تفسير سفر صموئيل الاول ١٧ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح السابع عشر
داود وجليات

اشتاق الشعب إلى ملك طويل القامة قوي البنية جميل المظهر كسائر ملوك الأمم، والآن يقف هذا الملك مع رجاله في خوف ورعدة أمام جُليات الجبار، ليتمجد الله بداود القصير القامة الذي لا يعرف كيف يستخدم العدة الحربية بل مقلاع الكلاب… لقد غلب لا بسيف ورمح وإنما باسم رب الجنود.

ربط الأصحاحين 16، 17 معًا:

توجد بعض الصعوبات – في ذهن بعض النقاد – في ربط الأحداث الواردة في الأصحاحين 16، 17 معًا، إذ يتساءل البعض: كيف تعرّف شاول على داود كموسيقار وجبار بأس ورجل حرب (16: 18)، ثم يعود لا يعرفه عندما تقدم لمبارزة جليات؟ كيف كان حاملاً سلاح لشاول (16: 21)، ليعود فلا يقدر أن يلبس الثياب العسكرية [38- 39]؟ كيف كان أبنير رئيس جيش شاول يجهل داود [55-58]؟

يُرد على ذلك:

أ. بأن داود قد أستدعى كصبي موسيقار، فكان يضرب الموسيقى ليستريح شاول، وعندما شُفي الملك رجع الصبي إلى بيت أبيه يرعى الغنم لسنوات حتى صار شابًا. لهذا لا نعجب إن كان شاول يسأل عنه كمن لا يعرفه، خاصة أنه صار في موقف حرج أمام جليات وقد وعد أن يصاهره من يبارز هذه الجبار.

ب. نسيان شاول أمر طبيعي بالنسبة لمرضه العقلي.

ج. جهل أبنير لشخصه داود أمر طبيعي، فبكونه رئيس جيش لم يعطِ اعتبارًا لصبي موسيقار تردد منذ سنوات على قصر شاول لعمل خاص بالملك.

د. دعوة داود رجل بأس ورجل حرب وهو صبي ربما لأنه قتل الأسد والدب، وقد ظهرت علامات القوة عليه في صبوته.

هـ. قَبِله شاول كحارس له إلى حين في فترة ضربه للموسيقى، ربما تدرب على استخدام السيف لكنه لم يتدرب على ارتداء الحلة العسكرية لذا وجد صعوبة بل استحالة في استخدامها عند مبارزته لجليات.

 

جليات يُرعب شاول      [1-15].

وقف الفلسطينيون على جبل للحرب عند سوكوه وعزيقة في أفس دميم بينما وقف شاول ورجاله على جبل آخر للحرب يفصل بينهم وادي البطم [1-3]. وكان جليات يخرج كمبارز يُعيّر شاول ورجاله طالبًا واحدًا منهم يبارزه.

سوكوه” أو “سوكو” أو “شوكوه”، كلمة عبرية تعني “سياج شوك”. اسم مكانين يدعيان حالاً “خربة الشويكة”. الأول على بعد حوالي 9 أميال من بيت جبرين وحوالي 14 ميلاً جنوب غرب أورشليم، ورد اسمه مع عزيقة وأفس دميم شمال وادي البطم أو وادي السنط حاليًا. هذا المكان ينحني مع وادي الشور إلى الغرب ليصير اسمه وادي السنط. أما الموضع الآخر الذي يحمل ذات الاسم فيقع على بعد حوالي 10 أميال جنوب غرب حبرون، وهي مدينة في يهوذا أيضًا.

عزيقة” اسم عبري معناه “الأرض المعزوقة أو المحروثة”، بالقرب من سوكوه، طرد يشوع إليها الملوك الذين هاجموا جبعون (يش 10: 10-11) حيث أهلك الرب جيوشهم بحجارة (برد) عظيمة من السماء. استمرت حتى بعد السبي (نح 11: 30)، تدعى حاليًا تل زكريا.

أفس دميم” أو “فس دميم” (1 أي 11: 13)، كلمة عبرية معناها: “حد (تخم) من الدم”، ربما أخذت هذا الاسم بسبب الصراع بين الفلسطينيين وبني إسرائيل في هذا الموقع. تدعى حاليًا “بيت فصد (نزيف)”[134]. يرى البعض أن موضعها غالبًا الخرب التي تسمى دموم على بعد أربعة أميال شمال شرقي سوكوه.

وقف الفريقان على جبال (أشبه بتلال) بينها وادٍ فيه مزروعات وأشجار السنط، حيث كان جليات البالغ طوله 6 أذرع (الذرع العبري نحو قدم ونصف) وشبر، أي حوالي    9 قدمًا يلبس على رأسه خوذه من نحاس، وكان يرتدي درعًا حرشفيًا أي قميصًا عليه قطعًا نحاسية كحراشيف السمك، وزنه حوالي 33 رطلاً؛ وجرموقا (درعين لحماية الساقين) من النحاس. وكان معه مزراق نحاس (رمح قصير) بين كتفيه… اعتاد أن يقف مطالبًا من يبارزه قائلاً: “اختاروا لأنفسكم رجلاً ولينزل إليّ. فإن قدر أن يحاربني ويقتلني نصير لكم عبيدًا، وإن قدرت أنا عليه وقتلته تصيرون أنتم لنا عبيدًا وتخدموننا”. كما كان يهزأ بهم قائلاً: “أنا عيرت صفوف إسرائيل هذا اليوم؛ أعطوني رجلاً فنتحارب معًا”… وكان ذلك مصدر رعب شديد وخوف بالنسبة لشاول ورجاله.

يرى البعض أن جليات اتخذ هذا الموقف لحل مشكلة قائمة بين الجيشين هي وجود ساقية في الوادي بينهما، فإنه إذ نزل جيش إليها ليعبر إلى الجيش الآخر يصير في مكان أدنى ويمكن للجيش المرتفع على الجبل أن يكسره بسهولة، لذا كان الجيشان يخافان النزول، هذا ما جعل جليات يطلب المبارزة الشخصية معه عوض نزول أحد الجيشين للعبور نحو الآخر.

بقى الحال هكذا لمدة أربعين يومًا يمارس جليات هذا التصرف صباحًا ومساءً حتى جاء داود بن يسى يفتقد إخوته الثلاثة الكبار اليآب وأبيناداب وشمَّه الذين تبعوا شاول ليحاربوا معه.

 

داود يفتقد إخوته     [16-25].

قدم لنا قيصريوس أسقف Arles تفسيرًا رمزيًا لقصة داود وجليات عن القديس أغسطينوس، جاء فيه:

[عندما أرسل (يسى) ابنه داود لينظر إخوته، يبدو أنه كان رمزًا لله الآب. أرسل يسى داود يبحث عن إخوته، وأرسل الله ابنه الوحيد الذي قيل عنه: “أخبر باسمك إخوتي” (مز 22 (21): 23). بالحقيقة جاء المسيح يبحث عن إخوته، إذ قال: “لم أُرسل إلا إلى خراف إسرائيل الضالة” (مت 15: 24).

“فقال يسى لداود ابنه: خذ لإخوتك إيفة من هذا الفريك وهذه العشر الخبزات واركض إلى المحلة إلى اخوتك” [17]. الإيفة يا إخوة هي ثلاث كيلات؛ في هذه الكيلات الثلاث نفهم سر الثالوث. لقد عرف إبراهيم هذا السر جيدًا عندما تأهل لإدراك سر الثالوث في الثلاثة أشخاص تحت شجرة البطمة بممرا فأمر أن يُعجن ثلاث كيلات دقيق (تك 18: 6). إنها ثلاث كيلات، لذلك أعطى يسى ذات الكمية لابنه. وفي العشر قطع من الجبن ندرك الوصايا العشر للعهد القديم. هكذا جاء داود ومعه الثلاث كيلات والعشر قطع من الجبن ليفتقد إخوته الذين كانوا في المعركة، إذ كان المسيح قادمًا بوصايا الناموس العشر وسر الثالوث ليحرر الجنس البشري من الشيطان[135]].

 

داود يقتل جليات     [26-54].

جاء داود يفتقد إخوته من أبيه وأمه بالفريك والخبز والجبن، لكنه إذ رأى إخوته – شعب الله – في مأزق يعيرهم رجل أغلف بدأ يتساءل: “ماذا يُفعل للرجل الذي يقتل ذلك الفلسطيني ويزيل العار عن إسرائيل؟! لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يعير صفوف الله الحيّ؟!” [26]. وإذ سمع أخوه الأكبر اليآب حمى غضبه عليه قائلاً له: “لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة في البرية؟ أنا علمت كبرياءك وشر قلبك، لأنك إنما نزلت لكي ترى الحرب” [28]. وجاءت إجابة داود بسيطة ومملوءة حكمة: “ماذا عملتُ الآن؟ أما هو الكلام؟!”. لم يدخل معه في جدال، لأنه رجل إيمان لا يحب كثرة الجدال بل العمل. إنه وقت للعمل!

يقول القديس أغسطينوس: [الآن، إذ جاء داود انتهره أحد إخوته قائلاً: “لماذا نزلت؟ وعلى من تركت تلك الغنيمات القليلة؟” [28]. وبخ هذا الأخ حاسدًا داود رمز ربنا، متمثلاً بالشعب اليهودي الذي افترى على المسيح الرب. مع أنه جاء لخلاص الجنس البشري، إذ أهانوه باتهامات كثيرة: “لماذا تركت الغنم ونزلت إلى المعركة؟”. ألا تحسب هذا ما نطق به الشيطان بشفتيه، حاسدًا خلاص البشر؟ أليس كمن يقول للمسيح: “لماذا تركت التسعة وتسعين خروفًا وأتيت تطلب الخروف الواحد المفقود لترده إلى حظيرة الغنم بعدما حررته بعصا الصليب من يد جليات الروحي، أي من قوة الشيطان؟ لماذا تركت هذه الغنيمات القليلة؟ لقد نطق بالصدق لكن بروح شرير متعجرف. لقد أراد يسوع أن يترك التسعة والتسعين خروفًا لكي ينشد الواحد ويرده إلى حظيرته، أي إلى صحبة الملائكة.

عندما مُسح داود بواسطة الطوباوي صموئيل قبل مجيئه إلى هنا قتل أسدًا ودبًا بغير أسلحة، كما أخبر الملك شاول بنفسه. الأسد والدب يشير كلاهما إلى الشيطان، إذ تجاسر على الهجوم ضد بعض من غنم داود فخنقتهما بقوته. ما نقرأه إنما هو رمز أيها الأعزاء المحبوبون؛ ما رُمز به بداود تحقق في ربنا يسوع المسيح، الذي خنق الأسد والدب عندما نزل إلى الجحيم ليحرر كل القديسين من مخالبهما. أنصتوا إلى توسّل النبي إلى شخص ربنا: “أَنْقِذ من السيف نفسي، وأنا وحيد في فك الكلب. خَلَّصْني من فم الأسد” (راجع مز 21 (22): 20، 21).

إذ يحمل الدب قوته في مخالبه والأسد في فمه، هكذا يُرمز للشيطان بهذين الوحشين. لذا قيل عن شخص المسيح إنه ينزع كنيسته الوحيدة من اليد، أي من قوة الشيطان وفمه.

إذ جاء داود وجد الشعب اليهودي حالاًّ في وادي البطم Terebinth لمحاربة الفلسطينيين، لأن المسيح – داود الحقيقي – كان يجب أن يأتي كي يرفع الجنس البشري من وادي الخطية والدموع. لقد وقفوا في الوادي في مواجهة أمام الفلسطينيين. كانوا في وادٍ، لأن ثقل خطاياهم أنزلهم إلى تحت. على أي الأحوال، كنوا واقفين غير متجاسرين على محاربة الأعداء. لماذا لم يجسروا على ذلك، لأن داود رمز المسيح لم يكن قد جاء بعد. هذا حق أيها الأعزاء الأحباء. من يقدر أن يحارب الشيطان قبل أن يحرر ربنا المسيح الجنس البشري من سلطانه؟ الآن كلمة “داود” تعني “كقوي في اليد”. من هو أقوى يا إخوة من ذاك الذي غلب العالم كله متسلحًا بالصليب وليس بسيف؟!.

وقف أبناء إسرائيل 40 يومًا ضد الأعداء؛ هذه الأربعين يومًا تشير إلى الحياة الحاضرة التي فيها لا يكف المسيحيون عن الحرب ضد جليات وجيشه، أي ضد الشيطان وملائكته [رقم 4 تشير إلى الفصول الأربعة للعام، 10 إلى كمال الزمن].

من المستحيل لنا أن نغلب إن كان المسيح – داود الحقيق – لم ينزل بعصاه التي هي سر الصليب. حقًا لقد كان الشيطان حرًا قبل مجيء المسيح أيها الأعزاء المحبوبون، لكن بمجيئه تحقق ما ورد في الإنجيل أنه لا يستطيع أحد أن يدخل بيت القوي وينهب أمتعته إن لم يربط القوي أولاً (مت 12: 29). لهذا الهدف جاء المسيح وربط الشيطان.

ربما يقول أحد: إن كان قد رُبط فلماذا لا يزال للشيطان سلطان؟

بالحقيقة أيها الإخوة الأعزاء له سلطان عظيم لكن على اتباعه الفاترين المهملين، الذين لا يخافون الله بالحق. إنه مربوط ككلب في سلاسل، لا يقدر أن يعض أحدًا إلا النفس التي ترتبط به بإرادتها، باعتمادها على الأنا وهو أمر خطير. الآن ترون يا إخوة أي غباء أن يُعضَّ إنسان من ذاك الذي هو في مركز كلب مربوط بسلاسل. لا ترافق (الشيطان) بملذات العالم وأهوائه فلا يجسر أن يعضك. يستطيع أن ينبح ويقلقك لكنه يعجز تمامًا عن أن يعضك ما لم تُرِد أنت ذلك. إنه لا يؤذيك قسرًا إنما بإغرائك، إنه لا يسلبنا رضانا إنما يطلب ذلك.

جاء داود ووجد الشعب يحارب ضد الفلسطينيين. لم يوجد من يجسر أن يدخل إلى المعركة بمفرده. ذهب رمز المسيح (داود) إلى المعركة يحمل عصا في يده ضد جليات. بهذا أشار بالتأكيد إلى ما قد تحقق في ربنا يسوع المسيح – داود الحقيقي – إذ جاء وحمل صليبه ليحارب جليات الروحي، أي الشيطان.

لاحظوا يا إخوة أين ضرب داود الطوباوي جليات: في جبهته [49] حيث لم توجد عليها علامة الصليب. كما أن العصا رمزت إلى الصليب هكذا الحجر الذي ضُرب به جليات يرمز إلى ربنا يسوع، لأنه هو الحجر الحيّ الذي كُتب عنه: “الحجر الذي رفضه البناؤون هذا صار رأسًا للزاوية” (مز 117: 22).

وقف داود على جليات وقتله إياه بدون سيف إنما استخدم سيف جليات نفسه هذا يشير إلى أنه عند مجيء المسيح يُهزم الشيطان بذات سيفه. حقًا إن الشيطان بمكره وظلمه الذي أجراه ضد المسيح فقد سلطانه على كل المؤمنين بالمسيح.

وضع داود أدوات جليات في خيمته، ونحن كُنا أداة في يد الشيطان، لذلك يقول الرسول: “لأنه كما قدمتم أعضاءكم عبيدًا للنجاسة والإثم للإثم، هكذا الآن قدموا أعضائكم عبيدًا للبر للقداسة” (رو 6: 19). وأيضًا: “ولا تقدموا أعضائكم آلات إثم للخطية” (رو 6: 13). حقًا لقد وضع المسيح أدوات عدوه في خيمته عندما استحققنا نحن الذين كنا مسكنًا للشيطان أن نصير هيكلاً للمسيح، وهو يسكن فينا. يؤكد الرسول أن المسيح يسكن في داخلنا بقوله: “ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم” (أف 3: 16-17). يكرر بولس الرسول نفسه أننا نسكن في المسيح بقوله: “لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غلا 3: 27). ويقول ربنا يسوع لتلاميذه في الإنجيل: “إني أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم” (يو 14: 2).

حقيقة إصابة جليات في جبهته دون أي عضو آخر يرمز إلى أمر يحدث لنا. عندما يُرشم طالب العماد على جبهته يكون ذلك بمثابة ضربة لجليات الروحي، هزيمة للشيطان. يحمل على جبهته مسحة الروح، وكأنه قد وُسم بالعبارة “قدس للرب”، خلالها يتمتع بنعم السيد المسيح التي تقدس الفكر (الجبهة) كمدخل لحياة الإنسان الداخلية.

خلال نعم المسيح يُطرد الشيطان من قلوبنا، لذا نحاول قدر المستطاع بمعونته ألا نقبل الشيطان في داخلنا مرة أخرى بإرادتنا، بأعمالنا الشريرة وأفكارنا الماكرة الفاسقة. لأنه في هذه الحالة (إن قبلناه) يتحقق فينا المكتوب… “إذ خرج الروح النجس من الإنسان يجتاز في أماكن ليس فيها ماء يطلب راحة ولا يجد. ثم يقول: أرجع إلى بيتي الذي خرجت منه. فيأتي ويجده فارغًا مكنوسًا مزينًا. ثم يذهب ويأخذ معه سبعة أرواح أخر أشر منه فتدخل وتسكن هناك، فتصير أواخر ذلك الإنسان أشر من أوائله. هكذا يكون أيضًا لهذا الجيل الشرير” (مت 12: 43-45).

الآن، مادمنا بنعمة المعمودية قد تخلصنا من كل الشرور بدون استحقاق سابق من جانبنا، فلنجاهد بمعونة الرب كي نمتلئ بالبركات الروحية. كلما أراد الشيطان أن يجرنا يجدنا دومًا مملُوئين من الروح القدس ومرتبطين بأعمال صالحة، بهذا يتحقق فينا القول: “من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص” (مت 10: 22)[136].

لقد وقف البطلان وجهًا لوجه، أحدهما رجل حرب، جبار، قوي، يعتمد على قدرته البشرية وخبرته السابقة ومعداته الحربية؛ والآخر فتى لم يسبق له الدخول في حرب مع الأعداء، لا يملك سوى عصا ومقلاع وخمسة حجارة مُلس أخذها من الوادي لكن كان لديه إيمان جبار يستطيع به أن يهزم كل عدو. قام الصراع بينهما ليتحطم الأول ويُقتل بينما يغلب الآخر ويتمجد.

سر هزيمة جليات أنه لم يدرك أن به نقطة ضعف لم يكن ممكنًا له أن يتلافاها، وهي أن جبهته مكشوفة، وكأن كل إمكانيته بشرية مهما أُحكم تدبيرها تجد فيها ثغرةً تُؤدي إلى فشلها.

لم يدرك جليات أنه وإن كان السيف والرمح لا يقدران أن يحطماه، لكن مقلاع الكلاب يستطيع أن يهز كل كيانه!

لم يعرف جليات أن لكبريائه نهائية، فقد وقف 40 يومًا يُعيِّر رب الجنود، لكن الله أعد فتى صغيرًا ينهي كبرياء الجبار ويُذله… هذا ما يتكرر عبر الأجيال، كل متشامخ ظن أنه قادر أن يُحطم الكنيسة ويمحوها من الوجود تحطم هو وزال وتبقى الكنيسة حية قوية!

أما سر قوة داود فهو اختفائه في رب الجنود، فلا يكون طرفًا في المعركة بل مجرد أداة في يد الله. المعركة هي بين الله والشيطان، لذا فالنصرة تصدر عن الله نفسه، إذ يقول: “أنت تأتي إليّ بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتي إليك باسم رب الجنود إله صفوف إسرائيل الذين عيّرتهم… وتعلم هذه الجماعة كلها أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب. لأن الحرب للرب، وهو يدفعكم لنا” [45-47].

الآن نتساءل: ما هو سر نصرة داود في حربه ضد جليات؟

أ. لعل سر نصرته الخارجية على جليات هو نصرته في الداخل. عندما سأله والده أن يفتقد سلامة إخوته ويأخذ منهم عربونًا [19] أي يحضر من عندهم شيئًا يحمله على الطمأنية من جهتهم يقول الكتاب: “فبكر داود صباحًا… وذهب كما أمره يسى” [20]. طاعة الإنسان لوالديه وآبائه الروحيين في الرب هي غلبة داخلية على الإرادة الذاتية، تتبعها غلبات ونصرات خارجية. كثيرون انهزموا من الخارج لا لشيء إلا بسبب هزيمتهم الداخلية. لقد أطاع داود بلا تردد وبفرح أسرع بتنفيذ في الصباح دون تأخير.

غلب أيضًا داخليًا عندما ثار عليه أخوه اليآب إذ أجابه في هدوء وبحكمة.

ب. أدرك داود أن كل نصرة هي لحساب الرب نفسه وكنيسته، وكل هزيمة تُهين الرب وكنيسته. فإنه وإن كان قد سأل: “ماذا يفعل للرجل الذي يقتل الفلسطيني؟” فقد أكمل السؤال بقوله: “ويزيل العار عن إسرائيل؛ لأنه من هو هذا الفلسطيني الأغلف حتى يُعيّر صفوف الله الحي؟”. هكذا تطلع إلى المعركة بكونها صراع بين الله نفسه وعدو الخير الشيطان.

لعله على سبيل حب الاستطلاع سأل عن الأجرة لكنه بلا شك لم يكن ممكنًا أن توجد أجرة تسحب قلب إنسان أمام رجل عملاق كجليات متدرب على القتال، وقد ضعف أمامه الملك وكل رجال الحرب وارتعب قدامه إخوة داود الأكبر منه… لقد غار داود غيرة رب الجنود، وأدرك أن “الله” نفسه يهب الغلبة ليتمجد في وسط شعبه. بهذا الفكر نزل داود إلى أرض المعركة مختفيًا في الله.

ج. يرى القديس أمبروسيوس أن سر نصرة داود أنه لم يثر هو الحرب إنما كان جليات الذي بدأها، أما هو فدُفع إليها لغيرته الروحية… لم يحمل سلاح شاول بل مقلاعه الخاص به وعصاه… دخل الحرب بعد استشارة الرب. يقول: [داود لم يثر حربًا ما لم يُدفع إليها… قوته اعتمدت على ذراعيه لا على أسلحة الغير… لم يدخل قط في حرب دون طلب مشورة الله[137]].

ليتنا في جهادنا الروحي نلتزم بهذه الأمور الثلاثة، لا ندفع أنفسنا في الحرب بأنفسنا إنما في اتضاع نهرب من كل عثرة، فإذا دخلنا إلى حرب عندئذ نحمل خبرتنا الشخصية مع ربنا ونعتمد على نعمته العاملة فينا لا على صلوات الغير دون جهاد من جانبنا، وأخيرًا لا ننطلق إلى الحرب دون طلب مشورة الرب وعونه.

د. يرى القديس أمبروسيوس أن داود غلب لأنه قدم نفسه عن الشعب، إنه طلب ما هو للغير باذلاً نفسه لحسابهم، إذ يقول: [داود أيضًا اتبع خطوات (موسى) الذي أُختير من بين الجميع ليحاكم الشعب. كم كان وديعًا ولطيفًا ومتضعًا في الروح، وكم كان مجاهدًا ومستعدًا لإظهار الحب. قبل مجيئه إلى العرش قدم نفسه عن الكل. كملك أظهر نفسه معادلاً للجميع في القتال، مشاركًا إياهم متاعبهم. كان شجاعًا في المعركة، لطيفًا في حكمه، صبورًا في احتمال الإهانة، مستعدًا بالأكثر أن يحتمل الغير عن أن يرد عليهم أخطاءهم. كان عزيزًا على الجميع، وبالرغم من كونه شابًا اختير بغير إرادته ليحكم عليهم… وعندما كبر في السن سأله شعبه ألا يدخل المعركة إذ فضل الجميع أن يتعرضوا للخطر من أجله عن أن يتعرض هو للخطر من أجلهم. لقد ربط الشعب به بكامل حريتهم إذ قام بواجبه نحوهم؛ أولاً عندما حدث انشقاق بين الشعب فضل أن يعيش في حبرون كما في منفى (2 صم 2: 3) عن أن يملك في أورشليم. ثانيًا عندما أظهر حبه للشجاعة حتى بالنسبة لعدوه… أُعجب بأبنير كبطل شجاع مع أنه كان قائدًا لمن هم ضده ومثيرًا للحرب، لم يستخف به عندما طلب السلام بل كرّمه وصنع له وليمة (2 صم 3: 20)، وعندما مات عن خيانة بكاه وانتحبه[138]].

 

شاول يتعرف على داود  [55-58].

لم يعرفه شاول مع أنه كان يضرب له بالعود في صباه (16: 22-23)، فقد نسيه، خاصة أن شاول مصاب بمرض نفسي يفقده الذاكرة ويجعله متغير المزاج. هذا وربما تغير شكل داود عندما بلغ سن الرشد.

يظن البعض أن شاول تظاهر بعدم معرفته لأنه حسده وأراد مراقبته.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى