تفسير سفر المكابيين الأول 3 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا

يهوذا المكابي يحمل النير بفرح وجديّة

 

ما أن تسلمّ يهوذا المكابي قيادة حملة المقاومة، حتى امتدّت الانتصارات العسكرية المذهلة، في سلسلة تكاد تكون غير منقطعة حتى موته في ميدان المعركة، وقد استطاع في ظل ظروف قاسية أن يستردّ الاستقلال الديني لليهود ويعود الهيكل إلى مكانته وقدسيته. وقد تميّزت سياسته العسكرية بالمبادرة في الهجوم، وبحسب القصيدة التي تمتدحه في (3-9) كما سيجيء فهو يُشبّه بعملاق، ورجل عمل لا كلام، ثابت الجأش غير محب لذاته.

مديح يهوذا

 

1فقام مكانه يهوذا ابنه المسمى المكابي، 2ونصره كل إخوته وجميع الذين انضموا إلى أبيه، وكانوا يحاربون حرب إسرائيل بفرح. 3بسط مجد شعبه ولبس درعه كجبار وتقلد سلاح القتال وشن الحروب وبسيفه حمى المعسكر. 4كان كالأسد في مآثره وكالشبل الزائر على فريسته 5تعقب الآثمين في آثارهم والذين يفتنون شعبه أحرقهم بالنار. 6 قُضى على الآثمين لخوفهم منه واضطرب جميع فعلة الآثام ونجح الخلاص عن يده. 7أذاق الأمرّين لملوك كثيرين وفرح يعقوب بأعماله. فصار ذكره مباركا أبد الدهور. 8جال في مدن يهوذا وأباد الكافرين منها وصرف الغضب عن إسرائيل. 9ذاع صيته إلى أقاصى الأرض وجمع المشرفين على الهلاك.

 

لاقى تعيين يهوذا قائدًا عسكريًا التأييد الكبير، ليس من قبل إخوته فحسب، بل ومن جميع رجال المقاومة الأشداء والذين كانوا قد انضمّوا إلى أبيه قبل وفاته، والذين كانوا يقاتلون بشجاعة بسبب قناعتهم بقضية أمتهم(1).

     وتصف القطعة يهوذا كجبار خرج غالبًا ولكي يغلب، حتى يعيد إلى شعبه مجده المسلوب ” تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار جلالك وبهاءك. وبجلالك اقتحم اركب من أجل الحق والدعة والبر فتريك يمينك مخاوف.  نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك شعوب تحتك يسقطون” (مزمور 45: 3 – 5). كما نُظر إلى يهوذا على أنه أعاد مجد يعقوب الذي أٌهين وُاذلّ (إشعياء 17: 4). ولعل شجاعة يهوذا وما أظهره، تجعله من أعظم المحاربين في تاريخ إسرائيل بعد داود النبي(2).

ويقصد بـ” الذين يفتنون الشعب” (آية 5) أولئك الذين يضللّون الشعب (من خلال نشر الهيللينية) كما قُصد ب ” الآثمين” و” فعلة الآثام”: أولئك اليهود الذين تعاونوا مع الحكام السلوقيين. وقد وبّخ إيليا أخاب لسبب مشابه ” فقال لم أكدّر إسرائيل بل أنت وبيت أبيك بترككم وصايا الرب وبسيرك وراء البعليم” (ملوك أول 18: 18) راجع أيضًا: (1مكا 7: 22)

الأمرّين: لعل هذه هي المرة الوحيدة التي يُذكر فيها هذا التعبير، حيث من المحتمل أنه يعنى جميع أشكال المرارة، وربما يعنى المعاناة المزدوجة، أي عدم الراحة من جهة والأذى من جهة أخرى، وربما كان المقصود بالملوك هنا: أنطيوخس الرابع وأنطيوخس الخامس وديمتريوس الأول.

صار ذكره مباركا أبد الدهور .. ذاع صيته إلى أقاصى الأرض (آية 7 و9).

كان وما يزال اسم المكابى ذا رنين خاص في مختلف الأوساط، لا سيما العسكرية والرياضية، بين جميع الجماعات اليهودية في شتى أنحاء العالم، والآن يوجد ما يسمىّ اتحاد مكابى العالمي Maccabi World Union وهو اتحاد رياضى، فقد نادى “ماكس نوردو” بأن ينتهي عهد اليهودي المترهّل ليبدأ عهد اليهودي الرياضى.

وهكذا انضمت جميع نوادى المكابى في اتحاد واحد سنة 1903م حيث قام اثنان من يهود ألمانيا بتأسيس اتحاد للنوادى الرياضية اليهودية، ثم تكوّن هذا الاتحاد العالمي سنه 1921م، وكان مقره أولًا في فينا سنة 1927م ثم في برلين سنة 1929م، وبعد ظهور النازية انتقل إلى لندن، وأخيرًا استقر في تل أبيب، ويضم الاتحاد الآن 35 فرعًا اقليميا في مختلف انحاء العالم.(3) هكذا صار اسمه مباركا.. راجع أيضًا: (مزمور 112: 6  وأمثال 10: 7  وسيراخ 46: 11) أمّا المقصود بأنه ردّ سخط الرب عن بني إسرائيل (آية 8) فهو المقارنة بين المكابيين وفينحاس (سفر العدد 25: 11).

الانتصارات الأولى ليهوذا المكابي

كان يهوذا في ذلك الوقت قد بدأ في تنظيم الجيش وتجهيز العتاد، لتتحول المقاومة من الشكل البسيط إلى الجيش النظامى المسلّح.

اشتباكه مع أبولونيوس

مكابيين ثان 8: 1-7

10وحشد أبلونيوس وثنيين وجاء  بجيش عظيم من السامرة ليحارب إسرائيل. 11فعلم يهوذا فخرج للقائه وكسره وقتله. وسقط قتلى كثيرون وانهزم الباقون. 12فسلبوا غنائمهم وأخذ يهوذا سيف أبلونيوس، وكان يقاتل به كل الأيام.

 

أبولونيوس Appolonious: اسم يوناني معناه: الخاص ب”أبوللو”. وربما كان هو رئيس الجزية المذكور في (1: 49) وسيأتي الحديث عن ذلك لاحقًا، أمّا يوسيفوس فيصفه بأنه حاكم السامرة في ذلك الوقت، ربما لأنه جمع جيوشه من السامرة. قال يوسيفوس في هذا الشأن ما نصه الآتي:” أبلونيوس رئيس جيش strathgoj  السامرة” (الآثار اليهودية 12: 7)

كان ذلك في سنة 165 ق.م. وكان من الطبيعي إزاء تنظيم اليهود لأنفسهم، أن تتحرك القيادة السلوقية لتحجيم أولئك الذين نظروا إليهم وكأنهم “الفئران تخرج من جحورها” كما وصفهم جنود أليفانا قائد جيوش الأشوريين: ” ادخلوا وأيقظوه “أليفانا” لأن الفئران قد خرجت من حَجرتها و اجترأت على مهايجتنا للقتال (يهوديت 14: 12 بحسب الفولجاتا).


 

ولا يفتأ اليهود يُسمون الأعداء: وثنيين، في تأكيد دائم على الطابع الديني للحرب والمقاومة، وأبولونيوس هذا هو حاكم السامرة، بحسب ما يورِد يوسيفوس المؤرخ، ويصفه سفر المكابيين الثاني بأنه قائد المرتزقة، أو المسئول عن تجنيد وتدريب الجنود المرتزقة وهم المتطوعون للحرب مقابل أجر مالى أو معنوى، أو تجنيد الأسرى الذين أُسروا من البلاد الأخرى، كما سبق الإشارة إلى أبولونيوس قبل ذلك، باعتباره المسئول عن الجزية في المملكة (1مكا1: 29).

ومن مميزات يهوذا أن هجماته كانت خاطفة في كل مرة تقريبًا، مستفيدًا بعنصر المفاجأة حتى يُرعب الأعداء وُيربكهم. فقد جمع سرًا ستة آلاف جندي، وقام بالعديد من الغارات الليلية حتى ذاع صيته، ومع ذلك فمن المؤكد أن جيش المكابى كان أقل في العدد والعدة إذا ما قيس بجيش أبولونيوس، والذي جمعه من الجنود المرتزقة الوثنيين الساكنين في السامرة وحولها من الأدوميين والعرب والمقدونيين المنتمين إلى السامرة، ولذلك يُطلق السفر على معسكر يهوذا: ” إسرائيل” (4). ومع ذلك هزم يهوذا أبولونيوس واستولى على سيفه وقتل كثيرين، على غرار ما حدث مع داود وجليات إذ صار سيف الأخير مع داود في حروبه، وكان سيف أبولونيوس حقيقة بينما كان سيف إرميا في الرؤيا قوة روحية (انظر خريطة رقم 2).

حربه مع سارون

 

13وسمع سارون، قائد جيش سورية، أن يهوذا قد جمع فوجا وجماعة من المؤمنين يسيرون معه إلى القتال، 14فقال: “أقيم لنفسي اسما وأتمجد في المملكة وأقابل يهوذا والذين معه من المستهينين بأمر الملك”. 15فخرج هو أيضًا وصعد معه جيش قوى من الكافرين يناصرونه للانتقام من بني إسرائيل. 16فاقتربوا من عقبة بيت حورون، فخرج يهوذا للقائهم في نفر يسير. 17فلما رأوا الجيش مقبلا إلى لقائهم، قالوا ليهوذا: “كيف نستطيع أن نحارب مثل هذا الجمع القوى ونحن نفر يسير، وقد خارت قوانا من الصوم في هذا اليوم؟ ” 18فقال يهوذا: “ما أسهل أن يُقفل على الكثيرين في أيدي القليلين، وسواء عند السماء أن تخلص بالكثيرين أو بالقليلين، 19فإنه ليس الظفر في الحرب بكثرة الجنود، وإنما القوة من السماء. 20أولئك يأتوننا بفيض من التعجرف والإثم ليبيدونا نحن ونساءنا وأولادنا ويسلبونا. 21وأما نحن فنحارب عن نفوسنا وسننا، 22وهو يحطمهم أمام وجوهنا، فلا تخافوهم”. 23ولما انتهى من كلامه، هجم عليهم بغتة، فانكسر سارون وجيشه أمامه.24فتتبّعه في عقبة بيت حورون إلى السهل، فسقط منهم ثمانى مئة رجل، وانهزم الباقون إلى أرض فلسطين. 25فأخذ الناس يخافون يهوذا وإخوته ووقع الرعب على الأمم التي حولهم. 26وبلغ ذكره إلى الملك، وتحدثت الأمم كلها بوقائع يهوذا.

 

سارون Seron: صيغة للاسم العبراني “شارون” ومعناه (سهل) ويسمى أحيانا “حيرام”. وفي اليونانية “Shron  ” وفي الآرامية “هيرون” (وهكذا جاءت في احدى المخطوطات اليونانية) وهو قائد ” strategos ” جيش سوريا، أو بحسب ما يورده يوسيفوس فإنه حاكم قول سوريا أو سهل البقاع (الجزء الجنوبي من سوريا، والشمالي من فلسطين / 1مكا 7: 8  و10: 69). وهو المنصب الذي تقلده أيضًا بطليموس بن دوريمانوس(5). وقد أراد سارون هذا أن يثأر لدم أبولونيوس ليحصد بذلك شهرةً ومجدا، إذ يبدو أن عمله لم يكن قيادة العمليات العسكرية وانما تدريب الجنود، ولعله وجدها فرصة للترقّى. وقد انضم إليه كثيرون، ولا يُعرف على وجه الدقة إن كان المقصود ب ” الجيش القوى من الكافرين” (آية 15) جنودا وثنيين أو بعض اليهود المتأغرقين المقاومين للحشمونيين! والذين تعرّضوا – أي المتأغرقين- للكثير من هجمات يهوذا ورجاله، فآثروا الانضمام إلى سارون.

بيت حورون: Beth horon: اسم عبري معناه “بيت المغارة” أو “البيت الفارغ” ويكتب أحيانًا “بيت أور” أو “بيت عور” وهو مكان يبعد عن أورشليم    21 كم إلى الشمال الغربي منها، وكانت “شيرة ابنة يربعة” قد بنت – أو ربما أعادت ترميم – بيت حورون العليا وبيت حورون السفلى (أخبار الأيام الأول 7: 24) وعلى بعد عدة أميال منها يقع الممر العام الوعر والذي يصل ما بين السهل وقلب اليهودية. إلى هناك طرد يشوع الأموريين في حربه معهم (يشوع 10: 10).

     وكان الطريق بين قريتي بيت حورون العليا والسفلى ضيّق ووعر، وكان بإمكان قوة صغيرة في القرية العليا منع قوة أكبر بكثير من التقدّم، وربما ظن سارون أنه سوف يبلغ المدينة العليا قبل يهوذا، أو أن يشق طريقه بالقوة عبر قوة يهوذا الهزيلة. أُنظر خريطة رقم (3).

ويوحى النصّ هنا بأن “سارون” قد جاء خلال الطريق المعتاد من السهل السأحلى لأورشليم، من جهة الشمال الغربي عن طريق ” لدّة “، وعبر ميديا أو بالقرب منها، وكانت ” دورا  Dora” هي أقرب القواعد العسكرية المهمة شمال لدّة. من هذا الطريق سار الفلسطينيون لمواجهة شاول (صموئيل أول 13: 18) ونظرًا لأهميتها فقد جعلها اليهود حصنًا في مواجهة الأعداء، ونعرف أن شيشق” ملك مصر قد انتزعها من يد رحبعام، كما كانت طريقًا سلكه الكنعانيون والفلسطينيون والثراكيون والمصريون والرومان. وفي عصر يهوديت أرسل ألياقيم من أورشليم إلى أهلها لتقوية حصونها في وجه الأشوريين باعتبارها مدخلًا هامًا لليهودية (يهوديت 4: 5). وفيما بعد قام “بكيديس” القائد السلوقى بتحصينها، بعد استيلائه على اليهودية (1مكا9: 50) هكذا كانت “بيت حورون” ذو أهمية كبيرة في تلك العصور (انظر خريطة رقم 13).

لم تكن القوى متكافئة ما بين اليهود والسلوقيين في تلك المعركة، ولذا فقد تشكّك أتباع يهوذا في البداية في امكانية تحقيق النصر، لاسيّما وهم صائمين في ذلك اليوم، ربما لأنه كان يوم صوم أو لأنهم صاموا خصيصًا لأجل الحرب. فهم نفر قليل، راجع (3: 47 وقارن مع 2مكا 5: 27 و10: 6). ولكن العامل الأكبر في النصر كان هو إيمان يهوذا المكابى بقضية الأمة مما اكسبه شجاعة نادرة.

وقد خطب يهوذا في جنوده فيما يشبه “التوجيه المعنوى في الحروب”، إذ ذكّرهم بأنهم أصحاب حق، ولذلك فالله سيحارب عنهم، كما أنهم في حالة دفاع عن النفس وعن النساء والأطفال، وكانت العادة في الحروب أن يُؤخذ النساء والأولاد كعبيد ضمن الغنائم، وبالتالي فإن الابادة هنا ليست بمعناها الحرفي، وكثيرا ما حدث أن وقع الأعداء الذين تربّصوا بإسرائيل: غنيمة في أيديهم، راجع: (سفر العدد 14: 3 و يشوع 8: 27 وإشعياء 17: 14 وإرميا 30: 16 وحزقيال 39: 10).

لقد كانت إذا حرب مفروضة عليهم، والله قادر أن يخلص بالكثير وبالقليل، وفي ذلك ترديد لما قاله يوناثان لحامل سلاحه، عند حرب اليهود مع الفلسطينيين: ” لعل الله يعمل معنا لأنه ليس للرب مانع عن أن يخلص بالكثير أو بالقليل” (صموئيل أول 14: 6). كما أن أسلوب العظة عمومًا يشبه ما ورد في سفر التثنية: ” فقلت لهم لا ترهبوا ولا تخافوا منهم. الله السائر أمامكم هو يحارب عنكم” (تثنية 1: 29، 30) راجع أيضًا (3: 18 – 22  و 9: 1).

     وتوحي (الآية 13) بأن المؤمنين الذين اشتركوا في المعارك هم غير الجماعة التي اعتزلت لتحيا في حياة صوفيّة، راجع (2: 42). ويضيف يوسيفوس أن يهوذا قال لهم أن في الطهارة قوة عظيمة (تعين على النصر) بل يرى الحسيديين أن الطهارة وحدها كافية دون قتال، راجع (1مكا 2: 37 و2مكا 8: 4 و12: 42). 

وفي الواقع فإن يهوذا المكابي يحدّد هنا استراتيجية اليهود وحروبهم.

وهكذا استطاع بشجاعته وبسالة الذين معه والذين آزرهم الرب، بأن ينقضّوا كالنسور على الأعداء، فهزموهم ثم طاردوهم من ثمّ حتى السهل وتبعوهم بعد ذلك حتى “أرض فلسطين”، والمقصود بها المنطقة البحرية والتي ذكرت في (1مكا15: 18) باسم (الساحل) وقد خسر السلوقيون في تلك المعركة ثمانى مئة رجل، وهو يعدّ عددا كبيرًا بالنسبة لهذا الهجوم الخاطف من قبل جيش صغير. أمّا تعبير ” انكسر سارون” فقد جاء في العبرية sbr بمعنى “ُهزم” هزيمة منكرة (كما ورد في إشعياء 14: 25 في نبوته عن مصير الأشوريين) ولا تعني” قُتل” كما ظن يوسيفوس، في حين أن التعبيرالأكثر شيوعًا هو ngp “ضرب” راجع (أخبار الأيام ثان 14: 11،12).

 هذا وقد انتشرت أخبار هذا النصر ومن قبله الانتصارات على أبولونيوس، مما آثار قلق أنطيوخس أبيفانيوس الملك، وتشير نبرة التعبير عن النصر هنا، تلك الواردة في وصف مآثر داود (أخبار الأيام ثان 14: 17 – قارن مع: تثنية 2: 25). أُنظر خريطة رقم (3).

أنطيوخس يتجه إلى فارس

 

27فلما سمع أنطيوخس الملك بهذا الكلام، غضب غضبا شديدًا. فأرسل وجمع كل قوات مملكته، جيشا قويا جدًا. 28وفتح خزانته ودفع إلى جيوشه رواتب سنة وأمرهم بأن يكونوا متأهبين لكل شيء. 29ثم رأى أن الفضة قد نفدت من الخزائن، وقد قلت جزية البلاد بسبب الخلافات والنكبة التي أحدثها في البلاد بإلغائه السنن التي كانت لها منذ الأيام القديمة . 30وخشى أن يحدث ما حدث مرة أو مرتين فلا يملك ما يقوم بنفقاته وعطاياه التي كان يجود بها جودا واسعا فاق به الملوك الذين كانوا من قبله.31فتحير في نفسه حيرة شديدة، وعزم على الذهاب إلى بلاد فارس ليأخذ جزية البلاد ويجبي مالاً جزيلا. 32فترك ليسياس، وهو رجل شريف من الأسرة الملكية، يشرف على أمور الملك، من نهر الفرات إلى حدود مصر، 33وولاه تربية أنطيوخس ابنه إلى أن يعود.34وفوض إليه نصف الجيش والأفيال، وأملى عليه جميع وصاياه ومنها ما يخص سكان اليهودية وأورشليم، 35أن يوجه إليهم جيشا ليفنى ويستأصل شوكة إسرائيل وبقية أورشليم، ويمحو ذكرهم من ذلك المكان، 36وينزل في جميع بلادهم أبناء الأجانب، ويقسم أرضهم. 37وأخذ الملك النصف الباقي من الجيش وانطلق من أنطاكية، عاصمة ملكه، في السنة المئة والسابعة والأربعين، وعبر نهر الفرات، وجاب الأقاليم العليا.

 

 

في تلك الأثناء كان أنطيوخس منصرفًا في أنطاكية إلى الاحتفالات التي أقامها حسب عادته، فلمّا سمع بأنباء تلك الانتصارات اضطرب. لقد تنبّه أن المسألة لم تعد مجرد “مناوشات” تصدر عن بعض الفدائيين أو الثوار، وانما هي في الواقع جيوشًا منظمة بقيادة ثائر ذو قدرات فائقة، يحرز الانتصارات، ومن ثم فقد قرّر الالتفات إلى هذا الخطر الجديد الذي يُحدق بملكه ومملكته. لا سيّما وأن اضطراب تلك المنطقة القريبة من البحر المتوسط، قد يمهّد السبيل لديمتريوس الأول – المطالب بالعرش – لتحقيق غرضه، وذلك بعكس ما ظنّ البعض من أن تلك الأحداث لم تُقلق أنطيوخس لاستخفافه بيهوذا المكابي.

ويتّضح لنا من النص هنا أن اليهودية تلعب دورًا كبيرًا في الأحداث، إذ قلّت الضرائب نتيجة الاضطهاد ونشر الهيلينية، ولذا فقد قرّر الانتقام بنفسه من اليهود، غير أنه أرجأ ذلك إلى وقت لاحق، فقد انهكته الديون التي تركها له انطيوخس الثالث أبوه بعد “معركة أباميا” سنة 189 ق.م. كما أن مخططاته العسكرية الاستعمارية كلفته المزيد من النفقات لا سيما وقد كان سخيّا مع جنوده (آية 28) فقد دفع لهم رواتب عام كامل، وهكذا تسبب العاملان في نضب الموارد المالية (2مكا 8: 10).

وهكذا لم تعد له إمكانية تحقيق الرخاء لشعبه، وبالتالي فقد اتجه إلى التفكير في الاستيلاء على خزائن المعابد المنتشرة في عبر مملكته، وكان قد فعل ذلك مع هيكل أورشليم من خلال هليودورس ومنلاوس رئيس الكهنة، وهو الآن يخطط لتكرار ذلك مع هيكل برسابوليس في فارس. 

كما كان هناك سببًا آخرا قويًا يعجّل بالاتجاه إلى تلك النواحي، وهو قهر القوة المتزايدة ل “ميتريداتس الأول”، والذي كان قد شغل عرش فارس في سنة 171 ق.م. وأصبح مع الوقت أقوى من أن يكون مجرد تابع للملكة السلوقية. ومثله جميع الولايات الفارسية الشرقية الثريّة (وُتسمّى تلك الولايات: المرازابيات) والتأكد من خضوعها هي وضرائبها له، والتي قد تُعين الحكام هناك على تحقيق رغبتهم في الانفصال عن المملكة السلوقية، مثلما حدث مع الثائر ” مولونMolon  ” في عهد أنطيوخس الثالث.(6)، يُضاف إلى ذلك احتياجه الشديد إلى أموالها على النحو الذي ذكرناه، وكان موسم الربيع هو موسم شنّ الحملات، وهكذا زحف أنطيوخس في ربيع عام 166 /165 ق.م.

ولقد ظن البعض أن مشكلة اليهود في ذلك الوقت لم تكن ذي بال بالنسبة للملك المضطرب، وذلك إذا ما قورنت بالتهديد الفارسى في الشرق، وبالتالي يتعجب أولئك النقاد كيف يسلط سفر المكابيين الضوء على أحداث اليهودية باعتبارها أخطر ما يجرى في العالم، إذ يؤكد السفر على اهتمام الملك بالقضاء على المقاومة، ويرون بالتالي أن الكتب اليهودية بالغت في تقدير الموقف.

ولكن إذا ما نظرنا إلى التأثير اللاحق على البشرية، فإن الكتب اليونانية واليهودية كانت على حق!!، إذ أنه بين جميع الأحداث في المملكة السلوقية، لم يكن فيها أكثر أهمية من تلك الخاصة باليهودية على الإنسانية في العصور اللاحقة. وبالتالي فإن الأسفار المقدسة ليست مجرد مستودع تاريخي، وانما يختار الوحي المقدس ما يجب التركيز عليه.

في الوقت ذاته لن يترك أنطيوخس شوكة اليهود تقوى ويستفحل أمرهم، فيحدث مالا يمكن تداركه، ومن ثم قرر الاتجاه إلى بلاد فارس بينما يترك في اليهودية من يتولى إخماد المقاومة. أمّا السنن التي ألغاها وتسببت في النكبة والبلاء وقلة الموارد المالية (آية 29) فربما كانت الحريات التي منحها سابقًا أبيه أنطيوخس الثالث الكبير لرعايا مملكته، ومنها تلك التي كانت لليهود. والحقيقة أن سياسات أنطيوخس المدنية والدينية، أثارت ردود فعل واسعة ليس في اليهودية فقط وانما في الإمبراطورية كلها، والمقصود ب “ السنن التي كانت لها منذ الأيام القديمة “: التأكيد على أن جميع الشرائع ترجع إلى ما قبل زمن الآباء، ولعل كتاب اليوبيلات (الكتابات الأبوكريفية) يحاول تأكيد ذلك.

ليسياس Lysias: اسم مشتق من الاسم اليوناني ” ليسيانوس” ومعناه ” نهاية الحزن”. ويسميه يوسيفوس: ” ليشاوس” ومن المحتمل أن يكون قد حلّ محلّ “سارون” والذي فشل في حملته على اليهود، ونفهم من (2 مكا10: 11) أنه قائد إقليم بقاع سوريا وفينيقية، وهو الإقليم الذي يوصف ب”من نهر الفرات إلى حدود مصر” وكانت تعني في العصر الفارسى: “شرق الفرات” وهكذا يمكن أن يُسمى: قائد قوات سوريا العليا.

ويعد ليسياس من أكفأ ضباط أنطيوخس، وقد عمل معه ثم مع ابنه أنطيوخس أوباطور الخامس، وأكثرهم فطنة، مما أهّله للحصول على أعلى لقب ملكي (صديق الملك) أو “من قرابة الملك syngenes ” (2مكا11: 1) وهو أعلى لقب فخري في البلاط السلوقى (1مكا10: 89) ولكنه لا يعني بالضرورة أنه من الدم الملكي. وكان الوزير في المملكة السلوقية هو ” القيّم على المصالح ” أو” المقلّد تدبير الأمور” راجع (1مكا 3: 7 و10: 11 و11: 1)

كان ليسياس مسئولًا عن الجزء الغربي من المملكة (آية 32) وقد أسند إليه الملك أمرين، أولهما أن ينوب عنه في غيابه ويرعى ابنه أنطيوخس الصغير، وثانيهما القضاء على المقاومة التي يتزعّمها يهوذا المكابى والذي سيقيم الله الخلاص عن يده (راجع ملوك ثان 14: 27) ثم توطين الوثنيين في اليهودية بعد إعادة تقسيمها، وسوف يتّضح لنا ذلك من رغبة رجاله في بيع اليهود كعبيد وسبايا (آية 36). ولذلك فقد ترك أنطيوخس معه نصف الجيش والأفيال، مما يوحى بأن الجيش الذي كان مع ليسياس كان كبيرًا.

وقد جعل ابنه أنطيوخس وليّا للعهد، ملقبًا إياه ب ملك ” باسيليوس basileus ” في حين جعل ليسياس وصيّا عليه ورئيس وزراءه، ولكن جميع المكاتبات كانت تُوقّع باسم الملك الصغير لا الوصي (2مكا 11: 16-36).

وفي وثيقة هامة تسمّى ” قصاصة من التاريخ اليوناني” منسوبة إلى بروفيري Prophyry واحتفظ بها يوسابيوس المؤرخ، ترد إشارة إلى مُلك أنطيوخس وابنه معا، وذلك في لوحة فلكية عن المريخ نقشت عام 118/117 ق.م. حيث نقرأ بأحد سطورها: “عام 115 (197/196 ق.م.) أنطيوخس وأنطيوخس ابنه ملك”. وكان المقصود أنطيوخس الثالث والرابع. وفي القائمة المسمارية Cuneiform للملوك والتي ورد بها خبر وفاة أنطيوخس الرابع، إشارة إلى أن الملك الوالد – وهو في عنفوان شبابه – يمكن أن يمنح لقب ملك لابنه الصغير الذي لا يستطيع القيام بأعباء الحكم(7).

هذا وكان نفوذ ليسياس والملك الطفل قاصرًا على غرب الفرات، هذا وقد ظلت ولاية ليسياس على أنطيوخس مدة سنة وستة أشهر، وبعد هزيمة القوات التي أرسلها لاخضاع اليهود، تولى هو قيادة الجيش ولكنه هُزم أيضًا هو الآخر، فمضى من توّه إلى أنطاكية ليعزّز قوته، غير أنه هُزم مرة ثانية (1مكا4: 26 – 35  و2 مكا11: 16) وفي سنة 163 اشترك مع أنطيوخس أوباطور – بتحريض من منلاوس – في مهاجمة اليهود، ولكنهم هُزموا فأعدموا منلاوس ملقين عليه تبعة هذه الكسرة (2مكا13: 2 – 17) ولم ييأس ليسياس فقد أعاد الكرة على اليهود وحاصر أورشليم، وكاد يفتك باليهود لولا سماعه بأن ” فيلبس وصى الملك” قد تسلّم مقاليد الحكم في أنطاكية، فبادر إذ ذاك إلى عقد مصالحة مع اليهود، ومن ثم انطلق إلى أنطاكية حيث استردّ السلطة عن طريق القوة من فيلبس (1مكا6: 28 – 63) وفي سنة 163 ق.م. قبضت جيوش ديمتريوس الأول عليه هو وأنطيوخس الصغير حيث قُتلا (1مكا7: 2-4 و 2مكا14: 2).

(الآيتين 36،37): كانت الخطة هي القضاء على المقاومة، وبيع المتمردين المتبقّين على قيد الحياة كعبيد (2مكا8: 9 – 11) ثم مصادرة أراضيهم وتوزيعها على الأجانب، ويتضح من (آية 37) أن الملك كان في ذلك الوقت في “مكان محايد” حيث انطلق من ثمّ إلى عاصمة ملكه، ومن هناك اتجه إلى بلاد فارس، وتشير عبارة “الأماكن العليا” إلى نواحي إيران ” اقليم فارس الحديث جنوب إيران” (6: 1). كما أغار أيضًا على “ميسين Mesene ” عند رأس الخليج الفارسي. ومنذ عهد هيرودت Herodotus المؤرخ يستخدم الكتّاب اليونان تعبير ” الأقاليم العليا ” للإشارة إلى بلاد ما بين النهرين وايران، الواقعة بعيدًا عن ساحل البحر المتوسط. وكانت حملته تلك في ربيع سنة 165 ق.م. (147 سلوقية). أُنظر خريطة رقم (5).

نواب أنطيوخس يخوضون حربًا ضد المكابيين

مكابيين ثان 8: 8-15

38فاختار ليسياس بطليمس بن دوريمانس ونقانور وجرجياس، وهم رجال ذوو بأس من أصحاب الملك. 39ووجه معهم أربعين ألف راجل وسبعة آلاف فارس ليأتوا أرض يهوذا ويدمروها على حسب أمر الملك. 40فساروا بالجيش كله حتى بلغوا إلى قرب عماوس، وعسكروا هناك في أرض السهل. 41وسمع بخبرهم تجار البلاد، فأخذوا من الفضة والذهب شيئًا كثيرا وأغلالا، وجاؤوا المعسكر حتى يشتروا بني إسرائيل عبيدا لهم، وانضمت إليهم قوات من أرض أدوم وأرض الفلسطينيين.42ورأى يهوذا وإخوته أن الشر يتفاقم وأن الجيوش تعسكر في بلادهم، وبلغهم كلام الملك إذ أمر بإهلاك الشعب واستئصاله. 43فقال كل واحد لصاحبه: “هلموا ننهض شعبنا من دماره ونقاتل عن شعبنا وأقداسنا”. 44فاحتشدت الجماعة لتتأهب للقتال وتصلى وتسأل الرأفة والمراحم. 45وكانت أورشليم مهجورة كالقفر لا يدخلها ولا يخرج منها أحد من بنيها. وكان المقدس مدوسا وأبناء الأجانب في القلعة التي صارت مسكنا للأمم. وقد زال الطرب عن يعقوب وبطل المزمار والكنّارة.


 

كلف ليسياس ثلاثة من القواد للقيام بالحملة التأديبية على اليهود:

بطليموس بن دوريمانس: ويسمى بطليموس مقرون أو ماكرون (2مكا10: 12) ويقترح المؤرخ بوليبيوس أن يكون دوريمانس أبو بطليموس هذا هو شخص كان قد ناهض أنطيوخس الكبير، أما بطليموس فهو قائد اقليم بقاع سورية وفينيقية (قارن في مكابيين الثاني 4: 45-47 مع 1مكا 8: 8) وهو واحد من اثنين وسبعين حاكمًا عيّنهم أنطيوخس الرابع في المملكة السلوقية، وكان منلاوس (رئيس الكهنة غير الشرعي) قد وسّطه لدى أنطيوخس بسبب شكاية اليهود عليه، ولكنه في النهاية وُشي به فانتحر بالسمّ (2مكا10: 13) ومن المحتمل أن يكون قد عُيّن محلّ سارون بعد فشله في إخضاع اليهود. وفي مكابيينثان ترد ملاحظة هامة عنه تفيد بأنه رئيس لكل من نقانور وجرجياس، وبالتالي هو الذي أرسلهما للانتقام من يهوذا ورجاله (2مكا 8: 8،9).

نقانور: (اسم يوناني معناه الفاتح) ويرد في مكابيين الثاني أنه ابن “بتروكلس”، وهو أحد القادة المقربين للملك السلوقى، حيث تمتع بلقب: “أول أصدقاء الملك” (2مكا8: 9) وكان يعمل أولًا كمروّض للأفيال المستخدمة في الحروب، أقامه سلوقس واليًا على اليهودية لكي يجرّد ألكيمس من سلطته المدنية (2مكا14: 12) وقد عُرف عنه بغضته الشديدة لليهود وقد بادله اليهود كرها بكره، فقد جدّف في وقت لاحق على الهيكل، ولذلك فعندما هزمه اليهود تعقبوه إلى أن قبضوا عليه وقتلوه ثم علقوا رأسه وذراعه على السور، ثم قطعوا جثته وألقوها للطيور، بل جعلوا الانتصار عليه احتفالا يُقام من عام لعام، ومن بين بوابات الهيكل كانت هناك بوابة نقانور الشهيرة (كما سيأتي).

جرجياس: (اسم يوناني ربما كان مشتقًا من الاسم جورجيوس ومعناه فلاح). وهو القائد العسكري بين القادة الثلاثة، وقد سُمي في (2مكا 10: 14،15 و12: 32-37) أنه حاكم أدوم، وكان الحكام السلوقيون يفضلون ارسال قادة للمناطق الصعبة ممن لهم فيها خبرة. ولربما عُيّن بعد ذلك في مكان بطليموس بعد انتحاره، وقد قاد جرجياس العمليات العسكرية في هذه الموقعة ولكنه هُزم من جيش المكابى كما سيأتي، غير أنه عاد وانتصر في موقعة أخرى في “يمنيا” على يوسف وعزاريا، وهي الواقعة التي أُطلق عليها اصطلاحًا: “نكسة يمنيا”، وكان اليهود يمقتون جرجياس ويسمونه ” الرجل الملعون” أو ” المنافق” (2مكا12: 35). وبينما يركز هذا السفر على “جرجياس” كقائد ماكر، فإن سفر المكابيين الثاني يركز على نيقانور باعتباره شديد الفجور (2مكا 8: 34 و15: 3).

وقد تألّفت حملة القادة الثلاثة على اليهودية من أربعين ألف جندي وسبعة آلاف فارس، وكان الغرض منها هو تدمير اليهودية ومحو هويّتها وجعلها مقاطعة ملكية. ورغم تعجب البعض من هذا الرقم الضخم الذي يواجه به السلوقيون قوة صغيرة من اليهود، إلاّ أن السلوقيين كانوا قد بدأوا يخشون اليهود وقوتهم ويتحسّبون لمفاجآتهم، فقد هُزموا منذ وقت قصير قادة أشداء وقتلوا كثيرين منهم، وبالرجوع إلى حروب داود نجد أنه قضى على أربعين ألفًا من المشاة الأراميين وسبعة آلاف فارس (أخبار الأيام ثان 19: 18) وأسر عشرين ألفًا من القوة الأرامية (أخبار الأيام ثان 17: 4). يضاف إلى ذلك أن هؤلاء القادة الثلاثة كان لديهم أضعاف هذه الأعداد التي اشتركوا بها.

عند سهل عمّاوس عسكر الجيش، وقد أشاع أولئك القادة بأن اليهود لا محالة سوف يُباعون، وعلى التجار والراغبين بالتالي الاستعداد لذلك، فجمع هؤلاء الكثير من المال وهم يمنوّن أنفسهم بتجارة رابحة، ولاشك أن مثل تلك الشائعات كفيلة في حد ذاتها بتثبيط عزائم اليهود، سواء جنودهم أو السكان المحليون، غير أنه اتضح أن الاعداء كانوا متفائلين أكثر من الضروري، وقد ملء الكبر قلوبهم مستخفين باليهود. ويقصد بكلمة: “أغلال” (آية 41): “أولاد”، وذلك حسبما يرد في تاريخ يوسيفوس وفي الترجمات السريانية واللاتينية. ولعله يقصد الغلمان الذين سيسوقون العبيد والإماء، حيث تأتى في ترجمة أخرى “ذوى قيود” أي حاملي القيود. هذا وكان للأدوميين نشاطًا واسعًا في تجارة العبيد.

عمّاوس Emmaus: (اسم عبري معناه الينابيع الحارة) وُيحتمل أن يكون من الاسم العبري “همات” ومعناه “الربيع الحار” وذلك نسبة إلى مياهها الحارة في فصل الربيع، حيث يُعتقد أنها تشفى من بعض الأمراض، وهو نفس ما يقرّره يوسيفوس.

وهي قرية سهلية تقع على بعد 12 كم إلى الشمال الغربي من أورشليم، وقد تحيّر العلماء في تحديد موقعها، والأرجح أنها المكان المسمّى الآن (القبيبة) على مسافة 11 كم شمال غرب أورشليم أيضا، وفي الحفريات التي تمت سنة 1873م تم العثور على منزل قديم يُحتمل أن يكون منزل “كليوباس” المذكور في (لوقا24: 18) حيث بنى الآباء الفرنسيسكان كنيسة على اسمه، ورغم أنها لم تُذكر في الكتاب المقدس سوى مرتين (المكابيين وإنجيل لوقا) إلاّ أنه من المحتمل أن تكون هي ” الموصة” المذكورة في (يشوع 18: 26) وأن كان يشوع يصفها بأنها مدينة وليست قرية.

ويظن البعض أنها قرية عمواس الحالية، بينما رأى آخرون أنها “مستعمرة فاسبسيان، وهو المكان المسمى “كولونيا”، وفي بداية العصر المسيحي كانت ما تزال معروفة بمائها الشافي، وفي القرن الثالث الميلادي كانت تسمى “نيكوبوليس” وكانت مزارًا سياحيًا، ومكان اجتماع للأساقفة، هناك تقابل جيروم مع يوسابيوس القيصري.

وعندما استولى بكيديس على اليهودية سنة 160 ق.م. حصّنها ضمن مدن أخرى، وأخذ أبناء رؤسائها كرهائن أودعهم في القلعة السلوقية، كما وضع في المدينة نفسها جنودا سلوقيين، أساءوا إلى سكانها (1مكا9: 50) وفي النسخة السينائية تُوصف عماوس بأنها على بعد 160 غلوة من أورشليم، وليس ستين فقط (32 كم بدلًا من 12كم). وعندما عسكر السلوقيون عندها في ذلك الوقت، كانت قاعدة جيدة لقوة دفاع ثابتة فيها، تقوم بإغلاق الطرق الساحلية الخارجة من أورشليم.

قوات أرض أدوم وأرض الفلسطينيين:

تأتى “أرض أدوم” في اليونانية وبعض الترجمات الأخرى سورية، ولكنها قُرئت خطأ في الأصل العبري حيث يُظن أنه نطق ” دم dm` ” على أنها ” رم rm` ” (راجع قضاة 3: 8 وصموئيل ثان 8:12 وملوك أول 11: 25 وملوك ثان 16: 6) وأماّ “أرض الفلسطينيين” فتعنى حرفيًا “أرض الأجانب” راجع (1مكا5: 68) وفي المقابل فإن “أرض الأجانب” جاءت في السبعينية بمعنى “أرض الفلسطينيين” وترد كثيرًا في السبعينية على هذا النحو (1مكا4: 22،30  و5: 66). وقد استخدم سفرًا صموئيل كلمة “غرباء” باستمرار في في الاشارة إلى الفلسطينيين، وفي عصر داود سمّى سكان غزة وأشدود وأشقالون أنفسهم بالفلسطينيين، مع أن أكثرهم ليسوا من أصل فلسطيني، وفي العهد الجديد استخدم الرومان اسم فلسطين للمنطقة التي تشمل اليهودية والسامرة والساحل الملاصق والأراضي المجاورة.

هكذا فقد انضمّت إلى الجيوش السلوقية، قوات أخرى وثنيية من سورية والمدن الفلسطينية، ربما من المرتزقة، أو الذين تجندوا من تلك المناطق باعتبارها واقعة تحت سيطرة السلوقيين.

قرر القادة السلوقيون في عماوس مراقبة عدة طرق هامة تصل أورشليم بالسهل الساحلي، وأن يرسلوا قواتا تسد طرق أخرى، كما كانت خصوبة الأرض تضمن لهم مؤنتهم لمدة طويلة، كما اهتم السلوقيون بتأمين الجانب المصري بحيث لا يتحالف البطالمة مع اليهود، ومن هنا فقد أغلقوا المدن الساحلية، بينما كان الأدوميون – أعداء اليهود – يسدّون الطرق الداخلية (5: 65  و2مكا 12: 32-37) ورغم ذلك فقد كان معسكر الأعداء عرضة للهجوم من قوات تتحرك خفية بمحاذاة التلال إلى الجنوب.

وكان استعداد تجار الرقيق للعمل، يشير إلى ثقتهم في تحرّك سريع من قبل القوات السلوقية على أكثر من محور لتتحد مع مناصريهم في قلعة عكرة بأورشليم لتحقيق أهدافها، ولعل ذلك من بين الأسباب التي دفعت يهوذا المكابي إلى المبادرة بالهجوم، رغم أن قواته الصغيرة لا تستطيع تأمين جميع الطرق ضد الأعداء، غير أنه كان بإمكانه التحرّك إلى المرتفعات جنوب عماوس لمراقبة أية تحركات للمعسكر السلوقي على طول الطرق الشمالية إلى أورشليم وكذلك أي تحرّك على الطرق الجنوبية، كما كان يمكن ليهوذا الانسحاب متى استدعى الأمر إلى التلال التي له فيها أنصار، كذلك فإن قرب اليهود من معسكر السلوقيين جعل جرجياس ونقانور يترددان في تقسيم قواتهما وتخفيض القوة الرئيسية في عمّاوس، وهكذا فإن تسرّع جرجياس حلّ مشكلة يهوذا ومهد له الطريق لإبادة الحملة كلها

وهكذا أدرك يهوذا وجنوده أن الأمر يتخطى قدرتهم، وبالتالي فقد التجأوا إلى الله بالصلاة واستمدّوا قوتهم من شعورهم بأنهم يقاتلون عن الهيكل وعن اخوتهم، راجع (صموئيل ثان 10: 12 وأخبار الأيام الأول 19: 13) وطلبوا أن يترأف الله بهم، فقد كان الخراب والدمار آتٍ ليطل بوجهه على اليهودية كافة. وعن انهاض الهمم في الآية 43 نجد صدى لما ورد في: (عاموس 9: 11) بينما تشير القطعة الشعرية في (الآية 45) إلى مستوى الذل والاحباط الذي كان اليهود يشعرون به في تلك السنوات من تاريخهم، إذ تجاوزت المرارة حلوقهم. وربما نجد في هذه الآية صدى لنبوات (إشعياء 24) فبعد فترة من الارتداد (24: 5) تُترك المدينة في حالة من الخراب والدمار (24: 6-13) وبعد ذلك يرفع الناس أصواتهم إلى الله (24: 14-16) فيحقق لهم الله نصرا يُفزع الأعداء (17: 23) وهكذا يمكن للمطّلعين على النبوات في ذلك الوقت أن يتوقعوا ذلك النصر الذي حققه المكابيون، راجع أيضًا (أشعياء 63: 18). أُنظر خريطة رقم (4).

اجتماع اليهود في المصفاة

مكابيين ثان 8: 16-23

46فاجتمعوا وأتوا إلى المصفاة، قبالة أورشليم، لأن المصفاة كانت من قبل مكان صلاة لإسرائيل. 47وصاموا في ذلك اليوم وتحزموا بالمسوح وحثوا الرماد على رؤوسهم ومزقوا ثيابهم.48ونشروا كتاب الشريعة ليطلعوا على ما كانت الأمم تستطلع في شأنه صور أصنامها. 49وأتوا بثياب الكهنوت وبالبواكير والعشور، ثم أحضروا النذراء الذين قد استوفوا أيامهم. 50ورفعوا أصواتهم إلى السماء قائلين: “ماذا نصنع بهؤلاء وإلى أين نذهب بهم؟ 51فإن أقداسك قد ديست ودنست وكهنتك في الحزن والمذلة. 52وها إن الأمم قد اجتمعت علينا لتبيدنا، وأنت عليم بما تتآمر به علينا. 53فكيف نستطيع الثبات أمامها، إن لم تكن أنت في نصرتنا؟” 54ثم نفخوا في الأبواق وصرخوا بصوت عظيم.


 

المصفاة Mizipah: (كلمة عبرية معناها برج المراقبة) وعند تقسيم الأرض وقعت في الجزء الشمالي من نصيب بنيامين (يشوع 18: 26) ووردت في السفر هنا باسم “حيلام” (5: 35) ويجب التفريق بينها وبين المصفاه التي تترجم أحيانا “سكوبيا” والتي مكانها الآن “تل النصبة” أو “شعفات” على مسافة 13 كم، وربما يكون مكان المصفاة التي نحن بصددها الآن قرية “النبي صموئيل” على مسافة حوالي عشرة كيلومترات شمال غرب أورشليم، حيث تأكّد ذلك من الحفريات التي تمت هناك سنة 1897م وكذلك في الفترة من 1935 – 1946م. وهو المكان الذي يمكن من خلاله رؤية أورشليم ومراقبة الطرق الآتية من الغرب، أما قرية “النبي صموئيل” فهي أقرب إلى عماوس، لأن تل النصبة لا يمكن مشاهدة أورشليم منه.

     وكانت المصفاه مكان اجتماع اليهود للصلاة والتشاور (قضاة 20: 1 وصموئيل أول 7: 5 و10: 17) وعندما كانت في أيدي السلوقيين هاجمها يهوذا المكابى وأحرقها وسلب غنائمها وأحرقها بالنار (1مكا 5: 35).

وقد ارتبط الصوم وارتداء المسوح وما يصاحب ذلك من حثو الرماد على الرؤوس وتمزيق الثياب، بالضيقات التي تلمّ باليهود بين وقت وآخر والمسوح: هو لباس من الشعر أو وبر الإبل، يرتديه الإنسان على جسده مباشرة، على سبيل اذلال الجسد، أو ينام فوقه أو يرتديه كرداء، وأحيانا كان يستخدم في شكل مجرد “شارة حداد” وأحيانا كمنطقة على الحقوين حيث كان يسمى ذلك “زنار المسح” (ملوك أول 20: 31،32 وإشعياء 3: 24 و20: 2) وقد شمل لبس المسوح كحداد في بعض الأوقات: النساء والأطفال والشيوخ بل والمذبح أيضا، كما حدث في أيام يهوديت، كما استخدم في حالات الوفاة، وُوضع ذات مرة فوق الحيوانات كما حدث في نينوى (يونان 3: 8) وأحيانا عند الندم والتوبة.

تمزيق الثياب: وهو اجراء أو سلوك يصاحب المسوح غالبًا في الحالات الُمشار إليها، فقد مزق رأوبين ثيابه عندما فقد يوسف، وكذلك فعل يعقوب أبيهما (تكوين37: 29،34) وكذلك أخوة يوسف عند اكتشاف سرقة الكأس، وإليشع عند صعود إيليا وأيوب عند فقدانه لممتلكاته وداود عند مقتل شاول، وكذلك فعل حزقيا عند سماعه تهديدات سنحاريب الأشوري (ملوك ثان 19: 1). هكذا يجيىء تمزيق الثياب ولبس المسوح استدرارًا لمراحم الرب ورأفاته.

استشارة الله (آية 48): في ذلك الوقت لم يكن هناك أنبياء يتنبأون للشعب، على غرار ما كان يحدث في عصر الأنبياء الكبار والصغار، ومن ثم فقد عاد الشعب هنا إلى الطرق القديمة، مثل الجلوس تحت شجرة الصفصاف أو النخلة حيث كانت دبورة النبية تقضى للشعب (قضاة 4: 5)، فقد كانوا يراقبون حركة أوراق الشجر ليقرروا بالتالي ماذا يصنعون، حيث تُعطى الحركه علامة للإيجاب أو النفي، أو من خلال “الأوريم والتميم” المثبت على صدره رئيس الكهنة، أو الأحلام والرؤى، ثم ظهور الله لبعضهم أو التكلم فمًا لأذن معهم.

أماّ هنا فقد اتبعوا طريقة مختلفة، وهي فتح كتاب الشريعة على أي مكان ليقرأوا ماذا يقول الرب، فتكون تلك هي رسالة الرب لهم أو قراره بخصوص ما يشغلهم، وتشير الآية إلى أن هذه الطريقة كانت متبعة لدى بعض الشعوب الوثنية التي حولهم “على ما كانت الأمم تستطلع في شأنه صور أصنامها” بمعنى أن يتخيلوا هل يبتسم الصنم قدامهم أم يعبس، هل ينعكس الضوء عنه في اتجاه ما دون غيره.! وربما تكون هذه العادة قد انتشرت بين الشعوب في المنطقة في ذلك الوقت، وقد أوجد اليهود طريقة مقابلة لها من خلال أسفار الشريعة حتى لا يضلّ الشعب(8)، راجع في ذلك (2مكا8: 23).

والآن لنا في كلمة الله المزخر فيها كل حكمة وتعزية، ما نحتاج إليه، فالله بعدما كلم الآباء بالانبياء قديمًا بانواع وطرق كثيرة كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه (عبرانيين 1: 1،2). وعند الحاجة إلى اتخاذ قرار سليم يمكن اتباع الآتي:

1-    الصلاة بتسليم حتى يهب الله حكمة للإنسان يسلك موجبها.

2-  دراسة الأمر دراسة موضوعية شمولية محايدة.

3- استشارة من يثق بهم ولهم خبرة في المجال ذات العلاقة.

    أما المفسرين فقد رأوا أن الوثنيين في ذلك الوقت حاولوا اثبات أن عباداتهم موجودة في التوراة (تنتمي إلى ديانة إسرائيل) ولكن العهد القديم يشير في أكثر ن موضع إلى انحراف الشعب إلى عبادات غريبة، عاتبهم الله عليها وعاقبهم بسببها أكثر من مرة.

(الآيات 49 – 54):

هذه الخطوات تعبر عن توقف العبادة وعدم قدرة الشعب على مواصلة حياتهم الليتورجية، في ظل الظروف السياسية المحيطة والتي افضت إلى توقف الذبيحة والخدمات كلها، وكانت ثياب الكهنوت تستخدم في الخدمة في هيكل أورشليم فقط (خروج 28: 40-43 و 39: 1). وها هم يرغبون في اتمام الوصايا وتقديم الذبائح وإتمام طقس النذيرين الذين استوفوا أيام نذرهم، حيث أن ذبائحهم الإجبارية وذبائح السلامة والخطية كانت تُقدم في الهيكل فقط (سفر العدد 6: 13-20).

فقد كان من الممكن الاحتفاظ – لمدة طويلة – بالبكور والعشور التي لا تتلف سريعا، ولكنه وطبقا لتفسير الربيين ل (تثنية 26: 12،13) كان يجب نقلها من مكان مقدمها إلى أورشليم بحلول الفصح في السنة الثالثة أو السادسة من الدورة السبتية، ولعل ذلك يؤكد لنا أن سنة حملة جرجياس ونيقانور (165/164 ق.م.) كانت السنة السادسة من الدورة السبتية، وأن السنة (164/163ق.م.) كانت سنة سبتية، راجع التعليق على (6: 20) ومع ذلك لا نستطيع أن نحدد وقت الحملة بأنه قرب الفصح، لأنه طالما كانت أورشليم مغلقة أمام الأتقياء فإنهم بالتالي لا يستطيعون نقل المحاصيل التي تحوّلت إلى مقدسات (عشور وبكور) إليها، ومن هنا كانت حيرتهم: ماذا يفعلون بها.؟ ولا نعرف بالضبط كيف كانوا في ذلك الوقت يفسرون (تثنية 26: 12،13).

 أمّا بواكير الحيوانات الطاهرة، وهي تقدمات اجبارية تقدم في الهيكل (خروج 13:12-15 وسفر العدد 18: 17 وتثنية 12: 6-18 و14: 23 و15: 19،20) وبكور الثمار (خروج 34: 22-26 ولاويين 23: 17-20). كما شملت ” العشور الالزامية”: عشور الماشية، وكان يمكن احضار “الُعشر الثاني” فقط إلى الهيكل (لاويين 27: 32،33 وتثنية 12: 6- 18 و14: 23).

كان ذلك تجسيد لحالة البؤس التي كانوا عليها، وهم يصرخون إلى الله لعله يترأف عليهم وعلى هيكله، فقد قام عليهم الأمم لابادتهم، وهو ما نرى فيه صدى لقصة حزقيا الملك وسنحاريب الأشوري (ملوك ثان 18: 25 و19: 27 وإشعياء 36: 10 و37: 28) قارن مع (إرميا 18: 23).

وأما النفخ في الأبواق هنا فيفهم منه أنهم أتموا هذه الطقوس في المصفاه وعلى مرمى البصر من القدس والذي كان محظور عليهم دخوله، وإن كانوا على وشك أن يستردّوه (سفر العدد 10: 9)، وهكذا قام يهوذا والشعب بتأدية هذه الشعائر بدقة وشوق ولهفة، وذلك وسط مشهد محزن ومثير للعواطف.

     وقد حاول التقاة قبل ذلك الاستشهاد دون مقاومة (2: 28-38) لاستثارة الله للانتقام لهم من أعدائهم، راجع (تثنية 32: 36) أمّا هنا فإنهم يكتفون باظهار الضعف والعجز لاستدرار عطف الله ومعونته(9).

 يهوذا يجهّز الجيش

55 وبعد ذلك أقام يهوذا قواد الشعب، رؤساء الألف والمئة والخمسين والعشرة، 56وأمر من أخذ في بناء بيت، أو خطب امرأة أو غرس كرمًا، أو كان خائفا. بأن يرجع إلى بيته، بحسب ما ورد في الشريعة. 57ثم سار الجيش وعسكر بجنوب عمّاوس 58فقال يهوذا: “تجهزوا وكونوا ذوى بأس وتأهبوا للغد لمقاتلة هذه الأمم المجتمعة علينا لتبيدنا نحن وأقداسنا، 59 فلأن نموت في القتال خير لنا من أن نعاين الشر في قومنا وأقداسنا وكما تكون مشيئته في السماء، فليصنع”.

 

يعود بنا يهوذا المكابى إلى المنهج الكتابي بخصوص تنظيم الجيوش في إسرائيل القديمة، وأول ذكر لمثل هذه التقاسيم جاء في نظام القضاء لا في الحرب، حين عيّن موسى النبي رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات، عملًا بنصيحة حميه يثرون (خروج 18: 21) حتى يسهل قيادة الشعب وقضاء حاجاتهم (تثنية 1: 15) حيث يؤكد ذلك “لا مركزية” موسى في الحكم. وفي سفر العدد نقرأ عن وجود هذا النظام في الجيش “ثم تقدم إلى موسى ضباط ألوف الجيش أي رؤساء الألوف ورؤساء المئات” (سفر العدد 31: 48). وفي وقت لاحق نجد ذلك مع داود عند حربه مع أبشالوم (صموئيل ثان 18: 1). هذا وقد وُجد هذا النظام في “كتاب الحرب” الخاص بالأسينيين سكان مغائر قمران. كما كان هذا النظام معمولًا به على نطاق واسع في العالم اليوناني القديم.

ثم يتبع المكابى التقليد الكتابي أيضًا في اعفاء كل من له ظروف خاصة، وربما كان السبب أصلًا هو منع شخص آخر من الزواج بزوجة الجندي أو الاستمتاع بباكورة العنب، أو سكنى البيت الجديد الخاص بذلك الجندي، فتتاح من ثم الفرصة للجندي الحديث هذا بالاستمتاع بمثل ذلك ليؤجل تجنيده إلى وقت آخر (تثنية 20: 5 – 9) ومن جهة أخرى يُخشى أن يضعف قلبه في الجهاد في الميدان بسبب ذلك، وبالتالي تضعف قلوب من حوله من الجنود بسببه. هكذا أعفى يهوذا المكابى كل خائف وكل مشغول ببناء بيت، ومن خطب فتاه وعلى وشك الزواج منها، أو من غرس كرمًا وأوشك أن يجنى أول ثماره. ورغم قلة العدد بالأكثر نتيجة لهذه التصفيات، فإن ذلك سيؤكد أن النصر ليس بسبب قوة الجيش وكثرة أفراده، وانما إلى معونة الرب إذ أنها حرب مقدسة (راجع قضاه 7: 3).

وأتى يهوذا بالجيش إلى جنوب “عماوس” في الجهة المقابلة لمعسكر السلوقيين، وقد كان موقع السلوقيين بالضبط على مسافة 15 ميلا شمال غرب أورشليم (ربما عمواس الحالية) بينما يرى البعض أنها “القبيبة” الآن، على بعد 8 أميال شمال شرق أورشليم، مما يتفق مع مسافة الستين غلوة المذكورة في (لوقا 24: 13). ثم وعظهم وأكّد عليهم من جديد أنها حرب للرب فإمّا أن يموتوا واقفين وإما أن يعيشوا راكعين وأقداسهم مدوسة (10)، ” وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا” (صموئيل الأول 17: 47). ثم يختم بعبارة لها نظير في الصلاة الربانية “وكما تكون مشيئته في السماء فليصنع” وهي تقابل “كما في السماء كذلك على الأرض”.

_____

(1) قام العالم “بورنى C. FBurney” بإعادة صياغة القطعة النثر الواردة في الأعداد (3 – 9) في شكل قصيدة وذلك في عام 1919 – 1920م.

(2) هناك مقابلات كثيرة خلال السفرين ما بين داود النبي ويهوذا المكابي، سواء من خلال استخدام التعبيرات أو رواية الأحداث، كما سنرى.

(3)  موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية/ د. عبد الوهاب المسيرى/ ج4. ص339.

(4) حيث لم يُتهم السامريين أنفسهم خلال السفرين بأنهم ساندوا السلوقيين في حروبهم، ولا يتهمهم يوسيفوس  إلاّ بانكار قرابتهم لليهود (12: 5 – 5 – 257)، أمّا سكنى الوثنيين في السامرة فيظهر لنا من خلال ” بردية السامرة ” . راجع يوناثان جولدشتاين – مكابيين أول / ص 246.

(5) يشكك البعض في تقلد سارون لهذا المنصب، ويرون أنه مجرد قائد لوحدة عسكرية سورية ) المؤسسات السلوقية  Bickerman, p.64-65. ).

(6) يرى بعض المؤرخين أن أرساكيس “ميتريداتس الأول” ملك برثية لم يكن مصدر خطر حقيقي في ذلك الوقت، وانما بعد أنطيوخس الرابع بكثير، أمّا الذي حارب البرثيين فهو أنطيوخس السابع، وضعفت مقدونية بموته، ومن ثمّ قيام الملوك اليهود، ولم يتدخل أنطيوخس السابع في ديانة اليهود، حسبما يورِد يوسيفوس.

(7) لمزيد من التفاصيل عن حقوق ولي العهد وعلاقته بالملك الحي، راجع:

 Jonathan A. Goldstien, p. 252-254

(8) ما تزال مثل هذه الطرق منتشرة بين البسطاء من الناس، حين يفتحون الكتاب المقدس بشكل عفوى للحصول على رأى الله، أو قراءة الفنجان والودع وغيرها وهي طرق خاطئة بلا شك.

(9) انظر: (لاويين 26: 40-45 وتثنية 26: 7،8 و30: 1-10 وقضاة 2: 15-18 و صموئيل أول 7: 2-14 وملوك أول 14: 25 27) وجميعها نصوص تؤكد حتمية تدخل الله متى اتضع عبيده قدامه.

(10) مرة أخرى يقابل السفر هنا بين داود ويهوذا المكابي، انظر (صموئيل ثان 10: 12 وأخبار الأيام الأول 19: 13).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى