تفسير سفر صموئيل الأول ١٨ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الثامن عشر
شاول يخاف داود

شاول الذي أحب داود جدًا وجعله حامل سلاحه (16: 21) دبّ الحسد في قلبه، إذ رآه ينجح في كل عمل تمتد إليه يداه [5]، وصار يتمجد أكثر منه [7]، “لأن الرب كان معه وقد فارق شاول” [12]… الآن باطلاً يستخدم كل وسيلة للخلاص منه.

عهد بين يوناثان وداود  [1-5].

لقد وعد شاول أن يعطي ابنته لمن يقتل جليات ويخلصه من هذا العار، وإذ حقق له داود طلبته لم يفِ بالوعد إذ أعطى ابنته الكبرى ميرب لعدريئيل المحولي، وعوض تكريمه بدأ يحسده ويطلب الخلاص منه بطريقة أو أخرى. لقد حرمه من المكافأة التي وعده بها لكن الله لم ينس داود بل أعطاه بفيض أكثر مما وعد شاول، إذ وهبه:

أ. حب يوناثان بن شاول وتعلقه العجيب به [1-4].

ب. نال نجاحًا في كل عمل تمتد إليه يداه فأُعجب به جميع الشعب ورجال شاول [5].

ج. غنت النساء له وأعطينه كرامة أكثر من شاول [6-7].

د. سقط شاول تحت سيطرة روح ردئ فاحتاج إلى موسيقى داود واهبة الراحة [10-12].

هـ. حرمه شاول من الزواج بابنته ميرب فأحبته ميكال وصارت له زوجة تحميه من أبيها [20-30].

بمعنى آخر يُقاوم العالم أولاد الله ويحسبون أنه في سلطانهم حرمانهم من ثمرة برهم وجهادهم وأنهم قادرون على إذلالهم، لكن الله لا يترك عصا الشرار تستقر على نصيب الصديقين لكيلا يمد الصديقون أيديهم إلى الإثم (مز 125: 3)، يقوم هو بنفسه بتقديم المكافأة أضعافًا مضاعفة. يقول القديس أغسطينوس: [في الوقت الحاضر، حقًا يتألم الصديقون إلى حدٍ ما، وأحيانًا يطغى الأشرار على الصديقين، في الوقت الحاضر تقع عصا الأشرار إلى زمان على نصيب الصديقين، لكنها لا تُترك هكذا على الدوام. سيأتي الوقت الذي فيه يأتي المسيح في مجده ويجمع كل الأمم قدامه (مت 25: 32- 33). سترى عبيدًا كثيرًا بين القطيع وسادة كثيرين بين الجداء، وأيضًا سادة كثيرين بين القطيع وعبيدًا كثيرين بين الجداء. ليس كل العبيد صالحين… ولا كل السادة أشرار[139]].

نعود إلى أول هبة قدمها الله لداود عوض نكص شاول بوعده. ألا وهي صداقة ابنه يوناثان له بصورة عجيبة لم نسمع بها يماثلها في التاريخ ولا حتى في الروايات والقصص. كان يوناثان شجاعًا ومقدامًا رجل حرب وذا كرامة لدي الشعب (14: 1-15)، وكان ولي العهد، ومع ذلك أحب داود الذي نال كرامة وسط الشعب ورجال البلاط الملكي أكثر من والده، وقد حذره والده منه أنه سيسحب منه كرسي المملكة، لكن حبه وشهامته وصداقته كانت في عينيه أعظم من كرسي المملكة. صداقته لداود في الرب كانت في عينيه أثمن من طاعته لأبيه خارج الرب! لقد قيل: “إن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه يوناثان كنفسه” [1]. عبّر عن هذا الحب الداخلي، الذي ربما يُحرم منه الإنسان حتى خلال علاقاته الأسرية، بتقديم جبته مع ثيابه وسيفه وقوسه ومنطقته. أعطاه جبته – لباس الشرفاء – التي يرتديها خلال حياته اليومية كما سلمه أدوات الحرب الخاصة به، علامة التصاقه به تحت كل الظروف، في السلم كما في الحرب.

يقدم لنا تاريخ الكنيسة صورًا حية لصداقات في الرب خلالها ارتبط بعض القديسين معًا خلال جهادهم الروحي وتمتعهم بشركة الحب معًا في الثالوث القدوس.

v     الصداقة لا يمكن أن تكون قوية ما لم تأتلف بصديقك وتلتصق به تلك المحبة التي يسكبها الروح القدس المعطي لنا.

القديس أغسطينوس[140]

v     كما أن الذين يجالسون باعة المسك والأطياب العبقة يكتسبون الروائح الذكية، هكذا ينبغي علينا أن نلازم الحكماء والمعلمين وأرباب الفضيلة لنقتدي بمثالهم في الصالحات.

القديس يوحنا الذهبي الفم[141]

v     الملتصق برجال الله يستغنى بأسرار الله، والملتصق بالجاهل والمتكبر يبتعد عن الله، وأيضًا يبغضه أحباؤه.

ليس شيء يبث في نفوسنا الطهارة مثل خلطة هؤلاء الأطهار أنقياء القلوب؛ فمثل هذا الصديق يُيقظ النفس إلى الحياة…

صداقة القديسين النشطين تملأك من أسرار الله.

القديس يوحنا سابا[142]

v     إذا ضعفت عن أن تكون غنيًا بالله فالتصق بمن يكون غنيًا به لتسعد بسعادته وتتعلم كيف تمشي حسب أوامر الإنجيل.

القديس باخوميوس[143]

تمجيد داود أكثر من شاول [6-8].

بعد قتل جليات وكثير من الفلسطينيين استقبلت النساء شاول وداود، بعضهم يغنين لهما والأخريات يضربن بالدف (آلة موسيقية عبارة عن قطعة من الجلد الرقيق المشدود على إطار خشبي حوله أجراس صغيرة) والمثلثات ويرددن القرار: “ضرب شاول ألوف وداود ربوات” [7]. لقد حسبن قتل جليات وحده يمثل قتل ربوات (عشرات الألوف). عوض الفرح بنجاح داود بدأ شاول يحقد على داود مترقبًا إياه.

 

شاول يحاول قتل داود   [9-16].

إذ غضب شاول جدًا [8] ملأ الحسد قلبه، فأراد الخلاص من داود الذي خلصه من أعدائه. أراد قتل داود فصار مثلاً سيئًا للغضب والحسد. جاء في الدسقولية [لا تسرع في الغضب ولا تكن حاقدًا ولا سريع الانفعال ولا هائجًا ولا متحديًا لئلا يكون لك مصير قايين (تك 6) وشاول (1 صم 18) ويوآب (2 صم 3: 20)[144]].

بالحسد فقد شاول سلامه الداخلي، وبه حاول قتل داود بكل وسيلة حتى بعدما سقط شاول في يدي داود ولم يؤذه داود، وبسبب الحسد حاول قتل ابنه يوناثان لأنه دافع عنه (20: 22) كما قتل الكهنة (1 صم 22) وضرب نوب مدينة الكهنة بحد السيف (22: 19).

ماذا فعل الحسد بشاول وداود؟

حسد شاول داود فاقتحمه روح ردئ وجنّ في وسط البيت، أي فقد سلامه بل وعقله، بينما كان داود مملوءًا سلامًا يفيض به حتى على شاول نفسه عندما يضرب بمزاميره على الموسيقى ليهدئ من روعه.

كان شاول يمسك بالرمح كصولجان مُلك، خلال الحسد صوّبه ضد داود مرتين لقتله وكان الرب مع داود ينقذه [2]. لم يكن لدي داود سلطان ولا سلاح ولا حاول مقاومة شاول، ومع ذلك كان شاول يخافه. شعر أنه يصغر جدًا أمام داود، ويهتز كرسيه ليحتله هذا الشاب التقي. هكذا يضر الحسد الحاسد لا المحسود؛ يفقده ما في داخله وما بالخارج من نعم وبركات وإمكانيات.

v     أخبرني أيها الحاسد: لماذا تحسد أخاك؟ هل لحصوله على بركات أرضية؟ فمن أين حصل عليها؟ أليست من الله؟! فمن الواضح إذن أنك بحسدك تجعل الله موضوع العداوة فتخطئ في حقه لأنه واهب العطية. أنظر أي شر ترتكبه، وكيف تجمع لنفسك إكليلاً من الخطايا؟! وأية حفرة للانتقام تحفرها لنفسك؟!

القديس يوحنا الذهبي الفم[145]

v     الزاني يحصل على لذة زمنية أثناء ارتكابه الخطية، ثم يعود فيرفضها… أما الحاسد فيعذب نفسه ولو لم يحدث له ضرر ممن يحسده، فلهذا خطية الحسد أشر الخطايا وأشنعها…

القديس يوحنا الذهبي الفم[146]

v     لطالما فرق الحسد بين الزوجات ورجالهن، فقد نسوا القول الكريم الذي نطق به أبونا آدم: “هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي” (تك 2: 23). ولا غرو فقد دمر الحسد والخصام مدنًا عامرة وأفنى أممًا قوية.

القديس أكليمندس[147]

خلال الحسد لم يحتمل شاول أن يرى داود وإذ خشي غضبَ الشعب أبعده عن بلاطه الملكي وأقامه رئيس ألف في الجيش، ربما حاسبًا أنه يُمكن أن يموت خلال الحرب عوض قتله بيديه مما يثير غضب الشعب ورجال البلاط أنفسهم الذين أحبوه. نجح داود كرئيس ألف جدًا فازداد كرامة في أعين الجميع عدا شاول الذي فزع منه.

ما أجمل العبارة: “وكان جميع إسرائيل ويهوذا يحبون داود لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم” [16]. فالشعب يشتاق أن يرى قائده غير قابع في برج من العاج تحوطه هالة من الأمجاد الزمنية والكرامات الباطلة ويحف حوله المداهنون والمتملقون وإنما أن يخرج ويدخل أمامهم. يشاركهم الحياة بأتعابها وآلامها وتجاربها، يخاطر بحياته من أجلهم.

ما قيل هنا عن داود كان يحمل ظلاً لما تحقق في شخص السيد المسيح (ابن داود)، فقد أحبه جميع إسرائيل ويهوذا، أي أحبه رجال العهدين القديم (إسرائيل) والجديد (يهوذا)، تطلع الكل إليه كمشتهى الأمم ومخلص العالم الذي يصالح البشرية مع السماء. أما القول “لأنه كان يخرج ويدخل أمامهم” فتعني أنه خرج إلى العالم ليحل بيننا، صار ابن الإنسان ليحملنا فيه يجدد طبيعتنا ويشفي أمراضنا ويشبع كل احتياجاتنا وينزع عنا الشيطان وكل أعماله. أما قيل له: إن الجميع يطلبونك، قال لهم: “لنذهب إلي القرى المجاورة لأكرز أيضًا لأني لهذا خرجت، فكان يكرز في مجامعهم في كل الجليل ويخرج الشياطين” (مر 1: 37-39). كما قال: “لأني خرجت من قبل الله وأتيت” (يو 8: 42)، “خرجت من عند الأب وقد أتيت إلى العالم وأيضًا أترك العالم وأذهب إلى الآب” (يو 16: 28)، “هم قبلوا وعلموا يقينًا أنى خرجت من عندك وآمنوا أنك أنت أرسلتني” (يو 17: 8).

إنه الزارع الذي خرج ليزرع (مت 13: 3) فينا حياته فنحمله في أعماقنا بروحه القدوس سر تجديدنا وتقديسنا حتى نرتفع معه إلى سمواته ونرث المجد الأبدي، وهناك ننعم بحضن الآب أبديًا.

لقد خرج أيضًا خارج أورشليم ليصلب علي جبل الجلجثة، حتى متى أرتفع يجذب إليه الجميع (يو 12: 32).

كما خرج إلينا هكذا عاد فدخل بطبيعتنا إلي سمواته إذ قام وصعد إلي السموات ليقيمنا معه ويجلسنا معه في السمويات (أف 2: 6).

في اختصار هذا هو طريق ملكوته، خرج ودخل ليملك فينا ونملك نحن معه؛ لنخرج إذًا إليه خارج المحلة (عب 13: 3) ونحمل عاره فيدخل بنا إليه وننعم بمجده، ونملك إلي الأبد.

 

داود يُصاهر شاول     [17-30].

حسب وعد شاول كان من حق داود أن يتزوج ابنته الكبرى ميرب. فطلب شاول منه أن يحارب حروب الرب، أي الحروب التي أمر بها الرب، ظانًا أنه بهذا يضع له شركًا فيقتله الأعداء عوض أن يقتله بنفسه [17-18].

في أتضاع قال داود لشاول: “من أنا وما هي حياتي وعشيرة أبي في إسرائيل حتى أكون صهر الملك؟!” لقد أراد أن يطفئ من قلب شاول نيران الحسد، مع أنه يمكن لداود الذي مسحه صموئيل ملكًا سرًا بين إخوته أن يفتخر علي شاول بقتله جليات وإنقاذ شعب الله من العدو.

اتضع داود أمام شاول، ونكث شاول بوعده فلم يعطه ميرب زوجة له بل أعطاها لعدريئيل المحولي، (معناه “الله عوني”)، سُمي المحولي نسبة إلى آبل محولة (معناه “مرج الرقص”) في وادي الأردن (1 مل 4: 12)، يري البعض أن موضعها “عين حلوة” التي تبعد حوالي      9 أميال جنوب بيسان.

أحبت ميكال ابنة شاول داود [20] لكن ليست كمحبة يوناثان له. نراها بعد أن تزوجت بداود أعطاها شاول لفلطي أو فلطيئيل (25: 44)، وبعدما ملك داود استرجعها (2 صم 3: 12-16). لم تحتمل أن تري رجلها داود الملك يرقص أمام تابوت العهد أما هو فلم يخجل بل وبخها علي هذه المشاعر التي لا تحمل غيرة نحو الرب (2 صم 6: 16-23).

بمكر طلب شاول من عبيده أن يفاتحوا داود في أمر زواجه بميكال ابنته، وإذ شعر داود بعجزه عن تقديم مهر لائق بها كابنة ملك جاءته الإجابة إن الملك لا يُسر بمهر بل بالغلبة على الأعداء طالبًا مائة غلفة محددًا زمنًا معينًا، هادفًا بهذا قتله لكن داود ورجاله قتلوا مائتي رجل قبل الميعاد المحدد وتزوج ميكال التي كانت تحبه. أما شاول فعاد يخاف داود الذي تزايد في النجاح، وصار شاول عدوًا له.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى