تفسير سفر المكابيين الأول 12 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا

نشاط يوناثان المكابي وأعماله الأخيرة

 

اتسمت الشهور الأخيرة من حياة يوناتان بالحركة الدبلوماسية، وهو ما يعكس لنا استقرار الأمة، وكذلك ثقة يوناتان بنفسه وحكمه، فقد نال اليهود تحت حكم أنطيوخس السادس الكثير من الامتيازات، ولكن الأحداث التي سبقت موت يوناتان كانت متلاحقة سريعة، فقد حقق التحالف مع روما وإسبرطة بعدما أرسل سفارات إلى هناك حالما شعر بأن الله يؤيد تلك الاتصالات بما منحهم من انتصارات وراحة، ثم كاد يصطدم بجيوش ديمتريوس الثاني والذي يسعى جاهدًا في استرداد ما فقده، فيتحول يوناتان لمهاجمة قبيلة الزبديين العربية، ويعود بعد ذلك إلى أورشليم ليحقق طفرة معمارية هائلة مع سمعان أخيه وذلك قبل أن يخدعه تريفون ويوقع به.

تجديد التحالف مع روما 

1ورأى يوناتان أن له فرصة ملائمة، فاختار رجالًا وأرسلهم إلى روما ليقروا المصادقة بينهم ويجددوها. 2وأرسل إلى إسبرطة وأماكن أخرى كتبا في المعنى نفسه. 3فمضوا إلى روما ودخلوا مجلس الشيوخ وقالوا: “إننا مرسلون من قبل يوناتان عظيم الكهنة وأمة اليهود لنجدد ما بينكم وبينهم من المصادقة والتحالف، كما كان من قبل”. 4فأعطوهم كتبا لأصحاب السلطة في كل من البلدان حتى يوصلوهم إلى أرض يهوذا بسلام.

 

الفرصة الملائمة المقصودة هنا، هي فترة الهدوء وحصول اليهودية على استقلال نسبى، ومن جهة أخرى يرد في بعض المخطوطات في (آية 1) ” لما رأى يوناتان ” الوقت ملائم” حيث تأتى كلمة الوقت فيها Time (T) وليس time (t) مما يعنى أن الوقت الإلهي ” التوقيت الإلهي” كان مناسبًا لذلك، وفيها اشارة إلى فترات عقاب إسرائيل أو ازدهارها، راجع (2: 49 و9: 10 و13: 5 و15: 33 – 34)(1). ويأتي التعبير في العبرية:  “هاعيت تعزور لو ” وتعني ” الوقت يساعده ” وباليونانية ““autw sunergei وأمّا في الآرامية: “ده زبنا معدر له” وببعض المخطوطات الحديثة نُقل التعبير بالاصطلاح الحديث: “عندما تبسم له الوقت!” . ولا شك أنها كانت فترة ازدهار بالنسبة لإسرائيل فإنه تحت قيادة يوناتان أصبحت “الأمة المحتقرة” مقبولة ومحترمة من بقية الشعوب، راجع (إشعياء 49: 7 – 9).

كانت المعاهدة السابقة بين اليهود وروما غير ذي فعالية، إذا استثنينا من ذلك تخوف السلوقيون والبطالمة من تدخل روما في المنطقة، متى تجاوز أي منهما حدوده في أي وقت. ولا شك أن تحالف اليهود مع روما كان تحالفًا معنويًا أكثر منه تحالفًا بالمعنى الكامل بما في ذلك عسكريًا، فإن روما لم تقدم لليهود بعد التحالف السابق أية معونة عسكرية، وإنما على العكس ظلت سلبية تجاههم حتى احتلتها في نهاية الأمر، ومن ثم بدأت سلسلة من ثوارت اليهود ضد روما، انتهت بسحق الرومان لهم في سنة 70م.

أما الآن فإن يوناتان يعاود التأكيد على تلك المعاهدة السابقة والتي أبرمها معهم يهوذا شقيقه قبل ذلك الوقت بحوالي عشر سنوات (8: 22 وما بعده) وقد كان تجديد المعاهدات سمة من سمات ذلك العصر، حتى السفيران اللذين أرسلهما يوناتان إلى كل من إسبرطة وروما، ظلا لمدة سنة كاملة في حركة مكوكية دبلوماسية، راجع (14: 18، 22).

وكانت هذه الاتصالات عبارة عن تجديد للاتفاقيات، وتأكيد لأواصر الصداقة، والتلويح بالتحذير لكل من ديمتريوس وتريفون وبقية أعداء اليهود، باعتبار روما قوة عظمى في ذلك لوقت.

ويشير تعبير “عظيم الكهنة وأمة اليهود” إلى الكهنة والشعب ككل، أي السلطتين الدينية والمدينة، فكثيرًا ما كان هناك قوتين منفصلين داخل الأمة، حيث كانت للسلطة الدينية في كثير من الأوقات تأثيرًا يعادل – أو يفوق – تأثير الحاكم نفسه. وقد استخدم يوسيفوس هذا التعبير عند حديثه عن يوحنا هركانوس الثاني. وفي تحالف اليهود مع الرومان هنا لم يرد نص رسالة يوناتان إليهم، في حين يورد نص الرسالة إلى الإسبرطيين. وقد اتجه رسل يوناتان إلى روما أولًا ومن ثم عرجوا في طريق عودتهم على إسبرطة، مما يفسر لنا توصية الرومانيين إلى أتباعهم، بأن يجعلوا الرسل في حراسة رومانية حتى يعودوا إلى بلادهم.

وفي حين أشار يوناتان إلى صلة القربى بين اليهود والإسبرطيين كما سيجيء، فإنه لم يلجأ إلى مثل ذلك مع الرومان، ولم يلجأ حتى إلى النبوات الموجودة في سفر دانيال عن الرومان، ولكن ربما أمِلَ أن تقوم إسبرطة بدور وسيط بينهم وبين روما، كما فعلت “ماسيليا ” مع ” لامبساكوس” كما سيأتي، ويلاحظ أنه وبينما احتاجت معاهدة الصداقة مع الاسبرطيين رسالة مكتوبة لإثبات صلة القربى، لم يتطلب الأمر كذلك في حالة روما.

هذا وقد تثبتت هذه المعاهدة في عهد هركانوس، حيث توددت كل من برغامس وأثينا إلى هركانوس من أجل تكوين علاقات دبلوماسية مع روما، بل أن برغامس ادّعت أواصر الصداقة والقربى مع اليهود منذ أيام إبراهيم أب الآباء.

تجديد التحالف مع إسبرطة

5وهذه نسخة الكتب التي كتبها يوناتان إلى أهل إسبرطة: 6“من يوناتان عظيم الكهنة وشيوخ الأمة ومن الكهنة وسائر شعب اليهود إلى أهل إسبرطة اخوتهم سلام. 7إن آريوس المالك فيكم كان قد بعث بكتب إلى أونيا عظيم الكهنة، يشهد أنكم اخوتنا على ما هو في النسخة هذه. 8فاستقبل أونيا الرسول بإكرام وأخذ الكتب المصرح فيها بالتحالف والمصادقة. 9فنحن، وإن لم نكن في حاجة إلى ذلك بما لنا من التعزية في الأسفار المقدسة التي في أيدينا، 10فقد حاولنا مراسلتكم لنجدد الإخاء والصداقة لئلا نعد من الغرباء عندكم، إذ قد مضى على مكاتبتكم لنا زمان طويل 11وإننا في كل حين في الأعياد وسائر الأيام المفروضة لا نزال نذكركم في الذبائح التي نقدمها وفي الصلوات، كما ينبغي ويليق أن يذكر الإخوة. 12ويسرنا ما أنتم عليه من المجد. 13أما نحن فقد أحاطت بنا مضايق كثيرة وحروب كثيرة، وقاتلنا الملوك الذين من حولنا. 14لكننا أبينا أن نثقل عليكم وعلى سائر حلفائنا وأصدقائنا في تلك الحروب، 15فإن لنا من السماء إغاثة تغيثنا، وقد انتشلنا من أعدائنا فأذلوا. 16فقد اخترنا نومانيوس بن أنطيوخس وأنتيباتير بن ياسون، وأرسلناهما إلى الرومانيين، لنجدد ما كان بيننا قبلا من المصادفة والتحالف. 17وأمرناهما بأن يذهبا إليكم ويبلغاكم السلام ويسلما إليكم الكتب من قبلنا في تجديد إخائنا. 18وتحسنون عملا إن أجبتمونا إلى ذلك”.

 

كانت التحالفات شائعة في ذلك الوقت لا سيما مع روما القوة العظمى آنئذ، ففي الوقت الذي أرسل فيه يوناتان سفراءه إلى روما (ما بين أواخر صيف سنة 145 ق.م. وقبل موت يوناتان في أواخر 143 ق.م) كانت إسبرطة مثالًا بارزًا في كيفية أن كسب ود روما كان يحقق نجاحًا كبيرًا، فقد هددت “عصبة الاخائيين Achaean League ” إسبرطة سنة 148/147 ق.م، بل دخلت في حرب ضدها سنة 146 ق.م، وقد هبت روما لنجدة إسبرطة عن طريق الدبلوماسية أولًا سنة 147 ثم بالجيوش بعد ذلك سنة 146 ق.م. حيث سحقت عصبة الآخائيين (راجع آية 12، 13) وهنا يدرك اليهود مدى الخطر الذي يتهددهم من ديمتريوس الثاني وتريفون.

شيوخ الأمة: ” gerousia جيروسيا” وباللاتيني ” senatus ” (2). وهو مجلس أُنشيء في زمن البطالمة، يترأسه الكاهن العظيم لتدبير شؤون الأمة.

اسبرطة Sparta: الاسم مشتق من: “سبرطون” وهو شخص يهودي يُعتقد أنه مؤسسها، كما تسمى أيضا: لكديمون Laccdaemon (1 مكا 14: 16 و2 مكا 5: 9) وهي مدينة يونانية قديمة تقع في الجزء الجنوبي من شبه جزيرة البيلوبونيز، قرب البلدة الحالية التي تحمل اسمها، وقد أُنشئت في القرن التاسع قبل الميلاد وكانت عاصمتها: ” ليكاؤنية”. ولذلك يدعى كل شعب ليكاؤنية بالإسبرطيين.

وقبل أيام يوناتان المكابي أطلق الكتاب على المدينة اسم ” إسبرطة” أماّ اسم ” لكديمون” فقد ظهر في الوثائق الرسمية الإسبرطية، كما استخدم اسم “لكديمون” دبلوماسيي اليونان، وبالمثل فقد أُطلق على الإسبرطيين اسم “اللكديمونيين”. ولكنه في عهد يوناتان عُرفت المدينة باسم “إسبرطة” على نطاق واسع لا سيما في ” آسيا ” في حين ظهرت في كتابات يوسيفوس بـ”لكديمون”.

وقد اشتهر سكانها بنظام حياتهم الصارم شبه العسكري، ولعبوا دورًا كبيرًا إبان الحرب الفارسية اليونانية، في صد الغزوات الفارسية، وفي وقت لاحق هزموا إمبراطورية أثينا، في الحرب البيلوبونزية، وأما عن الإشارة إلى كون اليهود والإسبرطيون أقارب، فلعل هذا الاعتقاد والذي ذكر بوضوح في (2 مكا 5: 9) يَرجع إلى عدة أسباب منها:

1-  الاعتقاد بأن الإسبرطيين هم نسل احدى زوجتي إبراهيم هاجر أو قطورة، أو نسل أحد أبناء زوجة عيسو اليونانية، أو أنهم أحفاد (قدموس الفينيقي) أو أحفاد واحد من جاليته، أو أن “الفالجيين” أجداد الإسبرطيين هم نسل ” فالج بن عابر” تكوين 11: 16 – 19).

2-   لجوء عدد كبير من اليهود إلى إسبرطة، إبان غزو ” نبوخذ نصر ” لليهودية(3)

3-   التشابه الكبير بين عادات الشعبين، مثل: الشريعة والتطهير واحترامهم للتقليد.

4-   عرف عن الشعبين كثرة النسل.

5-   نبذهم للغرباء والتشابه في النظام الحربي بينهما، ونظام تملُّك الأراضي.

6-   الإخاء والمودة يحسبان قرابة.

ولعل هذا الاعتقاد بوجود صلة قربى هو ما دفع “ياسون” رئيس الكهنة المنبوذ للهرب إلى هناك خوفا من اليهود الذين طاردوه (2 مكا 5: 9).

يظهر من بداية خطاب يوناتان، أن ثمة معاهدة بين الطرفين، تمت بين أونيا الأول رئيس الكهنة الأسبق، وآريوس الأول، وذلك قبل قرنين من الزمان من ذلك التاريخ، حيث كانت المبادرة من الإسبرطيين أنفسهم، مما يشير إلى ما كان لليهود حينذاك من مكانه واستقلال، كانوا قد عادوا من السبي قبل قرن كامل وبدأوا يستقرون في وطنهم. فإن الاسكندر الأكبر عندما دخل أورشليم كان اليهود أمه مستقلة عاملها هو بإكرام، مثلما استقبلوه هم بترحاب كبير.

 وقد رحب اليهود في حينه بالتحالف مع الإسبرطيين، وهناك ظروف مشابهة لتحالف اليهود مع إسبرطة وملابسات هذا التحالف، وذلك في قصة تحالف أهل ” لامبساكوس Lampsakos ” مع روما بعد تهديد أنطيوخس الثالث لهم، فقد أرسلوا نائبًا عنهم إلى روما، وكانت لهم صداقة وقرابة مع الرومان. وقد اتسمت رحلة السفراء بطولها ومشقتها، وقد التمسوا من القادة تزكيتهم لدى الشوري الروماني حيث تم لهم ذلك بالفعل، وكان الوسيط بينهم أهل مدينة “ماسيليا ” والذين كان لهم حظوة لدى الرومان فتمت لهم المعاهدة.. مما دفع أهل ” لامبساكوس” إلى تكريم سفيرهم إلى روما: ” هجسياس ” حيث كتبوا وثيقة بذلك.

أما عن ” صداقة وأخوة ” شعب لامبساكوس وماسيليا فهي حقيقية، حيث كانت كل من المدينتين ” مستعمرة ” أسسها ” فوكايا ” أما مسألة القرابة بين شعب روما وشعب وأهل لمبساكوس فهي خيالية(4).

ولكن من هما أونيا وآريوس؟

أونيا (حونيا) Onias: يأتي الاسم من اللفظة (أون) ومعناها “قوة” والمقصود في السفر هنا هو “أونيا الأول”(5) ويأتي في العبرية (حونيا، ويكتب أيضا حونايو) وباليونانية ” onias ” وفي الآرامية حونيا كالعبرية أيضا. وهو مختصر اسم “يوحانان”. وقد انتشرت هذه الاختصارات جدًا في هذه الفترة، تمشيا مع المنع الذي أطلقة آباء اليهود هذه الفترة من نطق اسم إله السماء، وقد كتبه الرابي هائي بهذا الشكل “حونايو”، وورد في التلمود باسم “حوني”(6) وهو ابن رئيس الكهنة “يديا  Iaddus, Yaddua” (ربما هو نفس الاسم يهوياداع) وهو أبو سمعان الأول رئيس الكهنة. وقد رأس أونيا الكهنوت خلال الفترة (من 320 – 290 ق.م.) في زمن الإسكندر الأكبر. وقد ظن يوسيفوس بطريق الخطأ أن خطاب الاسبرطيين أُرسل إلى أونيا الثالث، ولعل السبب في ذلك الخلط هو وجود ملك آخر باسم “آريوس الثاني” وقد ملك سنة 255 ق.م. ومات طفلًا في الثامنة من عمره، كما أن “أونيا” كان اسم لأكثر من رئيس كهنة كما سنرى:

أونيا الثاني: وهو أبو سمعان الثاني، عندما مات أبوه كان صغيرًا بدرجة لا تؤهله لتقلد رئاسة الكهنوت، حيث تقلدها عمه ألعازر ومن بعدها منسى بشكل مؤقت، ريثما يتقلدها هو خلال فترة حكم بطليموس الثالث يورجيتيس. ويصفه يوسيفوس بأنه عاطفي، قليل الخبرة، مولع بحب المال، وعندما رفض دفع الجزية المقررة عليه كرئيس كهنة لبطليموس يورجيتيس (وتبلغ عشرين وزنة) قررّ بطليموس غزو اليهودية ومصادرة أراضيها لجنوده، وعندئذ تدخّل “يوسف بن طوبيا” (وهو ابن غير شرعي لأونيا) مسترضيًا الملك، ومنذ ذلك الحين نشأ الصراع بين عائلتي ” أونيا وطوبيا”.

أونيا الثالث: وهو ابن سمعان الثاني وخليفته، وحفيد أونيا الثاني، وأبو أونيا الرابع، وهو محبوب جدًا لدى اليهود، وسيأتي الحديث عنه في (2 مكا 3)(7).

آريوس Arius: الاسم مشتق في الغالب من “داريوس” وهو اسم فارسي معناه (مالك الخير) وفي العبرية (آرس) وباليونانية ( Arhj) وليس أريوس (Areioj) والمقصود هنا هو ” أرس الأول” ملك إسبرطة .

     أُطلق الاسم على اثنين من ملوك إسبرطة، الأول ملك في الفترة (309 – 265 ق.م.) وهو الذي بادر بعرض التحالف (آية 7) وقد تكون رسالته قد أرسلت بين عامي (309 – 300 ق.م.) وفي الفترة الأخيرة من حكمه اتجه نحو الأوتوقراطية (الاستبداد) أي أنه عمل بمفرده دون إشراك القضاة معه، كما اصدر العملات باسمه الخاص، وأنفق كذلك ببذخ على غرار نمط الحكام الهيلينيون، ومن هنا يرجح العلماء الذين درسوا الرسالة جيدَا أنه كتبها في أواخر حياته وفي فترة رئاسة كهنوت أونيا الثاني. وأما آريوس الثاني فهو الذي يراسله يوناتان المكابي في هذا الأصحاح، وقد ملك سنة 255 وكان ما يزال طفلًا حين وُلّى ولم يعش طويلا إذ مات عندما بلغ الثامنة من عمره (262 – 254 ق.م.).

الطابع الروحي للرسالة:

رغم ما يظن أنه غرور واعتداد بالذات في لهجة الرسالة (آية 9، 15) وكأن التحالف لا يُؤمل منه أية مكاسب سوى الود وتأكيد الصداقة، فإنه يعكس في الحقيقة المنهج الروحي الذي ينتهجونه، إن اعتمادهم على الله وتعزيتهم ليس بتعضيد من الآخرين، بل من خلال الميراث الذي تركه لهم الوحي في “الأسفار المقدسة” ونلاحظ أن هذا التعبير أشمل من تعبير ” كتاب الشريعة ” الوارد في (3: 48) أو ” الكتاب المقدس” في (2 مكا 8: 23). فإن كتاب الشريعة يعنى أسفار موسى الخمسة والتي كان  يُطلق عليها أيضًا في حينه: ” الكتاب المقدس” حيث نلاحظ أنه في ذلك الوقت كان قد بدأ تقسيم الكتاب المقدس في التبلور، ليصبح: (الشريعة/الأنبياء/ الكتابات) أو (توراه/ نبييم נְבִיאִים/ كتوبيم). وهو ما أشار إليه يشوع بن سيراخ في القرن الثاني قبل الميلاد، وما يزال الكتاب المقدس لدى اليهود بنفس هذا الترتيب، راجع (تيموثاؤس الثانية 3: 16) حيث يشير إلى العهد القديم “كل الكتاب”. راجع أيضًا (رومية 15: 4) إذ يتحدث معلمنا بولس عن التعزية التي لنا في الكتب المقدسة.

وهكذا تأتى المعاهدة في إطار ودي وإنساني بحت، لا سيما وأن إسبرطة في ذلك الوقت لم تكن قوة فاعلة في الصراعات الدائرة، ويعّلل اليهود تجديد المعاهدة بأنه قد مرّ وقت طويل منذ أُبرمت المعاهدة الأولى وقد حان الوقت لتفعيلها، وهاهم يصلون عنهم ويقدمون الذبائح باسمهم، وتميز الرسالة هنا بين نوعين من الأعياد، الأولى رسمية رئيسية والتي يحج فيها اليهود إلى أورشليم، والثانية الأيام المفروضة أو المخصصة وهي تشمل الأعياد التي حددها اليهود لاحقًا مثل ” يوم مردخاي ” ويوم نكانور وعيد التجديد” وغيرها. لقد قدموا ذبائحًا مماثلة للملوك الوثنيين مثلما حدث في أيام ديمتريوس الأول ونكانور (7: 33) مما يعزز الرأي القائل بأنه كانت تعيش هناك جالية يهودية كبيرة في القرن الثاني الميلادي، وهم في صلواتهم وذبائحهم عن الإسبرطيين يطلبون لهم مزيدًا من الوقت والمجد.

وتأتى هذه اللهجة الروحية بعد مشوار طويل من الأحاديث السياسية ولغة السيف والقتل والانتقام والدبلوماسية (في أفضل الأحوال) بهذا يعود اليهود ويتذكرون كيف أنهم أمة مختارة وشعبًا مقدسًا، بعد أن أرهقونا خلفهم في الأصحاحات السابقة ونحن نلهث متابعين الحروب والتقلبات والوشايات حتى من رؤساء الكهنة، وهم أولى اليهود كلهم بالالتزام والسلوك الروحي، لقد قادوا الأمة في كثير من الأحيان إلى هُوى الدمار والانحلال.

ولكن الله أعانهم: ورغم كل ما مرّوا به من حروب وصراعات فانهم لم يتلقوا بالفعل أية معونة، سواء من الأمم الذين حولهم، بل أنهم ضايقوهم، ولا من اليهود المتأغرقين (سواء الساكنين بينهم أو في الحصون السلوقية المنتشرة في البلاد) أمّا روما فلم تقدم أي دعم عسكري، وأما التسهيلات والامتيازات التي يمنحها السلوقيون بين آن وآخر فإنها لا تعدو كونها صفقات هم الكاسبون فيها، فإما فعلوا ذلك لكسب اليهود في جانبهم، أو لتأمين جانب اليهودية، وبالتالي فإن اليهود لم يطلبوا من الإسبرطيين العون العسكري، فإنهم لمّا وضعوا كل رجاءهم في الله: أعانهم الرب (السماء) كثيرًا فتغلبوا على أعدائهم.

     هذا ويلاحظ أن الإسبرطيين قد أجابوا يوناتان واليهود شفهيًا من خلال السفيرين، ولكنه من المرجح أنهم أتبعوا ذلك برد كتابي ودي، ولكن ذلك تمّ بعد وفاة يوناتان. 

السفيران: أماّ السفيران اللذان أُرسلا لإبرام وتثبيت هذه المعاهدات فهما:

نومانيوس بن أنطيوخس Numenius: ويسمى أحيانًا ” فومانيوس” وهو واحد من مستشاري يوناتان، ويتضح من اسمه واسم أبوه أنطيوخس أنهما متأثران على نحو ما بالثقافة اليونانية، ولكنه ليس من الضروري أن يكون هذا التأثير هو ” تأغرق” بالكامل، وإلاّ لما كان يوناتان اسند إليهم هذه المهمة.

انتيباتر بن ياسون Antepater: والاسم أنتيباتر يعنى “عوض أبيه” وتكتب أحيانا ” أنتيباس” ويظن البعض أن ياسون أبيه هو رئيس الكهنة المنبوذ بسبب ولاءه للسلوقيين وتخليه عن التقاليد، وينطبق ما قيل عن “اسم” السفير السابق على هذا السفير أيضا، ولا شك أن الاثنان كانا يتمتعان بكثير من الحكمة والثقافة والولاء لأمتهم، فمن الأمور التي يتوجب على السفير تحقيقها هي اطلاعه على ثقافة وتقاليد ولغة من سيُرسل إليهم من جهة، وحمل سكان تلك البلاد وحكامها على حب وتقدير شعبه وحكامه من جهة أخرى.

هذا وقد استمرت هذه المهمة قرابة العام، وذلك من خلال عدة رحلات مكوكية ما بين اليهودية، وروما وإسبرطة وغيرها، حيث يمكن تتبع ذلك من خلال الآيات (13: 19 – 23) ثم (14: 20 – 23) ثم في عهد سمعان المكابي حين أُرسل السفراء في سبتمبر141 ق.م. يحملون هدية (ترس الذهب) ليعودوا في عام 140 يحملون رسائل موجهة من روما إلى جميع حلفائها والبلاد التابعة لها بعدم التعرض لليهود، راجع (14: 27 – 35 و15: 15).

كتاب الإسبرطيين إلى أونيا:

19وهذه نسخة الكتاب التي أرسلت إلى أونيا: 20“من آريوس ملك الإسبرطيين إلى أونيا عظيم الكهنة سلام. 21وبعد فقد وجد في بعض الكتب أن الإسبرطيين واليهود اخوة من نسل إبراهيم. 22وإذ قد علمنا ذلك، فتحسنون عملا إن راسلتمونا في أحوالكم من السلام. 23أما نحن فإن جوابنا إليكم أن مواشيكم وأملاككم هي لنا وأن ما لنا هو لكم هذا ما أوصينا بأن تُبلَّغوه”.

 

وكتذييل لخطاب يوناتان وفي إطار التوثيق في السفر، يورد الكاتب هنا نص خطاب المعاهدة الذي بادر بها آريوس ملك الإسبرطيين قبل مائة وخمسين عامًا، مما يظهر مدى العناية الفائقة التي كانت تحفظ بها هذه الوثائق ومن ثم تزداد ثقتنا في التأريخ الوارد في السفر، أما عن النكهة الآرامية أو العبرية للرسالة، فربما كان السبب في ذلك ترجمة الرسالة إلى الأرامية لوضعها ضمن سجلات الهيكل، بل ربما كُتب أصلًا بالآرامية إذ كان النساخ العارفين بالآرامية متوفرين لدى الحكومات المتحدثة باليونانية، وذلك منذ زمن الاسكندر الأكبر. ويضيف يوسيفوس ملاحظة على الرسالة أن الكتابة  “مربعة”، وأن الختم عبارة عن ” نسر ممسكًا بحية بقوة “(8). وان كان من غير المعروف متى بدأ وصف حروف العبرية الآرامية بأنها “مربعة” أي ذات شكل مربع، وكانت الحروف السريانية في المقابل توصف بأنها “مستديرة”.

أمّا لهجة الخطاب فهي ودّية عاطفية، وقد أوحت عبارة: ” مواشيكم وأملاككم هي لنا ومالنا هو لكم ” (آية 23) بأن المعاهدة كانت تجارية، حيث لا ذكر كذلك لتحالف عسكري ولا قوات ولا حروب..

ويأتي تعبير: ” المواشي والأملاك” كتعبير تكتيكي في الآرامية حيث يعنى هناك ” كل الممتلكات: حيَّة وغير حيَّة ” والكلمة العبرية المستخدمة هنا تعني في الترجوم الفلسطيني ” مواشي”، بينما في الترجوم الأونكيلوسي: “ممتلكات” (9). وكان آريوس ورجاله يقصدون بشكل عام التعبير عن المشاركة التي تقتضيها الصداقة، راجع: (تكوين 34: 23) ومن المحتمل أيضًا أن يكون آريوس قد دعي اليهود بذلك إلى الاستقرار في مناطق تابعة لإسبرطة، بأن يهبهم أرضًا وعبيدًا للعمل فيها وهي امتيازات خاصة بالإسبرطيين الوطنيين.

أما الكتب المشار إليها هنا فلعلها كتب التاريخ والتقليد، ولعلها أيضًا بعض أسفار العهد القديم التي بين أيدي الجالية اليهودية هناك، حيث يظن أن الإسبرطيين هم نسل إبراهيم أو عابر، ولكننا نقرأ عن مصدر هام في هذا الإطار، لشخص يدعى هكتايوس من أبديرا Hecataeus of Abdera  والذي نشر ملاحظات عن اليهود وتاريخهم، وكان عمله هذا متاحًا في عهد آريوس، ويرى أن اليهود عندما خرجوا من مصر كان من بينهما: البطلان الإغريقيان داناؤس وكادموس Danaos and Kadmos حيث اتجها إلى اليونان. وإلى “داناؤس” هذا ينتمي شعب “الدنائيين” وهؤلاء وبحسب التقليد اليوناني قد فتحا مجموعة جزر ” البيلوبونيز ” ومنها إسبرطة، ومن داناؤس جاء هيركليس وبرسوس وهما السلالتان الحاكمتان لإسبرطة. وكان لقطوره زوجة إبراهيم ابن يدعى ” دوان” (تكوين 25: 3) هذا ولد ” لأُميم” والذي ورد في الترجوم باسم ” ناجودان” وهي الكلمة التي أطلقت على جزائر الأمم المتحدرة من نسل يافث (أي اليونانيين).

كما قام كاتب آخر يدعى ” كليوديموس Kleodemos ” بكتابة تاريخ آخر لليهود يشير فيه إلى ” عفرا ” بنت قطورة وعلاقة نسلها باليونانيين(10).

ويورد يوسيفوس في تاريخه اسم حامل رسالة الإسبرطيين إلى اليهود، وهو ” ديموتيليس” حيث يقوم بنقل بقية التفاصيل شفهيًا مثل الكتب التى تؤكد صلة القربى بين الشعبين (آية 21).

يوناتان وسمعان أخيه يتصدّيان لديمتريوس:

24وبلغ يوناتان أن قواد ديمتريوس قد عادوا لمحاربته بجيش يزيد على جيشه الأول. 25فخرج من أورشليم ووافاهم في أرض حماة، ولم يمهلهم أن يطأوا أرضه. 26ثم أرسل جواسيس إلى معسكرهم، فرجعوا وأخبروه أنهم مزمعون أن يهجموا عليهم في الليل. 27فلما غربت الشمس، أمر يوناتان الذين معه بأن يسهروا تحت السلاح الليل كله استعدادا للقتال، وفرق حرسا أماميا حول المعسكر. 28وسمع العدو بأن يوناتان والذين معه متأهبون للقتال، فداخل قلوبهم الرعب والرعدة، فأشعلوا النيران في معسكرهم وهربوا. 29إلا أن يوناتان والذين معه لم يعلموا بما كان إلا عند الصبح، لأنهم كانوا يرون ضوء النيران. 30فتعقبهم يوناتان، فلم يدركهم لأنهم كانوا قد قطعوا نهر ألوطارس 31فارتد يوناتان إلى العرب الذين يقال لهم الزبديون، وضربهم وسلب غنائمهم. 32ثم رحل وأتى دمشق وجال في البلاد كلها. 33وأما سمعان، فكان قد خرج وبلغ إلى أشقلون والحصون التي بالقرب منها، فأرتد إلى يافا واستولى عليها، 34لأنه سمع أنهم يريدون أن يسلموا الحصن إلى أنصار ديمتريوس، وأقام هناك حرسا يحافظون على المدينة.

 

ما يزال ديمتريوس الثاني يسعى جاهدًا في استرداد العرش، ولكن من خارج البلاد أي من “جوف سوريا” وهي المنطقة الواقعة في ذلك الوقت تحت قيادة الزعماء المكابيون، ومع أنه من العادة ترك الجيش المعادي حتى يأتي إلى هدفه منهك القوى، يواجه الحصون والدفاعات، وفي المقابل يجد الطرف الآخر الفرصة الكافية للاستعداد والتحصين والاستفادة بالوقت متى ضرب العدو حصارًا حولهم: إلاّ أن يوناتان  مع شعوره بالقوة والثقة  يحدد هو مكان المعركة! فيجعلها خارج أورشليم، ولذلك فمن الواضح أنه بسبب ذلك قد ذُعر ديمتريوس ورجاله إذ فوجئ بهم. انظر خريطة رقم (12).

حماة Hamath, Hammath: اسم عبري معناه ” قلعة ” بينما يفسره آخرين ب” المدينة الحديثة”. وهي مدينة سورية هامة أسستها قبيلة ” الحمثي” وهم من نسل كنعان، أقيمت فوق هضبة  كبيرة بجوار نهر الأورنتس جنوب غرب سوريا على نهر العاصي، على مسافة 120 كم جنوب ” أليبو” في وضع متعامد مع اللاذقية فيما بينها وبين البحر الأبيض المتوسط وتعتبر جزء من مقاطعة ” أباميا Apamia “. وفي النقوش التي عُثر عليها بين عامي 1934و1938م. وُجد أنها ترجع إلى ما قبل الحثيين، وفيها نقوش هيروغليفية، وفي تصريح شلمناسر الملك أنه استولى هناك على 89 بلدة، ما يفيد بأنها  كانت – أي حماة – مجموعة من الحصون الصغيرة، وأما النقوش التي ترجع إلى أيام العرب، فإنها تشير إلى أن حماة كانت طرفًا في اتحاد لحكام سورية ضد شلمناسر وأطماعه التوسعية، وإن كانت في النهاية قد استسلمت له ببعض الشروط. انظر خريطة رقم (12).

وقد حدثت المواجهة بين جيشي يوناتان وديمتريوس في ” رحوب” عند حدود أرض الموعد (سفر العدد 13: 21و 34: 8  وحزقيال 47: 15 – 17).

ويعود يوناتان إلى استخدام الأساليب الاستخباراتية في محاولة منه لتقليص عدد القتلى ولتقصير أمد القتال، وقد أكسبه ذلك الفرصة للاستعداد والترقب وتوزيع الحراس بشكل مخطط، حيث يظهر من هذه الفقرة أنه قد أصبح لليهود في ذلك الوقت استراتيجية وخبرة  عسكرية واسعة، حتى بُهر ديمتريوس وجيوشه دون قتال، رغم تفوق جيوشهم في العدد على جيوش يوناتان.

أماّ ديمتريوس نفسه فقد سلك على النحو ذاته من الحيلة العسكرية، فقد جاءت قواته أولًا من الشريط الساحلي والذي كان ما يزال خاضعًا له، ثم قرر التسلل ليلًا مع جيشه بينما أشعلوا النار في معسكرهم ليعطوا إيحاءا لليهود بأنهم مازالوا يتأهبون للقتال في الصباح، ولكن يوناتان والذي اكتشف ذلك في الصباح لم يستطع اللحاق بهم إذ كانوا قد عبروا ” نهر ألوطارس” مما يعنى أنهم أصبحوا خارج منطقة نفوذ يوناتان، إذ يفصل هذا النهر ما بين سورية وفينيقية، وقد حسب ذلك – في حد ذاته – انتصارًا لليهود. ويقول يوسيفوس أن معسكر يوناتان كان على مسافة عشرة كيلومترات من العدو، كما يقول أن الجنود المأسورين هم الذين أفادوا يوناتان بأن الجيش يستعد للهجوم.

يوناتان يهاجم الزبديون:

كانت قبيلة الزبديين هي التي آوت الملك الصغير أنطيوخس السادس، بالعبرية: ” زبدييم ” وباليونانية ” Zabadaioi ” وربما تنتسب بالتالي إلى كل من زبدئيل وايملكوئيل (السابق ذكرهما). هذا وقد ورد اسم الزبديين في بعض مواضع من جبال لبنان الشرقية، وتدعى حاليًا زبداني على بعد 30 كيلومتر شمال غرب دمشق وهي مذكورة في التلمود (قسم تاعنيت) بهذه الصيغة ” بيت زبدي” (انظر خريطة رقم 12).

لا يُعرف السبب الحقيقي الذي جعل يوناتان يهاجم تلك القبيلة، والتي تسكن قرب “خلقيس” كما مرّ بنا، هل تعاونوا مع ديمتريوس خصمه؟ أم ضايقوا اليهود في بعض الأوقات؟ أم هاجموه هو شخصيًا حتى أنتقم منهم هكذا؟

وسمعان أيضًا يحرز الانتصارات:

كان سمعان قد عُين قائدًا للمناطق الساحلية (11: 59) جنوب صور، وقد قام هو الآخر بجولة تفقدية للمناطق الخاضعة له، ويقول يوسيفوس أنه “اجتاز كل اليهودية وفلسطين حتى أشقالون وأنقذ كل الحصون “، مثلما قام يوناتان بجولة مماثلة في منطقته، وكان مرفأ يافا ميناءا هامًا ومحلّ نزاع بين قوى مختلفة، وربما يكون قد تعرض لحصار وضغط من قبل جيوش ديمتريوس مما جعل سكانه يوشكون على الاستسلام. وفي استيلاء سمعان على المرفأ: حماية للسكان وليس إخضاعا لهم.

 ورغم استحواذ يوناتان على يافا من قبل (10: 76) إلا أنها لم تكن خاضعة لهم حتى شملها سمعان بإصلاحاته هنا، وهكذا ترك حراسًا هناك لحماية المدينة بشكل عام، وليس لحمايتها من خيانتهم هم. وهكذا ثبّت يافا كمرفأ هام لليهود (14: 5).

اعادة التحصينات في أورشليم

35ثم رجع يوناتان وجمع شيوخ الشعب، وتشاور معهم أن يبنى حصونا في اليهودية، 36ويرفع أسوار أورشليم، ويشيد حائطًا عاليًا بين القلعة والمدينة، ليفصلها عن المدينة وتبقى منعزلة، حتى لا يشتروا ويبيعوا. 37فاجتمعوا ليبنوا المدينة، فقد سقط جزء من سور الوادي الواقع شرقًا، ورمموا السور المسمى كافيناطا. 38وأما سمعان فقد بنى حاديد في السهل وحصنها بالأبواب والمزاليج. 

عاد يوناتان يملأه الرضى عن سير الأمور في بلاده والبلاد التابعة لها، ومن ثم فقد التفت إلى التعمير وإعادة التحصينات وإضافة الأسوار والقلاع، ولعلها كانت فترة من أكثر فترات المكابيين ازدهارا وهدوءا.

شيوخ الشعب: ويقصد بهم هنا ما يشبه مجلس السنهدريم بعد ذلك، والذي أصبح يتكون من سبعين شيخًا يرأسهم رئيس الكهنة، وبالعبرية “موعيداه”  وباليونانية ” Bouleuthron ” وكان يعد سلطة تشريعية وقضائية في البلاد، يضاف إليه مجالس شيوخ صغيرة في المدن والقرى (من 23 شخص في المدن الصغيرة)، وهو نظام يحاكى نظام مجلس الشيوخ الروماني المكون من ثلاث مئة عضو (السنودس الروماني) ولكن مجلس شيوخ اليهود يرجع إلى عهد بعيد حيث اختار موسى النبي سبعين شيخًا ليقضوا للشعب. وكان يوناتان رئيسًا للمجلس المنعقد هنا نظرًا لكونه رئيس الكهنة.

سور أمام القلعة: كانت القلعة ما تزال باقية في أورشليم وتابعة للسلوقيين، رغم جميع المفاوضات التي تمت بين الطرفين، ورغم قوة اليهود والامتيازات التي حصلوا عليها، ورغم أن تلك القلعة لم تكن تمثل تهديدا عسكريا للبلاد، إلاّ أنها كانت تسبب تنغيصًا واستياءً بسبب كونها تجسّد الوجود الوثني أمام الهيكل، ورمزًا للوجود السلوقي، وأماّ الذين يقطنونها فقد كانوا مرتزقة ديمتريوس وهم كريتيون في الغالب (11: 30). وكان ديمتريوس يعتبرهم جنوده الشخصيين يحميهم من يوناتان، لذا فإن الأخير وهو خاضع الآن لأنطيوخس السادس (لا لديمتريوس) رأى ذاته حرًا في محاصرة القلعة وتجويع الساكنين فيها. انظر خريطة رقم (1).

 مقابل ذلك وأمام هذا الاستمرار غير المبّرر، لم يجد اليهود حلًا سوى فصلها عن المدينة، بحيث لا يَدَعوا لسكانها فرصة ليخرجوا إلى المدينة، وذلك منعًا للاختلاط أو الاحتكاك بالشعب، وللتغلّب كذلك على مسألة تنجيس المكان بوجود الوثنيين، ولا شك أن الإمدادات كانت تصلهم عن طريق بعض معاونيهم من اليهود، أو من السلطات التابعين لها خارج اليهودية. وعلى أية حال فإن جنود القلعة كانوا ما يزالون يسببون المتاعب.

كافيناطا Chaphenathaربما يعنى ” سور الجوع Hanger wall “ لأنها مشتقة من الأصل الآرامي الذي يعنى ” الجوع kpn ” وباليونانية (kaloumenon  Xafenata ) ولم يرد هذا المصطلح في مرجع آخر، كما لم يذكره يوسيفوس، وفي المخطوطة الآرامية الأولى تُرجم إلى: “كسفعتا” وبالمخطوطة الآرامية الثانية: ” أفيتا ” وبالثالثة: ” كسفنيتا”. وهو الحي الجديد الواقع في شمال غرب الهيكل، ويظن بعض الشراح، أنه هو المسمى القسم الثاني من أورشليم، والذي كانت تسكن فيه خلدة النبية (ملوك ثان 22: 14) وربما كان جزءا من الأعمال التي تسهم في عزل القلعة، وأما السور فيقع في الأرض المنخفضة عند وادي قدرون. ويمكن أن يكون أصل ” كفنيطا” هي ” كافيلاتا”  وهو اسم سور أورشليم بالآرامية (11).

وسمعان يجدد بلدة حاديد:

حاديد : Haididربما تعنى الكلمة: “حاد”. وتقع على مسافة ستة كيلومترات شمال شرق ” لدة ” وتشرف على ” شفيلة ” أو التلال المنخفضة بين السهل الساحلي وسلسلة جبال وسط اليهودية. ويذكر يوسيفوس أن القائد  فاسبسيان قد أقام معسكرًا حصينًا في هذا المكان أثناء حصاره لأورشليم. أما اهتمام سمعان بتحصينها والعناية بها فيؤكد أنها صارت مقرًا له (13: 13) ويذكر “عزرا”  سكانها ضمن الذين عادوا من السبي (عزرا 2: 33 ونحميا 7: 37 و11: 34، 35). وعند حاديد -فيما بعد- التقى جيشا “الاسكندر جنايوس” وأرتاس  “الحارث ملك العرب” حيث هزم الإسكندر أرتاس. وربما تكون قرية “الحديثة” الحالية قد بنيت موقع حاديد القديمة. انظر خريطة رقم (12).

يوناتان يقع في الأسر

39وحاول تريفون أن يملك على آسية ويلبس التاج ويلقى يده على أنطيوخس الملك. 40لكنه خشي أن يمنعه يوناتان ويحاربه، فطلب سبيلا لأن يقبض على يوناتان ويهلكه. فسار وأتى إلى بيت شان.

41فخرج يوناتان لملاقاته في أربعين ألف رجل منتخبين للقتال، وأتى إلى بيت شان. 42فلما رأى تريفون أن يوناتان قد أقبل في جيش جرار، لم يجسر أن يمد إليه يده. 43فاستقبله بإكرام وأوصى به جميع أصدقائه وأهدى إليه هدايا وأمر جيوشه بأن يطيعوه طاعتهم له نفسه. 44وقال ليوناتان: ” لمَ ثقلت على هذا الشعب كله، وليس بيننا حرب؟ 45أطلقهم إلى بيوتهم وانتخب لك نفرا قليلا يكونون معك، وهلم معي إلى بطلمايس، فأسلمها إليك هي وسائر الحصون ومن بقى من الجيوش وجميع الموظفين، ثم أنصرف راجعا، لأني لهذا جئت” 46فصدقه يوناتان وفعل كما قال له، وأطلق الجيوش فانصرفوا إلى أرض يهوذا. 47واستبقى لنفسه ثلاثة آلاف رجل، ترك ألفين منهم في الجليل وصحبه ألف. 48فلما دخل يوناتان بطلمايس، أغلق أهل بطلمايس الأبواب وقبضوا عليه، وقتلوا بالسيف جميع الذين دخلوا معه. 49وأرسل تريفون جيشا وفرسانًا إلى الجليل والسهل الكبير لإهلاك جميع رجال يوناتان. 50لكنهم علموا أن يوناتان والذين معه قد قبض عليهم فشجعوا أنفسهم وتقدموا وهم متراصون متأهبون للقتال. 51ولما رأى متعقبوهم أنهم مستبسلون، رجعوا عنهم. 52فوصلوا جميعًا سالمين إلى أرض يهوذا وناحوا على يوناتان والذين معه، واشتد خوفهم، وكانت عند كل إسرائيل مناحة شديدة. 53وسعت جميع الأمم التي حولهم إلى تدميرهم، لأنهم قالوا: “لا رئيس لهم ولا نصير، فلنقاتلهم ولنمح ذكرهم من البشر”.

تريفون Tryphoاسم يوناني يعنى “أنيق أو ظريف” وطبقا للمؤرخين اليونانيين كان اسمه: ” ديودوتس Diodotus “. وأمّا هو فقد أطلق على نفسه ” تريفون ” والذي يعني “صاحب اللذات”. ولد في كاسينا Kasina، وهي موقع عسكري في ” أباميا ” جنوب إنطاكية، وقد ساعده وجوده في ذلك المكان في أن يكون أحد خواص الملك ديمتريوس الثاني، ثم أصبح من مناصري الاسكندر بالاس. فلّما تمردت الجيوش على ديمتريوس انتهز الفرصة، فذهب وأتى بأنطيوخس السادس الصغير ونادى به ملكًا على عرش ديمتريوس، وقد ذُكر أن تريفون قام مع زميله هيراكس بتتويج بطليموس السادس ملكًا في إنطاكية حتى لا يترك الباب مفتوحًا أمام ديمتريوس الثاني (11: 39،40) فلما فرّ ديمتريوس استولى تريفون على الأفيال الحربية وبقية الجيش، وفتح إنطاكية ليسلمها للملك الصغير، جاعلًا نفسه نائبا له، فلما أراد بعد ذلك قتل الملك الصغير خاف من حليفه يوناتان. وهكذا (تلوّن) تريفون كثيرا في سبيل مطامعه.

هذا وقد أستخدم اسم ” ديودوتس” على الأقل منذ سنة 145 ق.م. وفي كتابات ذلك الوقت وعندما تظهر حروف TRY فهي تعني بالتأكيد الاسم المختصر للوصي (أي تريفون Trypho )على الملك الصبي.

انضم اليهود في بداية الأمر إلى تريفون وأنطيوخس السادس في حلف، ضد ديمتريوس الذي أخلف في وعوده، غير أن الانتصارات التي حققها كل من يوناتان وسمعان أثارت الغيرة والخوف في نفس تريفون، فبينما يسعى الأخير إلى الاستيلاء على العرش لنفسه هذه المرة، كان يوناتان يمثل له العقبة الكؤود في سبيل تحقيق ذلك. ومن ثم فقد فكر في الاحتيال عليه إذ لم يكن من السهل مواجهته وهزيمته عسكريًا.

بيت شأن  Scythopolic, Bethshean باليونانية ” ” Beqsa دعاها اليونان سكيثوبوليس(12): وتعنى بيت شأن في العبرية ” بيت الراحة ” كما كان يطلق على المكان: “هيكل شان” حيث أن ” شان” أو ” الإله ساهان” كان إلهًا سومريًا في شكل أفعى. أما عن التسمية “سكيثوبوليس” فربما جاءت من غزو قبائل الأسكيثيين للمكان قبل ذلك، وربما لاستيلاء البطالمة عليها سنة 254 ق.م. بمساعدة المرتزقة الأسكيثيين.

تقع مدينة بيت شأن عند نقطة تلاقى واديا: الأردن ويرزعيل، على مسافة تسعة كيلو مترات غرب نهر الأردن، ومسافة مئة وعشرة كيلو متر من أورشليم. وقد أسهمت الينابيع الكثيرة – لا سيما في ” ناهاد هارود ” مع الطقس الاستوائي والأرض الخصبة في جعلها موقعًا صالحًا للسكنى، حيث استقر سكانها الأُول على جانبي الموقع المسمى (تل الهوش) جنوب تلك الينابيع والتي تبعد عن بيت شان مائتي متر شمالًا، وفي العصر الهيللينى أنشأ اليونانيون هيكلا للإله ديونيسيوس على قمة الجبل المتاخم ل (تل الهوش).

في عصر المكابيين شهد اليهود الساكنين بها: أن أهل البلاد أحسنوا معاملتهم وذلك في غمرة انتقام يهوذا المكابي من الوثنيين الذين اضطهدوا اليهود الساكنين بينهم (2 مكا 12: 29 – 31). ظلت بيت شأن في يد روما، ومن ثم أصبحت ضمن ما يسمى ب” العشر مدن(ديكوبوليس” Dicopolic ) وهو اتحاد عشر مدن بالثقافة اليونانية (متى 4: 25 ومرقس 5: 20 و7: 34) وقد هوجمت من اليهود إبان حروبهم مع الرومان. وفي العصر البيزنطي أصبحت أسقفية، وعلى قمة الجبل المذكور بنيت كنيسة على مثال كنيسة القبر المقدس، وحديثا اكتشف هناك آثار دير يرجع إلى القرن السادس الميلادي. وبعد الفتح العربي أعيد استخدام “بيصان” وهو تحريف للاسم “بيت شان” وقد دمرها الصليبيون فيما بعد، أما مكانها الأصلي فهو الآن ” تل الحصن” بقرب بيصان الحالية.

عندما رأى تريفون جيوش يوناتان تظاهر بالسلم والصداقة، وأكرم وفادته مقدمًا الهدايا موصيًا جنوده بطاعته كقائد نظيره، بل استطاع كذلك أن يقنع يوناتان بتسريح جيشه وإعادته إلى ثكناته في اليهودية، ويعترف ضمنا بأن يوناتان هو قائد إقليم البقاع ولذلك فهو ينوى تسليمه بطلمايس (عكا) وما يتبعها من جنود وحصون. فقد كانت بطلمايس موقعًا استراتيجيًا (10: 2) يعادي شعبها اليهود (5: 15، 22، 55  و11: 22 و2 مكا 13: 24 – 26) وكان الحشمونيين يرغبون منذ زمن بعيد في الاستيلاء عليها ولكنهم لم ينجحوا حتى ذلك الوقت.

وربما يكون يوناتان قد ظن أن نبؤات زكريا (أصحاح 9) بمجد إسرائيل ستتحقق. ولكنه لم ينتبه إلى الشر الذي أُعدّ عليه فوقع في الشرك، فقد كانت الخطة أن تتحول بطلمايس إلى مصيدة ليوناتان ومن معه بإيعاز من تريفون، إذ يعد يوناتان ورقة هامة في التفاوض مع اليهود بعد أسره، فما أن أصبحوا داخلها – هو والألف جندي الذين معه – حتى أطبق عليهم الحراس مغلقين أبواب المدينة، ثم انقضوا على الجنود فقتلوهم عن آخرهم، في حين أرسل تريفون ليهلك الألفين الآخرين الذين سُرّحوا، وكانوا وقتها في الجليل، وما أن سمعوا بخيانة تريفون حتى استبسلوا أمام رجاله الذين تراجعوا وتركوهم.

وربما ترك يوناتان الألفي جندي كقوات في منطقة كان يتوقع أن تُلحق باليهودية، وكان الطريق من بيت شأن إلى بطلمايس يمر خلال وادي يزرعيل ثم إلى الشمال بمحاذاة نهر قيشون والسهل الساحلي، حيث يمكن إطلاق اسم “الجليل” على الأجزاء الأخيرة من الطريق (آية 49).

وقد ظن اتباع يوناتان أن قائدهم قد قُتل -رغم أنه كان مأسورًا لم يُقتل بعد- فصنعوا له مناحة كبيرة في أورشليم، وفي مثل هذه الأحوال يضطرب الأمن ويحدث ما يسمى “بالفراغ السياسي” عقب موت القائد، لا سيما إن كان قد مات مقتولاً أو غدرًا بهذه الطريقة، وهذا ما جعل أعداء اليهود يغتنمون الفرصة لكي يبددوا شمل اليهود.

وهكذا سلك تريفون بعيدًا عن النبل، ولكنها الحرب والأطماع السياسية، وميول الإنسان الرديئة. وبعد وفاة يوناتان أمسك سمعان بمقاليد الأمور – كما سيأتي – وأفسد على تريفون خططه.

 وقام تريفون بقتل الملك الصغير في إنطاكية واغتصب عرش سوريا سنة 143 ق.م. فانحاز عندئذ سمعان إلى ديمتريوس (الخصم السابق) ثم وقع ديمتريوس أسيرًا في يد أرساكيس (ميترداتس) ملك فارس، فواصل أنطيوخس شقيق ديمتريوس المقاومة ضد تريفون، فهرب الأخير إلى ” دورا”  ثم إلى بطلمايس ثم أرطوسياس وأخيرًا إلى ” باميا ” موطنه الأصلي حيث انتهى به الحال إلى الانتحار هناك.

_____

(1)  Jonathan. I Macc. P. 446.

(2) راجع: يوسيفوس (آثار اليهود 12 فصل 3: 3).

(3) حسبما ورد في تفسير القديس إيرونيموس لسفر إشعياء. (أصحاح33).

(4) راجع في ذلك تفسير سفر المكابيين لجوناثان/ص 448.

(5) بينما يرجح بعض الشراح أن يكون المقصود هو أونيا الثاني الآتي ذكره.

(6) قسم: (تعانيت 18: 1) وقسم: (نذير 6: هالاخاه 1)

(7) راجع سلسلة رؤساء الكهنة- كتاب: مدخل إلى سفري المكابيين.

(8) المقصود بالختم طريقة إغلاق الرسالة بإحكام، وكان حامل الرسالة يعرض الختم على المرسل إليه أولًا.

(9) الترجوم هو الكتاب الذي يحوي الأسفار باللغة العبرية ومقابلها الترجمة الأرامية، لأجل اليهود العائدين من السبي والذين لا يجيدون العبرية. ترجم “أونكليوس” أسفار التوراة بينما ترجم “يوناثان” بقية العهد القديم.

(10) لمزيد من التفاصيل حول هذا الموضوع، راجع:  Jonatham, I Maccabees, P. 457.

(11) وربما كان السور الخارجي الذي جاء ذكره عند “دلمان” في ( jerus. 124 ): ” وبعد ذلك بنى منسى سور خارجي لمدينة داود شرق جيحون)

(12) يوسيفوس: (الآثار 13 فصل 6: 1).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى