تفسير سفر المكابيين الثاني 7 للأنبا مكاريوس أسقف المنيا

استشهاد السبعة المكابيين مع أمهم

 

كان ذلك خلال مأدبة طقسية أقامها الملك أنطيوخس ابيفانيوس، حيث جئ قدامه بمن وُشي بهم أنهم يرفضون الهيلينية متمسّكين بشرائعهم (راجع آية 41) وتعد هذه القصة من أروع قصص الاستشهاد في العهد القديم، فلم يكن الأولاد بأقل شجاعة من أمهم في الإقدام على الاستشهاد، كما لم تشفق الأم عليهم بسبب رابطة الأمومة والدم، إذ كانت تؤمن بأن ذلك سيحملهم رأسًا إلى الفردوس.

وبينما يرى بعض الشرّاح أن أحداث الاستشهاد هذه قد وقعت في أورشليم، ومن ثمّ يكون أنطيوخس أبيفانيوس قد عاد إلى هناك سنة 169 ق.م.بعد نهب الهيكل(1). ولكنه من الواضح أن استشهاد آلام وأبناءها قد تمّ في أنطاكية، وأن لغتهم كانت اليونانية بينما لغة أسلافها هي العبرية (آيات 8، 21، 27).

وتحتفل بهم الليتورجية السريانية تحت اسم “السبعة المكابيين مع أمهم”، أما بقية الليتورجيات فتدعوها “أم المكابيين” و”أم شهداء المكابيين”. وفي أيام القديس جيروم كان قبرهم معروف ويتم تكريمه(2) ونقلت عظامهم لروما، وهم الآن موجودون في كنيسة القديس بطرس في بينكولي(3). وقد اعتقد كلكمان خطأ أن هذه القبور تخص متتيا الحشموني وبنيه في روما، وكان في كولونيا في ألمانيا كنيسة على اسمهم، كانت هناك واستمرت قائمة حتى 100 سنة مضت، وتدعى: “Makkabaer Kirche“.

إننا لا نعرف أسماء الأبناء السبعة، ولكن هناك شواهد كثيرة تقول أن الأم اسمها “حنة ” كما دعتها احدى المصادر اليهودية القديمة بـ”مريم بنت تنحوم” (1) ويقول التلمود عنها في باب الطلاق (جِطين 2:57) أنها غير معروفة(2).

استشهاد الأبن الأول

1 وقبض أيضًا على سبعة إخوة مع أمهم، فكان الملك يريد أن يُكرههم على أكل الخنزير المُحرم، ويعذبهم بالسياط وأطناب الثيران. 2 وجعل أحدهم نفسه لسان حالهم فقال: “ماذا تبتغى أن تسألنا وأن تعرف عنا؟ إننا مستعدون لأن نموت ولا نخالف شرائع آبائنا”. 3 فنحنق الملك وأمر بإحماء المقالى والقدور. 4ولما أُحميت، أمر لساعته بأن يُقطع لسان الذي جعل نفسه لسان حالهم، وأن يُسلخ جلد رأسه وتُجدع أطرافه على عُيون إخوته وأمه. 5 ولما أصبح عاجزًا تمامًا، أمر بأن يُدنى من النار، وفيه رمق من الحياة، ويُقْلي. وفيما كان البخار منتشرًا من المِقْلاة، كان الآخرون هم وأمهم يَحُثُّ بَعضُهم بعضًا أن يُقدِموا على الموت بشجاعة، قائلين: 6“إن الرب الإله ناظر، وهو يرأف بنا حقًا، كما صرح موسى في النشيد الذي يشهد أمام الجميع بقوله: وبعبيده يرأف”.

 

لاشك أن الذي حمل أنطيوخس على السلوك مع هؤلاء الأبرار بهذه القسوة هو كبرياؤه، إذ أنكر على الرعايا مخالفة أوامره، وكان يخشى من تفشّي الظاهرة وانفلات زمام الأمور منه، كما رأى أنطيوخس أنه لا ملك أو إله غيره هو. هذا وبينما أنقذ الله أبرارًا آخرين من الموت على يد مضطهديهم من أجل إيمان وخلاص أولئك المضطَهدين، فإن أنطيوخس دِين وعوِقب بسبب موتهم على يديه، وفي هذا يقول القديس أغسطينوس:

“لا يظن أحد أنه كان ينبغي أن ينقذ الله الشهداء من أيدي مضطهديهم كما حدث مع الفتية الثلاثة ودانيال النبي، فإن هؤلاء قد أُنقِذوا من أجل أن يؤمن الملوك الذين يضطهدونهم بأن الذي يعبده هؤلاء هو الإله الحقيقي، لأنه في رحمة الله العجيبة ومشورته التي لا ندركها يدبر لخلاص هؤلاء الملوك، أما في حالة أنطيوخس الملك والذي عذّب المكابيين بقسوة حتى الموت، صارت آلامهم وموتهم عقوبة أكبر له، وقد صرّح الشهيد السادس له بأنه وبرغم أنهم يُعاقبوا بسبب خطاياهم فإنه هو ذاته لن يفلت من العقاب (آية 18، 19) وأنك لترى أيضًا كيف كان هؤلاء حكماء، فإنهم وهم داخل الذلّ والآلام يعترفون بإخلاص بأنهم يعاقَبون بسبب خطاياهم من قبل الرب الذي كُتب عنه “لأنه الذي يحبه الرب يؤدبه” (أمثال 12:3). (1)

ولم يكن أكل لحم الخنزير في ذاته هو ما يصرّ عليه المضطهدون (وفي المقابل يصر على إنكاره الشهداء) وإنما لأنه كان بمثابة كُفر باليهودية كلها وتقويض لركن هام فيها، ألا وهو الطهارة والركن الأهم هو الأمانة للوصايا.

سلخ جلد الرأس وجدع الأطراف:

بحسب ما ورد في تاريخ هيرودت Herodotus، فقد كان سلخ جلد الرأس يتم “بالأسلوب المنجلي” وذلك بجز جلد الرأس دائريًا عند مستوى الأذنين ثمّ سلخه بالشدّ والهزّ (1) وأما بتر الأطراف فقد كان يتضمن بتر الأطراف أو النهايات، أما فيما يتعلق بالوجه فقد كان البتر يعنى جدع الأنف والأذنين، ولكن (الآية 5) هنا تشير إلى العجز التام الناتج عن قطع اليدين ربما الذراعين والقدمين والساقين، ومثل هذه الطريقة استخدمها الملوك الأشوريون مع المتمردين(2). وربما الأذنين والشفة والأنف(3) وهكذا عمل أيضًا أنطيوخس الثالث قبل حوالي 50 سنة من هذا التاريخ، لأخياس قريبه الذي ثار ضده.

 هذا وقد وردت (الآية 4) في الأصل العبري هكذا: (سَلخ جلد رأسه على طريقة الإسكيثيين) إذ يحدد النص العبري طريقة السلخ وهو الطريقة التي كانت معتادة للاسكيثيين.

على طريقة الإسكيثيين: وباليونانية (periscuqiasantaV): كان الاسكيثيين مشهورين جدًا بقسوتهم في الشرق القديم، ويبدو أن الأنطاكيين اقتبسوا من طرق تعذيبهم: سلخ أعدائهم وتقوير الرأس، إذ كانوا يصنعون بعض الأدوات من جلد فروة الرأس(4).

أطناب الثيران:

كانت تلك الأطناب (الأمعاء) تستخدم في صنع السياط، كما كانت تستخدم كأوتار في شد الخيام ونصبها “أوسعي مكان خيمتك ولتبسط شقق مساكنك، لا تمسكي أطيلي أطنابك وشددي أوتارك” (إشعياء2:54) ويقول التقليد اليهودي بأن السياط التي كانت تستخدم في جلد المحكوم عليهم كانت تصنع من أمعاء ثور وحمار معًا، حيث يقال للمجرم عند الجلد: “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أما إسرائيل فلا يعرف. شعبي لا يفهم” (إشعياء 3:1).

المقالي والقدور:

ربما كانت المقالي هي تلك الأواني الضخمة التي كان يوضع داخلها المحكوم عليه ثم توقد تحتها النار، بينما القدور هي الأواني التي تشبه الغلايات والتي تُملأ بالماء أو الزيت أو القار ثم تغلي ليلقى فيها المحكوم عليه، وهي طرق عُرفت فيما بعد على نطاق واسع إبان فترات الاضطهاد للمسيحيين إذ تُذكر كثيرًا خلال سيرهم، فنقرأ عن القديسة الشهيدة التي حكم عليها بأن تلقى عارية في قدر كهذا به قار يغلي، إذ طلبت من مضطهديها أن يتركوها بملابسها مقابل أن ينزلوها ببطء في ذلك الإناء الرهيب، وذلك بسبب محبتها للعفة لآخر لحظات حياتها.

كانت مثل تلك الطرق الوحشية في التعذيب معروفة في العالم القديم، ولعل الأشوريين كانوا أول من استنبط هذه الطرق المريعة وعنهم أخذ اليونانيين(1)، فمع أن الإسكندر الأكبر كان يُعد من أعظم الملوك الفاتحين في التاريخ، إلاّ أنه لم يتورع عن إلحاق العذابات المريرة بالذين عصوا عليه، مثلما فعل مع أهل صور ومع حاكم غزة والذي أمر بربطه من عرقوبه في زيل حصان ثم سحله في شوارع المدينة .!

ونعود الآن إلى الشهداء السبعة، فقد تضايق أنطيوخس من شجاعة الفتى الأول الذي رغم عجزه نتيجة التعذيب تكلّم بشجاعة نيابة عنهم(2)، وأراد من ثم أن يرعبه ويرعب به الأم وبقية الأخوة، ويذكّرنا ما فعله معه بما لاقاه القديس يعقوب المقطع وهو من الشهداء الفارسيين وكان جنديًا ضمن جنود الملك سكراد بن صافور ملك الفرس، فبعد أن ضربوه بدأوا في تقطيع أصابع يديه ورجليه ثم ساعديه ورجليه وفخذيه حتى لم يبق منه سوى الرأس والجذع فقط، وأخيرًا قطعوا رأسه فنال إكليل الشهادة في سنة 420 م.

وكان لسان حال ذلك الفتى البار هو ما قاله القديس يعقوب هذا: “ليس لي رجلان لكي أقف أمامك ولا يدان أبسطهما قدامك، وهوذا أعضائي مطروحة حولي فأقبل نفسي إليك”.

وهكذا بدلًا من ينجح المضطهد في ترويع الباقين، إذا بهم يحثون بعضهم بعضًا على التقدم للاستشهاد بفرح وثبات، متذكرين قول الرب على فم نبيّه موسى: “لأن الرب يدين شعبه وعلى عبيده يشفق حين يرى أن اليد قد مضت ولم يبق محجوز ولا مطلق” (تثنية 32: 36).

هذا وقد أرسى هذا الفتى المبدأ الذي سيعمل به بقية أخوته ومضمونه أن الموت هو أفضل من المساس بالشريعة، وبأن الخالق سوف يقيمهم من الموت بحسب الوعد المذكور في (تثنية 32: 39) والذي ذكرتهم أمهم به، والحقيقة أن الأصحاح 32 من سفر التثنية به الكثير من الرسائل والوعود لتعزية أولئك الشهداء، مصائب إسرائيل قد تكون عقاب على خطاياه هو وليست علامة تخلى الله عنه (32: 15 – 30) وأن الله سوف ينتقم من العدو (32: 35، 41 – 43) الذي ليس له مخلص من يده (32: 39) وسوف يُحي وُيشفي الشهداء الذين شُوهوا (32: 39).

استشهاد الأخ الثاني

7 ولما فارق الأول الحياة على هذا الوجه، ساقوا الثاني إلى التعذيب، ونزعوا جلد رأسه مع شعره، ثم سألوه: “هل تأكل لحم الخنزير قبل أن تُعاقب في جسدك عضوًا عضوًا؟”. 8 فأجاب بلغة آبائه وقال: لا، ولذلك ذاق هو أيضًا بقية العذاب كالأول. 9 وفيما كان على آخر رَمَق قال: “إنك أيها المجرم تسلبنا الحياة الدنيا، ولكن ملك العالم، إذا متنا في سبيل شرائعه، سيقيمنا لحياة أبدية”.

 

كان الأخ الثاني مستعدًا لاجتياز الآلام ذاتها ولم يستطيعوا أن يثنوه عن عزمه هذا، ولكنه لم يتراجع حتى بعد أن قطع شوطًا من الآلام المريعة، هذا ويفيد تعبير نزعوا جلد رأسه مع شعره، أن نزع الجلد تم عن طريق شد الشعر بقسوة، وذلك بخلاف الأخ الأول كما مرّ بنا، وفيما هو مشرف على الموت صرّح للملك بأنه وإن كانت له سلطة فهي فإنما على الأجساد المرتبطة بهذه الدنيا، ولكن الله وهو ملك الملوك ورب الأرباب سيكافئه بحياة لا تفنى.

الحياة الأبدية:

هذه واحدة من المرات القليلة التي يرد فيها تصريح مباشر عن الحياة الأبدية، راجع أيضًا (دانيال 12: 2، 3) حيث يشير إلى اضطهاد أنطيوخس في (دانيال 11) راجع أيضًا (2 مكا 12: 38-46 و14: 46) بينما وردت إشارة أخرى في العهد القديم مثل (إشعياء 26: 19 وأيوب 19: 26، 27)، كما وردت إشارات أخرى في السفر هنا تؤكد هذه العقيدة، حيث سيقوم الشهداء بقدرة الخلاّق (آية 23) ويقومون هم للحياة (آية14 قابل يوحنا 5: 29) يقومون لحياة أبدية (آية 9، 36) هذا وقد نُوقشت هذه العقيدة مرة أخرى عندما أرسل يهوذا يقدّم ذبيحة عن الأموات (12: 38-46).

لغة آبائه:

جاءت في العبرية (بلسان الآباء) وفي اليونانية (patriw fwnh = باللغة الأم) وُيقصد بها العبرية ويعتبرها اليهود “اللغة المقدسة” و “لغة السماء” و”لغة الوحي”، غير أنهم اضطروا إلى تعلّم الآرامية والتكلم بها جنبًا إلى جنب مع العبرية إبان السبي، غير أن الجيل الثاني لجيل السبي ضعفت معرفته باللغة العبرية، ونلاحظ أنه عقب العودة من السبي وعند قراءة عزرا لسفر الشريعة على مسامع الشعب اضطر إلى ترجمة ما يقال إلى اللغة الآرامية حتى يفهم الشعب، إلا أن الآرامية كانت معروفة لدى اليهود قبل السبي كلغة للاتصالات الدبلوماسية مع الشمال مثل آشور وبابل، ولعلّ أول إشارة إلى ذلك جاءت في (2مل 18: 36 وإشعياء 36: 10) عندما طلب مندوبو حزقيا الملك إلى ربشاقى قائد جيوش سنحاريب التكلم بالآرامية حتى لا يعرف الشعب ما يدور من نقاش، من هنا نشأ ما يسمى بـ”الترجوم” وهو كتاب من نهرين للأسفار المقدسة، أحدهما عبري والآخر أرامي، مثلما هو الحال الآن في الكنيسة القبطية في جميع كتب الليتورجية، أي عبارة عن نهرين قبطي وعربي.

هذا وقد استخدم كل من الأم وابنها بعض التعبيرات العبرية (آية 21، 27) وهو ما يتضح في موضع آخر (12: 37 و15: 29) وقد تكون نصوص محفوظة، وربما كانت لغتها الأساسية مع أولادها هي العبرية، هذا ويتضح لنا من النص أن الطاغية كان يكلمهم باليونانية..

هكذا رقد الثاني شهيدًا عن طيب خاطر بعد تقطيع أعضاءه.

وقد كان الهدف من التعذيب بشكل عام قديمًا وحديثًا، إمّا الحصول على المعلومات، أو العقاب على جرائم خطيرة مثل الخيانة. ولكن التعذيب إذا أفضى إلى نتائج لا علاج لها (مثل البتر) فيكون الهدف منه قطعًا هو أن يصبح الشخص عبرة للآخرين، ولذلك فإننا نجد أنه من الغريب هنا أن يُمنح الثاني فرصة للتراجع عن أفكاره وعناده.

يقول كاتب سيرة الشهيد يعقوب المقطع: “حُرم من قدميه لكن نفسه كانت تسير بخطوات واسعة نحو الفردوس.. وُبترت يداه لكن أعماقه كانت تتسلم غنى نعمة الله الفائقة وشُوّه جسمه في هذا العالم، فكان بهيًا للغاية في عيني الله وأعين السمائيين.. أخذ الملك منه موقفًا مضادًا، فظهر له ملك الملوك السيد المسيح وعزّاه وقواه فابتهجت نفسه(1).

استشهاد الأخ الثالث

10 وبعده عذبوا الثالث، وأمروه فدلع لسانه لساعته وبسط يديه بقلب جليد، 11 وقال بشجاعة: “إنى من السماء أُوتيتُ هذه الأعضاء، وفي سبيل شرائعها أستهينُ بها، ومنها أرجو أن أستردها”. 12 فبُهتَ الملك نفسه والذين معه من بسالة ذلك الفتى الذي يبال بالعذاب شيئًا.

 

إستمر الملك في تعذيب هؤلاء الأبطال بنفس البشاعة، فلمّا جاء دور الابن الثالث نظر إلى جلاديه مشيرًا إلى أعضاء جسمه معلنًا أنها هبة من الله، فليستردها الله بالكيفية التي يسمح بها، وهي لا تعني شيئًا سوى أنها وديعة لا يملكها، ولكن الله سيعيدها إليه في شكل آخر لجسد نوراني ممجد، لا يجوع ولا يتألم ولا يفنى، ثم بسط (دلع) لسانه ويديه بقلب جليد (صابر) ففعلوا به كما حدث مع السابق وسط ذهول الملك وحاشيته من تلك الشجاعة النادرة، تمامًا كما كان يحدث مع مضطهدي المسيحيين.

استشهاد الأخ الرابع

13ولما فارق هذا الحياة، عذبوا الرابع ونَكَّلوا به بِمِثْل ذلك. 14 ولما أشرف على الموت، قال: “خير أن يموت الإنسان بأيدي الناس ويرجو أن يقيمه الله، فلك أنت لن تكون قيامة للحياة”.

 

المقصود بأن يموت الإنسان بأيدي الناس، أن الأمر متعلق بهذا الجسد وهذه الحياة الفانية، أما من كان موته من قِبل الله فسيكون هلاكه أبديًا “لا تخافوا من الذين يقتلون الجسد ولكن النفس لا يقدرون أن يقتلوها بل خافوا بالحري من الذي يقدر أن يهلك النفس والجسد كليهما في جهنم” (متى10: 28)، بل أن الله قادر أن يحوّل اضطهاد الناس إلى بركة، وعوض الجسد الترابي سيرث الملكوت بآخر نوراني ممجد.

ورغم توبيخ الفتى لأنطيوخس إلاّ أن الأخير تمادى في تجبره وشروره إذ لحقت عذاباته ببقية الأخوة وأمهم. ولكن الله كان عجيبًا في محبته لهم فسواء الذين خلصوا من العذاب ولم يحرقوا مثل دانيال والفتية الثلاثة وغيرهم، أو هؤلاء الذين تركهم ليبذلوا حياتهم حبًا به.. فالمهمّ هو المكافأة الأبدية.

يقول القديس أغسطينوس “لا تخف.. فقط اعمل ما يأمرك به وإذا لم يخلصك جسديًا فهو سيخلصك روحيًا، فهو الذي أخرج من النار الفتية الثلاثة، هل أخرج المكابيين من النار؟ ألم يُنشد الأولون (الفتية الثلاثة) الألحان في وسط اللهيب بينما هلك المكابيون في اللهيب؟ ألم يكن إله الفتية هو إله المكابيين؟ الواحد خلّصه والآخر لم يخلّصه؟ كلاّ لقد أنقذ كليهما!! لكن الفتية الثلاثة أنقذهم هكذا حتى تحيّر الجسدانيون لكن المكابيين لم ينقذهم هكذا، لأن هؤلاء الذين اضطهدوهم سوف يجوزوا عذابًا أعظم، إذ بينما اعتقدوا أنهم قد تغلبوا على شهداء الله: تغلب الشهداء عليهم! لقد خلُص بطرس عندما أتاه الملاك في السجن وقال انهض عاجلًا وأنقذه الله، فهل فقد بطرس برّه عندما لم ينقذه الله من الصليب؟ ألم ينقذه آنذاك؟ لقد خلص وقتها، هل صار أثيمًا فلم يسمعه كما في الأول..؟ لقد أرسله الله أخيرًا إلى هناك (الأبدية) حيث لا يمكنه أن يعانى من أي شر. (3)

استشهاد الخامس

15 ثم ساقوا الخامس وعذبوه. 16 فحدق إلى الملك وقال: “إنك بما لك من السلطان على البشر، مع أنك قابل الفساد، تفعل ما تشاء. ولكن لا تظن الله قد خذل ذريتنا. 17 إصبر قليلًا فترى قدرته العظيمة، كيف يعذبك أنت ونسلك”.

 

إن للملك سلطان على الأجساد ليس من قبل الله بالطبع، لأن الله وهبه السلطان ليفعل الخير وينشر العدل في مملكته لا لكي يذلّ أولاد الله، ومع ذلك فهو لن يستطيع القضاء على الأمة، بل لقد أسهم الاستشهاد في جميع عصوره في ازدهار الأمة، وتزايد عدد المسيحيين وحملهم على التمسك أكثر بالله، وصرف أذهان الناس عن الاهتمامات الرديئة جاذبًا أنظارهم نحو السماء، إن الملك قابل للموت والفساد ولكن الله سرمدي، سمح للملك بتبكيت الشعب من جهة ومن جهة أخرى أسهم في منحهم الأكاليل.

وقد مات أنطيوخس بالفعل شر ميتة (راجع تفاصيل ذلك في 1مكا6: 12، 13 و2مكا 1: 11-17) وكذلك حدث مع كل ملك من العائلة السلوقية خلفاؤه، فلكل منهم قصّة مؤلمة في نهايته، وقد طارد أحدهم الآخر وقتلوا بعضهم بعضًا، ونفى البعض وهرب البعض الآخر، حتى آلت دولتهم إلى الرومان في النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد.

يقول القديس أمبروسيوس: “لقد فضّل الشهداء الموت على العبودية والخزي، ماذا أقول عن آلامهم؟ دعنا لا نذهب بعيدًا، ألم يُحرز أبناء المكابيين انتصارات على الملك أنطيوخس المتكبّر، في مثل عظمة انتصارات آبائهم؟ لقد كان هذا الملك مسلحًا ولكنهم قهروه بدون أسلحة جماعة الأخوة السبعة وقفت غير مقهورة مع أنهم محاطون بجحافل الملك، إلاّ أن التعذيبات فشلت، والمعذبون توقّفوا، ولكن الشهداء لم يفشلوا، إن أحدهم إذ دعوه يخرج لسانه لكي يقطعوه، أجاب “إن الرب لا يسمع أولئك الذين يتكلمون فهو سمع لموسى عندما كان صامتًا، أنه يسمع الأفكار الصامتة لخواصه، أفضل من أصوات الآخرين كلهم، أتخشى سوط لساني ألا تخشى صوت الدم المسفوك على الأرض؟ الدم أيضًا له صوت به يصرخ جهرًا إلى الله كما حدث في موت هابيل”.

استشهاد الابن السادس

18 وبعده ساقوا السادس، فلما أشرف على الموت قال: “لا تَغتَرَّ بالباطل، فإننا نحن جلبنا على أنفسنا هذا العذاب، لأننا خطئنا إلى إلهنا، ولذلك جرى لنا ما يقضى بالعجب. 19 وأما أنت فلا تحسب أنك تبقى بلا عقاب، بعد أن أقدمت على محاربة الله”.

 

لعل الشهيد السادس هو أكثر من نطق الله على لسانه بالكثير من الُدرر في هذا السياق، إنه يؤكد إن هذا الاضطهاد ليس نصرة لأنطيوخس لئلا يغتر وإنما هو تأديب من الله بسبب خطايا الأمة. هذا وقد لاقى اليهود على مدار تاريخهم الكثير من الاضطهادات ولكن أكثر تلك الاضطهادات كان قومي أو سياسي، مثلما لاقوا من الأشوريين والبابليين وفي مصر أيضًا، ولكنها المرة الأولى التي يتعرّضون فيها للتعذيب على هذا النحو بسبب العقيدة مما يعنى أن الاضطهاد ديني بالدرجة الأولى، وكان الملوك السابقين الذين احتلّوا أورشليم أو الذين سبوا سكانها إلى بلادهم، يفسحون لهم المجال ليعبدوا إلههم ويقيموا شرائعهم، حتى أن التلمود البابلي فاق في أهميته نظيره الذي كُتب في أورشليم!

ولقد اعتبر هذا الشهيد أن أنطيوخس إنما يحارب الله وليس اليهود، لأن اليهود في إصرارهم هذا يتمسكون بوصايا إلههم، ولذلك فإن الله وإن سمح لهم بالموت إلاّ أنه لن يترك أنطيوخس دون عقاب”… فيا بنى لا تحاربوا الرب إله آبائكم لأنكم لا تفلحون” (2أخ 13: 12) هكذا يقول أيضًا غمالائيل معلم الناموس:”.. وإن كان مِن الله فلا تقدرون أن تنقضوه لئلا تُوجدوا محاربين لله أيضًا” (أعمال 5: 39). وقد كانت أقوال الفتى السادس هنا بمثابة نبوءة عما سيجرى لأنطيوخس، فعند موت الأخير قال “الآن أتذكّر المساوئ التي صنعتها في أورشليم وكيف أخذت آنية الذهب والفضة التي كانت فيها وأرسلت لإبادة سكان اليهودية بغير سبب. فأنا أعلم بأني لأجل ذلك أصابتني هذه البلايا. وها أنا أموت بغمّ شديد في أرض غريبة (1مكا 6: 12، 13 راجع أيضًا (2مكا 1: 11-17).

الأم تشجع أولادها وتعبر عن فرحها

20 وكانت أمهم أجدرهم جميعًا بالإعجاب والذكر الحميد، فإنها عاينت بنيها السبعة يهلكون في مدة يوم واحد، وصبرت على ذلك بشجاعة، بسبب رجائها للرب. 21 وكانت تُحَرَّضُ كلا منهم بلغة ىبائها، وهي ممتلئة من المشاعر الشريفة، وقد أضفت على كلامها الأنثوى بسالة رجولية، فكانت تقول لهم: 22“لست أعلم كيف نشأتم في أحشائى، ولا أناوهبتكم الروح والحياة، ولا أنا نظمت عناصر كل منكم. 23 ولذلك فإن خالق العالم، الذي جبل الجنس البشرى والذي هو أصل كل شيء، سيُعيدُ إليكم برحمته الروح والحياة، لأنكم تستهينون الآن بأنفسكم في سبيل شرائعه”.

 

لم يتبق الآن سوى الأخ الأخير ولعله أصغرهم سنًا، وإنّا نتعجب كثيرًا كيف تجلّدت هذه الأم واحتملت كل ذلك على مرأى ومسمع منها، ويقول الكتاب أن ذلك بسبب رجاءها الشديد في الرب ولكونها ناظرة إلى لا ما يرى، بل كانت ترى في عذاب أولادها تمجيدًا لهم، وفي موتهم من أجل الله إكليل شهادة وحياة أبدية، لقد كانت تمتلك شجاعة تعوز الكثير من الرجال الذين يخرّون تحت أقل الضغوط، لقد كانت تشعر أنهم ليسوا ملكًا لها بل وهبها الله إياهم وكونهم في رحمها وليس لها فضل في حياتهم، بل أن خالق الجنس البشرى هو القادر أن يهبهم حياة من جديد وإنما حياة أبدية خالدة معه، راجع (أيوب 1: 8-12 ومزمور 139: 13-15 وجامعة 11 ؛ 5).

الروح والحياة (آية 22):

من الملفت استخدام التعبيرين معًا، وهل هناك فرق بين كل منهما، فقد تكون الروح هي النسمة التي وهبها الله للإنسان حسبما ورد في (تكوين 2: 7) بينما الحياة صفة تشترك فيها جميع الخلائق، ومع ذلك فإن الحياة تأتى نتيجة للروح، ولكن الحيوانات والطيور والأسماك وغيرها لها نفس وليس روح، وبالتالي فهي تفنى بمجرد موتها (انفصال النفس عن الجسد) وهكذا تُطلق صفة الروح على النفس البشرية العاملة المفكرة والمبدعة والتي على صورة الله.

ولا أنا نظمت عناصر كل منكم: جاءت في الأصل العبري للآية هكذا (ومادة كل أحد لم أصورها أنا) وكلمة مادة الواردة في الأصل العبري هي كلمة (حومير) والتي تعني (مادة – عنصر – طين – قش – صلصال)، وربما تكون بذرة الجنين الأولى المعروفة بالزايجوت.وجاءت باليونانية هكذا kai thn…… stoiceiwsin ouc egw dieruqmisa = ومادة…. لم أشكلها بشكل مناسب). أي أن الأم ليست هي المسئولة عن خلق وتصوير وابداع الأعضاء البشرية بالكيفية الممتازة هذه، بل هي مجرد حاوية لما يعمله الله. وجاءت باللاتينية في الفولجاتا هكذا (membra non ego compegi) وتعني (والأعضاء لم أقسّمها أنا) وبالإجمال فإن الفكرة هنا مطابقة تمامًا لما ورد في: (مزامير 139: 13 – 17 وأيوب 10: 8 – 12).

هذا وقد أثنى الكثير من آباء الكنيسة العظام على هذه الأم العظيمة وخصّوها بالكثير من المديح والإطراء. فيقول القديس أغسطينوس في تناوله لأمثلة في الثبات:

 ” لكن بما أننا نتكلّم هنا عن احتمال الآلام والمعاناة الجسدية، أعبر من هذا الرجل (أيوب البار) العظيم دائمًا وغير المقهور أبدًا: هذه حالة رجل، لكن هذه الكتب المقدسة (المكابيين) تقدم لي امرأة لها ثبات مُذهل، ويجب على أن أدخل حالًا إلى الحديث عنها، هذه المرأة وبصحبتها سبعة أبناء سمحت للمستبدّ الجلاد أن ينتزع أعضائها الحيوية من جسمها بدلًا من كلمة بذيئة من فمها، مشجعة أبناءها بحثهّا إياهم، مع أنها عانت من تعذيب أجسامهم، بل هي نفسها خضعت إلى ما دعتهم إلى احتماله، أيّ صبر يمكن أن يكون أعظم من هذا؟ وإلى الآن مالنا نندهش من حُب الله المزروع في قلبها وتحملها ظلم المستبد والجلاد والألم، وطبيعتها كامرأة والعاطفة الطبيعية؟ ألم تسمع “عزيز في عيني الرب موت أتقيائه” (مزمور166: 15) ألم تسمع ” البطيء الغضب خير من الجبار” (أمثال 16: 32) ألم تسمع “مهما نابك فاقبله وكن صابرا على صروف اتضاعك، فإن الذهب يُمحّص في النار، والمرضيين من الناس يمحّصون في آتون الاتضاع” (سيراخ 2: 4، 5) كل هذا قد عرفَته (هي).

والكثير من النصائح الأخرى للثبات كُتبت في هذه الكتب التي وحدها كانت موجودة في ذلك الوقت بنفس الروح القدس الذي يكتب ذلك في العهد الجديد (1). وفي موضع آخر عند الحديث عن الطاعة لله أولًا ثم الوالدين ثانيًا، يقول: لاحظ أم المكابيين تقول “يا أبنائي أنى لست أعلم كيف نشأتم في أحشائي (آية 22) يمكنني أن أحبل بكم، أن ألدكم استطيعه، لكن أن اُنشئكم هذا لا أستطيعه، اسمعوا له (لله) إذًا، فضلّوه عنى لا تزعجوا أنفسكم بأنه ينبغي لي أن أبقى هنا بدونكم هكذا أمرتَهم وهم أطاعوها. ما علمته هنا الأم لأطفالها علَمه الرب يسوع المسيح لذاك الذي قال له “ابتعني”. (2)

أماّ القديس جيروم فيقول في الرسالة إلى كروماتيوس وجوفينوس ويوسابيوس:

“أحيي أمك وأمي بالتقدير الذي أُكنه لها كما تعرف، مرتبطة معكم كما في حياة مقدسة، هي عندها بدايتكم يا أولادها القديسين إنها أمكم، أحي معها أخواتكن اللواتي يُرحّب بهن حيثما يذهبن، لأنهن قد انتصرن على طبيعتهن والعالم، وينتظرن مجيء المسيح العريس مصابيحهن مُلئت ثانية بالزيت. سعيدة هي الدار التي هي بيت الأرملة حّنة وبيت عذارى هنّ نبيات، وتوأم صموئيل الذي تربى في الهيكل! محظوظ السقف الذي يظلل الشهيدة أم المكابيين مع أبنائها حولها كلهم لابسون إكليل الشهادة! فعلى الرغم من أنكم تعترفون يوميًا بالمسيح بحفظ وصاياه، إلاّ أنكم أضفتم إلى مجدكم الخاص هذا مجدًا عامًا بالاعتراف العلني لأنه من خلالكم أبعد سُم البدعة الأريوسية سابقًا من مدينتكم(1).

وأما القديس باسيليوس الكبير فيقول في الرسالة السادسة حيث يبدو من السياق أنها موجهة إلى أم فقدت ابنها:

“دعونا نقبل ما حدث لأنه من يقبل أن يقاوم إرادة الله، فالرب الآن يختبر حبك له، هناك الآن فرصة لك من خلال صبرك أن تأخذي نصيب الشهداء، فإن أم المكابيين رأت موت بنيها السبعة بدون تنهّد، بدون حتى أن تذرف دمعة بلا قيمة، وشكرت الله لأنها رأتهم يتحررون من قيود الجسد بالنار والحديد والضربات الشريرة، وربحت المديح من الله والشهرة وسط الرجال إن الخسارة كبيرة، كما يمكنني أنا نفسي أن أقول، ولكن عظيمة أيضًا المكافآت الممنوحة من الرب لمن يصبر(2).

ويطوّبها القديس أمبروسيوس قائلًا: “ماذا أقول عن الأم التي بالبهجة نظرت جثث أطفالها كأكاليل كثيرة كجوائز الانتصار، ووجدت لذة في أصوات أبنائها المحتضرين، كما في أغاني المغنيين، وكأنّ أولادها هم نغمات القيثارة المجيدة من داخل قلبها، وانسجام للحب أحلى من أي نغم يمكن أن يعطيه العود(3).

الملك يحاول إغراء آخر الأخوة المكابيين

24 وظن أنطيوخس أنه يسخر به ورأى في هذا الكلام إهانة، فأخذ يحرض بالكلام أصغرهم الباقي، بل أكد له بالقسم أنه يغنيه ويسعده، إذا ترك سُنَنَ آبائه، ويتخذه صديقًا له ويُقَلدُه المناصب. 25 إلا أن الفتى لم يصغ لذلك البتة، فدعا الملك أمه وحثها أن تشير على الفتى بما يؤول إلى خلاصه. 26 فانحنت عليه واستهزأت بالطاغية العنيف، وقالت بلغة آبائها: “يا بنى أرحمنى أنا التي حملتك في أحشائها تسعة أشهر، وأرضعتك ثلاث سنوات، وعالتك وبلغتك إلى هذه السن وربتك. 28 أسألك يا ولدى أن أنظر إلى السماء والأرض، وإذا رأيت كل ما فيهما، فأعلم أن الله صنعهما من العدم، وان جنس البشر هو كذلك. 29 فلا تخف من هذا الجلاد، بل كن جديرًا بإخوتك وأقبل الموت لألقاك مع إخوتك بالرحمة”.

يتحول الملك هنا من الوعيد إلى الوعد، ومن التهديد إلى الملاطفة والاغراء، فها هوذا بعد أن فشلت طرق التعذيب الرهيبة في التأثير على الإخوة الستة ولا الباقين، وقد رفض الابن الصغير العروض السخيّة التي يسيل لها لعاب الكثيرون، والتي من أجل اليسير منها ترك آخرون إلههم سعياُ وراء مجد زائل. وهو النهج الذي انتهجه أيضًا مضطهدي المسيحيين في القرون الأولى حين كانوا يعرضون المناصب الرفيعة على الشهيد بينما يعدون الآخرين بالزواج والمال، وهوذا أنطيوخس هنا يعرض عليه ما هو أكبر إذ يتخذه “صديقًا للملك” وهي رتبة كبيرة كما أسلفنا مُنحت ل فيلبس ونكانور وهما من كبار ضباطه.

ولكن التعزية التي ملأت قلوب الشهداء، وكذلك المجد الذي انفتحت عليه أعينهم في السماء، وهم ما يزالون في الأرض وتحت وطأة التعذيب والإهانات.. كل ذلك جعلهم يستخفّون بمثل تلك العروض.

حينما حاول الملك توسيط الأم لدى ابنها (آية25) لكي يخلص، لم يكن يقصد خلاص نفسه بالطبع بل خلاصه من ذات المصير الذي آل إليه إخوته من التعذيب والموت، وفيما ظن الحاضرون أنها انصاعت لرغبة الملك وتوسلاته، إذ بها تشجعه على أن يحذو حذو إخوته الذين سبقوه ليلحق بهم ويفوز بالإكليل، بل أنها اعتبرت موته شهيدًا بفرح هو رحمة بها واكرامًا لها، وعليه أن ينظر لجميع ما حوله ليرى ويدرك أن الله هو خالق العالمين.

فأعلم أن الله صنعهما من العدم (آية 28): جاءت في اليونانية (ex ouc ontwn) وجاءت في المخطوطات اليونانية والفولجاتا اللاتينية والآرامية بدلا من النسخة الشائعة هكذا: (ouc ex ontwn = من أين) وفي الفولجاتا (ex nihilo). والمقصود هنا سؤال بقصد الإستنكار وتوضيح “من أين جاء أصل العالم”؟! فتكون الإجابة الإعجازية: “من العدم”. وهو الشيء الذي كثيرا ما ورد في حوارات الربيين مع الكفرة. قال أحد الفلاسفة للربي غمالائيل: ” لقد كان إلهكم خالق عظيم لكنه وجد مادة عمل منها الأشياء… وأودع فيها الروح بقوة….” ونجد لدى بعض النتأغرقين من اليهود إيمانهم أن العالم كُوِّن من مادة أولية مثل قول فيلون: (إن العالم خُلِقَ ex amor fou ulhV من مادة هيولية).

ولعلّه في هذه الآية أول تأكيد صريح لخلق الله كل شيء من العدم، راجع (إشعياء24:44) ففي إشارة الأم إلى أن الله قد خلق كل شيء من العدم تأييد هام لفكرة خلق الله للمادة والتي منها خلق جميع الأشياء بعد ذلك، وعلى هذا يعلق العلامة أوريجانوس قائلًا: “هكذا تعلّمنا أم المكابيين الشهداء السبعة” (1).

هذا وقد ثار نقاش فلسفي كبير بين الفلاسفة الوثنيين قبل الميلاد، حول الخلق وهل تم من مادة موجودة أم من العدم، بحيث خلق الله المادة أولًا ومنها خلق كل شيء، ولكن الأمر يُحسم هنا في مواجهة المتشككين من اليهود المهلّنين (المتأثّرين بالفلسفة اليونانية) وكذلك اليهود الذين بدأوا في اعتناق الفكر الصدوقي، ولذلك فإن عبارة ex duk onton والتي وردت في المخطوطات اللوسيانية تعني: “مما لم يكن” (آية 28) وكذلك العبارة اللاتينية ex nilulo تعني: ” من لا شيء”. ومن ثم أصبحت عقيدة الخلق من العدم أساسية في الإيمان المسيحي، وهكذا وجد الشراح واللاهوتيون في سفري المكابيين تعليمًا عقائديًا وركيزة هامة.

ويقول القديس أغسطينوس تعليقًا على أن المخلوقات خلقت من العدم:

“لذلك فإن الله قد صنع كل الأشياء لا من مادة موجودة سابقًا، لأنه لم يكن شيء موجود مطلقًا، بل من العدم يقول القديس بولس.. “الذي… يدعو الأشياء غير الموجودة كأنها موجودة” (رومية 4: 17) ولكنه وبأكثر وضوح كُتب في سفر المكابيين: أنظر يا ولدى إلى السماء والأرض وإذا رأيت كل ما فيهما فأعلم أن الله صنع الجميع من العدم (آية 28) ومن هنا فقد كُتب في المزمور “لأنه أمر فُخلقت” (مزمور 148: 5) وهكذا صنع كل الأشياء بكلمته وبأمره، يقول القديس بولس أيضًا ” لأن منه وبه وله كل الأشياء” (رومية 11: 26) (1).

الفتى يوبخ الملك

30 وما أن انتهت من كلامها حتى قال الفتى: “ماذا أنتم منتظرون؟ إني لا أطيع أمر الملك، وإنما أطيع أمر الشريعة التي ألقيت إلى آبائنا عن يد موسى. 31 وأنت أيها المخترع كل شر على العبرانيين، إنك لن تنجو من يدي الله32 فنحن إنما نتألم من أجل خطايانا. 33 وإن سخط علينا ربنا الحي حينًا قليًا لمعاقبتنا وتأديبنا، فسيصالح عبيده من بعد. 34 وأما أنت أيها الكافر، يا أقذر كل بشر، فلا تتشامخ باطلًا ولا تعلل النفس بالآمال الكاذبة وترفع يدك على عبيده، 35 لأنك لم تنج إلى اليوم من قضاء الله القدير الرقيب. 36ولقد صبر إخوتنا على ألم ساعة، سعيًا لحياة لا تزول، وسقطوا في سبيل عهد الله. وأما أنت فسيحل بك، بقضاء الله، العقاب الذي تستوجبه بكبريائك. 37 وأنا كإخوتي أبذل جسدي ونفسي في سبيل شرائع آبائنا، وأبتهل إلى الله أن لا يبطئ في توفيق أمتنا وأن يحملك، بالمحن والضربات، على الاعتراف بأنه هو الإله وحده. 38 عسى أن يحل علَىَّ وعلى إخوتي غضب القدير الذي ثار على أمتنا بالعدل!” 39فحنق الملك لمرارة الاستهزاء فزاده تعذيبًا على إخوته. 40وهكذا فارق الفتى الحياة غير مدنس، وقد وَكَلَ إلى الرب كل أمره. وفي آخر الأمر ماتت الأم بعد بنيها. 41 وكفى ما رويناه عن المَآدبِ الطقسية والتعذيبات المُبَرحَة.

مخترع الشر: تعبير شائع في ذلك الوقت، أُطلق أيضًا على الشيطان. وهكذا وبينما يدّعي أنطيوخس الألوهية، فإنه يُوصف هنا بالشرير والمفكر بالشر والمتفنّن فيه ” في قلبه أكاذيب يخترع الشر كل حين. يزرع خصوما” (أمثال 6: 14) وأيضًا ” أما يضلّ مخترعوا الشر، أمّا الرحمة والحق فيهديان مخترع البر” (أمثال 14: 22) وأيضًا لا تخترع شرًا على صاحبك (أمثال 3: 29).

عبرانيين: وأما هذا التعبير فقد استخدم للإشارة إلى اليهود في السفر أكثر من مرة (راجع أيضًا 11: 13 و15: 37) كما استخدم في سفر يهوديت أكثر من مرة (يهوديت 10: 12 و 12: 11 و14: 18) ولكن مصطلح عبرانيين استخدم بالأكثر للإشارة إلى اليهود خلال الفترة من إبراهيم حتى حلم يعقوب حين تحول اسمه إلى إسرائيل، ومن ثم أطلق تعبير بني إسرائيل على الشعب منذ ذلك الحين وحتى سبى بابل. ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم يُستخدم تعبير يهود نسبة إلى يهوذا السبط الأكبر والأكثر فعالية.

يشير الشهيد هنا إلى أنه وبالرغم من أن الله يعاقب الأمة على خطاياها، وهو في ذلك عادل (آية 38) إلاّ أنه سريعًا ما يفتقدها بالخير، كما أنه (أي الشهيد) لا يعدّ نفسه قديسًا لكونه سيموت لأجل الله، وإنما هو يرضى بتأديب الله بشكر! مثل إخوته الذين صبروا على الآلام الحاضرة من أجل المجد العتيد.

أماّ الآمال التي يشير إليها هنا ويتعلق بها أنطيوخس فهي القضاء على العقيدة اليهودية، وتحويل البلاد إلى مملكة هيلينية ثقافةً وعقيدةً ولغةً، غير أن ذلك لن يتم له يصرح الشهيد فإن الله سيعاقبه ويثأر لدم الشهداء الأبرار.

هذا ويلخص الشهيد الأخير جميع الأفكار والدروس المهمة في الأصحاح، لا سيما وأن الاضطهاد قد جاء على إسرائيل نتيجة خطاياه وهو ما ورد أيضًا في (6: 12 – 16). ويقول التلمود في أحد أبوابه (سنهدرين 27: 2) عن هؤلاء الشهداء: ” لقد ماتوا بعد خطأ جمهور إسرائيل، إذن فإسرائيل كلها مسئولة عن هذا”.

وكان من الطبيعي أن يستاء الملك من جرأة الفتى وتصريحاته مما جعله يزيده آلامًا أكثر من السابقين. وأمّا الأم وبعدما اطمأنت على الكل وأنهم قد ماتوا أمناء من أجل الله والوصية، فقد قبلت الموت بفرح وراحة(1) ولعلها تذكّرنا بالأم دولاجي والتي ذُبِحَ أولادها على حِجرها واحدًا بعد الآخر، وحينما كان المضطهِدون يظنّون أنهم بذلك يرعبونها حتى ترجع عن إيمانها، كانت هي في الحقيقة تسرّ لأنها كانت تخشى أن تضعف عزائهم إن ماتت هي قبلهم.

بعض من أقوال الآباء عن الشهداء المكابيين

نظر الكثير من الآباء إلى هؤلاء الشهداء باعتبارهم شهداءً مسيحيين قبل المسيحية، لأسباب عدة، منها الأمانة إلى حد الموت في الشهادة لله وحفظ الوصية، ثم التشابه الكبير بين أساليب كل من الوعد والوعيد من قبل الحكام المضطهدين، ثم أساليب التعذيب ذاتها والتي اتصفت بالبشاعة والتمثيل بالأجساد قبل القتل، وفي المقابل البسالة والشجاعة التي لاقى بها الشهداء مثل ذلك الظلم، ثم التوبيخ الناتج عن تلك الشجاعة للمضطهدين، ولقد أثنى القديس بولس عليهم في فجر المسيحية قائلًا”.. تقووّا من ضعف صاروا أشداء في الحرب هزموا جيوش غرباء. أخذت نساء أمواتهن بقيامة (استعادت أم المكابيين أولادها بالقيامة) وآخرون عذبوا ولم يقبلوا النجاة لكي ينالوا قيامة أفضل (السبعة الشهداء) وآخرون تجربوا في هزء وجلد ثم في قيود أيضًا وحبس. وُرجموا نُشروا جُرِّبوا. ماتوا قتلًا بالسيف طافوا في جلود غنم وجلود معزى معتازين مكروبين مذلّين، وهم لم يكن العالم مستحقًا لهم تائهين في براري وجبال ومغاير وشقوق الأرض. فهؤلاء كلهم مشهودًا لهم بالإيمان لم ينالوا الموعد. إذ سبق الله فنظر لنا شيئًا أفضل لكي لا يكملوا بدوننا” (عبرانيين 11: 34-40).

الكنيسة الجامعة من الختان والغرلة

هكذا يجمع القديس بولس بين شهداء اليهود الذين من الختان والآخرين الذين من الأمم (الغرلة) حيث سيكُمل الفريقان معًا بالله. يقول القديس أغسطينوس تعليقًا على الآية ” اللهم إن الأمم قد دخلوا ميراثك نجسوا هيكل قدسك، جعلوا أورشليم أكوامًا دفعوا جثث عبيدك طعامًا لطيور السماء، لحم أتقيائك لوحوش الأرض، سفكوا دمهم كالماء حول أورشليم وليس من يدفن” (مزمور 79: 1-3) وهي الآية التي تعد بمثابة نبوءة عما سيحدث في العصر المكابي، يقول”..هذه الأشياء عُملت من قبل الأعداء الآخرين، قبل أن يجيء السيد المسيح بالجسد، في ذلك الوقت كان الأنبياء القديسون عندما حدث السبي إلى بابل، وتلك الأمة قد تضررت بشكل كبير، وفي ذلك الوقت وتحت حكم أنطيوخس، أيضًا المكابيون بعدما تحمّلوا الآلام المروعة، تكللّوا بشكل مجيد، أو بالتأكيد بعد قيامة الرب وصعوده، وكذلك هؤلاء الذين تعذّبوا بأيدي عابدي الأصنام وأعداء السيد المسيح، وهكذا زخرت هذه الكنيسة بهذا الكم من الشهداء، إذا فهي ميراث الله، تجمّعت من الختان والغرلة، أي من شعب إسرائيل ومن بقية الأمم، بواسطة الحجر الذي رفضه البناؤون والذي أصبح رأس الزاوية (مزمور 118: 22) (1).

أما القديس يوحنا ذهبي الفم تعليقًا على الآية “ولما أكمل يسوع أمره لتلاميذه الاثني عشر انصرف من هناك ليعلم ويكرز في مدنهم” (متى10: 1) فيقول: ماذا إذن هل كان الذين عاشوا قبل مجيء المسيح مخطئين؟ كما يظن البعض قد خلصوا، دون اعترافهم بالسيد المسيح لأن هذا لم يكن مطلوبًا منهم، وإنما طلب منهم فقط ألاَ يعبدوا الأصنام وأن يعرفوا الإله الحقيقي، لأن الرب إلهنا قد قيل عنه “رب واحد” (تثنية 6: 4) لذا فإننا نعجب بالمكابيين لأنه بسبب مراعاتهم للشريعة عانوا ما قد عانوا (2).

وفي حديثه عن معاملات الله مع شعب إسرائيل يقول: “حتى بعد السبي لم يتركك بل أعادك إلى حريتك وأعاد إليك الهيكل وشكّل حكومتك وكان هناك أيضًا أنبياء ثانية، بل حتى في زمان سبيك لم يتركك دون أنبياء فهوذا دانيال وحزقيال وفي مصر إرميا وموسى في الصحراء، ولكنك عدت إلى رزيلتك ثانية وانجذبت إلى النهج الإغريقي في حكم انطيوخس الأثيم (دانيال 8: 14 و1مكا4: 54) ولمدة ثلاث سنوات ونصف كنت مُسلمًا إلى أنطيوخس ولكنه وبواسطة المكابيين رفعت تلك الكؤوس الساطعة البهية ثانية، وأما الآن فلا شيء من هذا.(1).

وفي حديث طويل عن الشهداء المكابيين، يقول الشهيد كبريانوس في مقالته إلى فرتوناتوس للحثّ على الاستشهاد:

“وهذه الأمور التي تواجه المسيحيين الآن ليست جديدة أو مفاجئة، حيث يتعرض الأبرار والأمناء على الدوام للضيقات والآلام الحادة من بدء العالم وحتى الآن. وها هم الأخوة السبعة رمز الكمال في عددهم، لقد برهنوا على إيمانهم قدام أنطيوخس، نعم لقد تمثّل في أنطيوخس هذا المسيح الدجّال (ضد المسيح) والذي طلب أن يلوّث أفواه الشهداء المجيدة غير المقهورة، عن طريق أكل حلم الخنزير، وإذ ضربهم بشدة بالسياط ولم يظفر بشيء أمر بأن تسخن أسياخ من حديد حتى توهّجت، وقد بدأ بالفتى الذي جعل من نفسه نائبًا ومتحدثًا عنهم، وأمر بقطع لسانه ثم شيّه بالنار، حيث أثار الملك بقوة إيمانه وثباته في الفضيلة، هذا الذي اعترف بالله فمجده الله، لأن اللسان الذي اعترف باسم الله أوجب على نفسه أن يمضى أولًا إلى الله. ثم في الثاني أبتكر آلامًا أشدّ، حيث أنهم قبل أن يعذبوه في أطرافه الأخرى نُزع عنه جلد وشعر رأسه بدافع الغيظ بلا شك لأنه بما أن المسيح هو رأس الرجل والله هو رأس المسيح، فإن الذي قطع رأس الشهيد كان يضطهد الله نفسه والسيد المسيح في هذا الرأس، لكن الأخ الثاني هذا وإذ وثق بشهادته واعدًا نفسه بمكافأة الله بالقيامة، صاح قائلًا: ” إنك أيها الفاجر تسلبنا الحياة الدنيا ولكن ملك العالمين، متى متنا في سبيل شريعته فسيقيمنا لحياة أبدية (آية 9). وأما الثالث فإذ أوقفوه بادر ببسط لسانه إذ تعلم من أخيه أن يحتقر عذاب قطع اللسان، بل أنه قدّم يديه أيضًا لتُقطعا، وهو سعيد بهذا النمط من العقاب، إذ كانت قرعته أن يمد يديه على مثال الرب المصلوب، أما الرابع ففي فضيلة مماثلة احتقر التعذيب مجيبًا لكي يُفحم الملك صارخًا بصوت سمائي: “حبذا ما يتوقعه الذي يُقتل بأيدي الناس من رجاء أقامة الله له أما أنت فلا تكون لك قيامة الحياة” (آية14). أما الخامس فبجانب وطئه تحت أقدام المعذبين وعذاباته الحارة المتعددة بقوة الإيمان منتعشًا أيضًا بعلم الغيب ومعرفة الأحداث المستقبلية (التنبؤ) بروح إلهي تنبأ إلى الملك، بقضيب الله والثأر الذي يتحتم أن يلبيه بسرعة شديدة: ” أنك بما لك من السلطان على البشر مع كونك فانيا تفعل ما تشاء، ولكن لا تظن أن الله قد خذل ذريتنا. أصبر قليلًا فترى بأسه الشديد كيف يعذبك أنت ونسلك (آية 16) فأية راحة يجدها الشهيد وأي تخفيف عنه عندما ينظر إلى عذابه الخاص، بل وتنبأ أيضًا بعقوبات مُعذّبه.! وأما السادس فعلينا ألاَ نستعرض شجاعته فحسب وإنما أيضًا تواضعه، لأنه لم يدع فضلًا لنفسه ولا عمل اعتبار لشرف اعترافه الخاص بكلمات عزيزة، وإنما بالأحرى نسب الاضطهاد الذي كان يعانيه من الملك إلى خطاياه هو، في حين نسب إلى الله أنه سينتقم منه لاحقًا، وقد أثبت هذا الشهيد أن الشهداء متواضعون واثقون من انتقام الله نيابة عنهم، ولم يفتخر الشهداء بشيء في معاناتهم، فيقول في شهادته: لا تغترّ بالباطل فإن نحن قد جلبنا على أنفسنا هذا العذاب لأنا قد خطئنا إلى إلهنا، ولذلك وقع لنا ما يقضى بالعجب، وأما أنت فلا تحسب أنك تُترك هكذا بعد معاداتك لله.

وأماَ الأم الطوباوية والتي لم تهتز بسبب ضعف طبيعتها، ولا تزعزعت بسبب فداحة مصابها، وإنما نظرت إلى بنيها المحتضرون بابتهاج، ولم تحسب ما يحدث لهم عقابًا من الله بل أمجادًا، معطية نفسها كامرأة عظيمة شهادة لله بطهارتها مثل أولادها الذين أعطوا أنفسهم كشهود لله من خلال التعذيب وبتر الأعضاء.

فلما جاء دور الأخ الأخير، حاول الملك استمالته واسترضاؤه بالاغراءات بأمور هذا العالم، لعلّ رجوعه عن الاستشهاد يسكن غضب الملك نفسه! وتسكن قوته وشراسته باستمالته واحدًا فقط منهم، بل طلب الملك إلى الأم التوسّط لدى ابنها في هذا الأمر، ولكنها إذ أصبحت أم الشهداء متذكرة الشريعة والله ومحبة أبنائها، توسلت إلى ابنها بشجاعة ودون ضعف أن يعترف بالله! ساعية ألاّ ينفصل الأخ السابع عن إخوته في تحالف المجد والفرح، وأرادت أن تقدّم السبعة كاملين كهدية لله لا العالم، ولذلك فقد حثّته وشجعته متوسلة إليه أن يرحمها وُيقدم على الاعتراف بالله والشهادة، لقد كانت الأم عظيمة حين حثّت ابنها على الفضيلة ومخافة الله، وفي إيمانها الصادق لم تَعد نفسها ولا ابنها بشيء من شرف الشهداء الستة ولا اعتقدت بأن صلوات الأخوة تنفع لانقاذهما إذا أنكرا الإيمان بل أقنعته أن يصبح شريكًا في آلامهم حتى يوجد معهم في اليوم الأخير. وفي النهاية استشهدت تابعة أولادها، إذ لم يكن ممكنًا أن ترسلهم شهداء ولا تلحق بهم(1).

وقد استشهد الشهيد كبريانوس مرة أخرى باستشهاد ألعازر والأخوة السبعة وأمهم في الكتاب الثالث ضمن ثلاث كتب للرد على اليهود، في أن ما نعانيه في هذا العالم من آلام لا يقاس بالمكافآت التي وعد بها الرب (2).

ويقول القديس أغسطينوس أن تعب هؤلاء المكابيين الشهداء لم يكن هباءً، ودون فائدة، كلاّ، فقد تمسّكوا بالشريعة والتقليد.(1) وهو ما يردده أيضًا القديس جيروم في رسالته إلى القديس أغسطينوس(2).

وعن الأم يقول القديس أغسطينوس أيضًا: “لقد قرأ كلنا عن أم الفتية المكابيين، والتي كانت أكثر عثرًا حقًا في الفضائل عندما عانى أولادها أكثر من المعاناة في الولادة، هكذا حثتهم على الثبات متكلمة بحكمة (كيف أن الله هو الذي تولى تكوين أجسادهم ونفوسهم في رحمها، وهو خالق العالم وهو الذي سيعيد إليهم الحياة من جديد (آية 23) وكان القديس في هذا السياق الرد على بدعة نشأة بخصوص الروح ومنشأها والأعضاء كذلك، فهي من الله وليس من الوالدين(3).

قصة شهيدة يهودية من التاريخ

يتحفنا تاريخ الكنيسة بقصة رائعة لشهيدة يهودية ماتت أيضًا في سبيل محبتها لله وأمانتها للوصية، فقد اضطهدت كثيرًا بسبب عفتها، وكانت تدعى حسنة، إذ تركها زوجها في عهدة أخيه الصغير حتى يعود من تجارته فلما أراد ذلك الأخ أن يحملها على خيانة زوجها نهرته وأبت ذلك بشدة، ومن ثمّ أقام عليها شهود زور بأنها خاطئة فحكم عليها المجلس بالرجم، ولما ظنّوا أنها ماتت جرّوها من رجليها حتى المدافن حيث تركوها هناك دون دفن، غير أن أعرابيًا صالحًا أنقذها واعتنى بها في بيته، فلما طلب الزواج منها رفضت لكونها متزوجة، ولكن زوجة ذلك الأعرابي وبدافع الغيرة دبرت لها مكيدة إذ سعت في أن يتزوجها عبد كان يعمل لديهم فلما رفضت أيضًا، قام ذلك العبد بقتل ابن الإعرابي ثم اتهمها بذلك، وقبل أن يهمّ الأعرابي ذاته بقتلها انتقامًا، أدرك في الحال أنها مكيدة وأنها بريئة. ومن ثمّ فقد صرفها من عنده خوفًا على حياتها وأعطاها أربعين دينارًا. وبينما هي في طريقها رأت رجلًا يُساق إلى الصلب بسبب دين كان عليه بلغ مقداره: مقدار ما معها هي، فأعطته إياه وأنقذته من الموت.

ومضت هي بلا مال أو مأوى إلى أن آوتها سيدة فاضلة في بيتها، وفي ذات يوم أُصيبت السيدة بحمى فصلّت حسنة لأجلها فُشفيت، وجاء إليها قوم مرضى فصلت لأجلهم فنالوا الشفاء إلاّ واحدًا كان مصابًا بالبرص هذا اعترف أمام الجميع أنه صنع ذنبًا عظيمًا إذ أراد التزوج من زوجة أخيه فلما رفضت أقام عليها شهود زور وتسبب في قتلها رجمًا، وكان أخيه يقف إلى جواره باكيًا، فصلت لأجله إلى الله فشفى في الحال، ولكن المفاجئة الكبرى أنها رفعت عنها غطاء الرأس قائلة للأخ الكبير أنا حسنة زوجتك.. لا تحزن، فذهل الرجل من المفاجأة، وعاشت معه بعد ذلك خمسة عشر عامًا(1).

مابين المكابيين والثلاثة فتية

يظن البعض أن النجاة من الأخطار أو الموت، أو اجتراح الآيات هي شرط حتمي لتعزيز قداسة إنسان وعلامة قبوله لدى الله، ولكن الذين قاموا من الموت على يد السيد المسيح ومن بعده التلاميذ ومن بعدهم القديسين، ماتوا أيضًا بعد ذلك! والذين اجترحوا المعجزات وشفوا مرضى عديدين مرضوا وماتوا، وكثير من القديسين تغلبوا على الوحوش والحيات، ولكن قديسين آخرين قتلتهم الوحوش والأفاعي سواء في ساحات الاستشهاد، أو في مناسكهم في الغابات والجبال ولم ينتقص هذا من قداستهم في شيء، كذلك فإن بعض أجساد الراقدين مازالت سليمة لم تتحلل رغم مرور مئات السنين على رقادهم، في حين تحللت بقية الأجساد مع أنها أجساد شهداء وقديسين أيضًا، ولم يفصل هذا الأمر بين قوم وآخرين في مسألة القداسة.

هكذا فقد كانت هناك حاجة إلى تناول ما حدث للفتية الثلاثة ودانيال من جهة، وما حدث للمكابيين الشهداء من جهة أخرى، وهل تميز الفتية على المكابيين لأنهم نجوا من الموت على يد المضطهد؟

يقول القديس أغسطينوس: “أليس هو الله نفسه، من كان إله المكابيين وإله الثلاثة فتية؟ فهؤلاء أنقذهم من النار بينما المكابيون فنيت أجسادهم في العذاب بالنار، ولكن إرادتهم بقيت صامدة في حفظ الناموس، الفتية أُنقذوا علانية، بينما المكابيون تكلّلوا سرًا؟ إنه لشيء عظيم أن تُنقذ من لهيب جهنم ذاك أفضل من النجاة من آتون الاضطهاد البشرى(1).

وفي موضع آخر يقول “إذا ماذا ؟ هل الشهداء الذين تعرّضوا للوحوش المفترسة لتتصارع معهم، وتمزقوا بأسنان الوحوش الضارية، ألم يكونوا خاضعين لله ؟ أو هل كان الفتية الثلاثة خدامًا لله بينما لم يكن المكابيون خدامًا لله ؟ هل تعرّفت النار على هؤلاء الرجال الثلاثة كخدام لله فلم تحرقهم ولا آذت ملابسهم، بينما لم تتعرّف على المكابيين ؟ كلاَ، لقد تعرفت عليهم يا اخوتى، ولكنه هناك حاجة إلى السوط بإذن من الرب، لقد قال في الكتاب المقدس “يجلد كل ابن يقبله” (عبرانيين 12: 6) أتظنون يا أخوتي أن الحديد كان سيثقب الأعضاء الحيوية من جسد الرب ما لم يسمح له الرب بذلك، أو أنه كان سيعلَق موثقًا في الشجرة (الصليب) ما لم تكن تلك إرادته، ألم يتعرف عليه مخلوق؟ أم أنه وُضع مثالًا للصبر للمخلصين له ؟ انظروا إذن فالله أنقذ البعض علانية، بينما أنقذ البعض خفية، ولكنه خلصهم جميعًا روحيًا (خلّص أرواحهم) ولم يتخلّ عن أحد قط “(1).

وفي تفسيره لسفر المزامير تعرض من جديد لهذا الأمر، حيث عَلق على الآية: “أُنظر إلى نفسي وبخّها من أجل أعدائي خلصني” (مزمور69: 18) قائلًا: يجب ألاّ نعبر سريعًا على هذه الآية، فهناك نوع من النجاة السريّة للرجال القديسين صُنعت لأجلهم خصيصًا، فإنه من الواضح أن هذا جُعل بسبب أعدائهم، إمّا لعقابهم أو لنجاتهم، لأن الله حقيقة لم يُنقذ الأخوة في كتاب المكابيين من نيران المضطهد.. في حين أن الفتية الثلاثة قد أنقذوا علنًا من آتون النار، لأن أجسادهم أيضًا قد أُنقذت، فكانت سلامتهم علانية، وفي حين أن (الأخوة المكابيين) تكللوا سرًا فإن الفتية أُنقذوا جهرًا، كلٍ على أية حال خلص.. هناك إذن نجاة سرية وهناك نجاة علنية، السرية تعود على الروح والعلنية تعود على الجسد أيضًا مع الروح، لأن الروح تخلص سرًا والجسد بشكل علني.. هكذا عندما قام الرب يسوع المسيح من الأموات وصعد إلى السموات آمن به أولئك الذين شكّوا عند موته… هكذا يقصد داود النبي بـ”من أجل أعدائي خلصني” لأن الأعداء لن يربحوا شيئًا إذا نجيت روحي فقط ” (2).

وتعليقًا على الآية “يدعوني فاستجيب له. معه أنا في الشدة”  (مزمور 91: 15) يقول القديس أغسطينوس أيضًا: ” بينما تظن أن الله تركك لأنه لا ينقذك عندما تشاء فإنه ينقذك، لقد أنقذ الفتية الثلاثة من النار؟ هل الذي عمل هذا، تخلّى عن المكابيين؟ حاشا لله! لقد خلص كليهما: الأولون جسديًا حتى يخزى الكافرون، والآخرون روحيًا لكي يحذوا المؤمنون حذوهم “أُنقذه وأُمجده” (1).

وفي النهاية يقول في ردَه على فستوس المانوي: إن الرجال الأبرار الأقدمون والذين رأوا في الأسرار التي كانت أيامهم وعند إعلان الإيمان في المستقبل، إذ مكنتهم تقواهم من أن يتبينوا في ضوء النبوة الخافت، والذي به عاشوا “لأن البار بالإيمان يحيا” (رومية 1: 17) إذًا فهؤلاء الأبرار كانوا مستعدين أن يعانوا، بل أن العديد منهم عانى في الحقيقة، كل محاكمات التعذيب القاحل لأجل تلك الأسرار الرمزية التي تنبأت عن أشياء في المستقبل.. أننا نشعر بالإعجاب الشديد تجاه المكابيين الذين رفضوا أن يمسّوا الطعام الذي يتناوله المسيحيون بشكل قانوني، هكذا أكثر بكثير يجب على المسيحي في أيامنا هذه أن يكون مستعدًا أن يعاني كل الآلام، لأجل معمودية السيد المسيح وافخارستيا المسيح وصليبه المقدس، إذ أنها براهين تحقيق ما أشارت إليه النبوات (الأسرار) القديمة أنه سيتحقق في المستقبل(2).

_____

(1) يرد ذلك في كتاب المكابيين الرابع (4: 22 _ 5: 4) وهو كتاب غير قانوني، وكذلك كتاب جورجيوس كادرينوس Georgios Cadrenus وكتاب يوسيفون اليهودي Yosefon (القرون الوسطى) الفصلين 18، 19 باعتبارها أحداث وقعت في أورشليم أو بالقرب منها، وكجزء من الاحداث المترتبة على نهب أورشليم، كما حاول بعض المفسرين استنتاج ذلك من (إرميا 15: 5_9).

(2) onomast.ed.Lagarde 140.

(3) راجع Card Rampolla وفي جريدة Bessarione 1897 – تحرير Bevenot.

(1) راجع ملاحظة إينيليو في منوراة هماؤور – شمعدان النور – لألنقاف 337:2.

(2) يوجد لهذه القصة إشارات كثيرة جدًا في الأجاداه اليهودية (راجع سونيس GVd 131 و أيضا في أعمال جاستر في الجزء الإنجليزي 196).

(1) Nicene and P.N.F, vol. IV, P. 357. الرسالة 111 إلى فيكتوريانوس

(1) تاريخ هيرودت (4 / 64).

(2) جدير بالملاحظة هنا أن هناك عدة تعبيرات في اللغة العربية خاصة بهذا النوع من العقاب والتعذيب، فيقال “بتر ذراعه” أو جدع أنفه أو صلم أذنيه أو خمس عينيه أو قطع أو حزّ رأسه… إلخ.

(3) زينوفون 1، 9، 13 Anab.

(4) هيرودوت: (4: 64 – 65).

(1) هناك إشارة إلى مثل هذه العقوبة في (إرميا 29: 22) لاثنين من الأنبياء الكذبة صدقيا وآخاب (شخصيتان غير معروفتان) اللذين قلاهما ملك بابل بالنار، ومن المعروف أن عبادة النار كان يرافقها تقديم ضحايا بشرية.

(2) ولما أصبح عاجزًا تمامًا(آية5): جاءت في الأصل العبري (مُرُسَّق أفاريم = مسحوق الأعضاء – مقطوع الأعضاء) وجاءت في اليونانية (acrhston = بلا فائدة).

(1) قاموس آباء الكنيسة وقديسيها. القمص تادرس يعقوب (الجزء الخامس / ص 169 172).

(3) NPN F. S1 , vol v111, P. 77. تفسير مزمور 34

(1) NPN F, S1, Vol. V1, P. 53. مقال في مبادئ الكنيسة الجامعة (فصل 23، 43)

(2) NPN NPN F, S1, Vol. V1, P. 53. مقال في مبادئ الكنيسة الجامعة (فصل 23، 43)العظة 50 في دروس من العهد الجديد.

(1) NPNF, s1, vol. V1, P. 10 الرسائل

(2) V111, P. 115 رسائله

(3) Ibid S2, vol.X,p.34 واجبات الإكليروس

(1) ANF. Vol X, P. 307 الكتاب الأول / تفسير إنجيل يوحنا

(1) NPEF. S1, vol. Iv, P. 357.

(1) لم يذكر هنا شيء عن كيفية استشهاد الأم، ولكن تفاصيلًا كثيرة عن ذلك وردت في كتاب المكابيين الرابع، وكذلك كتاب (يوسيفون) والذي يرجع للعصور الوسطى.

(1) NPNF, s1, vol. V111, P. 301. تفسير سفر المزامير

(2) NPNF, S1, vol. X, P. 241.

(1) NPNF, S1, vol. X, P. 241.

(1) ANF, Vol. V, P. 502-505. الأطروحة الحادية عشر

(2) Ibid, P 539.

(1) NPN.F, S1, Vol. 1, P. 274. رسائل بين القديس أغسطينوس والقديس جيروم /رسالة 40

(2) Ibid, S1, Vol. 1 , P. 340. رسائل القديس أغسطينوس

(3) NPNF, S1, Vol. V, P. 324.

(1)  قاموس آباء الكنيسة وقديسيها / القمص تادرس يعقوب / الجزء ح-ص / ص19-22.

 

(1) NP.NF. S1, Vol. V11, P. 80 عظات على إنجيل يوحنا (يو2: 23-25 ؛ 3: 1-5)

(1) NPNF, S1, Vol V11, P. 509. العظة الثامنة على (يوحنا الأول 4: 12-16)

(2) Ibid, Vol V111, P. 306.

(1) Ibid, P. 381.

(2) NPNF, S1, Vol. IV, P. 244.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى