تفسير سفر أستير ٥ للقمص تادرس يعقوب
إذ صامت أستير مع جواريها ومردخاي وكل يهود شوشن في تذلل أمام الله وبدموع انطلقت أستير إلى الملك متكئة على صدر إلهها لكي تدعو الملك وهامان إلى وليمة خاصة… هي في الحقيقة وليمة الصليب التي خلالها خلص شعب الله وهلك هامان (إبليس).
1. أستير تقابل الملك 1-2:
“وفي اليوم الثالث لبست أستير ثيابًا ملكية ووقفت في دار بيت الملك الداخلية مقابل بيت الملك، والملك جالس على كرسي ملكه في بيت الملك مقابل مدخل البيت” [1].
أعدت أستير نفسها لهذا اللقاء بالصوم والتذلل مع الصلاة وجاءت تلتقي مع الملك في اليوم الثالث لتدعوه مع هامان إلى وليمة تعدها لهما. لقد رأي كثير من الآباء أن رقم “3” يُشير إلى القيامة[28]، فإن كانت وليمة أستير تُشير إلى وليمة الصليب التي أعدها الرب ليخلص شعبه ويصلب إبليس وكل أعماله الشريرة، فإنها انطلقت إلى هذه الوليمة بروح القيامة. بمعنى آخر إن كانت هذه الوليمة تُشير إلى الصليب، فإن ما أصاب هامان من هلاك إنما هو بصليب الرب القائم من الأموات. على الصليب هلك هامان الحقيقي أي إبليس لأن المرتفع على الصليب هو “القيامة” بعينه (يو 11: 25).
انطلقت أستير إلى الملك كما إلى الصليب خلال قوة قيامة الرب، لذلك خلعت المسوح ولبست الثياب الملكية، إذ آمنت بالله الذي يُقيم المسكين من المزبلة.
يقدم لنا تتمة أستير صورة رائعة تفصيلية عن لقاء أستير مع الملك (ص 15)، فيذكر أنها إذ خلعت ثياب حدادها ولبست ملابس مجدها استدعت مدبر الكل ومخلص الجميع الله [5]. وكأنها تعلن أنها من أجله خلعت المسوح ولأجله لبست المجد، وأنها لن تنطق للعمل بدونه. استدعته ليكون مرافقًا لها، لا بل ليكون في قلبها ويتكلم على لسانها، بل تكون هي مختفية فيه حتى يطلق سهامه في قلب الملك ليحوله من القسوة إلى الحب. لقد استدعت الله مخلص الجميع إذ عرفت “قلب الملك في يد الرب كجداول مياه حيثما شاء يميله” (أم 21: 1).
انطلقت أستير معها جاريتان، تستند على واحد كأنها لم تستطيع أن تقف لتنعمها وترفهها والأخرى تتبعها ترفع أذيالها… وكانت مشرقة اللون في ريعان جمالها ووجهها أنيس ومحبوب جدًا. دخلت كل الأبواب بابًا بابًا ثم وقفت قبالة الملك حيث كان جالسًا على عرشه بلباس المُلك مزينًا بالذهب والجواهر ومنظره رهيب فرفع عينيه وأظهر غضب قلبه باشتعال عينيه فسقطت الملكة واستحال لون وجهها إلى صفرة واتكأت رأسها على الجارية استرخاءً، فحوّل الله روح الملك إلى الحلم فأسرع ونهض عن العرش مشفقًا وضمها بذراعيه حتى ثابت إلى نفسها وكان يلاطفها بهذا الكلام: “مالك يا أستير أنا أخوك لا تخافي إنكِ لا تموتين إنما الشريعة ليست عليكِ ولكن على العامة، هلمى والمسي الصولجان”. وإذ لم تزل ساكنة أخذ صولجان الذهب وجعله على عنقها وقلبها، وقال: “لماذا لا تُكلمينني؟!” فأجابت وقالت: “إنيّ رأيتك يا سيدي كأنك ملاك الله فاضطرب قلبي هيبة من مجدك، لأنك عجيب جدًا يا سيدي ووجهك مملوء نعمة”. وفيما هي تتكلم سقطت ثانية وكاد يغشى عليها، فاضطرب الملك وكان جميع أعوانه يلاطفونها.
إنه لقاء عجيب يكشف عن لقاء الكنيسة الحية المختفية في المسيح يسوع القائم من الأموات مع الآب لتنعم بحبه وأحضانه الأبدية.
أقول ما أحوجنا أن ننطلق مع أستير في اليوم الثالث، حاملين في دخلنا قوة قيامة الرب التي تنزع حدادنا وتهبنا أمجادًا داخلية وثيابًا ملوكية تليق بلقائنا مع الرب السماوي. لننطلق معها ويكون معنًا أيضًا جاريتان نتكئ على الواحدة وتحمل الأخرى أذيالنا؛ كما حمل كلمة الله الناسوت كجارية له فظهر في صورة الضعف وهو ملك الملوك، لكن بقى الناسوت -الجارية الأخرى- من وراء يخضع لعمله الإلهي في انسجام… هكذا مع الفارق لنتكئ على الجسد كجارية يخضع لنفوسنا في الرب، وليكن الجسد وراءنا يسير على خطوات الروح ويخدمها ولا يكون متسلطًا عليها يحركها بشهواته وملذاته الزمنية.
لنسير مع أستير التي بدت كخائرة، وكأنها تسقط تحت الصليب مع مسيحها، تشرب معه كأس آلامه وتشاركه شبه موته لتحمل قوة قيامته.
لنكن كأستير، تختفي في الله مخلصنا، فتدخل من باب إلى باب حتى تبلغ حضرة الملك. هكذا يدخل بنا كلمة الله من قوة إلى قوة (مز 84: 7)، وينطلق بنا من مجد إلى مجد (2 كو 3: 18)، فتنفتح أمامنا الأبواب الدهرية من أجله (مز 24: 7).
أخيرًا إذ دخلت إلى الملك لاطفها: “يا أستير أنا أخوكِ لا تخافي، إنك لا تموتين إنما الشريعة ليست عليك ولكن على العامة”. ألسنا نسمع ذات الكلمات حين ندخل حضن الآب فنجد الابن أخًا بكرًا لنا، يشفع فينا لننعم بشركة أمجاده فلا نخاف الدينونة لأننا لا نموت. وكما يقول الرسول بولس في جرأة: “من سيشتكي على مختاري الله؟! الله هو الذي يبرر. من هو الذي يدين؟! المسيح هو الذي مات بل بالحرى قام أيضًا الذي هو أيضًا عن يمين الله الذي أيضًا يشفع فينا” (رو 8: 32-34).
لقد ضم الملك أستير بين ذراعيه ووضع صولجان الذهب على عنقها، هكذا يضمنا الآب في حضنه ويقيمنا كملكة بالصليب (صولجان الذهب) الذي قبلناه حاملينه مع الرب على عنقنا.
أما قولها أنها رأته كملاك الله فاضطرب قلبها من هيبة مجده فيحمل رمزًا للكنيسة التي تعاين أسرار الله وتنظر وجهه وتدخل في هيام حب أبدي لا ينقطع، وتبقى كل أبديتها تتأمله بحب ممتزج مهابة!
الآن نردد ما قاله القديس أغسطينوس: [ألم يحقق الله لها ما سألته (14: 13) إذ عمل في قلب الملك… سمع لها فغيّر قلبه بقوة خفية فعالة حتى قبل أن يسمع توسلاتها[29]].
2. دعوة الملك وهامان للوليمة 3-8:
يقول المؤرخ هيرودت Herodotus[30] أن ملوك مادي كانوا يرفضون دخول أحد إلى حجرة العرش ما لم يُستدع، لابراز مهابتهم وخشيتهم، وفي نفس الوقت حماية لأنفسهم من أي أغتيال. أما أستير فلم تدخل فقط إلى حيث العرش إنما دخلت إلى قلب الملك الذي ضمها بين ذراعية وأخذ يلاطفها ويسألها: “مالك يا أستير الملكة؟ وما هي طلبتك؟ إلى نصف الملكة تعطى لك! [3]. لم يكن يتوقع الملك إجابة أستير: “إن سؤلي وطلبتي، إن وجدت نعمة في عيني الملك وإذا حسن عند الملك أن يُعطي سؤلي وتقضي طلبتي أن يأتي الملك وهامان إلى الوليمة التي أعملها لهما وغدًا أفعل حسب أمر الملك” [7-8].
لا نعرف لماذا أجلت أستير طلبتها في وقت وعدها فيه الملك أن يهبها حتى إلى نصف المملكة، هل شعرت بشيء من الخوف فأرادت أن تستجمع شجاعتها بالصلاة طوال اليوم، أو لعلها بحكمتها لم ترد أن تتعجل الطلب حتى لا يشعر الملك أنها قد ضغطت عليه واستغلت حبه لها؟! إنما نعرف تفسيرًا أهم كان يجب أن تؤجل الحديث إلى غد حتى يمتلئ كأس شر هامان ويصنع الصليب لمردخاي [14] حتى يُصلب هو عليه. يدّ الله قد دفعتها للتأجيل حتى تتحقق خطة الله الخلاصية في أروع صورها، يتمجد مردخاي بمذلة هامان حيث كان ينادي قدامه في ساحة المدينة “هكذا يُصنع للرجل الذي يسر الملك بأن يكرمه” (6: 11)، ويعد هامان الخشبة لنفسه.
كان تأجيل الطلب على ما يبدو بإعلان إلهي إن لم يكن بصورة ملموسة فبعمل الله في قلبها وعلى لسانها كما طلبت هي أن يعطيها كلام حكمة… وخلال هذا التأجيل أسرع الله بتمجيد مردخاي بعد أن نزع الله النوم من عيني الملك (ص 6) وأسرع هامان إلى إشعال النار لحرق نفسه.
أما لماذا طلبت هامان أن يحضر مع الملك، وكانت هذه هي المرة الأولى التي فيها سألته أن يأكل هامان معهما، كما يظهر من فرح هامان نفسه وقوله لعائلته وأحبائه: “حتى أن أستير الملكة لم تُدخل مع الملك إلى الوليمة التي عملتها إلاَّ إياي، وأنا غدًا مدعو إليها مع الملك” [12]، فربما لأنها إذ أرادت أن تشتكيه للملك لم تقبل أن تفعل ذلك من ورائه، بل مواجهة معه. لقد أرادت أن تضرب بحجر عصفورين: ترضي الملك بمجيء هامان المحبوب جدًا لديه، وفي نفس الوقت تشتكي هامان أمام الملك في حضرته.
على أي الأحوال إن كانت هذه الوليمة هي وليمة الصليب التي تقيمها الكنيسة عند الجلجثة إنما لتدعو الملك فيفرح بثمر كنيسته المتألمة القائمة من الأموات، ويحضر هامان ليُحكم عليه بالصليب ويفقد كل سطوته. وكما يقول القديس جيروم: [إنه على الصليب ارتفع المسيح مصلوبًا حسب الجسد، لكنه صلب إبليس وحطّم سلطانه.
3. هامان يعد الصليب 9-14:
“خرج هامان في ذلك اليوم فرحًا وطيب القلب” [9]، إذ حسب هذا المتكبر الذي لا يفكر إلاَّ في نفسه أن الملكة ترغب في تكريمه لمصاحبته للملك في الوليمة، ولم يعلم أنها دعته لدينونته، شأنه شأن المعجبين بأنفسهم المخادعين لذواتهم، وكما قيل لأدوم: “أنت محتقر جدًا، تكبر قلبك قد خدعك” (عو 2: 3).
خرج فرحًا وطيب القلب، لكن فرحه لم يدم إلاَّ لحظات فعند الباب قبل خروجه من القصر رأى مردخاي لا يسجد له فامتلأ غيظًا… وهكذا جمع هامان أهل بيته وأحباءه ليعلن لهم غناه وكرامته، قائلًا: “وكل هذا لا يساوي عندي شيئًا كلما أرى مردخاي اليهودي جالسًا في باب الملك” [13]. إنه لا يطيق أن يرى مرخاي جالسًا في باب الملك حتى لو دُعى هو إلى وليمة الملك. هذا هو فكر إبليس نحو أولاد الله إذ لا يطيقك أحدًا منهم يجلس في باب ملك الملوك، حاسبًا هذا خسارة له.
لنتأمل شخص مردخاي الذي قدم أصوامًا وتذللًا وصرخ بمرارة في وسط المدينة، لنجده يعود إلى القصر بعد فترة التذلل، ولا ينحني بالسجود لهامان، فهو لا يقبل أن يسترضي إنسانًا على حساب الحق ولا يُقدم لإنسان ما يليق بالله وحده.
وإذ كان هامان قد فقد سلامه أشارت عليه زوجته وكل أحبائه أن يعملوا خشبة ارتفاعها خمسين ذراعًا لكي يطلب في الصباح صلب مردخاي قبل دخوله إلى الوليمة، وعمل هامان الخشبة.
صنع هامان الخشبة كما أعد إبليس الصليب خلال أعوانه، وإذ ظن هامان أنه يصلب مردخاي صُلب هو عليها، وهكذا إذ حسب إبليس أنه يتخلص من السيد المسيح بالصليب إذا بإبليس نفسه يُصلب خفية فاقدًا سلطانه على مؤمني الرب (كو 2: 14-15).
لقد صنع صليبًا ارتفاعه 50 ذراعًا حتى يستطيع أن ينعم برؤية مردخاي مصلوبًا وهو في القصر من بعيد فيشفي غليله. لكن رقم 50 يحمل معنى رمزيًا، فهو يُشير إلى الحرية، إذ في اليوبيل (السنة الخمسين) ينعم اليهود على العبيد بالعتق كما تتحرر الأرض وترد إلى أصحابها[31]… وبالصليب تحررت البشرية المؤمنة من هامان الحقيقي. ففي الصليب ترى مسيحها يفتح ذراعيه لكي يضم العالم كله – من اليهود والأمم – ليعتقهم من أسر إبليس وينطلق بهم إلى حضن أبيه.
تفسير أستير 4 |
تفسير سفر أستير |
تفسير أستير 6 |
تفسير العهد القديم |