوبنا الخفية، ولا في كلماتنا الطاهرة.

من يظن أنه يخفي بُغضه عن الله، كأن الله لا يُدرك ما في قلبه أو في فكره، تنطق شفتاه بالكذب بروح الكبرياء.

“كثرة الكلام لا تخلو من معصية،

أما الضابط شفتيه فعاقل” [ع 19]

“من يجعل حارسًا لفمي، وخاتمًا وثيقًا على شفتيَّ، لئلاَّ أسقط بسببهما، ويهلكني لساني” (سي 22: 33).

كلما تكلمنا كثيرًا يزداد احتمال السقوط في الخطأ، وانسحبنا إلى شهوة الكلام بلا توقف. بهذا نسقط في المبالغة في الحديث، مما يدفع إلى الكذب لا شعوريًّا. كما تدفعنا هذه العادة إلى السقوط في الغضب والاندفاع نحو الانفعالات المتسيبة، وكثيرًا ما نضطر إلى الاعتذار. هذا هو طريق الجهل أو الغباوة.

من يتكلم كثيرًا يفقد طريق الحكمة، أما من يفحص كل كلمة قبل أن ينطق بها، فيُحسب حكيمًا، ويقدر أن يُقدم مشورة صالحة.

يليق بالمؤمن ألا ينطق إلا بالكلمات البنّاءة، حتى لا يُعطي حسابًا عن كل كلمة بطًالة.

V      اجعل الأبواب مغلقة عندئذ تخضع لك الأفكار الشريرة بسرعة[301].

V      “كثرة الكلمات لا تخلو من المعاصي”. إن كان لك كلمة نافعة حقًا افتح شفتيك. أما إذا لم تكن هناك ضرورة للكلام اصمت، فإن هذا أفضل!

القديس يوحنا الذهبي الفم

V      فضيلة الصمت لاسيما في الكنيسة عظيمة للغاية. لا تسمح لعبارة خاصة بالإلهيات أن تهرب منك، بل اَصغ إليها واضبط صوتك، ولا تنطق بكلمة بشفتيك تشتاق فيما بعد أن تردَّها. لا تكن متجاسرًا في الكلام، فبالحق في كثرة الكلام كثرة الخطية[302].

V      ضع بابًا لفمك ليُغلَق حين يكون ذلك ضروريًا. اَغلقه بإحكام حتى لا يستطيع أحد أن يجعل صوتك يرتفع بالغضب، أو يجعلك ترد على الكلام القبيح بمثله. لقد قرأت وسمعت “اغضبوا ولا تخطئوا“، لذلك مع كوننا نغضب بسبب طبيعتنا وليس بإرادتنا، يجب ألاَّ تنطق أفواهنا كلمة واحدة شرِّيرة، خوفًا من الوقوع في الخطيَّة.

إنما يجب أن تكون كلماتنا متواضعة وليِّنة، وبذلك نُخضع ألسنتنا لعقولنا.

اضبط لسانك بإحكامه بلجامٍ. تحكَّم فيه وقوِّمُه باعتدال. زنْ الكلمات التي ينطقها بميزان العدل، حتى إذا كانت معانيك جادة، فكلامك يكون له معنى، ويكون لكلماتك ثقل.

الذين يطيعون هذا يصيرون طويلي الأناة، طيِّبين، وُدَعاء، وذلك بضبط أفواههم، والتحكُّم في ألسنتهم، والتفكير قبل الكلام وَوَزن كلماتهم.

يجب أن نتصرَّف هكذا، لئلاَّ تكون كلماتنا وهي التي يجب أن تعكس جمال حياتنا الداخليَّة تُظهر بدلاً من ذلك أخلاقًا شرِّيرة[303].

V      عندما تأتي كثرة من الكلمات تجد الخطية لها مدخلاً، لأنه في هذه الكثرة من الكلمات التي ننطق بها، لا يمكن الالتزام بوضع حدود في درجة بسيطة. وبسبب نقص التعقل، تسقط في الخطأ. بالحقيقة إن التعبير عن أفكارنا دون أن نزن كلماتنا كما يليق، هذا في ذاته خطية جسيمة[304].

 القديس أمبروسيوس

يري العلامة أوريجينوس أن سليمان نفسه لم يخطئ حينما نطق بكلمات كثيرة وهو يعالج المواضيع التي وردت في الأسفار المذكورة في الكتاب المقدس (جا 12:12). ولا بولس أخطأ عندما أطال الحديث حتى منتصف الليل (أع 20: 7-10). لأنهما وغيرهما نطقوا بكلمة الله، الذي هو الكلمة الواحد الذي كان في البدء عند الله (يو 1:1)، إنه الكلمة الواحد الذي يحمل أفكارًا متباينة عديدة تكشف عن جوانب من الكلمة الواحد. أما من يتحدث في أمور أخرى غير كلمة الله، فإنه إذ يطيل الكلام يخطئ. يقول: [القديسون ليسوا مهذارين أو ثرثارين، إذ يلتزمون بالهدف الذي ينسجم مع الكلمة الواحد[305].]

V      كثرة الكلام علامة على عدم التأدب[306].

 القديس مار أفرام السرياني

V      وكما يسقط العقل الكسول خطوة بخطوة بعدم الحذر من كلام العبث، عندها ينحدر فينطق بالكلام الضار. إننا نكتفي أولاً بأن نتكلم عن شئون الآخرين، ثم بعدها يقرض اللسان قادحًا حياتهم، وأخيرًا ننزع إلى السبّ الصريح. وهكذا عندما نَبْذُر الإثارة، تبدأ المنازعات وتشُبُّ النيران في بؤرة الغضب، وينطفئ حينئذ سلام القلب. لذلك حسنًا يقول سليمان: “ابتداء الخصام إطلاق الماء” (أم 17: 14) إن إطلاق الماء ما هو إلا إطلاق اللسان بثرثرة. ومن الناحية الأخرى يقول الحكيم: “كلمات فم الإنسان مياه عميقة، “نبع الحكمة نهرُ متدفقُ” (أم 18: 4). هكذا عندما نطلق الماء، نصير ينبوعًا للخصام والمنازعات. والذين لا يتحكمون بألسنتهم يكسرون التآلف. ولذلك نقرأ المكتوب: “رامٍ يطعنُ الكل، هكذا من يستأجرُ الجاهل أو يستأجرُ المحتالين”(أم 26: 10). والأكثر من ذلك، فإن الذين يدمنون كثرة الكلام يحيدون تمامًا عن طريق البرّ المستقيم. لذلك يشهد النبي قائلا: “رجل لسانٍ لا يثبت في الأرض” (مز 140: 11). ويقول سليمان أيضًا: “كثرة الكلام لا تخلو من معصية، أما الضابط شفتيه فعاقل” (أم 10: 19). ولذلك يقول إشعياء: “ويكون صنع العدل سلامًا، وعمل العدل سكونًا وطمأنينة إلي الأبد” (إش 32: 17). وهذا يشير إلى أنه حيث لا يكون هناك ضبط للكلام يفتر برّ النفس. لذلك يقول يعقوب: “إن كان أحد فيكم يظن أنه دَيِّنُ، وهو ليس يُلْجِمُ لسانه، بل يخدع قلبه، فديانة هذا باطلة” (يع 1: 26). كذلك يقول أيضًا: “ليكن كل إنسان مسرعًا في الاستماع، مبطئًا في التكلم، مبطئا في الغضب” (يع 1: 19). وعندما يصف قوة اللسان يضيف قائلاً: “وأما اللسان فلا يستطيع أحد من الناس أن يذلِّله، هو شر لا يُضْبَطْ مملوءُ سمًا مميتًا” (يع 3: 8). لأجل ذلك يحذرنا الحق ذاته في قوله: “إن كل كلمة بطالة يتكلم بها الناس سوف يُعْطَوْنَ عنها حسابًا يوم الدين” (مت 12: 36). والمقصود هنا كل كلمة بطالة غير مبررة وليست ضرورية ولا تهدف لأي نفع للتقوى. لذلك، إن كنا سنعطي حسابًا عن كل كلمة بطالة، فإنه ينبغي أن نتفكر في العقاب المذخَّر للثرثرة التي هي مؤذية وتحمل كل إثم[307].

البابا غريغوريوس (الكبير)

V      احفظوا ألسنتكم. وذلك بأن لا تقولوا على إخوتكم شرًا. لأن الذي يقول على أخيه شرًا يغضب الله الساكن فيه. ما يفعله كل أحدٍ برفيقه فبالله يفعله.

القدِّيس مقاريوس الكبير

V      إن كنت لا تقدر أن تسد فم المتكلم عن إنسانٍ بالشر، فلا أقل من أن تحفظ فمك من مشاركته في هذا الأمر.

مار اسحق السرياني

V      جاء عن القديس أغسطينوس أنه نظم بيتين شعر كتبهما وعلقهما في بيت المائدة لإبادة طاعون النميمة. ترجمتهما:

يا ثالبًا عِرْض غيرهوسالبًا شأن ديره

دع ذا المكان مفرًافلست تحظى بخيره

فاتَّفق أن جلس معه على المائدة بعض الأساقفة من أصدقائه. فأخذوا يغتابون قومًا، وينِمُّون عليهم أمامه. فنصحهم القديس حالاً قائلاً لهم: إما أن تمحوا هذين البيتين أو أنني أقوم عن المائدة.

V      إذا سمعت أحدًا يثلب غيره اهرب منه كهروبك من حية سامة، حتى يخجل ويتعلم ألاَّ يتكلم بهذا مرة أخرى.

القدِّيس جيروم

“لسان الصدِّيق فضة مختارة،

قلب الأشرار كشيءٍ زهيدٍ” [ع 20]

غالبًا ما نطق به الإنسان يكشف عن شخصيته ويُعلن عمّا في قلبه. فالإنسان المختبر العربون السماوي تخرج كلماته كأنها سماوية، والذي يُقدر حياته الثمينة تخرج كلماته كالفضة.

لسان الصدِّيق فضة مختارة لأنه يخرج ما في قلب البار من كنوز ثمينة، أما قلب الشر ففارغ، وكلماته بلا قيمة، تكشف عن عمل الشرير في النفس.

V      وصايا الرب وصايا نقية، ممحَّصة بالنار، مُجرَّبة على الأرض، مُصفَّاة سبع مرات (مز 12: 6).

كما تُمحَّص الفضة هكذا يُختبر الإنسان البار، فيصير عُملة الله ويتقبل الصورة الملوكية. أو كما يقول سليمان الحكيم: “لسان الصدِّيق كالذهب الممحص بالنار”، مُلمِّحًا إلى أن التعليم المثبت والحكيم مقبول وممدوح، وهو ممحص بما فيه الكفاية على الأرض، بمعنى أنه تكون نفس الغنوصي (صاحب المعرفة الروحي) مقدسة في طرقٍ كثيرةٍ، عند انسحابها من النار الأرضية.

القديس إكليمنضس السكندري

يرى العلامة أوريجينوس أن الذهب يشير إلى الفهم والفكر، بينما تشير الفضة إلى اللغة وقوة الكلام. لذلك يُوصف الشاروبيم بأنهم من ذهب، لأنهم مملؤن معرفة، وأيضًا المنارة ذهبية التي كانت توضع في خيمة الاجتماع تشير إلى الناموس الطبيعي الذي يضم نور المعرفة[308].

شفتا الصدِّيق تهديان (تقوتان) كثيرين،

أما الأغبياء فيموتون من نقص الفهم (الحكمة) [ع 21]

لا يحمل حديث الصدِّيق غباوة، ولا تخرج من فمه كلمة رديئة، إنما يقدم كل ما هو لبنيان نفسه وبنيان إخوته. يحسب فمه آلة مكرسة تحمل كلمات الرب التي تصدر بروح لائقة بسفير المسيح، بُرنا. الصلاح أو برّ المسيح المُعلن بشفتيّ الصدِّيق يُطعم النفس خبزًا ملائكيًّا كما يطعم النفوس الأخرى، فيدفع الكل نحو النمو، أما الغباوة أو الجهل أو الشر فلا يقدر أن يحفظ صاحبه حيًّا، إذ يهلكه جوعًا.

إذ يتحدث السيد المسيح – الحكمة الإلهي – خلال شفتيّ الصدِّيق، يقدم نفسه للمستمعين طعامًا روحيًّا يشبع النفوس، أما الأغبياء فيتكلمون كثيرًا ليُقدموا من فراغ قلوبهم وأفكارهم موتًا لأنفسهم ولنفوس المستمعين.

هنا نرى في صموئيل القاضي والنبي، وشاول الملك شهادة لما ورد في هذا المثل، فكان غاية صموئيل تقديم البركة للآلاف من الشعب. أما شاول فلم ينتفع شيئًا من اختياره ملكًا، ولا انتفع من وجود صموئيل العظيم بين الأنبياء.

  1. البركة في حياته 22

“بركة الرب هي تُغني، ولا يزيد معها تعبًا” [ع 22]

بركة الرب وحدها هي القادرة أن تُغني الحياة بحق، لكن هل حقيقة لا تضيف معها أي تعب؟! كيف يتفق هذا مع ما يشهد به الكتاب المقدس والواقع العملي أنه كثيرة هي ضيقات الصدِّيقين؟ المؤمن الحقيقي يتلامس مع بركة الرب في أفراحه وأحزانه، في كل ظروف حياته، فيشعر بدسم عناية الله الفائقة، ويُدرك أسرار الله وخطته من نحوه، فلا يشعر بالتعب.

  1. جديته 23

“فعل الرذيلة عند الجاهل كالضحك،

أما الحكمة فلذي فهم” [ع 23]

إذ لا يحمل الجاهل في قلبه مخافة الرب، لذا لا يبالي بشيء، أما الحكيم فتحكم مخافة الرب قلبه وفكره وكلماته وسلوكه، يسلك بروح الله القدوس.

يقدم لنا سفر العدد شخصية فينحاس الكاهن الذي غار على قدسية شعب الله، وقدسية المقدسات الإلهية، فأخذ موقفًا حازمًا، به رفع الله غضبه عن شعبه (عد 25: 6-13). وعلى العكس كان بلعام غبيًا بالرغم من إعلانات الله له كي لا يلعن شعب الله، لكن محبة الهدية جعلته متذبذبًا، بل وبلغ به الأمر أن يوبخه حماره الذي كان يمتطيه (عد 22: 28).

الجاهل أو الغبي هو الذي يمارس الرذيلة ويُسر بها، حاسبًا أذية أعماقه الداخلية وأذية إخوته ضحكًا وتسلية. إنه لا يُبالي بأبديته كأنها وهم، ولا يهتم براحة إخوته وسلامهم.

يحول المازحون حياتهم إلى نوعٍ من التسلية، فينطقون بالهزل، ظانين أنهم يخلقون جوًا من المرح، مستخدمين أحيانًا كلمات كاذبة، وربما يجرحون بعض المستمعين تحت ستار الدُعابة.

أما الحكيم فيجد تسليته ولذته في شركته مع الله وتمتعه بخبرات يومية جديدة في الطريق الملوكي تحت قيادة روح الله القدوس الساكن فيه.

ليُدرك المؤمن أن فمه سِفارة الله الناطقة برسالة الخلاص، والشاهدة للحياة الجديدة في المسيح يسوع، والمُعلِنة عن الحياة السماوية.

V      قالوا له (للقديس أنبا أنطونيوس): ما معنى قول الرسول: “افرحوا بالرب”؟ فقال: [إذا فرحنا بعمل الوصايا فهذا هو الفرح بالرب، فلنفرح بتكميل وصايا الرب وبنجاح إخوتنا، ولنحفظ أنفسنا من فرح العالم والضحك إن أردنا أن نكون من خواص ربنا، لأنه قال إنّ العالم يفرح، وأنتم تبكون (يو 16: 20)، وقال إنّ الويل للضاحكين والطوبى للباكين (لو 6: 21، 25). ولم يُكتب أنه ضحك قط، وكُتب أنه حزِنَ ودمعت عيناه (يو 11: 35).]

القديس أنبا أنطونيوس الكبير

V      الدالّة والمزاح والضحك تشبه نارًا تشتعل في قصبٍ وتُهلِك.

أنبا أغاثون

V      اِحرص ألاّ تفتح فمك بالضحك، لأنّ الضحك يوضِّح عدم خوف الله[309].

القديس أنبا إشعياء

V      لأننا لا نتحفّظ من الزلاّت الصغار فنقع في الكبار. فمثلاً ضَحِك إنسانٍ في غير وقت الضحك يجرّ غيره إلى الضحك، ثم يقول: ما هو الضرر من الضحك؟ وحينئذٍ تبدأ مخافة الله تنقلع منه، ثم يتولد من الضحك المزاح، ومن المزاح الأقوال القبيحة، وهذه تنتج عنها الأفعال المذمومة. فالعدو المخادع يسهِّل علينا الزلاّت الصغار ومنها يسحبنا إلى الخطايا الكبار.

القديس يوحنا الذهبي الفم

  1. رجاؤه 24 – 28

“خوف الشرير هو يأتيه،

وشهوة الصدِّيقين تُمنح” [ع 24]

كثيرًا ما يظهر الأشرار كمازحين يخلقون جوًّا من المرح والفرح، ويفتخرون بقدرتهم على ذلك، لكن أعماقهم مملوءة خوفًا واضطرابًا، لا يجد السلام له موضعًا في أعماقهم. يظنون في أعماقهم أنهم بمزاحهم يخففون عن مشاعرهم الرهيبة الداخلية، وعن أثقال الغير، لكن سرعان ما تتحقق مخاوفهم الداخلية. أما الصدِّيقون فشهوة قلبهم هي مجد الله وخلاص العالم وبنيان نفوسهم، هذه كلها عطايا إلهية يقدمها لهم الله مجّانًا. وكأن الله يهب كل إنسان شهوة قلبه الخفية. الشرير الخائف يسقط في الخوف، والصدِّيق المهتم بالأبدية ينعم بها. وكأنه في النهاية يواجه الإنسان محصلة أعماقه الداخلية، إما ينال مجدًا لا يُعبر عنه، أو يسقط في عارٍ لا يُنزع عنه.

“كعبور الزوبعة فلا يكون الشرير.

أما الصدِّيق فأساس مؤبد” [ع 25]

يعتبر البعض هذه الآية مع الآية السابقة مثلاً واحدًا متكاملاً. فالشرير الذي يحمل صورة الشجاعة والقوة والسلطة والسعادة يملك عليه الخوف والقلق والكآبة، ويعبر كعبور زوبعة ما أن تهب حتى تختفي، وتصير كأنها لم تكن. أما الصدِّيق ففي وسط تجاربه وضيقاته يملأ الفرح العظيم كيانه الداخلي، إذ يحقق الرب له شهوة قلبه، ويجعله كهيكل مؤسس على أساسات تسنده أبديًا.

يلقي الشرير بنفسه تحت الغضب الإلهي، فتعبر به ثمار شره كالتورنيدو (الإعصار) الذي يهز كيان المدينة، ويكتسح مبانيها، ويسقط أشجارها، فلا يترك غُصنًا ولا جذرًا بل يقتلع الأشجار بجذورها. أما الصدِّيق الذي تتأسس نفسه على الأبدية فلا تقدر كل زوابع العالم أن تهزه، فإن شعر رأسه محصى لدى أبيه السماوي، وهو مختفٍ في صخر الدهور فلا يتزعزع. المثال العملي في العهد القديم هو دانيال النبي والذين اشتكوا عليه. أُلقيَ دانيال في جب الأسود فقضى أروع ليلة عاشها كل أيام حياته، أما المشتكون عليه فظنوا أنهم قد نجحوا في تحقيق خطتهم، لكن سرعان ما افترستهم الأسود.

V      عندما تهب العاصفة، يهلك الأشرار، أما الأبرار فإذ يتفادونها يخلصون إلى الأبد. عندما تهاجم التجربة يسقط الأشرار بسهولة في الخطية. من جانب آخر، يخلص الأبرار أبديًا عندما ينتصرون على التجربة بالصبر وبنفسٍ شاكرة لله. انظروا كيف أن البرّ يحمل أمانًا، فالأبرار يخلصون حين يتجنبون الشر، فإنهم يأخذون موقف الدفاع، ويقفون في ثباتٍ على الدوام. من الجانب الآخر يسقط الأشرار أيضًا حتى عندما لا تهاجمهم تجربة نهائيًا. لذلك فإن الذين يجهلون حكم الله العادل يخطئون بسهولة[310].

القديس يوحنا الذهبي الفم

“كالخل للأسنان، وكالدخان للعينين،

كذلك الكسلان للذين أرسلوه” [ع 26]

كما يُفسد الخل الأسنان والدخان العينين هكذا من يعتمد على الكسلان، فإنه لا يعود إلى مُرسِليه بالنتائج المطلوبة، إنما يسبب لهم أشبه بحالة إحباطٍ وقلقٍ شديدٍ. كما يُقدم السيد المسيح نفسه خبزًا سماويًا يأكله المؤمن فيحيا ويشبع، تقدم الخطية نفسها طعامًا أو خلاً يفسد الأسنان.

قدم لنا السيد المسيح مَثل العبد الكسلان (لو 19: 20-26)، الذي لم يتاجر بالوزنة المعطاة له، ولا حتى سلمها للصيارفة لينتفع بالربح (الفائدة)، وإنما طمرها في التراب، مبررًا ذلك بإهانته لسيده، إذ قال: “لأني كنت أخاف منك، إذ أنت إنسان صارم، تأخذ ما لم تصنع، وتحصد ما لم تزرع” (لو 19: 21).

“مخافة الرب تُزيد الأيام،

أما سِنوّ الأشرار فتُقصَّر” [ع 27]

ربما تقول إن كثيرًا من خائفي الرب قد ماتوا أطفالاً أو شبابًا صغارًا مثل الشهداء أبانوب وأبناء القديسة رفقة والأم دولاجي… فإنهم وإن ماتوا وهو أطفال لكن حياتهم في عينيّ الرب أطول بكثير من شيوخ أشرار بلا ثمر روحي. مقاييس عمر الإنسان في عينيّ الله لا تُحسب بالزمن الذي نعيشه بل بالعمل الذي نُقدمه.

مخافة الرب تطيل أيام الإنسان، حيث تضيف إليه نعمة الله، فيصير اليوم بالنسبة له كألف سنة. أما الشرير فبحرمانه من مخافة الرب يفقد أبديته ويسقط تحت دينونة جهنم المرة.

“منتظر الرب مفرًِح،

أما رجاء الأشرار فيبيد” [ع 28]

بجانب البركة التي ينالها خائف الرب، فتقُدر كل لحظة من لحظات عمره بسنوات طويلة مثمرة، تملاً مخافة الرب حياته بالرجاء في اللقاء مع الله، والتمتع بشركة الأمجاد، فيحيا متهللاً بالروح ويسكب هذا الفرح على الآخرين.

يترقب الصدِّيق أبديته وأبدية إخوته بفرح وسط آلام هذا العالم، أما الشرير فرجاؤه في الأمور الزمنية التي وإن نالها سرعان ما تزول. الشرير المصر على عدم التوبة، إن ترجى مراحم الله لكن بإصراره على عدم التوبة وتهاونه المستمر يفقد هذا الرجاء الباطل.

قيل عن الإسكندر الأكبر أنه لم يشبع قط، لقد بكى لأنه لم يجد عوالم أخرى كي يفتتحها ويخضعها لمملكته، وقد مات وعمره حوالي 33 عامًا، ومات أشبه بمنتحر.

وحانيبال Hannibal الذي ملأ ثلاثة مكاييل ضخمة bushels بخواتم ذهبية سلبها من الذين ذبحهم، انتهت حياته بالانتحار بالسم.

يوليوس قيصر الذي صُبغت ثيابه بدماء مليونًا من أعدائه، هَزم 800 مدينة، جُرح بواسطة أعز صديق له في مشهد نصرته العظيمة.

نابليون الغالب المخوف بعد أن كان المعاقِب، قضى أيامه الأخيرة مُعاقَبًا[311].

  1. أمانه 29 – 30

“حصن للاستقامة طريق الرب،

والهلاك لفاعلي الإثم” [ع 29]

يجد المؤمن في طريق الرب قوة، حيث يرى في الله حصنًا له وبرجًا يحميه، وفي الطاعة له تجديدًا لحيويته، وقدر ما يعمل مجاهدًا يترنم قائلاً: “قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا”.

يقول المرتل:

“الرب صخرتي وحصني ومنقذي، إلهي صخرتي، به أحتمي، ترسي وقرن خلاصي وملجأي” (مز 18: 2).

“الرب نوري وخلاصي ممن أخاف، الرب حصن حياتي ممن اَرتعب” (مز 27: 1).

“الرب عزّ لهم وحصن خلاص مسيحه هو” (مز 28: 8).

“أمل إليَّ أذنك سريعًا. أَنقذني، كن لي صخرة، حصن بيت ملجأ لتخليصي” (مز 31: 2).

“اَخرجني من الشبكة التي خبَّأوها لي لأنك أنت حصني” (مز 31: 4).

“الصدِّيق لن يُزحزح أبدًا،

والأشرار لن يسكنوا الأرض” [ع30]

يفرح الأشرار ظانين أن الأرض مسكنهم الأبدي، لكن في لحظات يُفارقونها، وكأنهم عبروا عليها كالظل ولم يقطنوا فيها. إن عاشوا حتى في قصور يُحسبون كمن في منفى أو كضالين بلا مأوى، لأن أعماقهم لا تتمتع باستقرارٍ. أما البار فيقيم مسكنه على أساس أبدي، لا يقدر الموت أن يزحزحه، يشعر بالأمان والاستقرار، حتى وإن كان مسجونًا.

يقدم لنا الكتاب المقدس أمثلة عملية مثل قايين وهابيل، فقد مات هابيل ولكنه وإن مات فدمه يصرخ (تك 4: 10)! أما قايين فعاش على الأرض هاربًا، يلاحقه الخوف أينما حل. وهكذا أيضًا اسحق وإسماعيل، الأخير أراد أن يقتل اسحق وهو يمزح معه! وهكذا يعقوب وعيسو.

  1. ثمره المتزايد 31 – 32

يُختم الأصحاح بعبارتين عن اللسان [ع31-32]، فقد سبق وقدم أمثلة عن الفم الحكيم واللسان المقدس، يعود فيؤكد أهمية تقديس الفم واللسان.

“فم الصدِّيق ينبت الحكمة،

أما لسان الأكاذيب فيُقطع” [ع 31]

فم الصدِّيق كالشجرة التي تثمر حكمة، تنمو بلا توقف، تشبع قلوب الكثيرين، أما اللسان الذي ينطق بالأكاذيب، فيأتي وقت يُقطع من العالم دون نفعٍ.

ربما يقصد بلسان الأكاذيب مقاومة الإيمان الحقيقي، وبالنطق بالتجديف على الله أو الانحراف عن الإيمان الحق.

“شفتا الصدِّيق تعرفان المُرضي،

وفم الأشرار أكاذيب” [32]

ينطق الأبرار بما يُرضي الله ويُسِره، فيقدمون الحق لبنيان نفوس كثيرة، أما الأشرار فينطقون بتجاديف مُهلكة.

V      لا ترافق ذا اللسان القاسي ولا متعظِّم القلب.

القديس أنبا بولا الطموهي

V      إن حفظنا الإيمان الصحيح وحفظنا الجسد من الزنى واللسان من النميمة، فنحن بنعمة الله مفلحون حسب هذا الزمان.

أنبا بلاّ

فاصل

من وحي أمثال 10

هب لي حكمتك السماوية، فتسمو حياتي بنعمتك!

V      هب لي حكمتك يا أيها الآب القدوس، فأسلك كابن لك،

أصعد على مرتفعات السمو،

فتفرح بي يا أبي العجيب في حبه!

V      هب لي ألا أسمح لجهالاتي أن تسيطر عليَّ،

ولا لغباوتي أن تفقدني الالتصاق بك،

حتى لا تحزن أورشليم العليا أمي بسببي!

V      لاَقتنِ بُر المسيح، فتفيض نفسي بالشبع.

ويمتلئ قلبي بكنوز معرفتك.

لا اَشتهي غني العالم وكنوزه.

أنت هو غناي وكنوز نفسي!

V      أسلك بروحك الذي لا يكف عن العمل.

بروح الاجتهاد والإخلاص أعمل بك.

فتغتني نفسي بك يا أيها الخير الأعظم.

لا أعاني من عوزٍ أو فقرٍ أو جوعٍ!

لا أعرف الخمول، ولا أطلب راحة العالم،

إنما أسعد بالجهاد بنعمتك،

وأجد فيك وحدك راحتي!

V      تهبني روح الاستقامة والبساطة.

لا اَنحرف يمينًا ولا يسارًا.

فتحل بركاتك على رأسي.

ولا يجد الخداع أو المكر له موضعًا في فكري أو قلبي!

V      بنعمتك أحمل بركاتك.

تسندني في غربتي،

وتحفظ ذكراي بعد رحيلي!

انحني هنا أمام وصيتك بروح الطاعة،

أفرح بها ككنزٍ أخفيه في قلبي.

تتهلل نفسي بها،

ويمتلئ كل كياني بالسلام السماوي!

V      بوصيتك أسلك في استقامة،

فتتناغم كل حواسي وعواطفي مع كلماتي وسلوكي.

يتحول كل كياني إلى قيثارة روحية،

يعزف عليها روحك القدوس،

سيمفونية الحب الأبدي!

V      يصير فيَ ينبوع يفيض بمياه حية.

ويتقدس لساني، فلا ينطق إلا حسب نعمتك!

تتحول حياتي إلى حبٍ لا ينقطع،

أستر على أخطاء إخوتي،

فتستر أنت بدم المصلوب على خطاياي.

V      يفيض فمي بحكمتك،

وتتهلل نفسي، إذ تشرق بنور معرفتك عليَّ!

V      تتحول حياتي إلى رحلة ممتعة،

مع كل صباح تنطلق نفسي، كما إلى السماء!

تبهر بصيرتي ببهاء مجدك.

ويصمت لساني في دهشة أمام عرش نعمتك!

اَشتهي الصمت لأسمع صوتك أيها الحبيب.

واَشتهي أن تتكلم بي، ليتمتع إخوتي معي بأسرارك.

V      لا أعرف الهزل ولا الضحك،

أما نفسي، فلا تعرف الكآبة ولا المرارة.

اَعتز بكل ثانية من ثواني عمري،

لأنك لا تكف عن العمل بي في كرمك.

V      تمتلئ نفسي بخوفك يا محب البشر.

فأنمو على الدوام بنوال فيض حكمتك.

أعيش في أمان، لأنني أتحصَّن بأحضانك.

فأنت سِر فرحي وشبعي وسلامي الأبدي.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى