تفسير سفر المكابيين الأول 13 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا

سمعان يتولى قيادة الأمة

 

كان سمعان قد عمل كقائد مساعد، خلال الفترة التي سبقت القبض على يوناتان أخيه (11: 59 و12: 35 وما يليه) وهو الآن يسعى لسدّ هذه الفجوة السياسية الناشئة عن اختفاء أخيه، ورغم أن اليهودية في ذلك الوقت قد نالت استقلالها بشكل كبير، وأصبح للمكابيين قوة معترف بها في المنطقة إلاّ أن الوجود السلوقي كان ما يزال قائمًا، لا سيما من خلال القلعة.

الشعب يبايع سمعان قائدًا

1وبلغ سمعان أن تريفون قد جمع جيشا عظيما ليذهب إلى أرض يهوذا ويدمرها. 2ورأى أن الشعب قد داخله الرعب والرعدة، فصعد إلى أورشليم وجمع الشعب 3وشجعهم فقال لهم: ” قد علمتم ما فعلت أنا واخوتي وأهل بيت أبى من أجل السنن والأقداس، وما لقينا من الحروب والشدائد. 4ولذلك هلك اخوتي جميعا لأجل إسرائيل، وبقيت أنا وحدي. 5فحاش لي الآن أن أضن بنفسي في كل وقت ضيق! فإني لست خيرا من اخوتي. 6بل أنتقم لأمتي وللأقداس ولنسائنا وأولادنا، لأن الأمم بأسرها قد اجتمعت لتدميرنا بغضا “. 7فلما سمع الشعب هذا الكلام انتعشت أرواحهم 8وأجابوا بصوت عظيم قائلين: ” أنت قائد لنا مكان يهوذا ويوناتان أخيك. 9فحارب حربنا، ومهما قلت لنا فإننا نفعله. 10فحشد جميع رجال القتال وجدّ في إتمام أسوار أورشليم وحصنها مما حولها. 11ثم وجه يوناتان بن أبشالوم إلى يافا في عدد وافٍ من الجيش، فطرد الذين كانوا فيها وأقام هناك.

 

بعد أن قام تريفون بأسر يوناتان تشجع لمهاجمة اليهودية، وأما الشعب فقد داخله الرعب بسبب الفراغ الذي تركه غياب يوناتان، ومن ثم فقد قام سمعان بترك مقر إقامته في “حاديد” صاعدًا إلى أورشليم، وجمع الشعب مشجعًا إياهم ومذكرًا برسالة العائلة الحشمونية (المكابية) ومقدار التضحيات التي قدمتها في سبيل تأكيد الشريعة والحرية الدينية مما كلفهم حياتهم، ويلاحظ في (الآية 4) أن يوناتان اعتبر مفقودا أو بالأحرى في عداد القتلى في حين أنه كان ما يزال مأسورا لم يُقتل بعد. ثم يعرض سمعان مواصلة المسيرة والتضحية من أجل الأقداس والضعفاء.

وقد بعثت خطبته الحماسية هذه: الأمل في نفوس الشعب وألهبت حماسهم، بعدما كان الرعب قد داخلهم، ومن ثم فقد بايعوه قيادة الأمة متعهدين بالوقوف إلى جواره وتنفيذ أوامره، ويلاحظ أن تعيين سمعان هنا جاء بهتاف الشعب به قائدًا، في حين كان أبوه متتيا قد أوصى إخوته عند موته بأن يجعلوه أبًا لهم، غير أنه اتضع لإخوته الأصغر منه، فجاء هو آخر القادة بين المكابيين الخمسة، إلاّ أنه فاقهم في حسن السياسة وتحقيق المكاسب لأمته حيث أضاف خبرات جميع إخوته وأبيه إلى خبراته هو.

وبينما يعيد تنظيم صفوف الجيش ويتمم أعمال البناء والترميم التي بدأوها (12: 35 – 38) أرسل سمعان أحد قواده بصحبة قسم كبير من الجيش إلى يافا، لطرد من دخلوها، وربما تحسبًا لاحتمال تحالفهم مع تريفون، وكذلك لتأكيد سلطان المكابيين عليها بوضع حامية عسكرية يهودية هناك وربما اعتبر سمعان ضبط يافا أمرًا ضروريًا، إذ أنه من خلالها كميناء هام كان يستطيع إرسال سفارة طلبًا لمعونة روما، وقد خشي سمعان ألا تستطيع القوة اليهودية الموجودة أصلًا هناك، ضمان ولاء الميناء لسمعان.

يوناتان بن أبشالوم: يُعتقد أنه شقيق “متتيا” أحد القائدين المُخلصين اللذين بقيا مع يوناتان بعد تراجع الجنود اليهود عندما فوجئوا بكمين للأعداء عند حاصور (11: 70).

سمعان يطرد تريفون من اليهودية

12وزحف تريفون من بطلمايس في جيش عظيم، قاصدًا أرض يهوذا، ومعه يوناتان تحت الحراسة. 13وعسكر سمعان في حاديد قبالة السهل. 14وعلم تريفون أن سمعان قد حل محل يوناتان أخيه وأنه مزمع أن يشن الحرب عليه، فأنفذ إليه رسلا يقول: 15“إننا إنما قبضنا على يوناتان أخيك لمال كان عليه للملك فيما قام به من الوظائف. 16فأرسل الآن مئة قنطار فضة وابنين من أبنائه رهينة، لئلا يغدر بنا إذا أطلقناه، وحينئذ نطلقه”. 17وعلم سمعان أنهم إنما يكلمونه بمكر، إلا أنه أرسل من يأتي بالمال والولدين مخافة أن يجلب على نفسه عداوة شديدة من قبل الشعب فيقولوا: 18“لأنه لم يرسل إليه المال والولدين هلك”. 19فأرسل الولدين ومئة القنطار. إلا أن تريفون أخلف ولم يطلق يوناتان. 20وجاء تريفون بعد ذلك ليغزو البلاد ويدمرها، ودار في الطريق إلى أدورا، وكان سمعان وجيشه يقاومونه حيثما تقدم. 21وأنفذ الذين في القلعة رسلا إلى تريفون يلحون عليه أن يأتيهم من طريق البرية ويرسل إليهم ميرة. 22فجهز تريفون جميع فرسانه للسير، ولكن الثلج تكاثر جدًا في ذلك الليل، فامتنع عن السير بسبب الثلج. فرحل وأتى إلى أرض جلعاد. 23ولما أن قارب بسكاما، قتل يوناتان، ودفنوه هناك. 24ثم رجع تريفون وانصرف إلى أرضه.

 

ما يزال تريفون حتى ذلك الوقت مولعًا بالعرش، وما زال يتمركز في بطلمايس (عكا) وهي تقع في الواقع آنذاك ضمن نفوذ المكابيين، وما يزال تريفون غير مطمئن إلى منطقة اليهودية، وقد لعبت دورًا كبيرًا وحاسمًا خلال السنوات التي سبقت ذلك، في الصراع على عرش سوريا، وقد خشي أن يتحالفوا ضده مع ديمتريوس في حالة سعي الأخير إلى العرش، وقد كان يوناتان مأسورًا معه مُستخدمًا إياه كورقة ضغط على سمعان.

ولكن سمعان بادر هو الآخر فتمركز بجيشه عند حاديد والتي جعلها مقره، كما سبق القول (آية 2) راجع أيضًا (12: 38) فأرسل تريفون يساومه، ولا يُعرف على وجه الدقة في مقابل ماذا يطلب المئة قنطار (بدرة) من الفضة (حوالي 32 ألف دولار)، ولكنها على أية حال اعتبرها فدية مقابل إطلاق سراح يوناتان وربما كانت رسوم التاج التي يستحقها تريفون من سمعان (2 مكا 14) أو تلك التي وعد بها يوناتان ديمتريوس (11: 28)(1). كما طلب ابنيه كرهينتين، وهو نفس ما فعله يوناتان عندما أخذ أبناء رؤساء بعض البلاد كرهائن (9: 53)، وكما فعل السلوقيون كذلك أكثر من مرة.

ولكن سمعان الذي يعرف تريفون جيدًا، كان يدرك أنه غادر وخائن، ولكنه في مثل تلك الحالات يلعب الضغط الشعبي والجوانب الإنسانية: دورًا كبيرًا، لا يقل عن دور الجنود والأسلحة، مما دفع سمعان إلى قبول مطلب تريفون على مضض، ولكنه سلك بالغدر من جديد كما فعل من قبل.

وفي الحياة العامة يحدث ذلك كثيرًا عندما يمرض أحد أفراد العائلة بأحد الأمراض الميئوس من شفائها، ولكنه لأسباب إنسانية وضميرية يضطر ذويه إلى بذل عشرات وأحيانًا مئات الآلاف من الجنيهات، حتى لا يُصطادون من ضمائرهم بعد ذلك بسبب الشعور بالتقصير من نحو المريض قبل موته..

أدورا Dorوكثيرًا ما يحدث الخلط بين “دورا” وهي إقليم في “بابل” أقام فيه نبوخذ نصر تمثال الذهب ليعبده الناس، ودورا وهي مرفأ جنوب الكرمل، وأمّا دورا المقصودة هنا فهي “أدورايم” وهو اسم عبري معناه ” تَلّين” أو “مرتفعين” ذكرت في (2 أخ 9: 11) وباليونانية “أدورا Adwra“، وقد أوردها يوسيفوس باسم: ” دورا ” (2) وهي في حدود يهوذا الجنوبية، وإحدى مدن يهوذا الخمسة عشر والتي حصنها رحبعام. تقع أدورا على بعد ثمانية (أوعشرة) كيلومترات جنوب غرب حبرون.

ومن بعد موت أنطيوخس السابع استولى عليها هركانوس سنة 129 ق.م. وفيما بعد أعاد “جانيوس” والى سورية بناء المدينة سنة 59 ق.م. جاعلًا منها إحدى المدن الرئيسية، وجاء في كتاب اليوبيلات (38: 9) أن قوات يعقوب قتلت عيسو في أدورايم ودفنوه هناك. وتسمى الآن ” دورا ” أيضا(3).

وقد سلك تريفون في هذه المواجهة مثلما سلك ” ليسياس” عندما قام بحركة التفاف حول جيش المكابيين (4: 29 و6: 31) وحدث ما يشبه المناورة والمطاردة، فعندما تحرّك تريفون من الطريق الآتي من الساحل، استولى سمعان على الخطوط الداخلية حيث تمكن من البقاء بين تريفون والعاصمة، وبذلك جعل سمعان محاولة استخدام الطرق الرئيسية من السهول الخفيضة إلى أورشليم محاولة في منتهي الخطورة بالنسبة لتريفون، ولذلك فقد اتخذ تريفون الطريق الأكثر أمنًا من خلال طريق أدورا عبر المنطقة الأدومية الصديقة له، بحذر حتى ” بيت صور” والتي كانت تحت سيطرة اليهود (3: 13 – 4: 29 /6: 31 /11: 65، 66 /14: 33).

 وفي ذلك الوقت كان سكان القلعة في أورشليم يعانون نقص الامدادات بسبب حجز القلعة وعزلها عن المدينة، وبالتالي استحالة الحصول على احتياجاتهم، وقد استمر هذا الحال لمدة سنتين. غير أن الثلوج المتكاثرة بسبب فصل الشتاء، اضطرت تريفون إلى التراجع إلى ما وراء الأردن إلى أرض جلعاد، مما تسبب في تفاقم مشكلة سكان القلعة، حيث أسهم ذلك في الواقع بعدم التمسك بالبقاء فيها لمزيد من الوقت كما سنرى (في الآية 50). انظر خريطة رقم (14).

وكان ديمتريوس قد رفض تسليم القلعة ليوناتان (11: 41 – 53) في حين تحالف تريفون في البداية مع يوناتان مما أثار استياء الجنود فيها. أمّا الآن وقد عاد وانقلب تريفون على المكابيين فقد صار حليفًا تلقائيًا لهم.

قتل يوناتان في بسكاما:

     لاشك أن تريفون كان في نيته قتل يوناتان، فلقد أذاقه الأخير مرارة الهزيمة غير مرة، غير أنه من المحتمل أن يكون السبب المباشر للقتل في هذا التوقيت بالذات هو فشل حملت تريفون واضطراره إلى الخروج من المنطقة، عاجزًا أيضًا عن انقاذ أتباعه في القلعة. وكان موت يوناتان في فصل الشتاء وقبل عيد التجديد في ديسمبر سنة 143 ق.م.، وهكذا استمر في الكهنوت من أكتوبر 152 ق.م. حتى أواخر 143 ق.م.

وأما بسكاما Boskamos, Baskama، وفي العبرية “بيت شقما” فهي مدينة تقع أقصى غرب رأس الكرمل العالي في أرض جلعاد، وربما كانت هي بلدة “اليميمة” على بحر الجليل، وربما كانت هي “تل بازوق” شمال شرق بحر الجليل، ويسميها يوسيفوس “بسكا” وربما هي أيضا “الجميزة” شمال شرق بحر الجليل.

دفن يوناتان وتشييد قبر جديد للعائلة المكابية

25فأرسل سمعان وأخذ عظام يوناتان أخيه ودفنها في مودين، مدينة آبائه. 26وناح عليه كل إسرائيل نوحا شديدًا وندبوه أياما كثيرة. 27وشيد سمعان على قبر أبيه وأخوته بناء عاليا يرى من بعيد، بحجارة مجلية من وراء ومن أمام. 28ونصب على القبور سبعة أهرام، واحدًا بازاء واحد، لأبيه وأمه وأخوته الأربعة. 29وزينها بفنون النقوش وجعل حولها أعمدة عظيمة مرسوما على الأعمدة أسلحة، تخليدا لذكرهم، وبجانب الأسلحة سفن منقوشة، وكان يراها جميع ركاب البحر. 30هذا هو القبر الذي صنعه بمودين، وهو باق إلى هذا اليوم.

 

عاد تريفون بجيشه إلى بطلمايس (وهي المدينة التي كان يقيم فيها في ذلك الوقت) ومن المحتمل أن تكون جلعاد المذكورة هنا هي الجليل (آية 22) وعليه فيكون تريفون قد قتل يوناتان قبل عبوره بحر الجليل راجعًا إلى مقره، فلما غادر البلاد أرسل سمعان وأخذ “عظام” أخيه مما يعنى أنه قد مرت عدة شهور على مقتله. انظر خريطة رقم (14).

قبر مودين: حيث دفن أب العائلة المكابية “متتيا” كان يوجد قبرهم، هناك دفن الأب أولًا ثم ألعازر ثم يوحنا ثم يوناتان، وبعد موت يوناتان وإقامة احتفال جنائزي ضخم بهذه المناسبة، قام سمعان بتطوير هذا المدفن البسيط ليصبح تحفة فنية رائعة، تعد أهم الآثار المعمارية التي تركها الحشمونيين والتي ظلت باقية إلى عهد القديس جيروم (ايرونيموس).

الدفن وعاداته قديمًا:

كانت الجثث تُطمر في بادئ الأمر في الأرض، ثم تطوّر الأمر ليصبح للحفرة جوانبا وغطاءا من الأحجار، وبعد ذلك أصبح الدفن يتم داخل جرار كبيرة من الفخار يدفن فيها الميت راقدا ممتدًا أو جالسًا القرفصاء في شكل الجنين، ثم عرفت بعض الشعوب – لا سيما في الشرق- الدفن في كهوف طبيعية أو صناعية نُحتت خصيصًا لذلك، حيث كانت تُوضع فيها عشرات الجثث، مثل مغارة المكفيلة التي اشتراها إبراهيم لدفن سارة ومن ثم أصبحت مدفنًا للعائلة كلها (تكوين 49: 30، 31) ثم تطور الأمر بعد ذلك إلى بناء قبة أعلى القبر، ثم أهرامات والتي كانت عبارة عن بناء ضخم مزين بعناية.

أما الفرس فقد بنوا قبورهم على المرتفعات ومن كتل كبيرة من الرخام، كما نقروا قبورهم في صخرة عالية على شكل هيكل له ثلاث طبقات، حيث يوضع تابوت الميت في الطبقة الوسطى ويصلون إليها بدَرَج(4)، ومنهم أخذ اليهود الفكرة فعرفت قبورهم باسم ” الكوكيم” وهي جمع ” كوك” والذي هو عبارة عن مدفن صغير على قدر جسم الميت. وقد بنيت قبور جماعية على هذا النحو، عبارة عن ممر طويل داخل الصخر تتفرع منه نواويس (جمع ناووس وهو فتحة على قدر جسم الميت) داخل الحائط على الجانبين بشكل عمودي، وكثيرًا ما تكون عدة صفوف فوق بعضها، بينما يزين مدخل المدفن بالأعمدة والزخارف، وفي قبر في “مريشة” يرجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد وجدت جدرانه منقوشة بمناظر جميلة ذات ألوان زاهية لحيوانات وزهور وآلات موسيقية. وعلى التابوت الذي دفن فيه الاسكندر وجدت نقوش يونانية جميلة تصوّر مشاهدًا من حياته.

أما الإغريق فقد أضافوا للقبور شواهد (أنصاب) وغرسوا حولها الأشجار ليجعلوا منها أماكن جميلة، ولعل سمعان المكابي قد تأثر بذلك حين طوّر مدفن عائلته، وقد وُجد غرب مدينة ” تدمر” السورية نموذجان قبور ترجع إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد، الأول به زخارف وتماثيل منحوتة ونقوش بارزة تمثل أفراد عائلات المدفونين، أما الثاني فهو على شكل برج بارتفاع عدة أدوار مصنوع من حجارة منحوتة، وفي الحوائط صفوف من الفجوات، كل منها لدفن أحدهم. أما الرومان فمع أنهم يحرقون جثث موتاهم، إلاّ أنهم شيدوا قبورًا فخمة مزينة بالنقوش والزخارف، بعضها هرمي مستدير مثل قبة أغسطس قيصر في روما وهادريان وغيرهما.

وكان يُوضع مع الميت في تابوته بعض الطعام والكتب والنفائس والأسلحة والثياب وبعض الأدوات التي كان يستخدمها، وأحيانًا القوارب بل والحيوانات الأليفة بعد تحنيطها وكذلك المصابيح، حيث وُجدت في مدافن “رأس شمرا” بسوريا بقايا أطعمة في جرار: مثل آثار اللبن.!

ومن أهم القبور في العصر المكابي، المقبرة الموجودة في (عراق الأمير) وسط شرق الأردن، وهي تخص الأسرة الطوبية، والتي كان قد بناها طوبيا العموني العدو الشهير لنحميا (نحميا 2: 19)، ويوجد بها عدة قبور منحوتة في الصخر ومنقوش على أحدها في الصخر اسم “طوبيا” بحروف آرامية، وترجع إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وهو بلا شك قبر واحد من نسل طوبيا العموني المذكور.

أما سمعان المكابي فقد أقام حول المدفن سبعة أهرامات، وليس من الضروري أن يكون قد صنع هرمًا فوق كل واحد من الراقدين، بل أنه من الأرجح أنهم دُفنوا الواحد تلو الآخر في مكان واحد، بل كانت أهرامات للزينة والعظمة، أما النقوش للسفن والأسلحة على الجدران لتلك الأعمدة التي أقامها أيضا، فيرى البعض أنها تشير إلى قوة يوناتان في البر والبحر، وبالرغم من أنه لم يكن للحشمونيين أسطول وبالتالي انتصارات بحرية، فإن يافا كانت بوابة البحر بالنسبة لسمعان (14: 5، 34) ولكنه كان يؤمن بأنه سوف يسود على البحار تحقيقًا لنبوءة إشعياء (42: 10 – 13) وكأن ذلك تحذير لكل من “أبحر في البحار”، وقد نصب سمعان هذه الأعمدة كألواح تذكارية (شواهد قبور) وربما كتب عليها بعض من بيانات وأخبار الراقدين، ولا شك أن الهرم السابع يخص سمعان نفسه لتصبح الأهرامات السبعة، للمكابيين الخمسة مع أبيهم وأمهم.

هذا وقد استخدم سمعان الأساليب الإغريقية في آثار الانتصارات، وقد بنى الأهرامات غالبًا في صف واحد جنبا إلى جنب، وكان الإغريق يثبتون أية ” بذلة عسكرية ” مسلوبة من العدو، على صليب حتى تبدو كأنها رجل يرتدى الحلة العسكرية، وفي القرن الخامس ق.م. بدأوا في صنع ذلك من الحجر أو البرونز لتبقى كأثر هام، سواء في مناطق أقواس النصر أو في المعابد.

     كتب يوسيفوس في هذا الشأن: ” من حجر أبيض منحوت ” ” سبع أهرامات “: باليونانية ” epta puramidaj ” وكلمة ” puramij ” كلمة مستخدمة عند المؤرخين اليونان مقتبسة من المصرية القديمة(5)، وُترجمت بالآرامية ” شبع نفشان ” أي ” سبع نفوس” ويطلق في الآرامية على المقابر عادة: ” بيوت النفس” فقد ورد على سبيل المثال في النقش النبطي قبل الميلاد: (دا نفشا دي آب …. د بنا له أباهو) أي: ” هذا شاهد قبر آب الذي بناه له أبوه ” (6).

وفي المقابل أُقيمت آثار لتخليد الانتصارات البحرية، وذلك على الشاطئ بالقرب من موقع المعركة، وفي أماكن أخرى، وكانت تلك الآثار عبارة عن مقدمة لسفينة العدو، أو نحت على الحائط يمثل ذلك، وقد عُرفت الأعمدة ذات التمثيل المنحوت – كما في حالة سمعان – في بلاد الإغريق والرومان.

هكذا  بدت المقبرة تحفة فنية رائعة، وَعلَم من معالم ذلك الوقت وتلك المنطقة، حيث كان العابر في سفينته بالبحر يراها عن بعد، وإليها أشار يوسيفوس حيث كانت ما تزال موجودة في أيامه، ليس ذلك فحسب، بل أن القديس جيروم والذي عاش في أوائل القرن الخامس، يصرّح بأنه رآها. وفي القرن التاسع عشر جرت حفريات في “مودين” بمعرفة العالم “كاران” سنة 1870م عثر خلالها على مقبرة المكابيين وتأكد منها، وقد حاول جاهدًا شراء تلك الأرض التي تقع بها المدافن لحساب حكومة فرنسا فلم يفلح.

تحالف سمعان مع ديمتريوس الثاني

وبداية حقبة زمنية جديدة

31وسلك تريفون بالغدر مع أنطيوخس الملك الصغير وقتله. 32وملك مكانه ولبس تاج آسية، وضرب البلاد ضربة شديدة 33وأعاد سمعان بناء حصون اليهودية وعززها بالبروج الشامخة والأسوار العظيمة والأبواب والمزاليج، وأدخر ميرة في الحصون. 34وانتخب سمعان رجالًا وأرسل إلى ديمتريوس الملك أن يعفي البلاد، لأن كل ما فعله تريفون إنما كان اختلاسا. 35فبعث إليه ديمتريوس الملك بهذا الكلام، أجابه وكتب إليه كتابًا هذه صورته:

36“من ديمتريوس الملك إلى سمعان عظيم الكهنة وصديق الملوك، وإلى الشيوخ وشعب اليهود سلام. 37قد وصل إلينا إكليل الذهب والسعفة التي بعثتم بها إلينا، وفي عزمنا أن نعقد معكم سلما تاما ونكتب إلى الموظفين أن يعفوكم مما عليكم. 38وكل ما رسمنا لكم يبقى مرسومًا، والحصون التي بنيتموها تكون لكم. 39وكل ما فرط من هفوة وخطأ إلى هذا اليوم نتجاوز عنه، والإكليل الذي لنا عليكم وكل رسم آخر على أورشليم نعفيكم منهما. 40وإن كان فيكم أهل للاكتتاب في جندنا فليكتتبوا، وليكن فيما بيننا سلم”. 41وفي السنة المئة والسبعين، خلع نير الأمم عن إسرائيل، 42وبدأ شعب إسرائيل يكتب في توقيع الصكوك والعقود: “في السنة الأولى لسمعان عظيم الكهنة، قائد اليهود ورئيسهم”.

 

كان ديمتريوس الثاني في تلك الأثناء يراقب الموقف عن كثب، ويحاول جاهدًا استرداد عرشه، وما يزال من بين الجنود السلوقيين من هو مقتنع بقضيته، وبالتالي فقد عادت الاضطرابات السياسية لتشتدّ من جديد حول عرش سوريا، ففي سنة 142 ق.م. اغتصب تريفون العرش غدرا، ولا يعرف على وجه الدقة كيف حدث ذلك، فقد روى كل من المؤرخين: يوسيفوس ويوستينوس، أنه قد استولى على العرش وأعلن نفسه ملكًا (لبس تاج آسيا) ومن ثم آلت الجيوش والأمور إليه، ثمّ دبر مكيدة قتل الملك الصغير، ذلك أن الملك الصغير أنطيوخس السادس كان مريضا بحصاة كان يعانى منها (في كليته أو مرارته) فلما خضع لجراحة لإزالتها، تواطأ تريفون مع الأطباء فقتلوه(7)، وبالتالي فمن الممكن أنه استغل مرض الملك في الاستيلاء على العرش، ليقوم بعد ذلك  بقتله على النحو المذكور. وبعد ذلك قام تريفون بحملة تأديبية لتأكيد سلطانه، ولبثّ الرعب بين سكان البلاد حتى لا يجسر أحد على التعرض له.

    في المقابل انتهز سمعان فرصة هذه الاضطرابات، فقام إذ ذاك بتعزيز التحصينات وتزويدها بالقلاع والمزاليج (والمقصود بالمزاليج هنا هو ضمان عدم فتحها إلاّ بأمر القادة) وذلك خوفًا من تواطأ البعض مع الأعداء أو تحسبًا لضعف السكان. ومن ثم راسل سمعان ديمتريوس الثاني وهو العدو السابق اللدود لليهود! ولكنها طبيعة تلك المرحلة، وفي مثل تلك الظروف، حيث  تخضع المنطقة بكاملها لتوازنات مختلفة بين آن وآخر وتقلبات سياسية سريعة، كان القائد اليهودي يسلك بما يضمن خير أمته، وأما ديمتريوس فقد فرح  بهذه المبادرة ليجد بذلك عونًا ضد تريفون خصمه والجالس الآن اختلاسًا على عرشه.

رسالة ديمتريوس إلى سمعان:

هذه الرسالة صورة طبق الأصل من الوثيقة الأصلية كما يؤكد ذلك العلماء والشراح، وفيها يظهر ديمتريوس متعجرفًا كعادته معتدًا بذاته، كمن لا  يجد غضاضة في قبول هذا التحالف والهدية المرسلة مع السفراء! فهو (يوافق!) على ما قام به سمعان من تحصينات دون إذنه!! كما يعفو عن هفوات اليهود السابقة وأخطاءهم في حقه. وينعم عليهم بالإعفاء من الإكليل (رسم التاج) المقرّر عليهم سنويًا وكذلك بقية الضرائب والجزية، ثم يؤكد على امتياز آخر كان قد منحه قبلًا، وهو إمكانية تجند اليهود في جيوشه حيث يحسب ذلك شرفًا كبيرًا يمنحهم إياه.

وبهذا المرسوم اعتبر اليهود أن بلادهم قد خرجت رسميا من تحت السلطة السلوقية، وكان ذلك في سنة 142 ق.م. لينتهي الاحتلال السلوقي للبلاد الكائن منذ سنة 167 ق.م، إذ كان بقاء الجزية هو أكبر الأدلة على كونهم خاضعين لعرش سوريا، ونجد صدى لذلك في مرسوم تحالف روما مع اليهود: “ويرفعا عنهم النير لأنهم رأوا أن مملكة اليونان قد استعبدت إسرائيل استعبادًا” (8: 18). وبينما لم يكن ذلك إلاّ مجرد وعد، فإنه هنا يرفع نير العبودية عن إسرائيل لتحصل على استقلال سياسي فعلى.

وإزاء ذلك اعتبر اليهود هذا الحدث بداية تقويم جديد لهم، حيث يرد في مكاتباتهم وصكوكهم: التأريخ بسنة تولى سمعان لمنصبه، لا بحسب التقويم السلوقي كما جرت العادة لمدة طويلة، إذ رافق بداية حكمه خلاص الأمة من النير السلوقي. وإن كان في الواقع لم ينته بعد تمامًا.

ويشير تعبير “خلع نير الأمم عن إسرائيل” ليس إلى التحرير من الاستعمار أو الضرائب فقط، بل ربما كان إشارة إلى أن حكم الله على إسرائيل بالاستعباد للأمم قد كمل إلى نهايته، راجع (تثنية 28: 48 و إشعياء 9: 3 و10: 24 – 27 و14: 24 – 27 وإرميا 30: 4 – 8 وحزقيال 34: 27، 28) وقد تنبأ إشعياء عن مجيء غضب الرب على يهوذا وتنبأ كذلك بزواله (10: 5، 15 و26: 22 قارن مع دانيال 8: 19 و11: 36 وحزقيال 23: 23 – 31 ومزمور 102: 9 – 14).

ويسلك سمعان هنا مسلك ملوك مصر وإسرائيل ويهوذا من قبل، من حيث التأريخ بزمن الاستقلال أو تولّي الملوك، وهكذا اعتبروا هذا الحدث نقطة بداية لتقويم جديد (حقبة زمنية جديدة) ويؤكد ذلك العثور على بعض عملات معدنية ترجع إلى عصر سمعان. وبخصوص التقويم كان اليهود يميلون إلى الحساب بمناسبات تحريرهم وليس رئاسة الكهنوت، وبالمثل كان أهل صور وصيدا يحسبون التقويم بتاريخ تحرّرهم من النير السلوقي، ثم يُتبع اليهود ذكر تحررهم بذكر الكاهن أو القائد الذي تم التحرّر على يديه وهكذا يمكن القول: “في السنة الأولى (من تحرر اليهود) تحت قيادة سمعان”.

لقب سمعان هنا هو ” والى أو “هيغومينوس” وكان اليهود بشكل عام يميلون إلى لقب “أمير الأمة” وقد رأى الشعب في ذلك تحقيقًا لنبوءة إرميا النبي (30: 4 – 8) بينما لم يجرأوا على اعتبار نبوءة إرميا (30: 9) قد تحققت في سمعان وهي الخاصة بالملك الموعود من نسل داود.

    ولكن ما هو إكليل الذهب والسعفة اللذين أهداهما سمعان إلى ديمتريوس؟:

إكليل الذهب Golden Crownهو التاج المصنوع من الذهب مما يلبسه الملوك ورؤساء الكهنة، وكانت تصنع خصيصًا لتُهدى للقائد المراد تكريمه أو تعيينه أو التحالف معه أو تبادل الهدايا معه، حيث ينقش عليها اسمه والغرض من الهدية وكذلك يسجل عليه اسم الجهة التي أهدته، وكان الملوك يتبارون في صنعها كتحف ثمينة. ويصنع التاج من الذهب أو الفضة ويرصّع بالأحجار الكريمة والماس، وإلى هياكل الآلهة أهديت العديد من الأكاليل والشارات والأسلحة الملكية.

السعفة Frond, Palmوهي هدية مما كان يهديها الملوك بعضهم للبعض الآخر، أو الرعايا إلى الملوك أو الهياكل، وهي عبارة عن جريدة من الذهب يتفرع منها عدة ورقات (سعفات) وتصنع من الذهب بشكل مُتقن مُبهج، وفي هيكل أورشليم كان بعضها يزين ستر الهيكل أو الحوائط الداخلية، وكذلك زين بعضها قصور الملوك. وقد أهدى ألكيمس رئيس الكهنة المرفوض واحدة منها إلى ديمتريوس الأول تقربًا إليه (2 مكا 14: 4).

جازر. فتحها وتطهيرها

43في تلك الأيام، عسكر سمعان عند جازر وحاصرها بجيوشه، وصنع برجا نقالا وأدناه من المدينة وضرب أحد البروج واستولى عليه. 44وهجم الذين في البرج النقال على المدينة، فوقع اضطراب شديد في المدينة. 45وصعد الذين في المدينة مع النساء والأولاد إلى السور وهم يمزقون ثيابهم، وصرخوا بصوت عظيم إلى سمعان يسألونه الأمان، 46وقالوا: “لا تعاملنا بحسب مساوئنا، بل بحسب رأفتك”. 47فأتفق سمعان معهم وكف عن محاربتهم. ولكنه أخرجهم من المدينة وطهر البيوت التي كانت فيها أصنام، ثم دخلها منشدًا ومباركًا. 48وأزال منها كل نجاسة، وأسكن هناك رجالا يحفظون الشريعة، وحصّنها وبنى فيها منزلاً لنفسه.

 

 

جازر: يظن البعض أن “جازر” المذكورة هنا هي “غزة ” ولكنها بالفعل جازر المذكورة في (4: 15) وكانت مدينة ذات عبادة وثنية، لذلك فقد كان يقطنها المرتدين من اليهود. وقد اكتشف العالمّ مكالستار Macalister (8) بقايا قصر المكابيين هناك، حيث عثر بين حطامه على نقش باليونانية، عبارة عن دعاء على ” قصر سمعان” باللعنة والحريق، ويحتمل أن يكون ذلك الدعاء لأحد أسرى الحرب المسخّرين للعمل في القصر.! يقول النقش: ” يقول بامبراس: لتتبع النار قصر سمعان”.!

وقد وردت في بعض المخطوطات هكذا ” Gazan  ” = غزة، ولكن من الواضح أن المقصود هنا جازر(9) وباليونانية ” Gazaran ” ولعله قد التبس الأمر على بعض النساخ لتشابه الاسمين تمامًا.

أما ” البرج النقال” المشار إليه هنا، فهو تطوّر في نظام الهجوم سواء بالمجانق أو السهام، إذ كان الجنود المهاجمون هدفًا دائمًا لسهام المدافعين، مما يعطل عملهم في نصب المجانق على الأسوار أو الهجوم بالسهام على المحاصرين. والبرج عبارة عن صندوق خشبي ضخم يتحرك على عجلات مثل العربة ويحمل في داخله الجنود بآلاتهم وسهامهم، وفي بعض الحالات كانت واجهة الصندوق مزودة بفتحات عديدة تُوجّه من خلالها السهام، ذلك دون تعرض الجنود لسهام المدافعين.

ويسمى البرج المتحرك “هيلى بوليس helepolis ” وقد اخُترع في نهاية القرن الرابع قبل الميلاد بواسطة ” ديمتريوس بوليورسيتيس”. وقد قيل عن برج ديمتريوس أنه كان خمسة وأربعون ذراعًا مربعًا بارتفاع تسعون ذراعًا، حيث يوضع على أربع عجلات، بارتفاع ثماني أذرع، ويحتوى على مجانيق ساحقة ومعزّز بما يزيد عن مائتي رجل.(10)

وكان البرج الذي استولى عليه سمعان بمثابة ما يعرف الآن ب  “قاعدة عسكرية” لهم يستولون على المدينة من خلال تمركزهم فيها، ولقد وقع الرعب في قلوب سكان جازر فبادروا بطلب الاستسلام  حقنا للدماء معتذرين عما سببّوه من قبل لليهود الساكنين بينهم (ربما كان جميع السكان في الأصل يهودا قبل أن يرتدّوا عن اليهودية) ومن ثم فقد أجابهم سمعان إلى طلبهم ووافق على تأمين خروجهم من المدينة، ثم قام بتطهير “بيوت الأصنام” ويُقصد بها المعابد الفرعية الكثيرة للآلهة الوثنية، ومن المحتمل أن يكون قد حولها إلى مجامع أو معابد يهودية، وهو ما قصد به أنه وضع هناك: (رجالًا يحفظون الشريعة) وُيقصد بهم معلمين ربيين يهود (حاخامات). ومن ثم جعلها احدى المقار الخاصة به.

اغلاق ملف القلعة

49وأما الذين في قلعة أورشليم، فكانوا قد مُنِعوا من الخروج ودخول البلد ومن البيع والشراء، فاشتدت مجاعتهم ومات كثير منهم. 50فصرخوا إلى سمعان يسألون الأمان، فأمنهم وأخرجهم من هناك وطهر القلعة من النجاسات. 51ودخلها اليهود في اليوم الثالث والعشرين من الشهر الثاني في السنة المئة والحادية والسبعين بالحمد وبالسعف والكنارات والصنوج والعيدان والتسابيح والأناشيد، لأن العدو اللدود قد استؤصل من إسرائيل. 52ورسم سمعان أن يعيد ذلك اليوم بسرور كل سنة. وحصّن جبل الهيكل الذي بجانب القلعة، وسكن هناك هو والذين معه. 53ورأى سمعان أن يوحنا ابنه قد أصبح رجلا، فجعله قائدا على جميع الجيوش، وأقام في جازر.

 

مكث الجنود السلوقيون محصورون داخل القلعة لمدة سنتين (12: 36) ولم يستطع اتباعهم أن يمدوهم بما يحتاجون إليه، حتى تريفون نفسه لم يستطع الوصول إليهم بجيشه (آية 21،22) وبالتالي فقد مات كثيرين منهم حتى طلبوا هم – وليس حكامهم- الخروج منها، فأمّن سمعان خروجهم، وهكذا نجح الحصار معنويًا بعد أن فشل الحصار العسكري من قبل. وهكذا ظلت قلعة “عكرة” في أورشليم ” شوكة تُوخز ظهر اليهود” حتى تم إجلاء الغرباء منها وإخلاءها في أوائل يونيو/ حزيران سنة 141 ق.م. وهكذا ينتهي الاحتلال السلوقي القائم منذ سنة 167 ق.م. راجع (1: 33 – 40) وقد جُعل هذا اليوم مناسبة للاحتفال في كل عام ولكنه لم يستمر طويلًا.

وكان الاحتفال الأول من خلال تسابيح الشكر (الحمد) وأما السعف فهو سعف النخيل الذي يرافق احتفالات عيد الأكواخ، حيث يشير حمله إلى النصرة، وبها استُقبل السيد  المسيح يوم دخوله أورشليم، وأما الآلات الموسيقية المستخدمة، فهي: الكنارات (شكل من أشكال القيثارة) والصنوج (آلات إيقاع مثل الدفوف) والعيدان (جمع عود) وهي الآلات المستخدمة أيضًا في الهيكل لترافق الألحان والتسابيح، وقد طافوا بموكب ضخم في أرجاء تلك القلعة وكأنهم يدشنونها بعد تطهيرها. وقد ترك سمعان مقر إقامته في “حاديد” وسكن هو وأسرته في أورشليم، ربما في القلعة بعد تطهيرها، بينما أقام ابنه هركانوس في “جازر”. 

     بينما يقول يوسيفوس في تاريخه: ” هدم سمعان القلعة من أساسها لكي لا يجد الأعداء بها أي عون “(11)، وأنه حثّ اليهود على إزالة الهضبة التي كانت القلعة فيها، حتى أنها لم تعد تعلو الهيكل، إلاّ أنه لم يكن مصيبًا في ذلك، فالأرجح أنها ضُمّت إلى الهيكل حيث يسهل إقامة سور يضمها إلى الهيكل، ويرجح جدًا أنها هي التي صارت “برج انطونيا” بعد ذلك في عهد هيرودس الكبير بعد أن كان يوحنا هركانوس في الغالب قد هدمها.

يوحنا هركانوس (135 – 105ق.م.)

لقب يوحنا بـ”هركانوس” لأن سمعان أبوه كان قد قتل رجلًا جبارًا في إحدى المعارك يسمىّ هركانوس، وبالتالي فقد لقب ابنه بهذا اللقب نظرًا لشجاعته. وقد خلف هركانوس أبيه خلال العام 135/134 ق.م. وكذلك في رئاسة الكهنوت، وهو أول من دُعي “ملكًا” في القادة المكابيين. بدأ هركانوس حياته بجملة من التحديات، وكانت أول أعماله العسكرية هي انتصاره الكبير على قندباوس أحد قواد السلوقيين، حيث طارده إلى أشدود ثم أحرق البروج التي لجأ إليها جنوده (16: 1 – 10).

لكنه ما كادت البلاد تستريح من الحروب مع البطالمة والسلوقيين، حتى هاجمهم “بطليموس بن أبوبس” قائد أريحا (16: 11) ولكن هركانوس هزمه ودحره حتى هرب إلى “حصن دوق” فحاصره هركانوس، ولماّ همّ بهدم الحصن هدده بطليموس بإلقاء أمه واخوته من فوق السور -وكانوا أسرى معًا- فتركه هركانوس غير أن بطليموس غدر بهم وقتلهم أيضا، ثم تحالف هركانوس مع ديمتريوس الثاني وعاونه في حروبه. ولماّ هاجم أنطيوخس السابع اليهودية انتقاما لقندباوس، اضطر هركانوس إلى عقد هدنة بشرط دفع جزية، مما اضطرّ هركانوس إلى أخذ بعض كنوز ” قبر داود”. ثم جمع جيشًا كبيرًا وانضم إلى أنطيوخس لمحاربة البرثيين، حيث قُتل الأخير في تلك الحرب وهكذا ألقى هركانوس نير السلوقيين عنه.

فلما استتب له الأمر قام من ثم بحملات توسعيّة، فقد هاجم المقاطعات الكائنة شرقي الأردن وكذلك قام بتدمير السامرة والهيكل الذي فيها بجرزيم ثم فتح سبسطية وقتل سكانها، ثم أدمج الشعب الأدومي في اليهودية بختناهم (ولعل ذلك يفسر لنا كيف كان هيرودس الكبير من أصل أدومى) وأرسل من جديد لتأكيد التحالف مع الرومانيين.

انفصل هركانوس عن فرقة الفريسيين (نسل المكابيين) لينضم إلى الصدوقيين وهم أعداءهم، ومن ثم ثار ضده الرجال الذين كانوا أعمدة الثورة المكابية والذين يحملون رسالتهم وبسالتهم، فقد كانت الحرب مقدسة في بدايتها وأن كانت قد انحرفت عن المسار الديني إلى السياسي عدة مرات. وكان في انفصاله عن الفريسيين إعطاء الظهر للمكابيين (الحشمونيين)، وكان الفريسيين في ذلك الوقت قوة هامة لا سيما فيما يتعلق بالشريعة والتقاليد، بينما اهتم الصدوقيين بالشريعة فقط، غير أنه استطاع فرض سيطرته، ويقول يوسيفوس أنه ملك احدى وثلاثين سنة، تمتع فيها بثلاث مواهب (السلطة والكهنوت والنبوة)(12) وبموت هركانوس بدأ نجم المكابيين في الأفول.

وبقية أخبار الأسرة الحشمونية تجدها في نهاية الأصحاح السادس عشر.

_____

(1) ويرى يوسيفوس أنه ربما كان يوناتان قد اقترض المبلغ من تريفون: ولكن يبدو أن يوسيفوس قرأ كلمة “مناصب chreias” بطريق الخطأ على أنها “ديون chrea“.

(2) يوسيفوس: (الآثار 13 فصل 7: 2).

(3) دائرة المعارف الكتابية / أدورايم.

(4) وهو التطور الذي مرت به الأهرامات في مصر كمدافن للفراعنة.

(5) تاريخ هيرودوت (2 فصل 126).

(6)  Cooke NSI, 214

(7) تاريخ سورية. إلياس الدبس/ ص226.

(8) في كتابه “حفريات جازر the Excavation of Gazer

(9) يوسيفوس: (الآثار 13 فصل 6: 7 وحروب اليهود 1 فصل 2: 2).

(10) Jonathan, I Macc, P. 482

(11) يوسيفوس: (الآثار 13 فصل 6).

(12) رأى بعض يهود ذلك الوقت في هركانوس، النبي الأمين الذي كانوا ينتظرون مثله، ليشير عليهم بكيفية التعامل مع الحجارة التي تنجست، بفعل الشعائر الوثنية التي أقامها السلوقيين في الهيكل. انظر (1مكا4: 46).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى