تفسير المزمور ٦ للقمص تادرس يعقوب

المزمور السادس

أول مزامير التوبة

أول مزمور من مزامير التوبة السبعة (6، 32، 38، 51، 102، 130، 143) التي تناسب التعبير عن حال التائب، وقد دُعيت هذه المجموعة هكذا ربما بواسطة القديس أغسطينوس.

يرى البعض أن هذه المزامير السبعة تقابل خطايا داود السبع وهي[177]:

  1. الكبرياء أو الافتخار حين أمر بتعداد رعيته.
  2. الزنا مع امرأة أوريا الحثي.
  3. الغش حيث دعا أوريا من الجيش ليخفي خطيته.
  4. التستر على خطيته بطلبه من أوريا أن يبيت مع زوجته.
  5. قتل أوريا.
  6. تهاونه مع ابنه أمنون الذي ارتكب الشر مع أخته.
  7. قساوة قلبه إذ لم يعترف بخطيته حتى جاءه ناثان النبي بعد حوالي عامين.

لهجة هذا المزمور تناسب الإنسان التائب، فهي تعبر عن شدة الحزن على الخطية، البكاء بدموع غزيرة (5)، كراهية الخطية (8)، الرجاء في مراحم الله (2)…

تكشف الثلاثة مزامير السابقة عن آلام الأبرار بسبب أعدائهم الأشرار، بينما تكابد نفوسهم في هذا المزمور وتعاني بسبب الخطية.

كان داود يعاني من مرض خطير حين كتب هذا المزمور. لقد أدرك تأثير الخطية على حياته الجسدية والنفسية والروحية. يدعو هذا المزمور اليائسين – بسبب شدة وطأة المرض – أن يضعوا يأسهم ومعاناتهم وشكواهم وضيقاتهم بأمانة أمام الرب. بمعنى آخر، عوضًا عن الانخراط في المعناة والحزن، يقدمون التوبة وينشغلون بمخلصهم كمصدر للفرح الحقيقي والتعزية.

يطالب إمام المغنين أن يصحب الترنم بالمزمور آلة ذات ثمانية أوتار Sheminith، لذا جاء عنوانه هكذا: “إلى النهاية، عن التسابيح وفي الثامن، مزمور لداود”.

أُستخدم هذا المزمور في الليتورجيات اليهودية والمسيحية، وكان يُرنّم كل يوم في المجامع اليهودية، وفي الكنيسة اللاتينية. يُرنم أيضًا في كل صباح (صلاة الأجبية) حسب الطقس القبطي.

إطاره العام:

  1. صرخة إلى الطبيب الحقيقي        [1-3].
  2. وادي ظل الموت                  [4-7].
  3. رفض شركة الأشرار             [8].
  4. استجابة الصلاة                            [9-10].

العنوان:

“لإمام المغنين على ذوات الأوتار Niginoth على شيمينوت، مزمور لداود”. وبحسب الترجمة السبعينية: “إلى النهاية، في تسابيح أوكتاف Octave (ثمانية)، مزمور لداود”.

  1. “إلى النهاية”: راجع عنواني المزمورين الرابع والخامس.
  2. “على نيجينوث on Niginoth تعني: “على ذوات الأوتار”.
  3. “على شيمينيث Upon Sheminith وُجدت أيضًا في (1 أي 15: 21) حيث يخبرنا النص عن تعيين مغنين ذوى كفاءة عالية ليرنموا مع عزف قيثارات على “شيمينيث” لكي يمجدوا الله… كما نجد ذوات العنوان في (المزمور 12).

توجد تفاسير مختلفة لكلمة Sheminith منها[178]:

أ. يضع البعض تعبير “على الوفرة الزائدة” عوضًا عنها.

ب. الترجمة الحرفية لـ “على شيمينيث” هي “على الثامن”.

إن كان “الثامن” يُقرأ Octave تتجه أذهاننا للفور إلى أمر يتعلق بالموسيقى، بكون لفظ “أوكتاف” يشير إلى شخص يهتم بالموسيقى أثناء عبادة الشعب كله لله، بينما يرى البعض أنها تشير إلى آلة معينة ربما قيثارة ذات ثمانية أوتار.

ج. يرى البعض أنها تشير إلى يوم الدينونة الأخير الذي يعقب أيام التعب الستة لهذه الحياة واليوم السابع لراحة النفوس ثم يأتي اليوم الثمن الذي هو نهاية العالم الحاضر.

ويرى بعض الكتاب اليهود أن اليوم الثامن هو يوم الختان. ويشير بعض قدامى المسيحيين إليه بكونه يوم الرب، اليوم الذي يعقب سبت اليهود. قاد هذا الفكر إلى عرض لاهوتي حول الخليقة الجديدة المسيحية في المسيح القائم من الأموات. كما تشير “شيمينيث” أيضًا إلى مملكة المسيّا السماوية، حيث تبرأ كل الأسقام الروحية. كتب أحد الحاخامات: “سيحل المسيا الوُثُق التي تربطنا بهذا العالم[179].

يقول أنسيمس الأورشليمي: [إن رقم ثمانية يشير إلى قيامة السيد المسيح، لأنه قام في اليوم الأول للأسبوع التالي، أي في اليوم الثامن بالنسبة للأسبوع الأول (الذي تم خلاله الصلب). لهذا ينبغي أن تُمارس توبتنا من خلال إيماننا بالمسيح القائم من الأموات، الذي يهبنا الرجاء في الحياة الجديدة].

v يمكننا باطمئنان أن نفسر الأوكتاف octave بأنه يوم الدين. لأن نهاية العالم تدخل بنا إلى الحياة الأبدية، فلا تخضع نفوس الأبرار إلى تغيرات الزمن. لأن الزمن كله يتحقق خلال تكرار الأيام السبعة، ومن ثم يشير الأوكتاف (الثامن) إلى اليوم الثامن الذي هو أسمى من تلك الدورة الزمنية.

القديس أغسطينوس

v بعد حفظ السبت، فليحفظ كل صديق للمسيح يوم الرب كعيد، يوم القيامة، ملك (ملكة) كل أيام (الأسبوع)، إذ يتطلع النبي إليه يعلن: “إلى النهاية، في الثامن”؛ فبالارتكاز عليه انطلقت حياتنا من جديد، ونلنا النصرة على الموت في المسيح، أما أبناء الهلاك الأعداء الجاحدون هؤلاء آلهتهم بطونهم ومجدهم في خزيهم، يفتكرون في الأرضيات (في 3: 18-19)، محبون للملذات دون محبة الله، لهم صورة التقوى وينكرون قوتها (2 تي 3: 4)[180].

القديس أغناطيوس الأنطاكي

مادام هذا المزمور هو أول مزامير التوبة التي هي معمودية ثانية، وتمتع مستمر بختان الروح والقلب والحواس، لذا لاق به أن يُدعى: “إلى النهاية، في الثامن”.

فبالتوبة ندخل إلى الشركة مع مسيحنا الذي هو غاية أو نهاية إيماننا، فيقيم ملكوته السماوي في قلوبنا.

بالتوبة ننعم بالقيامة معه كما في اليوم الأول من الأسبوع أو الثامن من أسبوع صلبه… نُصلب معه كل يوم عن  خطايانا ونقوم معه حاملين بره برًا لنا.

بالتوبة نجدد ختان الروح الذي نلناه في المعمودية، فتُصلب أعمال إنساننا القديم ونحمل على الدوام جدة الحياة في انساننا الداخلي.

بالتوبة نعود مع الابن الضال إلى حضن الآب (لو 15)، تتعم بعربونه هنا، وننال كماله في اليوم الثامن، أي يوم الرب العظيم!

لا عجب إذن إن دفعنا المزمور سكب دموع التوبة كي نستدر مراحم طبيب نفوسنا وأجسادنا، فلا يبتلعنا موت الخطية، ولا تكتنفنا ظلمة الليل، بل يعبر بنا إلى ملكوته المفرح.

صرخة إلى الطبيب الحقيقي:

“يارب لا تبكتني بغضبك،

ولا تؤدبني بسخطك.

ارحمني يارب فإني ضعيف،

اشفيني يارب فإن عظامي قد اضطربت

ونفسي قد انزعجت جدًا

وأنت يارب فإلى متى؟” [1-3].

  1. كان داود نبيًا باكيًا مثل إرميا النبي. كان داود أشجع وأعظم من أن يحزن بسبب ضيقٍة خارجية، لكن عندما ثقلت الخطية جدًا على كاهل ضميره رفض أن يتعزى[181]، منتظرًا مراحم الله.
  2. يسأل داود الرب أن يبكته ليس بغضبه [1]. فإنه لم يُصِلّ: “يارب لا تبكتني”. وإنما قال: افعل هذا كأب يُسر بابنه. يقول إرميا: “ادبني يارب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني” (إر 10: 4). ويسأل داود أن تكون أحزانه تأديبات ابن لا عقاب إنسان منبوذ. فإن غضب الرب يُفني أما حبه الأبوي فُيصلح ويُجبر ويُخِلّص.

يسأل داود الله أن يُبكّته في رحمة وصلاح وليس بغضبه، لأن من يصب الله غضبه عليه يهلك، إذ لله قضيبان، واحد للرحمة والآخر للغضب المروّع. يتحدث القديس بولس عن الأخير قائلاً: “تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة” (رو 2: 5).

يُعاني داود من الآلام التالية:

 أ. تعب داخلي: كانت نفسه مرتاعة للغاية، فإنه ليست هناك ضيقة تعادل ضيقة النفس الداخلية! تفسد الخطية كل شيء وتشوهه؛ وتجعل النفس بائسة!

ب. الألم الجسماني والمرض: حيث ينزعج القلب، وترتجف العظام، ويخور الجسد كله وينحل!

 ج. الأعداء الخارجيون: يدرك داود أن المرض الجسماني والأعداء الخارجيين الايُشكِلّون أي خطر يُخشى منه، إنما تكمن المشكلة الحقيقية في أعماقه الداخلية، ألا وهي الخطية! حمل نحميا ذات الفكر، فعندما سمع عن الضيقة العظيمة التي حلت بأورشليم، حيث تهدمت أسوارها وأحُرقت أبوابها بالنار جلس وبكى ناحًا عدة أيام، وتضرع إلى رب السماء، معترفًا أنه قد أخطأ هو وبيت أبيه، طالبًا المغفرة؛ صنع هذا قبل أن يبدأ حركة الإصلاح (نح 1). لم يشكُ من الأعدء، ولم يَلُم القادة الآخرين، إنما لام نفسه وبيت أبيه، واثقًا في الله واهب النصرة لمؤمنيه القديسين.

يرى داود النبي وجود علاقة وطيدة بين الخطية وغضب الله والمرض والألم. فالآلام التي يكابدها الأتقياء تسبب انكسارًا للقلب بسبب الخطية، لهذا يبسط المرتل ذراعيه أمام الرب أينما داهمته ضيقة، صارخًا إلى الله طبيب النفس والعقل والجسم، قائلاً: “اشفني يارب فإن عظامي قد اضطربت” [2]، طالبًا عونًا للنفس وقوة؛ لأن هذا هو معنى “العظام”. يرى بعض الدارسين أن العظام تعني الهيكل الداخلي، وهنا تمثل الجسم كله. باضافته “النفس” [3] يقصد المرتل كيان الإنسان كله! ولا سبيل لشفاء الجسد والنفس بالنسبة للمرتل إلا في الالتجاء والاحتمال بنعمة الله ومراحمه، إن أراد الله تراءف على ضعفه، وخلصه من الضيق الذي ارتاعت به نفسه.

هذه الصرخة ليست إلا اعترافًا بضعفنا الكامل وعجزنا عن خلاص أنفسنا وما رجاؤنا في أي صلاح إلا في المراحم الإلهية!

يقول القديس يوحنا كاسيان: [بإن البعض يعتقدون أن الغضب ليس ضارًا، إن غضبنا على الذين يخطئون، مادام قد قيل عن الله نفسه إنه غضب، إذ يقول المرتل: “يارب لا تبكتني بغضبك ولا تؤدبني برجزك”].

ترى الكنيسة أن الحديث هنا خاص بالسيد المسيح بكونه حامل خطايانا، فترنم الآية 2 في صلاة الساعة الحادية عشر من يوم الأربعاء من البصخة المقدسة، حيث تشير إلى آلام السيد المسيح الحقيقية التي سببتها خطايانا؛ لقد انزعجت نفسه جدًا، إذ صرخ قائلاً: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت”، كما دخل إلى ضعف الجسد، إذ يقول: “أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف” (مر 14: 38)، وقيل عنه في البستان: “وإذ كان في جهاد يصلي بأشد لجاجة، وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض” (لو 22: 44)… هكذا اضطربت عظامه، لا عن خطية ارتكبها إنما عن خطايانا التي حملها فيّه ليقتلها بصليبه!

وادي ظل الموت:

“وأنت يارب فإلى متى؟…

لأنه ليس في الموت من يذكرك،

ولا في الجحيم من يعترف لك” [4-6].

سؤال يحمل عمق اليأس وعجز الإنسان اللانهائي! يتكرر في الكتاب المقدس ثلاثين مرة.

إذ شعر المرتل أن خطيته تستحق الغضب الإلهي والرجز، وأن كيانه كله قد انهار، بدأ يصرخ من أعماقة يسأل الله ألا يسخط عليه، ولا يتركه هذا يهلك حتى النهاية، فقد حّلْ الموت بنفسِه وها هو جسده ينهار سريعًا ليدخل إلى القبر، ويُحبس كيانه في الجحيم… لذا لا خلاص له إلا بالنعمة الإلهية والمراحم الأبوية! “عُد ونج نفسي واحيني من أجل نعمتك” [3-4].

يرى القديس أغسطينوس أن المرتل يدعو الخطية “موتًا”، لأنها تنتج موتًا، وتيقن داود أنه بالخطية قد انحرف إلى الجحيم، كما لو كان ميتًا، وأنه لا طريق له للخلاص إلا بالمراحم الإلهية، يبلغها خلال التوبة.

  1. يبدأ داود توبته بحديث صريح مع الله: “وأنت يارب فإلى متى؟” وكما يقول القديس أغسطينوس: [الله الذي يُقال له: “وأنت يارب فإلى متى؟” يجب ألا يُنظر إليه كإله قاسٍ، بل كحنون يقنع النفس (بالحوار)، أي شر جلبته على ذاتها. فإن هذه النفس لم تصِلّ بعد بكمال، لذا يمكن أن يقال لها: “وبينما أنتِ تتكلمين بعد أنا أسمع” (أنظر إش 65: 24)].
  2. “عُد يارب نج نفسي”[4]. لماذا يقول المرتل “عُد”؟ أليس الله حاضر في كل مكان؟

يجب أن نميز بين نوعين من الحضور؛ حضور الله المالئ كل مكان؛ وحضور النعمة حيث يسكن وسط شعبه وفي داخل قلوبهم، معلنًا اتحادهم به.

حضوره في كل مكان يشجع المؤمنين على الصلاة إليه، عالمين أنه قادر أن يسمع أينما وجدوا؛ لكنهم محتاجون إلى حضور النعمة. فإن أخصر الضيقات وأمرّها على الإنسان هو “غياب الله” عنه. في هذا يحِذّر الله شعبه، مهددًا: “أذهب وأرجع إلى مكاني حتى يُجازوا ويطلبوا وجهي، في ضيقهم يبكرون إليّ” (هو 5: 6). حينما يحجب الله وجهه يرتاع الشعب وتُحسب عودته من مراحم الله الجزيلة[182].

يقول القديس أغسطينوس: [إذ ترجع النفس تتوسل إلى الرب كي يرجع هو أيضًا إليها، كما قال: “ارجعوا إليّ أرجع إليكم يقول الرب” (زك 1: 3). أو هل يمكن فهمها هكذا: “ارجع يارب” بمعنى اجعلني أرجع، إذ تجد النفس صعوبة ومشقة عظيمة في رجوعها!… أو بمعنى: أعنا لكي يكمل فينا الرجوع، فنجدك مستعدًا لتقدم ذاتك لكي تهب أثمارًا للذين يحبونك].

التوسلات التي بها يقدم طلباته لا تحرك الله بل تحرك نفسه، فينال النعمة الإلهية، ويتصالح الله معه. إنه يشكو بؤسه متوسلاً إلى مراحم الله الجزيلة كي تشمله، متضرعًا إلى مجد الله [5] إذ لا ذكرى (لله) في الموت (الخطية).

  1. “نج نفسي من أجل نعمتك” [4]؛ كأنه يقول اشفني لا عن استحقاقي الذاتي وإنما من أجل مراحمك!
  2. “لأنه ليس في الموت من يذكرك، ولا في الجحيم من يعترف لك” [5].

يليق بنا ألا نعجب من أن يحسب داود النبي الموت فصلاً تامًا لكل رباط بين الله والخاطئ، حيث لا توجد أية فرصة للتوبة! مسرة الله هي في الصِدّيق الذي يسبحه ويحمده لا بلسانه فقط وإنما بحياته كلها. لهذا يتضرع المرتل إلى الرب أن يهبه نعمته الإلهية قبل فوات الوقت المقبول.

v ثمة تفسير أخر، أن المرتل يعني بالموت الخطية التي يقترفها الإنسان ضد الناموس الإلهي، لهذا تُدعى شوكة الموت، مادامت تؤدي إليه؛ “لأن شوكة الموت هي الخطية” (1 كو 15: 56). هذا الموت يتمثل في تجاهل الإنسان الله، واحتقاره ناموسه ووصاياه. لهذا يستخدم المرتل تعبير “الجحيم” بكونه العمى الذي يحل بالنفس فيهلكها بالخطية.

القديس أغسطينوس

v كما أن ملكوت الشيطان يمكن اكتسابه بالاتحاد مع الخطية، هكذا يمكن اكتساب ملكوت الله بممارسة الفضيلة في نقاوة قلب وبمعرفة روحية. لكن حيثما وُجد ملكوت الله فبالتأكيد تكون متعة الحياة الأبدية، وحيثما وُجد ملكوت الشيطان فبلا شك يكون الموت والقبر، والإنسان في هذه الحل لا يقدر أن يسبح الله كقول النبي… فالإنسان ولو دعا نفسه مسيحيًا آلاف المرات أو راهبًا، لا يقدر أن يعترف بالله بينما هو يخطئ من يسمح لنفسه أن يصنع ما يكرهه الله لا يقدر أن يعترف بالله، ولا أن يدعو نفسه أنه بالحق خادم الله. فإن من يحتقر وصايا الله بغباء وطياشة يسقط في الموت الذي تسقط فيه الأرملة المتنعمة، الذي يقول عنه الرسول: “وأما المتنعمة فقد ماتت وهي حية” (1 تي 5: 6).

هناك كثيرون أحياء بالجسد لكنهم أموات ولا يقدرون على التسبيح لله… وهناك كثيرون قد ماتوا بالجسد لكنهم يسبحون الله بأرواحهم، إذ يُقال: “يا أرواح وأنفس الأبرار سبحي الله” (راجع دا 3: 86- تتمة دانيال في الترجمة السبعينية)، “كل نسمة فلتسبح الرب” (مز 150: 6)[183].

الأب موسى

v   لأن الحياة الحاضرة بالحقيقة هي زمان السيرة الحسنة، لكن بعد الموت تكون الدينونة والعقاب، إذ كُتب “ليس في الجحيم من يعترف لك”[184].

v   إنها لكارثة عظيمة أن يرحل الإنسان إلى العالم الآتي بأثقال الخطايا… حيث مكان الدينونة، ولا مجال للتوبة[185]!

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   لنتب هنا، فنجد الله رحيمًا معنا في اليوم الآتي، ونوجد قادرين على التمتع بالمغفرة الجزيلة التي ننالها جميعًا[186].

القديس يوحنا الذهبي الفم

المفهوم القديم عن سكنى الأموات في العالم السفلي أو بالعبرية “شيئول Sheol” لم يكن يفترض وجود نشاط للراحلين أو عواطف سامية لهم، إنما كانوا يُصوِّرون بأنهم محاطون بظلمة النسيان. وقد شارك بعض العبرانيين في هذا المفهوم العام إلى حد ما حتى زمن السيد المسيح، حيث أعلن الله مفهومًا أوضح وأعمق عن الحياة ما بعد الموت[187].

  1. “أعوّم كل ليلة سريري،

وبدموعي أبل فراشي” [6].

“كل ليلة”: ما أن ارتكب الخطية حتى صار في ظلمة كأنه في ليل، يرقد في فراشي الشهوات الدنسة الجسدانية. لهذا صار يبكي طالبًا مراحم الله. ناح داود بالليل على فراشه، حيث يرقد مع قلبه، ولم تشهد عينٌ ما حُزنه وآلامه، إنما تراه عين الله الذي كله عين (يرى الكل).

v أي شيء يمكن غسله بمجرد (صب ماء عليه)، بينما “البلل” يعني غمس الشيء بأكمله في الماء؛ هذا هو ما تشير إليه الدموع التي أغرقت أعماق القلب الداخلية فتبلل.

القديس أغسطينوس

v   حَزن داود وناح على الخطية التي ارتكبها منذ زمان بعيد وسنوات عديدة، كأنها حدثت منذ عهد قريب[188].

v   لم يطغه الثوب القرمزي الملوكي أو التاج على الإطلاق ولا كان متعاليًا بهما، إذ كان يدرك أنه إنسان، كلما شعر قلبه بالندامة راح يبكي نائحًا.

إن كنا نتذكر على الدوام خطايانا، لا يمكن للظروف الخارجية أن تجعلنا نتغطرس: لا الثروات ولا السلطان ولا الكرامة ولا إن جلسنا حتى في المركبة الملوكية ذاتها، وإنما نئن في مرارة[189].

v أترغبون في معرفة ما يجعل الفراش جميلاً حقًا؟ سأريكم الآن كرامة الفراش، لا فراش مواطن عادي أو جندي بل فراش ملك…، فراش أعظم ملك، أعظم ملوكية من كل الملوك، الذي لا يزال حتى الآن يُكرم بالترانيم في العالم كله؛ إنني أريكم فراش الطوباوي داود، فماذا يكون فراشنا؟ فراشه لم يكن مزينًا بالذهب والفضة، بل بالدموع والاعترافات… إنه يثّبت دموعه كاللآلئ في كل موضع من فراشه[190].

v   مزامير داود تُسبب فيضانًا من الدموع تنسكب! فكروا (في القديسين) كيف يقضون الليل كله في ذرف الدموع[191].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   بذرف الدموع ننال غسل المعاصي[192].

الأب بينوفيوس

v   ليس كل نوع من ذرف الدموع يتم بشعور متشابه أو بفضيلة ما واحدة:

* فمن ناحية قد تصدر الدموع بنخس خطايانا التي تضرب قلوبنا (مز 6: 7).

* وبطريق آخر، قد تنهمر الدموع خلال التأمل في الخيرات الأبدية والرغبة في المجد المقبل (مز 119: 5-6).

* وبوسيلة أخرى، تفيض الدموع لا خلال الشعور بخطية مميته وإنما خلال الخوف من الجحيم وتذكر الدينونة الرهيبة، التي ضرب بها النبي فصلى إلى الله، قائلاً: “لا تدخل في المحاكمة مع عبدك لأنه لن يتزكى كل حيّ أمامك” (مز 113: 2).

* أيضًا ثمة نوع آخر للدموع، علتها لا خطايا الإنسان بل قساوة قلوب الآخرين وخطاياهم، بهذه الدموع وُصف صموئيل أنه بكى لأجل شاول[193]

الأب إسحق

v للصلاة المقدمة في المساء قوتها العظيمة، أكثر من تلك التي تُقدم في النهار. لهذا اعتاد كل القديسين أن يصلوا خلال الليل وهم يجاهدون ضد ثقل الجسد وعذوبة النوم،

مقاومين الطبيعة البشرية…

ليس شيء مخيٌف حتى بالنسبة للشيطان نفسه مثل الصلاة التي نرفعها ليلاً[194].

v لتكن هذه هي العلامة لكم، حينما تقتربون من الدخول إلى تلك المدينة؛ حينما تفتح النعمة عيونكم فتدركون أمرًا بالبصيرة الضرورية؛ عندئذ تبدأ عيونكم في ذرف الدموع حتى تغسل وجناتكم بسبب غزارتها[195].

v   الدموع بالنسبة للعقل هي التميز الأكيد بين الجسدانية والروحانية، وبين الإدراك العقلاني والنقاوة[196].

v كل مرة يثور في الروح التفكير في الله يشتعل القلب بالحب حالاً، فنذرف العينان دموعًا بغزارة؛ إذ اعتاد الحب على ذرف الدموع عند لقاء المحبوب[197].

القديس مار إسحق السرياني  

  1. “ساخت (اضطربت) من الغم (الغضب) عيني [7].

v اسمعوا كيف يصف المرتل أن الغضب يغطي عين القلب بسحابة كثيفة، فيقول: “بالغم” [7]، أو “بالحزن”. أيضًا يشهد القديس يوحنا الإنجيلي كيف يُعمى الغضب عيني القلب: “الذي يكره أخاه هو في الظلمة ويسير في ظلمة، ولا يعرف إلى أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه! (1 يو 2: 11). بحسب هذه الشهادة، تُعمي عين القلب بالغضب المفاجئ، لكن نور المحبة ينطفئ بالكراهية[198].

الأب قيصريوس أسقف آرل

v   ليس ما يُكِدّر العين مثل الضمير الشرير… ليس ما يظلمها هكذا! حرروها من ذلك الأذى، فتجعلونها قادرة وقوية، منتعشة بالرجاء الحسن[199].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v   النفس وهي في حالة الاضطراب الذي يمنعها من رؤية الله، إذا ما بدأت في الالتحام بالحكمة الإلهية تبدأ شمسها الداخلية في الإشراق.

القديس أغسطينوس

رفض شركة الأشرار:

إذ يتأكد العابد استجابة صلاته كهبه من الله، يمتلئ قلبه قوة جديدة، ويتغير مسار أفكاره ونغمة صوته ومزاجه. عوض القلق والكآبة والرثاء نسمعه كإنسان قد استعاد هدوءه، كاشفًا عن إرادة قوته في الله.

عندما تُستجاب صلاة قلب التائب تتحول أحزان الليل إلى خلاص الصباح، ويرفض المرتل الشركة مع الأشرار حتى يتجنب الظلمة وظلال موت الجحيم.

“ابعدوا عني يا جميع فاعلي الإثم،

لأن الرب قد سمع صوت بكائي.

الرب سمع تضرعي.

الرب لصلاتي قبل.

فليخر وليضطرب جميع أعدائي،

وليرتدوا إلى ورائهم بالخزى سريعًا جدًا” [9-10].

ما يُعبر عنه المرتل هنا ليس رغبة للانتقام ولا غضبًا بل هو كشف عن معرفة حقيقية تصدر عن الإيمان، معرفة بما يفعله الله مع (العابد) واصفًا أثر ذلك على معانديه.

v أما من جهة أن النبي يسبق فيعلن (يتنبأ) عما سيحدث في يوم الدينونة حينما يُفصل الأشرار عن الأبرار، أو أنه يطلب الانفصال بينهما من الآن، فواقع الأمر أنه مع أن (الفريقين) يشتركان معًا في ذات المجتمع، إلا أنه عندما تُبدر الحنطة تُفصل حبوب القمح النقية عن القش، وإن كان حسب الظاهر يبدو أنه مختلط به. فالقمح والتين يمكن أن يوجدا معًا، لكن لا يمكن أن يجتمعا معًا إذا ما ذراها الريح.

القديس أغسطينوس

استجابة الصلاة [8-10]

حدث تغير مفاجئ، فالمرتل الذي كان يئن ويتنهد باكيًا، حاسبًا أنه فقد كل شيء،

نراه هنا يتحدث بفرح شديد.

المراحم التي ننالها بالبكاء والصلاة تناسبنا جدًا للتمتع بالرجاء.

من السهل جدًا على الله أن يربك أعداءنا في لحظة ليرد لنا بهجة خلاصنا وفرحنا فيه.   

 


 

توبني فأتوب

v   هب لي أيها الطبيب الحقيقي ينابيع دموع لأبكي على خطاياي الكثيرة!

v   انتزع موت الخطية فتنطلق كل حياتي بالتسبيح لك!

v   نجني يارب من أجل فيض نعمتك! احملني إلى ملكوتك المفرح!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى