تفسير سفر المكابيين الأول 2 للأنبا مكاريوس اسقف المنيا

اندلاع الثورة المكابية

أدّت الأحداث الواردة في الأصحاح السابق إلى اثارة حفيظة جماعة التقاه بين اليهود والذين يُسمّون الحسيديين، قد كانوا يمثلون الضمير اليهودي، فعندما حرّكتهم الغيرة المقدسة لم يجدوا سبيلًا إلى الإصلاح سوى المقاومة المسلحة.

متتيا الكاهن يغير غيرة الرب

       1في تلك الأيام قام متتيا بن يوحنا بن سمعان، وهو كاهن من بنى يوياريب، وخرج من أورشليم وأقام في مودين. 2وكان له خمسة بنين، وهم يوحنا الملقب بكديس،3وسمعان الذي يقال له الطسي،4ويهوذا الذي يقال له المكابى، 5وألعازر الذي يقال له أوران، ويوناتان الذي يقال له أفوس. 6ولما رأى ما يُصنع من المنكرات في يهوذا وأورشليم، 7قال: “ويل لي! أولدت لأرى تحطيم شعبي وتحطيم المدينة المقدسة، وأبقى ههنا جالسا والمدينة تسلم إلى أيدي الأعداء وُيسلم المقدس إلى أيدي الأجانب؟ 8أمسى هيكلها كرجل ذليل 9وُاخذت آنية مجدها في السبي وقتل أطفالها في الساحات وفتيانها بسيف العدو.10أية أمة لم ترث من مُلكها ولم تسلب غنائمها؟ 11جميع حلاها نُزعت عنها. والتي كانت حرة صارت أَمَة. 12ها إن أقداسنا وبهاءنا ومجدنا قد دمرت ودنستها الأمم.13فلم نعيش بعد اليوم؟” 14ومزق متتيا وبنوه ثيابهم وتحزموا بالمسوح وناحوا مناحة شديدة.

متَّتيا: Mathathias: وُيكتب أحيانا “متتيا” أو “متياس” وهو اسم عبري معناه “عطية يهوه”. وكان كاهنًا متقدمًا في السن عندما بدأت هذه الأحداث، غير أنه كان يمتلك شجاعة نادرة.

يوحنا: أو “يوحنّان” وهو اسم عبري معناه “الله حنّان”.

سمعان: وهو الصيغة اليونانية للاسم العبري “شمعون” ومعناه ” قد سمع الله”.

بنى يوياريب: يوياريب اسم عبري معناه “الله يحمى” ويوياريب المذكور هنا في السفر هو قائد أول الفرق الكهنوتية الأربع والعشرون (أخبار الأيام الأول 24: 7) والتي ينتمي المكابيين إليها، وعلى الرغم من أنه قد جرت العادة في ذلك العصر، على خروج رؤساء الكهنة من بنى أونيا (الأسرة الأونية) إلاّ أنه منذ أن عيّن السلوقيون يوناثان المكابي رئيسًا للكهنة. تحوّل الكهنوت إلى الأسرة الحشمونية (1مكا10: 20) وكان أونيا – آخر رؤساء الكهنة المنتمى لهذه العائلة الأونية – قد هرب إلى مصر عقب تعيين منلاوس رئيسًا للكهنة من قبل السلوقيين بموجب رشوة كبيرة (2مكا1: 1) كما هرب كاهن آخر إلى قمران ويسمىّ “معلم البّر” ويشير يوسيفوس أن “يدعيا” رئيس الفرقة الثانية من الفرق الأربع والعشرين هو جدّ الأونيين.

كان متتيا وأولاده يقيمون في أورشليم، غير أنه عاد إلى قريته مع أولاده يلتمس هناك الحرية، عقب الاضطهاد الذي بدأ السلوقيون شنّه على اليهود، ولكن رجال أنطيوخس لاحقوا اليهود في كل مكان لجأوا إليه، في المدن والقرى والأروقة في شكل تفتيش أو متابعة، للتأكد من أن الأمور تسير كما رُسم لها.

وتذكرنا  قصة متتيا هذه، بقصة داود النبي الذي خرج أيضًا كلاجئ هائم على وجهه: “وصعد داود من هناك وأقام في حصون عين جدي” (صموئيل أول 23: 29).

مودين Modeinهي قرية تقع بجوار اللدّ (ديوسبوليس) وتسمىّ الآن (المدية) وتقع على بعد 26 كم شمال غرب أورشليم، وفي القرن التاسع عشر قام العالم “كاران” ببعض الحفريات هناك، وسجّل في كتابه “فلسطين”: أنها مدينة مودين التي تكلم عنها سفر المكابيين.

ويؤكد بعض الشُّرَّاح أن مودين كانت تقع خارج الحدود السياسية لليهودية في ذلك الوقت، ويظهر ذلك من اتخاذ يهوذا المكابي موقعًا لجيشه بجوار “مودين” لملاقاة جيش ليسياس خارج حدود البلاد (2مكا13: 13،14).

ألقاب أفراد العائلة المكابية

ولقد عُرف كل من أولاد متتيا بلقب خاص، غير أنه لا يُعرف على وجه الدقة إن كان أبوهم هو الذي منحهم تلك الألقاب، أم أنها تعبّر عن شخصياتهم وسلوكهم وأدوارهم، أم أنها ألقاب يونانية على غرار ما كان قد انتشر وقتئذ من أن يكون للشخص اسمان: يهودي وهو الذي تسمّى به منذ البداية، والآخر يوناني (والذي كثيرًا ما كان هو النطق اليوناني للاسم اليهودي نفسه).

كما كانت أسماء الشهرة منتشرة على نطاق واسع، للتمييز بين حاملي نفس الاسم لا سيما في روما، وفي اليهودية كانت هناك أسماء كثيرة شائعة الاستخدام مثل: “سمعان” والذي يذكره يوسيفوس المؤرخ مع ألقاب أخرى كثيرة للتمييز، وفي تاريخ الكهنة والقضاة في إسرائيل، أُشير إلى العديد منهم منسوبين لآبائهم أو أجدادهم، كما تمّ التصرف في الاسم من خلال اختصاره أو جعله مركّبا.

ولنبدأ بلقب العائلة المكابية نفسها والتي سًميت “عائلة حشمناي” ومنها جاءت تسمية المكابيين بالحشمونيين، فإن لفظة “حشمون” العبرية تعني “غني” وُتنطق في اليونانية ثم اللاتينية واللغات المشتقة عنها: “أسمونوس” أو “هسمان” (نظرًا لعدم وجود حرف الحاء في تلك اللغات) غير أن هناك مَن يرى أن “أسمونوس” هو نُطق محرّف للاسم سمعان وهو الجد الأكبر لمتتيا، ويسمِّي يوسيفوس الأخير: “ابن أسمونايوس”Asmonaeus.

بكيديس Bacckidesوفي العبرية (بكحيديس) هو اللقب الذي عُرف به يوحنا، وربما جاء الاسم من “باخوس” إله الخمر عند اليونان والرومان. وربما جادي Gaddi من الاسم جديئيل ومعناه “محظوظ” راجع (سفر العدد 13: 10). ويقول يوسيفوس: “أرسل يوناثان يوحنان أخوه المدعو أيضًا ب “جدي” ومن المرجح أنه صورة أخرى من الاسم “جاد” (الآثار 13: 1،2).

طسي Thassi: وهو اللقب الذي أُعطي لسمعان، وُيرجح أن يكون اختصار لاسم عبري أو أرامي غير معروف، ويرد في دائرة المعارف الكتابية (المترجمة) أن معناه هو ” الغيّور” غير أنه لا يوجد ما يسند هذا الرأي. جاء في المخطوطات العبرية هكذا: (ترسي) وهكذا أيضًا ورد في سائر المخطوطات القديمة والآرامية، وفي المخطوطات اليونانية جاء “qaroshj“.

المكابى Maccabeusوهو اللقب الذي عرف به يهوذا ويعنى “مطرقة” أو “الطارق” وربما جاء الاسم من الحروف الأربعة للعبارة: “من يشبهك في الآلهة يا رب” والتي كانت شعارًا للحملة المكابية(1).

أوران Avaran: اللقب الذي عُرف به ألعازر، وربما كان معنى الكلمة “الطاعن” بسبب عمله البطولي حين وقف أسفل أحد أفيال العدو وقتله بخنجره. أو أن الكلمة هي نطق للّفظة “هور” ومعناها أبيض، في إشارة إلى لون بشرته، ويرد هذا الاسم “أوران” في السريانية “شاوران” أو”حورن”،  فإذا كانت مشتقة من “حور” فإن معناها “الوجه الشاحب”. أما في الفولجاتا فيأتي “أبارون”، وفي السبعينية “سوأران” والذي يعتقد البعض أنه اختصار للاسم الكامل ” ألعازر أوران” (2).

أفوس Apphusاللقب الذي عُرف به يوناثان المكابي، وهو كلمة يونانية معناها “بارع” ويرد في دائرة المعارف الكتابية، أنها مشتقة من الكلمة السريانية “هبّوس” بمعنى المخادع لأنه خدع بنو يمرى (1مكا9: 37 – 41). أو “حبوس” من “حُبس” بمعنى “رغبة”.

هذا وقد أصبح المكابى والمكابيون هو اللقب الذي عرف به الأخوة الخمسة وخلفاؤهم، ويلاحظ أن متتيا أبوهم قد استخدم اسم المكابي في الإشارة إلى ابنه يهوذا، مما يعنى أن هذه الألقاب كانت معروفة إبان حياته، وقبل أن تصدر عن أولاده الأعمال التي رأى البعض أن أسمائهم مشتقة منها، أو تعبر عنها (1مكا 2: 66).

عندما رأى متتيا الفظائع التي يرتكبها الحكام اليونان في حق أمته، غار غيرة الرب، لم ينتظر أن تكلفه مؤسسة دينية يهودية بالتحرك، بل اعتبر أن الأمر يعنيه شخصيًا، وفي ايجابية سلوكه فضّل مصلحة الوطن والدين على سلامته وحياته، وُيلاحظ أن كلمة المنكرات المذكورة هنا، تجئ في اليونانية بمعنى التجديف على الرب، راجع (نحميا 9: 18، 26) “عملوا إهانة عظيمة” وفي اليونانية جاءت هكذا – taj blasfhmiaj راجع أيضًا (إشعياء 52: 5 وحزقيال 35: 12). وبالرغم من أنه كان هناك في أورشليم آلاف الكهنة، إلاّ أنه لم يتحرك سواه. لقد تساءل في نفسه: “وأبقى ههنا؟!” Sat idle والتي تعنى المكوث بدون فائدة، راجع في ذلك (قضاه 5: 17 و إرميا 8: 14 وحجي 1: 4).

 وهكذا تقوم مسئولية التطوّر والإصلاح في مختلف الدول والحقبات التاريخية ونواحي الحياة المختلفة، على كواهل شخصيات لها في ذاتها هذه الغيرة المقدسة، والإيمان القوى بحتمية القيام بدور ما يتناسب مع إمكانياتها، وقد يفقدون حياتهم في سبيل ذلك ولكن السيد المسيح يطمئن الجميع قائلًا “من يهلك نفسه من أجلى يجدها” (متى 16: 25).

مرثاة:

يُلاحظ في هذه القطعة الشعرية والمفعمة بروح قومية وروحية (الآيات 8 – 14)، اعتبار الهيكل “كائنا” حيًا”(3) وليس كمية من الأحجار والأخشاب والرخام المصفحة بالذهب (آية 8) تمامًا مثلما ننظر نحن إلى المذبح الآن باعتباره “حيًا” فنتعامل معه برفق عندما نقوم بتنظيفه أو تناول شيء من فوقه ونصلى في كل من أوشيتى القرابين والآباء قائلين “اقبلها إليك على مذبحك. الناطق السمائي.. “ومثل خشبة الصليب المقدسة أيضًا والتي لا نفرق بينها وبين الصليب والمصلوب، فنخاطبها: “السلام لخشبة الصليب المقدسة.. نسجد لخشبة الصليب..”(4). وان كان هناك بعض من الشراح الذين يرون أن كلمة هيكل (naos) في هذا الموضع من السفر، يمكن أن تُقرأ (Laos) أي شعب بسبب تشابه حرفي (نون ولام) في العبرية وبذا يصبح التعبير “صار شعبها كرجل ذليل”(5) ويتعجب متتيا لماذا لم يقم الشعب ليتصدى لذلك، حيث تعني كلمة ذليل في الأصل العبري “جبان” قارن في ذلك (صموئيل أول 18: 23) أو تعني مهانة الجبن كما في (إرميا 46: 12 وناحوم 3: 13).

أماّ السبي الذي يشير إليه متتيا (الآية 9) فلعله السبي الجزئى الذي كان قد حدث للتو على يد أبولونيوس رئيس وزراء أنطيوخس، عندما قبض على النساء والشبان، واستولى على كنوز الهيكل (1مكا 1: 29 – 32) وقتل في الشوارع الأطفال المختونين وكذلك من قاومه من الشبان، راجع أيضا: (إشعياء 46: 1، 2 ومراثي 2: 11، 12).

وفي الآية العاشرة يتأسف متتيا لكون أورشليم ما تزال مطمعًا لكافة الأمم، مثل البابلين والبطالمة والسلوقيون (ومن بعدهم الرومان في عهد بيلاطس البنطي) نظرًا لموقعها الاستراتيجي وكنوز هيكلها، وأماّ عن الحرية التي يشير إليها في (آية 11) فهي بلا شك الحرية الدينية، وكما أشرنا سابقًا فإن اليهود قد حافظوا على استقلالهم الديني، إبان أحلك الظروف حتى أثناء شتاتهم وحياتهم بين الوثنيين، أمّا في تلك الأثناء فالأمر مختلف إذ أن الحرية الدينية هي المستهدفة.

وفي تعليق العلامة أوريجانوس على كلمة “العالم” ومعانيها المختلفة، يقول أن أستير خلعت عنها كل زينتها ” كوزموس = العالم” (إستير 14: 2) هكذا أورشليم (في زمن المكابيين/ آية 11) جميع حلاها نُزعت، والتي كانت حرّة صارت أمة)(6).

لقد وُعدت إسرائيل بأن تحكم ممالك كثيرة (سفر العدد 24: 7، 8، 17- 19 و تثنية 3: 41  و 7: 24  و28: 25) كما تنبأ لها الأنبياء بذلك (إشعياء 60: 12 وعوبديا 19-21) قارن مع (إشعياء 11: 14).

ثم يتساءل متتيا عن جدوى الحياة في ظل تلك الظروف؟! فقد شعر بالألم لكونه قد عاش حتى رأى ذلك. من هذه النقطة انطلقت الثورة المكابية، فلا معنى ولا قيمة للحياة، في ظل ما يجرى.

المسوح: ارتداء المسوح هو السلوك والإجراء التقليدي عندما تلمّ بالشعب الملمّات، وهو لباس من الشعر أو وبر الإبل، يُوضع على الجسد مباشرة كتعبير عن الحزن ومرارة النفس، حيث يجلس الشخص في التراب ويحثو الرماد فوق رأسه، ممتنعًا عن الطعام وكافة مظاهر الفرح، وفي سفر يهوديت كُسىِ المذبح بالمسوح استدرارا لمراحم الله(7).

الهمس الرديء

15 وإنَّ الذين أرسلهم الملك لُيجبروا الناس على الارتداد قدموا إلى مدينة مودين ليذبحوا 16فأقبل عليهم كثيرون من إسرائيل، لكن متتيا وبنيه اجتمعوا على انفراد. 17فتكلم رسل الملك وخاطبوا متتيا قائلين: “أنت رئيس شهير عظيم في هذه المدينة، ومعزّز بالبنين والإخوة 18فتقدم أنت أولًا لتنفيذ أمر الملك، كما فعلت الأمم كلها ورجال يهوذا ومن بقى في أورشليم، فتكون أنت وأهل بيتك من أصدقاء الملك. وتكرم أنت وبنوك بالذهب والفضة والهدايا الكثيرة”

كان متتيا من أعمدة قرية مودين والتي تنحدر عائلته منها، وإلى جانب ما له من السطوة والسلطة ما يجعله صيدًا ثمينًا لمندوب الملك، فقد كان أيضا كاهنًا، فإن أطاع فلسوف يتبعه الكثيرون دون شك لا سيما وأنه “معزّز بالبنين والأخوة” (آية 17)(8)، والعجيب أن كثيرين من اليهود في القرية قد أطاعوا أمر الملك، ربما بسبب الخوف أو الجهل أو كليهما معًا، وبقدر ما كان متتيا هدفًا لمندوب الملك، فقد أصبح مصدر رعب له كما سنرى.

لقد أغراه المندوب أولًا واسمه “أبلس”(9) بأنه بذلك سوف يصبح من أصدقاء الملك، ولعل ذلك يذكرنا بتحذير اليهود لبيلاطس البنطي، بأنه إن أطلق المسيح فإنه بذلك يكون “غير محب لقيصر” والعبارة تحمل في طياتها تهمة خطيرة: “الخيانة العظمى” وهي تستوجب الموت، إذ كان لقب “محب للقيصر” امتيازًا يُمنح لبعض الشخصيات التي قدمت خدمات جليلة للإمبراطور، يستحقون بموجبها المكافأة والصلاحيات، كما كانوا يتمتعون بامتياز عضوية المحكمة الملكية، وكان مسموحًا لهم بارتداء القبعات المكدونية، العريضة الأحرف ذات اللون الـ(موف). وقد وُجد هذا النظام في البلاط الفارسي، حيث رتبة: “أصدقاء الملك” وهم من مقربّيه، حيث يُعهد إليهم ببعض المهام، كما يحظون في المقابل بالكثير من الامتيازات، راجع (1مكا3: 38 / 7: 8 / 10: 16، 20، 60، 65  / 11: 27، 57  / 14: 39  / 15: 28 / 2 مكا 8: 9).

وتشير الآية (18) إلى أن من بقى في أورشليم، هم أولئك الذين أذعنوا لأوامر الملك، بينما هرب الباقون، وتشير “رجال يهوذا” في ذلك الوقت إلى اليهود بصفة عامة، حيث أُطلق هذا التعبير على كل يهودي، وذلك بعد انهيار كل من مملكتي يهوذا وإسرائيل، وبدءا من فترة السبي. جدير بالذكر أن تعبير عبراني: هو تعبير قبلي، وتعبير إسرائيلي: هو تعبير روحي، أما تعبير يهودي: فهو تعبير قومي.

اليهودي المرتدّ 

19فأجاب متتيا بصوت عظيم وقال: “إنه وإن أطاعت الملك جميع الأمم التي في دار ملكه وارتد كل أحد عن دين آبائه ورضى بأوامره، 20فأنا وبنيَّ وإخوتي نسير على عهد آبائنا. 21فحاشى لنا أن نترك الشريعة والأحكام! 22لن نسمع لكلام الملك فنحيد عن ديننا يمنةً أو يسرةً”. 23ولما انتهى من هذا الكلام، تقدم رجل يهودي على عيون جميع الحاضرين ليذبح على المذبح الذي في مودين كما يقضى أمر الملك.

  24 فلما رأى متتيا ذلك، ثارت فيه الغيرة وارتعش حقواه، وغضب تحمسا للشريعة، فوثب عليه وقتله على المذبح. وفي الوقت نفسه قتل أيضًا رجل الملك الذي كان يجبر على الذبح، وهدم المذبح. 26وغار للشريعة كما فعل فنحاس بزمرى بن سالو27وصاح متتيا في المدينة بصوت عظيم قائلًا: “من غار للشريعة وحافظ على العهد، فليخرج ورائى”. 28وهرب هو وبنوه إلى الجبال، وتركوا في المدينة كلّ ما لهم.

 

يذكرنا قول متتيا في (الآية 20) بما قاله يشوع بن نون، عندما أعلن للشعب أنه وإن هم اختاروا الآلهة الغريبة فإنه لن يفعل مثلهم: “أما أنا وبيتي فنعبد الرب” (يشوع 24: 15) ومن كان إيمانه راسخًا فإنه وأن شك الجميع فهو لا يميل يمنة أو يسرة (انظر خروج 32: 36 وإرميا 34: 18 وصموئيل الأول 22: 1).  إن سمكة صغيرة لتقدر أن تسبح ضد اتجاه التيار في الماء، في حين تسبح كتلة ضخمة من الخشب في اتجاهه، والسبب أن الأولى حية، ذو إرادة، بينما الأخرى ميتة.

أمور كثيرة يمكن التفاوض فيها أو التشكك بخصوصها، وقد يلعب رأى الأغلبية دورًا كبيرًا في تقرير المصير أو حسم القضايا وبالتالي توجيه الرأي العام، إلاّ الحقّ الإلهي، فهو لا يقبل المساومة، ويقول قداسة البابا شنودة الثالث في قصيدة “هذا الثوب”:

سأطيع الله حتى     لو أطعت الله وحدي

نعود الآن إلى متتيا، فإنه ما أن تقدّم أحد الرجال اليهود لإتمام الطقس الوثني على المذبح المقام في مودين، بتقديم ذبيحة فوقه (الأرجح خنزيرة) حتّى استشاط غضبًا وثار للحق والشريعة، وتعبير: “وفاقًا للشريعة” يعنى وفقًا للشريعة أو بحسب ما تقتضيه الشريعة. وذلك على عكس سلوك الرجل الذي أطاع أوامر الملك. فإنه من الممكن التفاهم في التفاصيل الجانبية وإقامة الحوار بين الطوائف والفرق الدينية، إلاّ أنه لا خلاف ولا حوار ولا تفاوض فيما يتعلق بالأساسيات، كما حدث هنا”.

غير أن الأمر قد تطوّر بعد ذلك إلى الكفاح المسلحّ فيما عرف في أيام السيد المسيح ب “حزب الغيورين” أو جماعة “زيلوت”.

ارتعش حقواه: كلمة trembled  والتي جاءت هنا بمعنى ارتعش، معناها المباشر هو “ارتعشت كُليتاه،(10) حيث اُستخدم تعبير الُكلى للدلالة على المشاعر الداخلية والانفعالات، راجع (أمثال 23: 16).

لم يكتف متتيا بقتل الرجل، بل تحوّل إلى مندوب الملك ليقتله مع بعض من رجاله، غيرة للرب وللحق ” وإذا أغواك أخوك…. قائلًا نذهب ونعبد آلهة أخرى… فلا ترض منه ولا تسمع له ولا تشفق عينك عليه ولا ترقّ له ولا تستره بل قتلًا تقتله.. لأنه التمس أن يطوّحك عن الرب إلهك… فيسمع جميع إسرائيل ويخافون ولا يعودون يعملون مثل هذا الأمر الشرير في وسطك” (تثنية 13: 6 – 11) راجع أيضًا (تثنية 17: 2 – 7).

وكان في رفضه ما يبكّت سلوك منلاوس رئيس الكهنة الخائن (2 مكا 5: 15)، كما يظهر متتيا في أمانته هنا، في حالة أفضل مقابل بطرس الرسول الذي ضعف ولم يف بما وعد  “.. وإن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا… ولو اضطررت أن أموت معك لا أنكرك” (متى 26: 33 – 35).

وأعاد بذلك إلى الأذهان حادثة فنحاس، والذي غار غيرة الرب عندما أخطأ واحدًا من الشعب هو “زمري بن سالو” والمرأة المديانية “كزبي بنت صور”، حيث أنقذ الشعب من غضب الرب بإهلاكهم جميعًا بالوبأ (سفر العدد 25: 6 – 15).

ويذكرنا أيضًا عمل متتيا هذا بالعمل العظيم الذي قام به يوشيا الملك الصالح، والذي أزال من إسرائيل كافة مظاهر الوثنية التي انتشرت في أيام الملوك الذين سبقوه (راجع ملوك ثان 23). هذا ويرد في بعض النسخ للسفر أن متتيا قد استخدم فأسًا في قتل ذلك الرجل مع ملاحظة أن الفئوس كانت ضمن أدوات الكهنة في الهيكل، كما اعتبر يوسفوس تنفيذ حكم الموت بالفأس موافقًا للشريعة (11) “من ذبح لآلهة غير الرب يهلك” (خروج 22: 20).

ثم دعا متتيا كل غيور وكل مخلص بأن يتبعه، فترك كثيرين ممتلكاتهم وانضموا إليه، وبذا اندلعت شرارة الثورة المكابية. ولا شك أن ما حدث في “مودين” قد تكررّ في العديد من القرى والمدن اليهودية، غير أن الحادثة الواردة هنا هي التي تحددّ بداية التمرد المنظم والذي أدى في النهاية إلى تحرير اليهودية.

تحالف الحزب اليوناني مع الحكام السلوقيون ضد اليهودية:

وفي البداية لم يكن العنصر الديني في الثورة واضحًا، وأن كانت هناك أسبابًا دفينة للثورة، تتعلق بالتقاليد والصراع الذي بدأ بين بيت أونيا رئيس الكهنة وبيت طوبيا (رؤساء الضرائب)، ذلك قبل أن يظهر الاضطهاد الديني. فقد هبّ المتأغرقين لمناصرة أنطيوخس من أجل تعزيز الاتجاه الهيليني في اليهودية، معتبرين ذلك تحركًا ضروريًا مقابل التعصب وضيق الأفق لدى الحسيديين، والذي أمتدّ بدوره إلى الحياة العامة المدنية مما يهدّد مستقبل الأمة ورقيهّا (من وجهة نظرهم) وقد شجع هذا بدوره أنطيوخس على السير قدمًا في إخضاع اليهودية “وصهرها” في البوتقة الجديدة مع بقية البلاد الخاضعة له (1 مكا1: 41،42) وهكذا وجد أنطيوخس المبرّر لاستخدام القوة العسكرية، حيث قوىّ ذلك من موقف المتأغرقين (الفريق اليهودي المناصر للهيلينية) والذين استخدموا بدورهم العنف لحماية أنفسهم، فأراقوا الدماء حول الهيكل وداخله وعطّلوا العبادة فيه (1: 25 – 40). وهكذا كان لتحالف المتأغرقين مع أنطيوخس دورًا فعالًا في اندلاع الثورة.

وربما يكون الصراع قد تحوّل من المحور السياسي إلى المحور الديني، فقد أدرك أنطيوخس بدهائه السياسي، أن حياة اليهود في عقيدتهم وعبادتهم، ومن ثمّ قرّر تدمير الأمة من خلال الضغط العقيدي.

الذين ماتوا بسبب برّهم

29حينئذ نزل كثيرون إلى البرية ممن يبتغون العدل والحق، ليقيموا هناك 30هم وبنوهم ونساؤهم ومواشيهم، لأن الشرور ثقلت عليهم. 31فأُخبر رجال الملك والجند الذين كانوا في أورشليم في مدينة داود بأن رجالا من الناقضين لأمر الملك قد نزلوا فاختبأوا في البرية. 32فجرى كثيرون في أعقابهم فأدركوهم. وعسكروا تجاههم واستعدوا لمحاربتهم في يوم السبت، 33وقالوا لهم: “حسبكم ما فعلتم، فاخرجوا واعملوا بما أمر الملك فتحيوا”.34فقالوا: ولا نخرج ولا نعمل بما أمر الملك من استباحة حرمة يوم السبت”. 35فشنّوا عليهم القتال فجأة، 36فلم يردوا عليهم ولا رموهم بحجر ولا سدوا مختبآتهم قائلين:”37لنمت جميعا في استقامتنا، والسماء والأرض شاهدتان لنا بأنكم تهلكوننا ظلما”. 38فهجموا عليهم في السبت، فهلكوا هم ونساؤهم وبنوهم ومواشيهم. وكانوا ألف نفسٍ من الناس.

ربما كانت مودين Modein  تشكل خطرا كبيرًا على المكابيين الثائرين، نظرا لقربها الشديد من لدة  Lydda . هذا وبينما هرب الثوار إلى الجبال تاركين ممتلكاتهم لئلا تعوق حركتهم، فإن الحسيديين فضّلوا الاستشهاد أكثر من المقاومة المسلحة، والتي ربما نظروا إليها باعتبارها مخالفة للشريعة (زكريا 4: 6).

من المرجح أن تكون البراري والجبال (التلال) التي هرب إليها “طالبوا الحق” ليقيموا فيها هي المناطق الواقعة شرق وجنوب حبرون (الخليل). ويرى البعض أنهم قد فرّوا إلى جبال السامرة أو حدودها، حيث هاجمهم أبولونيوس لاحقًا قبل أن يتحركوا من هناك (1مكا 3: 10) حيث يرى يوسيفوس أن يهوذا نفسه قد فرّ إلى “جفنة Gophna ”  على حدود السامرة، كما أن أغلب معارك يهوذا قد دارت على الطرق المتجهة من أورشليم شمالا وغربا.

ولعّل تعبير “يبتغون العدل والحق” يعود بنا إلى (إرميا5: 1) حيث يشير إلى ثلاث مراتب ينتمي إليها الناس في علاقتهم بالله، وهي، إنسان: المستوى العادي الوجداني، عامل بالعدل: المدقق في أوامر الناموس، وأماّ طالب الحق: فهو طالب وجه الله، ويقصد بها العلاقة الحميمة مع الله. والمُشار إليهم هنا في هذا الجزء من الأصحاح، هم الذين جمعوا ما بين العمل بالشريعة (العدل) والحق، والحق دائمًا هو الله.

ولكنه يجب التفريق هنا بين جماعتين من اليهود، الأولى وهي جماعة الحشمونيين بقيادة متتيا، وهم أصحاب قضية الدفاع عن الوطن والمقدسات، والثانية هي جماعة الحسيديين (التقاة) والذين هربوا أيضًا مع ممتلكاتهم، دون الاصطدام بالسلوقيين، وان كانوا قد تعاطفوا في البداية مع الحشمونيين.

وفي سفر زكريا وردت نبوة عن أن العدل والحق يسكنان البرية، ويمكن أن يفهم من هذا الأصحاح من سفر زكريا، أن قائدا سيقوم ولكن قليلين هم الذين يسمعون له (زكريا 2: 16)(12). وفي الوقت ذاته ينطق أحمق شرير – هو أنطيوخس – بتجاديف، حسبما ورد في (إشعياء 32: 6) ” لأن اللئيم يتكلم باللؤم وقلبه يعمل إثمًا ليصنع نفاقًا ويتكلم على الرب بافتراء ويفرغ نفس الجائع ويقطع شرب العطشان”.

وهكذا اعتبر الشراح أصحاح (إشعياء 32) نبوة عن أنطيوخس واضطهاد الحشمونيين، فبعدما تواصل الاضطهاد لمدة عام (آية 10) هنا قارن مع دانيال 11: 33) أصبح على الناس ترك الديار واللجوء إلى الكهوف في البرية مع مواشيهم (آيات 9-14) حيث يأتي روح الرب بالخلاص المعجزي والحكم الأبدي (آيات 15-18)(13). وفي كتاب وصية موسى إشارة إلى السعي في طلب الحق المعجزي (9 و10) وأن كان لا يوجد جمع يذهب إلى البرية، فنقرأ أن “تاكسو  Taxo” وأبناءه السبعة يذهبون إلى الحقل (وصية موسى 9: 6) ربما كان الحقل هو نفسه ” البرية ” المذكورة هنا. وفي (إشعياء 32: 14) البرية المذكورة هي:”مرح” حمير الوحش، وكذلك البرية المذكورة في (أيوب 24: 5) بها حمير وحشية. وربما كان استشهاد تاكسو وأبناءه السبعة واقعة حقيقية منفصلة عن المكابيين (2مكا 6 و7).

ويرتبط الهروب إلى الجبال دائمًا بالبحث عن مجتمع نقى لم يتلوث بعد، أو بالبحث عن مجال متسع لحرية العبادة، وبالتالي فهو لا يعنى الهروب فقط بقدر ما يعنى التحلّل من مجتمع أُهين فيه الحق الإلهي، وقد هربت العائلات بأكملها (بنوهم ونساؤهم ومواشيهم).

وربما أطلقت هذه الجماعة على نفسها “طالبوا العدل والحق” كما ورد في (صفنيا2: 3) ” اطلبوا الرب يا جميع بائسي الأرض الذين فعلوا حكمه اطلبوا البر اطلبوا التواضع لعلكم تسترون في يوم سخط الرب”، لقد سجل إشعياء النبي النبوة القائلة ” فيسكن في البرية الحق والعدل (إشعياء 32: 16) بل وأكثر من ذلك أن الحق والعدل قريبان لحافظي السبت راجع (إشعياء 56: 1،2) راجع أيضًا (إشعياء 58: 11 – 14 وإرميا2: 2،3 و17: 21 – 27).

ولما بلغ الأمر إلى قيادة الحامية العسكرية بجوار الهيكل (في قلعة عكرة) قرّروا مهاجمتهم، ليس فقط بموجب ميثاق الملك القاضي بمعاقبة المخالفين، وإنما لأجل القضاء على مثل هذه المقاومة المنظمة (راجع 2مكا 6: 11) حتى لا يحذو الآخرون حذوهم، ولذلك فإن المقصود بتعبير “حسبكم ما فعلتم” هو حسبكم قتل مندوب الملك وآخرين في مودين. ولينته الأمر عند ذلك. وقد اشترك فريقان في اضطهاد اليهود هنا: رجال الملك وهم الجنود السلوقيين، واليهود المتأغرقين الساكنين في قلعة عكرة (آية 31).

المكابيين وتقديس السبت:

     كان السبت أحد أعمدة اليهودية، وما يزال يمثل حتى اليوم أحد أهم مظاهر الحياة الدينية لدى اليهود – لا سيما المتشددين منهم – وفي بداية عهد اليهود بحفظ وصية السبت، قُتل الرجل الذي خالف السبت حين خرج ليجمع حطبًا (يحتطب / سفر العدد 15: 32-36) ولم نقرأ بعد ذلك عن تنفيذ مثل هذا الحكم بل أُهمل السبت، إلى أن أعاد نحميا إليه مكانته وقدسيته (نحميا 13: 15 – 22). وتنهى الشريعة عن مجرد الخروج من البيت في السبت (خروج 16: 29) ولذلك فهم يرفضون الخروج من الكهوف وهو (أي السبت) في معناه الأول: راحة وفرح واحتفال أسبوعي (خروج 23: 12 وتثنية 5: 14) ولكنه قليلًا قليلًا تحوّل في أيام السيد المسيح إلى إكراه، حتى نادى السيد المسيح بأفضلية الإنسان على السبت (مرقس 2: 27) ويرد في “وثيقة دمشق “من نصوص قمران” تحديد المسافة المسموح بها للسير في السبت ب”ألف ذراع” وفي حالة رعى الأغنام: “ألفى ذراع”. ويتجادل اليهود المتشددون اليوم حول قانونية إيقاد المصباح الكهربائي في السبت وإن كان يخالف في ذلك قانون عدم إشعال النار في السبوت.!!

في هذا الجزء من الأصحاح يجب ملاحظة أن الحفاظ على السبت من قبل المكابيين، أعطى الحركة طابعًا دينيًا في الأساس، مما يجعلها حربًا مقدسة في مبادئها، وليست مجرد انتفاضة قومية، إذ قد فضّلوا الموت على كسر السبت.. وبهذا وجد الجنود السلوقيون فيهم صيدًا سهلًا، إذ قتلوا منهم ألفًا مع مواشيهم. وأما هم فقد رأوا في ذلك استشهادا. ويذكر يوسيفوس -كما هو وارد أيضًا في (2مكا6: 11)- أنهم قُتلوا حرقًا بالنار(14)، وربما تُركت الجثث الألف داخل الكهوف، ولعل الحفريات في وقت لاحق تكتشف الهياكل العظمية.

لقد تمسّك كل من استشهد، بأن الأنبياء قد تنبأوا بأن الله سوف ينتقم لشعبه إذا ما خرجوا إلى الكهوف في البرية وحفظوا السبت، وفي المقابل فإنهم كانوا سيكسرون السبت في حالة خروجهم من الكهوف، راجع (خروج 16: 29) وكذلك وثائق معاهدي دمشق (10: 20،21 و11: 14،15). كما وثقوا بأن عمل الله سيكون إما من خلال إنقاذه للشهداء في ذات المكان والزمان، وإما أن يشتد غضبه فيخلص شعبه، إذا ما قُتل الأبرار -الذين خرجوا إلى البرية- بيد العدو الشرير، وربما كانت النبوة الواردة في (إشعياء 32) هي التي اعتمد عليها الشهداء المكابيين.

وفي واقعة تاكسو السابق ذكرها والمشابهة لقصة خروج متتيا الكاهن مع بنيه، يرد أنه في زمن الاضطهاد سيكون هناك رجل من سبط لاوي اسمه “تاكسو” له سبعة بنين وسيعظهم قائلًا: “انظروا يا أبنائي، إن عقابا يصيب الشعب عقاب ثان عنيف (أكثر من كل ما عاناه السابقون) .. والآن يا أبنائي استمعوا لي وانظروا ولاحظوا أن آباءنا وأسلافهم لم يعارضوا الله أبدًا بخرق وصاياه، وانتم تعلمون أن هذه (وصاياه) هي قوتنا، فهاكم ما سنفعله. لنصم ثلاثة أيام ولنمض في اليوم الرابع إلى “مغارة في الحقل” ولنمت بالأحرى بدلًا من أن نخرق وصايا رب الأرباب إله آبائنا. لأننا إذا عملنا ذلك ومتنا فإنه سُينتقم لدمنا أمام وجه الرب” (15).

على استشهاد المكابيين الأُول دفاعًا عن الشريعة يعلق الشهيد  فيكتوريانوس (أسقف بيتاو Petau بالنمسا +304م) قائلًا: “.. وفي المعركة إذ كان الغرباء يبحثون عنهم (أي الإسرائيليين) في يوم السبت لكي يقبضوا عليهم وكأنه بمنتهى التدقيق في الشريعة تكون مخالفة تعاليمها”(16).

أما القديس هيبوليتس أسقف روما فقد رأى في ذلك تحقيقًا لنبوءة دانيال: “والفاهمون من الشعب يعلّمون كثيرين ويعثرون بالسيف وباللهب وبالسبي وبالنهب أيامًا” (11: 33)(17).

متتيا ينظم المقاومة

39وُأخبر متتيا وأصحابه بالأمر، فناحوا عليهم نوحا شديدًا، 40وقال بعضهم لبعض: “إن فعلنا كلنا كما فعل إخوتنا فلم نقاتل الأمم عن نفوسنا وأحكامنا، لم يلبثوا أن يبيدونا عن الأرض”. 41واتخذوا في ذلك اليوم هذا القرار: “كل رجل أتانا مقاتلا يوم السبت نقاتله فلا نموت جميعًا كما مات إخوتنا في المختبآت”.42حينئذ اجتمعت إليهم جماعة الحسيديين، وهم ذوو البأس في إسرائيل وكل من تطوع في سبيل الشريعة. 43وانضم إليهم جميع الذين فروا من الشر وأصبحوا سندا لهم. 44وألفوا جيشا وضربوا الخاطئين في غضبهم ورجال الإثم في حنقهم. وفر الباقون إلى الأمم طالبين النجاة.45ثم جال متتيا وأصحابه وهدموا المذابح 46وختنوا بالقوة كل من وجدوه في بلاد إسرائيل من الأولاد القلف. 47وطاردوا ذوى التعجرف، ونجحوا في عمل أيديهم.48وانتزعوا الشريعة من أيدي الأمم وأيدي الملوك، ولم يدعوا للخاطى أية قوة.

 

بما أن قرية مودين قريبة من لدّة وبالتالي يسهل الوصول إليها، فمن المرجح أن متتيا وأولاده قد لجأوا إلى الجبال الواقعة في حدود السامرة، مثلما لجأ يهوذا بعد ذلك إلى “جفنة” المتاخمة للجبال على حدود السامرة، ويمكن تحديدها فيما بين المربع المنحصر بين جفنة ومودين وعمّاوس وأورشليم.

ولم تطل سيوف السلوقيون متتيا وأولاده وأتباعه، وعندما وقف متتيا وأولاده على أخبار المذبحة التي ارتكبها السلوقيين، فكروا جميعًا فكرًا واحدًا، من جهة التعامل مع أحكام الشريعة بشيء من المرونة، ومن ثمّ فقد قرروا أنه يجوز الدفاع عن النفس في السبوت – دون المبادرة بالقتال – وإلاّ فإن الأمة كلها ستفنى عن بكرة أبيها، إن هي تعاملت مع السبت كوصية في وضعها الحرفي، إذ سيتخذ الأعداء من ذلك فرصة ثمينة للإيقاع بهم في السبوت.

الحسيديون Hasidaeans:

ربما كان الاسم منسوبًا إلى “حسديا” والذي يعنى في العبري ” قد كان الرب منعمًا “، والحسيدية هي الطائفة التي تكوّنت لمناهضة الحضارة الهيلينية التي تغلغلت في حياة اليهود، وهو ما سُمّى اصطلاحًا “التأغرق” وأصبحت الكلمة اصطلاح فنى يعني: (أهل التقوى/ أهل الورع/ التقاة) وذلك نظرًا لمناداتهم بالتمسك بالشريعة كطريق للخلاص من الخطية، من جهة، ومن أعدائهم من جهة أخرى. وحسبما يرد في هذا الإصحاح وكذلك في (2مكا6: 7) فقد فضل الحسيديين الموت على كسر الوصايا، وقاوموا النفوذ الوثني قبل ظهور المكابيين، وكانوا أول من أيّدَ المكابيين.

هذا ويرى بعض الشراح أنه وبينما لم يتقبّل كثير من الحسيديين فتوى الحشمونين بخصوص جواز الحرب في السبوت، فإن آخرين انضموا إليهم، وذلك حسبما يرد في “نبوة أخنوخ” وهو كتاب أبوكريفي معاصر لتلك الأحداث (أخنوخ 90: 10).  ربما نظروا إلى عمل متتيا الكاهن الشجاع هنا، باعتباره الرجل الكريم  madebالمذكور في (إشعياء 32: 8) “وأما الكريم فبالكرائم يتآمر (يفكر) وهو بالكرائم يقوم”(18). وقد ترجم سيماخوس Symmachus الكلمة ب أرشون archon ” شريف” والتي استخدمت في الحديث عن متتيا (1مكا 2: 17). كما اشترك كثير من الحسيديين كفرق انتحارية في جيش يهوذا المكابى، كما يتضح ذلك من (آية 42) راجع أيضًا (2مكا14: 6) ولم يهتمّوا في البداية بالاستقلال السياسي قدر اهتمامهم بالحصول على الحرية الدينية، والتي ما أن حصلوا عليها من أنطيوخس الخامس، حتى تخلوا عن الكفاح المسلح مع المكابيين.

وكان الحسيديون يرفضون حق الحكام السلوقيين – مثل أنطيوخس- في تعيين رؤساء الكهنة، رافضين في ذلك منلاوس الذي جاء بعد ياسون وكلاهما عُيّن بالرشوة، على أساس أن رئيس الكهنة يُعين من قبل الله، فلم يكن منلاوس من بيت رئيس الكهنة كما أنه اشترك في مقتل أونيا المحبوب (دانيال 9: 26 و11: 22) كما اُتهم بسرقة أواني الهيكل (2مكا4: 39 – 42). على الرغم من أنه واحد من حزبهم.

وفي أيام يوناتان المكابي وبالتحديد في سنة 150 ق.م. انقسم الحسيديين إلى فريقين هما: “الفريسيين والأسينيين”، فيما تبقى الحزب المناهض لهم وهو حزب “الصدوقيين” وُيمثل الطبقة الأرستقراطية بين اليهود، وقد ناصر هذا الحزب الحركة الهيلينية، حيث شجع العديد من كهنتهم الهيلينية في أيام أنطيوخس أبيفانيوس (2مكا4: 14 – 16) بعكس الحسيديين والذين دفعتهم الرغبة في الحرية الدينية، إلى المبادرة بعرض الحل السلمي على بكيديس وألكيمس في وقت لاحق أثناء حملة الأخيرَين على اليهودية، حيث شجعهم على ذلك كون ألكيمس نفسه من سلالة كهنوتية (1مكا7: 13).

Image: Antiochus IV Epiphanes, 4th, 175-164, Coin

صورة: عملة أنطيوخوس الرابع أبيفانيوس – 175-164 ق.م.

هذا وقد ازدادت شقة الخلاف ما بين الحسيديين والصدوقيين حتى وصلت ذروتها في عصر يوحنا هركانوس(19).

الهجمات الأولى وبكور كفاح المكابيين:

ذُهل الحكام السلوقيون من جرأة أُولئك اليهود، مما يحمل في طياته شجاعة نادرة، ساعدهم في ذلك أنهم كانوا على حق وفي حالة دفاع عن النفس، كما أعانهم في ذلك خبرتهم بطبوغرافية فلسطين (طبيعة الأرض والجبال) والحقيقة أن تحركات وانجازات المكابيين في هذه الفترة الأولى تشبه إلى حد كبير “حركات المقاومة الشعبية”.  اُنظر خريطة رقم (2).

رجال الإثم (آية 41) وذوى التعجرف (آية 47):  يشير التعبير الأول إلى اليهود الذين انضموا إلى الغزاة السلوقيين وتعاونوا معهم ضد إخوتهم، بينما يشير التعبير الآخر، ويكتب أحيانا “أبناء التكبّر” إلى السلوقيين أنفسهم الذين حاربوا الشريعة والعقيدة.

ورغم أن ما قام به متتيا وأولاده وأتباعه من فرض الختان وهدم المذابح وقتل المرتدين، يُعدّ نوعًا من الإكراه وفرض العبادة بالقوة، إلاّ أن ذلك كان مقبولًا هنا في البداية على أساس مستقبل أمة بأكملها، ومن أجل الشعب المغلوب على أمره، سواء من الحكام السلوقيين أو ممالئيهم من بعض اليهود الخائنين. وأماّ تعبير ” انتزعوا الشريعة من أيدي الأمم والملوك” (آية 48) فيعنى استعادة حرية العبادة والعمل بمطاليب الناموس.

وصايا متتيا قبل وفاته 

49وقاربت أيام متتيا أن يموت، فقال لبنيه: “لقد أشتد التعجرف والشتيمة وأتى زمان الانقلاب وانفجار الغضب. 50فالآن أيها البنون، غاروا للشريعة وابذلوا نفوسكم في سبيل عهد آبائنا.51أذكروا أعمال آبائنا التي قاموا بها في زمانهم. تنالوا مجدا عظيما واسما مخلدا. 52ألم يوجد إبراهيم أمينا في الامتحان فحسب له ذلك برا؟ 53ويوسف في أوان ضيقه حفظ الوصية فصار سيدا على مصر. 54وفنحاس أبونا غار غيرة فنال عهد كهنوت أبدي. 55ويشوع أتم ما أمر به فصار قاضيا في إسرائيل. 56وكالب شهد في الجماعة فنال ميراثا في الأرض. 57وداود كان رحيما فورث عرش الملك أبد الدهور. 58وإيليا غار للشريعة فرفع إلى السماء.59وحننيا وعزريا وميشائيل آمنوا فُأنقذوا من اللهيب.60ودانيال كان مستقيما فأنقذ من أفواه الأسود.61واعتبروا هكذا أن جميع المتوكلين عليه من جيل إلى جيل لا يضعفون. 62ولا تخشوا من كلام الرجل الخاطئ.لأن مجده يؤول إلى القذر والدود. 63أليوم يرفع شأنه وغدا ليس له وجود لأنه يعود إلى ترابه وتتلاشى مقاصده.64فأنتم أيها البنون كونوا رجالًا وتمسكوا بالشريعة فإنكم بها ستمجّدون.

تعود بنا (الآية 49) إلى ما ورد في سفر إشعياء (37: 3 وملوك ثان 19: 3). فكما قاوم حزقيا في زمانه سنحاريب الأشوري هكذا يجب أن يقاوم متتيا وبنوه أنطيوخس أبيفانيوس، ولذا فهو يُنهض همم أبنائه: ” ابذلوا نفوسكم” (آية 50).

وأمّا وصاياه لأولاده هنا، فتشبه المديح الوارد في سفر يشوع بن سيراخ عن الآباء (سيراخ ص 44 – 50) كما تشبه المشهد الوارد عند موت يعقوب عندما نطق بتلميحات عن مستقبل بنيه (تكوين 49: 1-33) حيث يضع متتيا كل من هؤلاء الأجداد مرجعًا ومثالًا في أحد الجوانب أو بعض الجوانب، بينما يجمعهم معًا هدف التشجيع والثقة في عمل الرب، كما يجمع هذه الشخصيات كلها بركة الرب لها وخلاصه، ويرى متتيا أن تمسّكهم بالشريعة هو الذي أدى إلى نصرتهم.

ويعدّ هذا العرض نصّ أقصر من ذلك الموجود في الأصحاح الحادي عشر من الرسالة إلى العبرانيين، ويجب الانتباه في البداية إلى أن الغرض من الأمانة ليس الشهرة (راجع آية 51) وإنما يأتي الخلود كنتيجة طبيعية، أما الهدف الذي يجب أن يحرك الإنسان للجهاد وعمل الخير، هو التشبّه بسيده الصالح محب الصلاح.

يبدأ متتيا بذكر أب الآباء إبراهيم، والذي آمن بما يبدو مستحيلًا وضد الطبيعة، سواء من جهة إمكانية أن يصبح له ابن بعد التقدم في السن، أو ترك كل شيء وتبعية الله إلى مكان لا يعرفه، راجع (تكوين 15: 6) وهي الجوهرة التي التقطها الرسول بولس ليزين بها كلماته في (رومية 4: 3 وغلاطية 3: 6) إذ يؤكد أن التبرير يأتي بالإيمان، وأن الإيمان هو الذي يوجّه السلوك، كما يعكس السلوك في المقابل: الإيمان. إلى ذلك يشير القديس كبريانوس أسقف قرطاجنة، عند حديثه عن أن الله يجرب البشر بهدف أن يثبتوا فيه حيث يعوّل على هذه الآية (52)(20).

ثم ينتقل إلى يوسف الذي حفظ وصية العفة في ظروف كانت تدفعه دفعًا إلى الخطية، وأن كان يوسف قد أطاع الشريعة المحفوظة في التقليد، فكم وكم نحن الذين سُجلت لنا بيد الرب، راجع (تكوين ص 37 و 39 – 41) وربما كانت الألفاظ الواردة هنا مقتبسة من (مزمور 37: 39) وفي النصوص الحاخامية يُشار إلى يوسف ب البار.

ثم فينحاس: حيث يشير متتيا إلى الأصل الكهنوتي لعائلته (الكهنوت الحشموني) ويربط ما بين رئيس الكهنة المعاصر له (سمعان الثاني) وألعازر بن هرون وإلى فينحاس، ومن صلبه خرج صادوق وبنى أونيا، ويطالب متتيا أولاده بضرورة أن تسكن هذه الشجاعة والغيرة – التي لفينحاس- في جميع نسلهم.

يشوع: وبعد ذلك يذكر يشوع والذي كان أمينا لمعلمه وأبيه موسى النبي، فأصبح قاضيًا في إسرائيل، وان لم يُذكر بهذا اللقب إلاّ في هذا الموضع من الكتاب المقدس (راجع سفر العدد 32: 12 وتثنية 1: 36-38) ولعل يشوع هو الذي بدأ “عصر القضاة” (موسى عبدي قد مات فالآن قم اعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب.. يشوع 1: 2).

كالب: ويعد أحد الشخصيتين اللتين قويتا قلوب الشعب للعبور وامتلاك أرض الوعد (الآخر هو يشوع) في حين أضعف بقية أعضاء (الوفد) قلوب الشعب، فنال هو وعد الرب بدخول الأرض المقدسة. كما شهد كالب بأن بني إسرائيل سوف يسودون على الكنعانيين بعون الله، هكذا فعل اليهود على يد يوناثان، وكما تسلّم كالب مدينة ” الخليل” ميراثا له هكذا أخذ يوناثان “عقرون” (1مكا 10: 89).

داود: ويقدّمه متتيا من خلال فضيلة “الرحمة” وقد يبدو الأمر عجيبًا لأن الباقين جمعتهم في هذا العرض فضيلة الشجاعة ونصرة الشريعة، ولكن متتيا هنا يؤكد ضرورة امتزاج الرحمة بالشجاعة في منهاجه، فهم ليسوا قساة بطبيعتهم ولكن الضرورة قد تلزمهم بالدفاع والمقاومة المسلحة، وقد اتسم داود نفسه بامتزاج هاتين الفضيلتين في شخصيته، فهو شاعر رومانسي وهو أيضًا مُحارب مغوار، وقد أهّله ذلك لوراثة الُملك (صموئيل ثان 7: 13) وقد كان استمرار المملكة الأرضية مشروطًا: (متى حفظ بنوه عهده وشهاداته … مزمور 132: 12) وفي المقابل فإن المملكة الروحية استمرت في نسل داود إلى الأبد من خلال أبدية مملكة المسيح.

        وكان سفرًا أخبار الأيام قد استطردا في تتبع نسل داود حتى أيام كتابة السفرين (1مكا3: 17-24) في ثقة تامة بأن نسل داود لا بُد وأن يعود للحكم، وبينما كان “عهد الكهنوت الأبدي” مكافأة لنسل فينحاس (1مكا 2: 5) فإن نسل داود ينال الحكم الملكي. وأن كان حكم نسل داود قد اختفى بعد زماني زربابل ونحميا (21)

إيليا: وُيسمى القوى في الأنبياء (ملوك أول 19: 10 – 14 وملوك ثان2: 11، 12) وتأتى مكافأة إيليا مختلفة، فبينما يسعى آخاب إلى قتله للتخلص من تبكيته وتهديد عرشه، فإن الله يرفعه إلى السماء بمركبة نارية. جدير بالإشارة أن ثورة المكابيين تأيدت بعدة ظهورات في السماء، مشابهة لما حدث مع إيليا(22)، ثم دانيال والفتية الثلاثة: لقد شهدوا لله واتبعوا الوصايا، وفضلوا النار والوحوش على عبادة الأوثان وإنكار الله، لقد كانت جريمة الفتية في نظر ملك بابل هي عدم السجود للتمثال الذهبي، بينما حرّض أهل بابل ملكهم على قتل دانيال بسبب إهانته لإلههم وقتله للتنين، والذي عدّوه إلهًا هو الآخر! (دانيال ص 3، 6، 13، 14).

على إشارة متتيا إلى دانيال النبي يعلق القديس كبريانوس قائلًا “أن أسرار الله لا يجب أن تُفحص، لذا يجب أن يكون إيماننا بسيطًا” حيث يؤكد أن دانيال قد نجا من جب الأسود لبساطته(23).

(الآية 61): يجمع متتيا لأولاده كل ذلك كخبرات متراكمة من خلال تاريخ إسرائيل، والذي يمكن أن نسميه “عمل الله مع شعبه” مثل رصيد يعينهم ويعودون إليه كلما تطرّق الشك إلى قلوبهم، أو جزعوا من الاضطهادات أو خافوا العذابات والموت (تثنية 32: 7 ومزمور 34: 23)، فإن الرجل الخاطئ (ويقصد به أنطيوخس أبيفانيوس/1 مكا1: 10 و2مكا9: 9) سوف ينتهي ويتلاشى، بينما يبقى الله وشعبه وهيكله، ويجب ألاّ يخشوه. ويشير متتيا بلا شك إلى ما ورد في (مزمور 146: 3) عن رؤساء الشر ” تخرج روحهم فيعودون إلى ترابهم. في ذلك اليوم تهلك كافة أفكارهم”. وهو ما يُعد نبوة عن نهاية أنطيوخس.

        والمهم في النهاية هو المجد الذي يهبه الله لخائفي اسمه والعاملين بوصاياه (تثنية 4: 6).

توزيع الأدوار

65 وهوذا سمعان أخوكم. إني أعلم أنه رجل مشورة فاسمعوا له كل الأيام، وليكن لكم أبا. 66 أما يهوذا المكابى الشديد البأس منذ صباه، فهو يكون لكم رئيس الجيش ويتولى محاربة الشعوب.ص67واجمعوا إليكم جميع العاملين بالشريعة وانتقموا لشعبكم انتقاما. 68كافئوا الأمم مكافأة وواظبوا على وصايا الشريعة”. 69ثم باركهم وانضم إلى آبائه. 70وكانت وفاته في السنة المئة والسادسة والأربعين، ودفن في قبور آبائه بمودين، وبكى عليه كل إسرائيل بكاء شديدًا.

 

يتضح لنا من هذا النصّ عدة أمور، أولها أن ألقاب الأخوة الخمسة المكابيين، كانت معروفة منذ وقت مبكر وفي حياة أبيهم، وأن أبيهم سلمهم الثورة وأورثهم هذه المسئولية، وأنهض عزائمهم للانتقام لشعب والزود عن المقدسات (سفر العدد 18: 2 و31: 2 و تثنية 32: 43-46) وعين القائد السياسي وهو سمعان(24)، وسوف نقرأ لاحقًا كيف أبلى سمعان هذا بلاءا حسنًا في هذا الصدد- وأن كان يوناثان أخيه قد تفوق عليه في الدبلوماسية – هذا وقد دفعت انجازات سمعان الباهرة إلى قيام اليهود بنقش وثيقة هامة تفيد ذلك، عُلّقت في مكان هام كما سيأتي، ويعد سمعان آخر من مات من الأخوة الخمسة (1مكا16: 16،17).

هذا وقد جاهد متتيا ضد التأغرق مدة سنة كاملة، وذلك قبل أن يتوفى سنة 166ق.م. (146 سلوقية)(25) وقد اُعتبر موته خسارة كبيرة، ودارت الدائرة على اليهود اليونانيين، بعد أن اشتد لهيب الثورة وقُتل منهم كثيرون، وآخرون هربوا إلى البلاد المجاورة والأمم البعيدة (1مكا2: 44) وأما الحسيديين فراحوا يتقدمون جدًا يومًا بعد يوم، لينجحوا في استعادة الشريعة محطّمين مظاهر الوثنية.

وهكذا انضم متتيا إلى آبائه إذ رقد، وقد جاهد حسنا وأكمل سعيه وسلك كأحد رجال الله الغيورين، ولم يحسب نفسه ثمينة في سبيل مجد ينتظره في السماء، ويقول القديس أغسطينوس تعليقًا على الآية “وانضم إلى آبائه” أن هذه الآية مصطلح للتعبير عن موت الأبرار(26). وسوف نقرأ لاحقًا كيف اهتمّ الإخوة المكابيين بقبر أبيهم ومن دُفن معه من اخوتهم مثل يهوذا وألعازر ويوحنا.

ولكن متتيا لم يكن يعرف أنه سيأتي يومًا يستعدى فيه أحفاده أعدائهم الملوك السلوقيون لتسوية الخلافات بينهم، بل من أجل التخلص من إخوتهم.!! ولسوف يقتل الإسكندر بن يوحنا هركانوس -وهو من أحفاد متتيا- آلاف اليهود داخل الهيكل وخارجه.!!

_____

(1) لمزيد من التفاصيل، انظر كتاب: مدخل إلى سفري المكابيين /الاسم.

(2) دائرة المعارف الكتابية. ج1 /ص506.

(3) تؤكد دراسة هامة أن الهيكل – شأنه في ذلك شأن معبد أبو سنبل في صعيد مصر – مبنى على هيئة جسم الإنسان انظر شكل ( ) في صفحة (  ).

(4) كلمة شي ]e القبطية تعني صليب/ خشبة/ شجرة.

(5) لمزيد من التفاصيل، راجع التعليق على هذه الآية في: Jonathan A Goldsten,  1Macc. P.231

(6) A.N.F, Vol. IX, P. 487.   شرح إنجيل متى الكتاب 13

(7) راجع التعليق على المسوح، كتاب تفسير سفر يهوديت/ الأصحاح الرابع (للمؤلف).

(8) كلمة أخوة هنا معناها في الأساس “أقارب ذكور” وهكذا قصد مندوب الملك أن لمتتيا “البنين والأقارب” راجع في ذلك (تكوين 29: 12، 15 وسفر العدد 16: 15) راجع:Jonathan A Goldsten,  1Macc.

(9) كان يوسيفوس قد ذكر قبل ذلك في موضع آخر أن اسم المندوب هو “بكيديس” ولكنه عاد فذكر أن اسمه “أبلس” أو “أبيلس”. راجع:  Jonathan A. Goldsten, P. 233

(10)  Jonathan A. Goldstein. I Macc. P. 232.

(11) Jonathan A. Goldsteim. I Macc . P. 233.

(12) انظر كتب الانضباط لسكان قمران /مجلد 2 /10: 26، والتعليق على حبقوق في قمران أيضًا (1: 36 و2: 9 و5: 22).

(13) في (إشعياء 55: 6) نجد كلمة “الطلب” مرة أخرى، وفي الأصحاح ذاته (آيات 14: 33) نجد خروجا إلى البرية، وفي السفر ذاته (56: 1،2) نجد أن الحق والعدل قريبان لحافظ السبت، (انظر أيضا: إشعياء 58: 11-14 وإرميا 2: 2،3 و7:19-27).

(14) يوسيفوس: الآثار اليهودية 12: 206-274-275.

(15) مخطوطات قمران/ البحر الميت – ج 2/ص 506 – دار الطليعة الجديدة/دمشق.

(16)  ANF, Vol. VII, P. 342.

(17) ANF, Vol. V, P. 188

(18) Jonathan A. Goldsten,  I Macc, P. 237.

(19) في النصف الأول من القرن الثامن، أنشأ شخص يدعى (با آل شيم طوف) وهو يهودي أوكرانى: “الحركة الحسيدية الحديثة” والتي حرّضت مئات الآلاف من اليهود في أوروبا على الانضمام إليها، حيث استمرت حتى الحرب العالمية الثانية، وقد نادت الحركة بأن التقوى تتفوق على العلم، وأن الشخص التقى يتقرب إلى الله بغض النظر عن مستواه وثقافته وجنسه، وهو ما يعرف أيضًا ب”حركة أو عقدة الجيتو” بين يهود الشتات في العالم، وسمى أيضًا “الشتتل الاجتماعي” نسبة إلى المدن الصغيرة المستقلة في “بولونيا” والتي اتخذت هذا الاسم.

(20) ANF, Vol. V, P. 537.   في سياق براهينه

(21) صرح الرابي هلليل بأن النبوات عن داود النبي قد تحققت في شخص حزقيا (انظر سيراخ 48: 15-20 وقارن إشعياء 11:2 و36: 5 بسيراخ 48: 24) في حين رأى يهود آخرون أن النبوات بمسيا من نسل داود قد ابطلتها الخطايا (ملوك أول 2: 4 وأخبار الأيام الأول 28: 7،9 ومزمور 132: 11،12 و سيراخ 49: 4،5).

(22) يستخدم القديس كيرلس الأورشليمي جزءان هذه الآية في حديثه عن ايليا النبي الذي رفع إلى السماء معلقًا على الألفاظ اليونانية المستخدمة. N&PNF. 2nd, V. VII.p.101

(23) يستخدم القديس كيرلس الأورشليمي جزءان هذه الآية في حديثه عن ايليا النبي الذي رفع إلى السماء معلقًا على الألفاظ اليونانية المستخدمة. N&PNF. 2nd, V. VII.p.101

(24) يورد الكاتب يوناثان أ جولدشتاين ملاحظة طريفة هنا، إذ يذكر أن اسم سمعان كتب هنا بالذات بالحروف Symeon بينما في المواضع الأخرى Simon ربما للجناس اللفظي: سمعان .. اسمعوا منه. راجع تعليقه على آية 65.

(25) العام المذكور هنا هو  146 سلوقية، امتد من 20 أبريل 166 ق.م. حتى 7 أبريل 165 ق.م.

(26) NPNF, 1st.  Vol. V, P.250.    الكتاب الثاني في الخطية الأصلية فصل 35 .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى