الصليب من الوجهة السرية

SACRAMENTAL

الـصـلـيـب كـان أداة فعالة تمت عليها و بواسطتها أسرار عظمى للإنسان : الخلاص والصلح والسلام والغفران والشفاء من موت الكبرياء ، ودحر قوة الشيطان وتقييده .

فـصـار الـصـلـيـب وهـو حـامـل لمضمون هذه القوى الإلهية المتعددة ، لا يحسب بعد كـمـجـرد أداة تمت عليها هذه النعم والبركات والأسرار العظمى، بل كسر فعال يحمل قوتها واستمرارها . وفعلاً يشدد القديس بولس الرسول على هذا المعنى للصليب المقدس و يبرزه بـصـورة واضـحـة خـالـصـة «عاملاً الصلح بدم صليبه» (كو 1: 20). إذن ، فـالـصـلـيـب في اعـتـبـار الرسول قوة فعالة متصلة إتصالاً جوهر يا سرياً بدم المسيح . هنا نلاحظ أن الدم الإلهي ينسبه الرسول إلى الصليب كما اعتدنا أن ننسبه إلى المسيح نفسه . فكما نقول «دم المسيح » يقول القديس بولس الرسول «دم الصليب »[1].

و بذلك يبرز لنا الوحي الإلهي المضمون الإلهي السري للصليب ! وهنا يضطرنا عجز اللغة العربية إلى أن نشرح كلمة « السري » ، إذ لا يقصد بها معنى « الخفي» فقط ، وإنما يزاد عليها معنى « مـواهـب الـنـعـمـة» التي هي ترجمة الكلمة اليونانية « خارزماتا » Charismata . وبذلك فكلمة « السري» هنا هي بالمفهوم الكنسي « مواهب النعمة الخفية» أي : sacramental . أي أن الصليب يحمل قوة إلهية ذات مواهب للنعمة غير منظورة ، و بذلك دخل الصليب ضمن أسلحة إيمان المسيحي   الـقـويـة بالنسبة للمؤمنين بسر اللاهوت و بأسرار التدبير الإلهي . أما سر اللاهوت فهو سر الـثـالـوث ، وسر التجسد، وسر الفداء ، وأما أسرار التدبير الإلهي فهي الأسرار الكنسية السبعة المعروفة .

1 ـ الصليب وسر اللاهوت

أولاً ـ بالنسبة لسر الثالوث : 

إن الإرتباط بين الصليب وسر الثالوث بالنسبة للإيمان المسيحي هو ارتباط جذري ، لأنـه لـولا مـوت الإبـن المـتـجـسـد وقيامته ما استطعنا أن نكشف ألوهية المسيح و بنوته الجـوهـريـة للآب : « وتعين أبن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات » (رو 1: 4). ثم إن ألـوهـيـة الإبن كشفت ألوهية الروح القدس . وهكذا صار الصليب الواسطة الفعالة لكشف سر الثالوث في الله الواحد : الآب والإبن والروح القدس، الأمر المغلق على العقل « الذي لم يعرف به بنو البشر . » ( أف 3: 5 )

إذن ، لا يمكن الوصول إلى الإيمان بالثالوث إلا عن طريق الإيمان بموت المسيح على الـصـلـيـب وقيامته ، من هنا دخل الصليب كقوة إيمانية كاشفة لبصيرة الإنسان ومنيرة للذهن بها يستطيع أن يبلغ الإنسان إلى الإيمان بالثالوث .

لذلك نجد أن كـل صـلاة داخـل الـكـنـيـسـة أو خارجها لا بد أن تبدأ بالإعتراف بالثالوث الأقدس ، فنسمع الكاهن يقول في بدء كل صلاة طقسية وغير طقسية : « باسم الآب والإبـن والـروح القدس الإله الواحد آمين » . وفي نفس الوقت يلتزم الكاهن أن يرفع الصليب و يرشم به نفسه على مثال الصليب .

وهـنـا رشـم الـصـلـيـب هـو لإستمداد قوة الصليب للإعتراف العلني بسر الثالوث ، بـاعـتـبـار أن مـوت الإبن على الصليب وقيامته هو المدخل الأساسي لمعرفة سر الثالوث والإيمان به .

ومـا هـو مفروض على الكاهن مفروض على كل مسيحي ، إذ ينبغي أن يبدأ صلاته الخـاصـة أو يبدأ كلامه وشهادته في وسط المؤمنين باسم الثالوث و برشم الصليب تدعيماً للإيمان المسيحي واعترافاً علنياً به .

ثانياً ـ بالنسبة لسر التجسد :

لم يـكـن ممكناً أن يستعلن سر التجسد الالهي إلا بواسطة الصليب . لأن الذي حقق لنا أن أبن الله أخذ جسداً حقيقياً مساو يأ لنا تماماً، هو موته على الصليب ، ثم أثبتت قيامته أن جسده كان خالياً من الخطيئة تماماً أي كان جسداً إلهياً !

وبما أن الصليب هو الذي كشف لنا حقيقة سر التجسد الإلهي ، لذلك صار تعبيراً عن الإيمان بهذه الحقيقة الإلهية المعجزة .

ولـكـن ، معروف أن أبن الله تجسد ليصل إلى الصليب بسهولة و يتمكن من الموت عليه، حتى بمـوتـه على الصليب يوفي عنا عقوبة الموت و بقيامته حياً بجسده يعطينا نفس الحياة: «فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم أشترك هو أيضاً كذلك فيها لكي يبيد بالموت ( الصليب ) ذاك الذي له سلطان الموت . » (عب 2: 14)

إذن ، فمـجـرد رسـم عـلامـة الصليب على أنفسنا يحسب إيماناً وشهادة أن الله ظهر في الجسد ومات وقام ، ليس كمجرد تعبير عن هذا الإيمان وإنما تقبلاً باطنياً لهذا السر، لأن الله أخذ جـسـدا هـو في الحقيقة جسدي وجسدك وجسد كل إنسان ، ما خلا الخطيئة ، واتحد به جاعلاً إياه واحداً مع لاهوته ، حتى إن كل ما يعمله بهذا الجسد يكون لنا نصيب فيه : « فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم أشترك هو أيضاً كذلك فيها » . لذلك فحينا أؤمـن بـالـتـجـسـد الإلهي وبموت الرب وقيامته ، أدخل ضمناً في هذا السر الإلهي الفائق كـشـر يـك فـيـه . وحينها أرشم ذاتي بالصليب أهيىء نفسي لقبول شركة في هذا التجسد والموت الذي تم من أجلي ، وفي جسد هو من جسدي حتى أنال منه أيضاً الحياة :
[ البحر هو العالم والكنيسة تعبر فيه وتتصادم بأمواجه ولكنها لا تتحطم لأنها تحمل رباناً ماهراً هو المسيح ، وترفع في وسطها علامة النصرة فوق الموت التي هي صليب
ر بنا . ] هيبوليتس ( 235م)

ثالثاً ـ بالنسبة لسر الفداء

الفداء معناه انعتاقنا من سطوة القوة الشريرة التي استولت علينا بسبب انفصالنا عن الله ، وذلك بواسطة دفع ثمن مساو.

فموت المسيح الكفاري وسفك دمه على الصليب هو الثمن المدفوع فدية عن كل نفس تـؤمـن بالمسيح وبموته على الصليب : « الذي فيه لنا الفداء بدمه » ( أف 1: 7)، إذ «صار موت لـفـداء التعديات» (عب 9 : 15). لذلك كل من فداه المسيح بالدم على الصليب أصبح محسوباً أنه يتبع قطيع الرب ، لأن المسيح اشتراه من عدو قتال هو الموت : «إنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن» ( 1كو 6 : 19و20)، هذا الثمن هو الصليب . لذلك أصبحت إشارة الصليب هي صك الحرية من عبودية الموت والخوف والرعبة من أهـوالـه : « لكي يبيد بالموت ( الصليب ) ذاك الذي له سلطان الموت أي إبليس و يعتق أولئك الـذيـن خـوفـاً مـن المـوت كـانـوا جميعاً ـ كـل حـيـاتهم ـ تحت العبودية . » (عب 2: 14 و15)

لهذا نرى في الـتـقـلـيـد المسلم لنا من الآباء أن رشم إشارة الصليب قوة ترفع عنا أي خـوف مـن أي نـوع أو أي رعـبـة تهددنـا ، باعتبار أنه بالصليب قد نلنا حرية من عبودية الموت وممـن لـه سـلطان الموت ، أي إبليس مع كل تهديداته ، سواء كانت قوات الظلمة الخفية أو قوات الشرير المنظورة .

فبقدر ما تعطينا إشارة الصليب من قوة للتحرر من الخوف والرعبة ومن سلطان الشر بـاعـتـبـار أنهـا الثمن المدفوع بسفك دم المسيح لحياتنا ، بقدر ما هي في نفس الوقت ترسل الـرعـبة والدمار على قوات إبليس فتبددهم باعتبار أن المسيح دحر الشيطان على الصليب وقيده بهذه العلامة إلى يوم الدينونة العظيم .

٢ ـ الصليب وأسرار الكنيسة السبعة 

العلاقة بين الأسرار السبعة في الكنيسة و بين الرشم بالصليب علاقة فوق الوصف ، و بالإجمال لا يمكن أن يتم أي سر بدون رشم الصليب .

والـسـبب في ذلك أن الأسـرار الـسـبـعـة هـي نقطة تحول في الإيمان من حالة نطق واعتراف إلى حالة عمل وممارسة :

[ إن سر اللاهوت يمكن أن نحصل عليه دائماً حينها نعترف بالثالوث المقدس الآب والإبـن والروح القدس ، أما خلاصنا فإنه يتثبت حينها نشترك في الأسرار المرسومة ورمـوزهـا… ومن بين هذه المـرسـومـات المـفـروضـة عـلامـة الصليب والصلوات والمعمودية والإعتراف بالخطايا . ] 

 القديس غريغور يوس النيسي

لذلك فـالأسـرار جميعاً تحتاج إلى قوة سرية حتى تنسكب النعمة على المؤمن الذي يمارس السر إلى أن يكمل فعله فيه . وهذه القوة تتم باستدعاء الروح القدس بعد أن يُرشم المؤمن بالصليب كما تُرشم مادة السر أيضاً .

وهنا رشم الصليب يحمل سر اللاهوت وقوة فعله :
+ فالرشم بالصليب اعتراف بالثالوث ، و بالتالي دخول في مجال قوته .
+ والرشم بالصليب اعتراف بالتجسد الإلهي ، و بالتالي الحصول على الموت والحياة .
+ والـرشـم بـالـصـلـيـب اعـتـراف بالفداء ، و بالتالي نوال الإنعتاق من كل سلطان
إبليس وقواته المنظورة وغير المنظورة .

أولاً ـ الصليب في المعمودية والمسحة : –

1 – يـرشـم المـاء بـالـصـلـيـب باسم الآب والابن والروح القدس ختم سر اللاهوت المثلث القوى أي :

+ تحل قوة الثالوث على الماء « في حالة المعمودية بتدخل الثالوث » .

القديس يوحنا ذهبي الفم

+ «لـقـد اعـتـمـدت باسم الله ، إذن فاعترف باسم الثالوث آب وأبن وروح قدس ثلاثة أقانيم ، هؤلاء الثلاثة سيكونون سوراً منيعاً لك ضد الإنقسام والخصام . ولا تشك في هذا الحق لئلا تهلك بواسطته » .

في التوبيخ والتوبة للقديس مار أفرام السرياني

+ وتصير طبيعة الماء مميتة ومحيية ، مميتة لخطايا الجسد ومحيية للروح في الله .

+ وتنحسر كل قوة الشيطان عن الماء فيصير الماء مقدساً وطاهراً فيحل الروح القدس في الماء تبعاً لذلك، و ، ويصير الماء حسب قول القديس كيرلس الأورشليمي : [ حاملاً المسيح . ] (العظة 78 على إنجيل يوحنا).

+ وتتم الولادة السرية بالتغطيس ثلاث مرات :
[والـتـغـطـيـس يتم ثلاث مرات حتى نعلم أن قوة الآب والإبن والروح القدس
تصنع هذا.] [و بذلك ليست المعمودية فقط تدعى صليباً بل والصليب أيضاً يدعى معمودية . ]

القديس يوحنا ذهبي الفم

٢ – ثم يُـرشـم المـعــد بـالمـيـرون على كـافـة أعـضـاء جسده 36 رشماً بالصليب : [و يتقبلوا على جباههم العلامة العظيمة المرتفعة ( التي للصليب ). ]

لكتانتيوس 260- 330م

[يقف حملان المسيح بالفرح حول جرن المعمودية ، حيث في الماء يلبسون صورة الصليب الحي الإلهي والكل يختم به ختماً كاملاً . ]

( من تسابيح عيد الظهور للقديس مار أفرام السرياني )

فيحل على المعمد سر اللاهوت بفعله المثلث القوى كما حدث في الماء ، أي :

+ تحل قوة الثالوث على المعمد.

+ وتصير طبيعته البشرية الجديدة ميتة للخطية ( أي ليس للخطية سلطان الموت عليها )، وحية الله ( أي ذات حياة أبدية فيها ) .

+ تنحسر قوة الشيطان عن الإنسان فيصير مقدساً طاهراً فيحل الروح القدس تبعاً لذلك و يسكن فيه باعتبار أنه صار هيكلا الله « أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم … لأن هيكل الله مقدس الذي أنتم هو. » (1كو 3: 16 و17)

 

ثانياً ـ الصليب في الإفخارستيا (سر التناول ):

لكي يكمل الكاهن خدمة القداس الإلهي، أي يهيىء الأسرار المقدسة للمتناولين ثم يهيىء المتناولين للأسرار المقدسة ، يجري ثلاث مجموعات من الرشومات بالصليب بكل دقة وحذر عددها 42 رشماً .

المجموعة الأولى :

وعددها 18 رشماً بالصليب على الخبز والخمر ليتم تقديسها ، و يعدهما للتحول إلى جسد ودم المسيح بحلول الروح القدس .

المجموعة الثانية :

وعددها 18 رشماً بالصليب على الشعب وعلى نفسه وعلى الشمامسة حتى يقدسهم و يعدهم مع نفسه لحلول الروح القدس ليؤهلوا جميعاً للتناول من الأسرار المقدسة ، أي من الجسد الإلهي والدم الإلهي .

المجموعة الثالثة :

وعـددهـا سـتـة رشـومـات على الجـسـد والـدم بعد التحول ، ولا يكون هذا الرشم بـواسـطـة صـلـيـب اليد وإنما يكون بواسطة غمس الأصبع في الدم والرشم به على الجسد، ومسك جزء من الجسد ( الأسباديقون ) والرشم به على الكأس، وذلك ليصير الجسد والدم معاً وحدة واحدة وسراً واحداً .

 ومفهوم الرشم بالصليب على الخبز والخمر باسم الآب والإبن والروح القدس هو في الـواقـع لـتـحـقـيق سر اللاهوت ، أي حلول سر الثالوث وسر التجسد وسر الفداء . ثم بعد الـرشـومـات مـبـاشرة يستدعي الكاهن الروح القدس فيحل على الخبز والخمر بدون مانع لأنـه يـكـون قـد صـار تقديسها بالرشم والصلاة . و بذلك يصبح الخبز والخمر جسداً ودماً يحـويـان مـعـاً قـوة سر اللاهوت وطبيعة الجسد والدم ، حتى إن كل من يتناول منها يصير مـؤمـنـاً مـعـتـرفـاً مـتحـداً بسر الثالوث وسر التجسد وسر الفداء وحائزاً لنعمة وطبيعة هذه الأسرار: «كـل مـرة تـأكـلـون مـن هـذا الخـبـز ( السمائي ) وتشربون من هذه الكأس ( البركة) تبشرون بموتى وتعترفون بقيامتي وتذكرونني إلى أن أجيء ».

ثم مـفـهـوم رشـم الـكـاهـن بالصليب على الشعب وعلى نفسه وعلى الشمامسة الخدام بـالثـانـيـة عشر رشـمـاً التي يختمها برشومات الثلاثة تقديسات ، هو لكي يكون الشعب والـكـاهـن والشمامسة قد تقدسوا بحلول السر الإلهي المثلث القوى ، أي قوة سر الثالوث وقـوة سر الـتـجـسـد وقـوة سر الـفـداء . وهذا استعداد لحلول الروح القدس الذي يهيىء المتناولين لنعمة الجسد والدم .

من الإشـارات الـقـديمـة جـدأ التي توضح ضرورة رشم الكاهن لنفسه بالصليب على جبهـتـه عـنـد بدء القداس ، ما وجد في قداس القديس يعقوب الرسول الذي تحقق العلماء مـن قـدم المخطوطة الحاوية لهذا القداس مع بقية تعاليم الرسل التي وصلت إلينا ، ونسبوها على الأقل إلى منتصف القرن الثاني الميلادي :

[وليلبس ثوبه البراق و يقف بجوار المذبح و يصنع رشماً بالصليب على جبهته بـيـده أمام كل الشعب و يقول : نعمة الله القادر على كل شيء ومحبة ربنا يسوع المسيح وشركة الروح القدس تكون مع جميعكم . ]

ثم مفهوم رشم الجسد والدم منها وإليها بدون استخدام الصليب ، يوحد الجسد والدم فيصبحان سراً واحداً . تقول القسمة السريانية مؤمنة على هذا العمل السري : « هكذا نؤمن أن هذا الجسد لهذا الدم وهذا الدم لهذا الجسد، أنت هو يسوع المسيح » .

وقداس الـقـديس يعقوب الرسول يوضح جدا هذه الحقيقة السرية بصلاة خاصة مع رشم الصليب إذ يقول :

[وعندما يقسم الكاهن الخبز ( السمائي ) إلى قسمين و يضع النصف في يده اليمنى والـنـصـف الآخر في يـده الـيـسـرى ، يغمس النصف الأيمن في الكأس و يقول : « الإتحاد الذي للجسد الكلي القداسة والدم الثمين الذي لربنا وإلهنا ومخلصنا يسوع المسيح» ، ثم يرشم به صليباً على النصف الأيسر، و يرشم بالأيسر صليباً على الـنـصـف الأيمن واضعاً قطعة في الكأس و يقول : «قد صار واحداً وتقدس وأكمل باسم الآب والإبن والروح القدس».]

ومـن هذا يتحقق أن الرشومات بالصليب في سر الإفخارستيا عامل أساسي لتقديس القرابين والـكـاهـن والشعب ، وأن هذا التقديس ضرورة حتمية لإمكانية حلول الروح القدس الذي :
أولاً : يحول القرابين ويجعلها حاملة لسر اللاهوت وسرد طبيعة جسد ودم المسيح .
ثانياً : يهيىء المتناولين لاستحقاق قبول هذه الأسرار الإلهية الفائقة .

ثالثاً: الصليب في سر الإعتراف :

معروف أن قوة المـغـفـرة التي يستمدها الكاهن ليحل المعترف من رباط خطاياه و يـعـتـقـه مـن عـقـوبـة تعدياته على وصايا الله ، إنما يستمدها من دم المسيح المسفوك على الصليب . لذلـك فـتـوسط الصليب بين الكاهن والمعترف ضرورة يحتمها الطقس کما يحتمها اللاهوت .

فـالـكـاهـن يـضـع الـصـلـيـب ملاصقاً لرأس المعترف المنحنية من ثقل الخطية ، أما الـكـاهـن فـيـرفـع رأسـه هـو إلى السماء و يداه الإثنتان مبسوطتان بالصليب فوق رأس المعترف ، وعـنـدمـا يـصـلي يـرشـمـه بـاسـم الآب والإبن والروح القدس إستدعاء لسر اللاهوت للـتـقديس ، أي سر الثالوث وسر التجسد وسرا الفداء . ثم يكمل الصلاة إلى أن يأتى ذكر الروح القدس فينفخه فوق رأس المعترف الذي بحلوله يتهيأ المعترف لقبول فعل دم المسيح السري للتطهير الكلي من كل خطيئة ، بثلاثة رشومات بالصليب فوق الرأس مع كل كلمة من هذه الكلمات الثلاث : باركه ، طهره ، حالِله .

ومـن هـذا يتبين أن توسط الصليب والرشم به ضرورة حتمية في سر الإعتراف ، لأن بالصليب يتم تقديس المعترف أولاً لإعداده لحلول الروح القدس ، ثم بالصليب يتوصل إلى قـوة الـدم الإلهي للتطهير، و بالصليب في النهاية يتم الحل وتتم المصالحة . و يقوم المعترف رافعاً رأسه أيضاً بالشكر والتسبيح للمسيح الذي حمل خطاياه على الصليب .

رابعاً : الصليب في سر مسحة المرضى :

هنا يتم تقديس الزيت أولاً ، برشم الصليب عليه سبع مرات عند قراءة القراءات السبع المناسبة من الأناجيل ، و بإيقاد سبع فتايل أو شموع .

أمـا رشـم الـزيـت بـالصليب فهو لتقديسه بحلول سر اللاهوت . أما إيقاد الفتايل أو الـشـمـوع ، فهو بصفة إستدعاء الروح القدس الذي يمثله العهد القديم وسفر الرؤيا بسبعة أرواح الله التي أمـام الـعـرش : « وأمام العرش سبعة مصابيح نار متقدة هي سبعة أرواح الله . » ( رؤ 4: 5 )

والإلتجاء إلى النور لإستدعاء الروح القدس ، هو في الواقع تعبير سري mystical عـن فـعـل الروح القدس في تبديد الأرواح النجسة المعبر عنها بقوات الظلمة وكل أعمالها الـشـريـرة وأفـكـارهـا وأوهامها المتسلطة على العقل أو النفس أو الجسد، بصفتها المسئولة مباشرة أو غير مباشرة في إيقاع الإنسان في الأمراض سواء العقلية أو النفسية أو الجسدية ، سواء بعمل الخطيئة أو بإهمال وسائط النعمة .

[ الـصـلـيـب هـو إلى هـذا الـيـوم يـشفي المرضى و يطرد الشياطين و يبدد الشعوذة و يلغي أثر عقاقير السحر والتعويذ . ]

القديس كيرلس الأورشليمي

[بعلامة الصليب يقف كل سحر، وكل عرافة تفقد قوتها … وكل شهوة باطلة تنصد . ]

القديس أثناسيوس الرسولي

وسر المسحة يتم برشم المريض بالزيت على مثال الصليب ، فينال قوة التقديس بسر اللاهوت . ثم ينال من الزيت فعل الروح القدس المعبر عنه بسر النور الإلهي الذي يبدد قوة الأرواح الشريرة المعبر عنها « بشيطان الظلمة» . أعمال الظلمة وتأثيراتها . وجميع

 وفي الواقع و بالخبرة، نجد أن هذا السر أقصى استعلان لقوة الصليب المقدس وفعله المـنـظـور، لأن جميع المرضى الذين يكون مرضهم بتدخل الأرواح الشريرة يستجيبون إستجابة واضحة شديدة لمجرد رفع الصليب على رؤوسهم ، حيث تتجلى قوة الصليب غير المـنـظـورة عـنـدما تصرخ الأرواح الشريرة من منظر الصليب برعبة وفزع ولا تطيق البقاء الصليب ولا سيما إذا كان النور مرادفاً له .

ومـن الأمـور المحققة بالخبرة أن كثيراً من المرضى الذين يشكون من أمراض حقيقية عضوية و يشخصها الأطباء المتخصصون تشخيصاً مرضياً بعوارض حقيقية ، ثبت لدى الصلاة على بعضهم أنها من فعل الأرواح الخبيثة الشريرة وأنها انتهت وتلاشت في الحال بمجرد انتزاع الأرواح الشريرة من تسلطها على أجسادهم . وقد اعترفت الأرواح الشريرة بأنها هي التي تسببت في هذه الأمراض ، وكاتب هذه السطور رأى وسمع و يشهد بذلك .

[و يكفينا الآن أن نوضح القوة الفعالة العظيمة التي لعلامة الصليب وكيف أن هذه العلامة أصبحت فزعاً للشياطين . لأنه كما أن المسيح عندما كان عائشاً بين الناس كان يطرد الشياطين بكلمته و يعيد للمرضى والمنزعجين والمجانين صحتهم وحـواسـهـم التي أفسدتها الشياطين بهجماتهم الخطيرة، والتي اندست داخل أجسادهم ، كذلك الآن فإن أتباع المسيح يخرجون هذه الأرواح النجسة من  بید الـنـاس بـاسـم المسيح وبعلامة الصليب … فتخرج معذبة مصروعة معترفة أنها شياطين ومستسلمة لمصيرها . الله . ولكن الشياطين لا تجرؤ أن تقترب من المسيحيين حينها ترى منهم هذه العلامة السماوية ( الصليب)، ولا تستطيع أن تسيء إلى مـن لهم هذه العلامة الحية ( الصليب) التي تصير لهم مثل سور منيع يحميهم . ]

لكتانتيوس

[ لأن الصليب إذا أردنا أن نصفه فهو علامة تثبيت النصرة ، الطريق الذي انحدر عـلـيـه الرب إلى الناس ، علامة هزيمة الأرواح ، صد الموت ، أساس الصعود إلى الـيـوم الحقيقي ( الخـلـود)، الـسـلـم للـذيـن يسرعون لرؤية النور في ذاك الوجود ( الخـلـود)، آلة الصعود للذين وهبوا أن يبنوا الكنيسة ، الحجر ذو الزوايا الأربع المنحوتة بإحكام على كلمة الله … وإذ جعله الله علامة خزي للشياطين فلا ينبغي أن نخجـل نـحـن مـنه بل نقبله لأنه أعطي لنا ليفك ربطنا التي صنعناها بعصياننا لله .]

ميثوديوس أسقف أوليمبوس

لهذا نرى أن قوة الصليب وإشارته المقدسة عامل من العوامل الهامة جداً في سر مسحة المرضى .

خامساً ـ الصليب في سرا الكهنوت :

هذا هو السر الوالد لبقية الأسرار، فبدون سر الكهنوت لا يمكن أن يتم أي سر آخر في الكنيسة .

وفي الواقع لا يعتبر الكاهن بعد رسامته شخصاً عادياً ، لأن المسيح يجري الأسرار في الـكـنـيـسـة بـواسـطته ، فإن كان الكاهن هو الذي يعمد وهو الذي يقيم الإفخارستيا وهو الـذي يـبـاشر موهبة الشفاء وهو الذي يعطي الغفران والحل من الخطيئة وهو الذي يزوج ، إلا أن الحقيقة السرائرية sacramental هي أن المسيح هو الذي يجري هذه الأسرار في شخص الكاهن و بواسطته ، إنما بطريقة سرية mystical غير منظورة.

حينما يـوضـع الـصـلـيـب على رأس المقدم للكهنوت ، يتقبل الإنسان بالصلاة و بقوة الـصـلـيـب سر اللاهوت : أي سر الثالوث وسر التجسد وسر الفداء. و بذلك يتهيأ المقدم للكهنوت لحلول الروح القدس الذي ينفخه الأسقف في فم الإنسان ، و بذلك يصير المقدم للـكـهـنـوت صالحاً أن يحل المسيح فيه ، فيصير بذلك كاهناً يعمد و يقدس ويحل و يغفر و يشفي و يزوج باسم المسيح و بفمه و يده !

لذلك ، بعد أن يرسم الكاهن قساً لا يجوز وضع الصليب على رأسه بعد ذلك قط لأنه صار حاملاً للمسيح ، فعند رسامته قصاً أو أسقفاً تتم الرسامات برشم الصليب على الـكـتـف ولـيـس على الرأس بـاعـتـبـار كافة الدرجات الكهنوتية بعد القسوسية هي نير ومسئوليات توضع على الكتف . أما الكهنوت فلا يعطى إلا مرة واحدة كتاج فوق رأس الإنـسـان الـذي يـرمـز إلـيـه بـقـص شعر الرأس على مثال الصليب أي رفع مجد الإنسان الطبيعي لحمل مجد كهنوت المسيح الذي هو الصليب .

والعلاقة بين الكهنوت والصليب علاقة غاية في الإرتباط حتى إنه يستطاع أن يحسب الكهنوت صليباً والصليب كهنوتاً ، لذلك فالصليب لا يفارق يد الكاهن قط .

سادساً ـ الصليب في سر الزيجة :

يـقـوم سر الزيجة على أساس إتحاد سري sacramental يتم بين الرجل والمرأة ، جعله الكتاب المقدس على مستوى إتحاد المسيح بالكنيسة .

والمسيح إتحد بالكنيسة بواسطة عملين سريين :

الأول تـواضـعـه الـذي أكـمـل بـه المـوت على الصليب لإمكانية إعطاء جسده ودمه للكنيسة أي إعطاء نفسه لها .

والـثـاني تطهير الكنيسة أي المؤمنين وتقديسهم لإمكانية حلول المسيح فيهم واتحاده بهم :

ـ «أيها الرجال أحبوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها لكي يقدسها مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة لكي يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيهـا ولا غـضـن أو شيء مـن مـثـل ذلـك بـل تـكـون مـقـدسـة وبـلا عـيـب .» ( أف 5: 25-27)

وهذا يـظـهـر أن الإتحاد القائم بين المسيح والكنيسة قائم على أساس بذل وتقديس ، الذي يريد أن يجعله القديس بولس الرسول أساساً لإتحاد الرجل بالمرأة .

فحينما يضع الكاهن الصليب على رأس الرجل ثم المرأة والرأسان متلاصقان ، فإنه بـذلـك يـرفـع الـرجـل والمرأة إلى دخول في حالة استلهام قوة الإتحاد السري الذي تم بين المسيح والكنيسة .

فإذا وضعنا في الإعتبار أنه لا يمكن أن يتم إتحاد سري في الحياة المسيحية إلا من واقع إتحاد المسيح بالكنيسة ، أدركنا أن إجراء سر الزيجة هو عمل إيماني عظيم ودخول في سر من أعظم أسرار اللاهوت الذي من واقعه يصبح الرجل والمرأة كنيسة صغيرة .

مـن هـذا يـتـبـين أيضاً أنه من غير المعقول أن يتم سر الزيجة المقدس خارج الكنيسة ، فكما أنه لا يمكن أن يتم سر الزيجة خارج المسيح ، كذلك فهو لا يتم خارج الكنيسة ؛ لأن وقـوف الـرجـل والمرأة وسط المؤمنين وأمام الهيكل جزء جوهري من تقبل سر إتحاد المسيح بالكنيسة .

وكما أن بـالـصـلـيـب تمت قوة إتضاع المسيح وبذله ، وفي نفس الوقت بالصليب تم تطهير الكنيسة وتقديسها بالدم المسفوك عليه بقبول شركة الحياة والإتحاد بالمسيح؛ كذلك فـوضـع الـصـلـيب على رأس الرجل والمرأة إستمداداً لهاتين القوتين : قوة الإتضاع والبذل حتى الـدم وقوة التطهير والتقديس بالدم ، هو في الواقع قوة سر الزيجة الذي يرافق الرجل والمرأة مدى الحياة ويجعلها كنيسة حية لا عيب فيها ولا دنس .

ومـن صلوات الكنيسة القديمة للمؤمنين نقتطع هذه الكلمات المناسبة لنوضح بها فهم واستيعاب الكنيسة لكلام القديس بولس الرسول عن سر المسيح والكنيسة :

[ كـن مـنعماً عليهم ورحوماً واسمع لهم عندما يتضرعون إليك . واحفظهم ليكونوا ثابتين غير متزعزعين بلا ذنب ولا لوم حتى يكونوا مقدسين بالجسد والروح لا عيب فيهم ولا غـضـن ولا شيء من مثل هذا بل يكونوا كاملين ولا ينقص أحدهم في شيء أو يتخلف . ]

  1. « وأمـن بـدم صـلـيـبـه ووحـد وألـف السمائيين مع الأرضيين ، والشعب مع الشعوب والنفس مع الجسد» ( القسمة السريانية).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى