تفسير سفر أستير ٧ للقمص تادرس يعقوب

 

في وليمة أستير نرى صورة حية لوليمة الصليب التي فيها تنعم أستير الحقيقية (الكنيسة) بالخلاص من الهلاك والقتل والإبادة [4]، وفيها ينكشف هامان الحقيقي (إبليس) فيسقط تحت قدميها في مذلة ويُغطي وجهه ويُسحب إلى الصليب حيث يفقد سلطانه بل وحياته.

 

1. الملك وهامان يشربان 1:

“فجاء الملك وهامان ليشربان عند أستير الملكة” [1].

ما هي هذه الوليمة التي قدمتها أستير ليشرب فيها الملك وهامان إلاَّ وليمة الصليب التي تقدمها الكنيسة للملك، أي لله، الذي يُسر بذبيحة المخلص ويشتمها رائحة سرور؛ لذلك يُصلي الكاهن: “هذا الذي أصعد ذاته ذبيحة مقبولة على الصليب عن خلاص جنسنا، فاشتمه أبوه الصالح وقت المساء على الجلجثة”[36].

إن كان الملك بفرح شرب في وليمة الصليب واشتم رائحة حب ابنه الحبيب فقد شرب هامان في ذات الوليمة كأس غضب الله عليه وعلى أعماله الشريرة. الوليمة التي أبهجت قلب الله بكنيسته حطمت إبليس وكشفت خداعاته ونزعت سلطانه.

2. رضى الملك على أستير 2-4:

إذ دخل الملك إلى الوليمة وشرب من محبة أستير له، قال لها: “ما هو سؤلك يا أستير الملكة فيعطى لك؟ وما هي طلبتك؟ ولو إلى نصف المملكة تُقضى” [2]. إنه يناديها باسمها، ويسألها أن تطلب ولو إلى نصف مملكته، إذ حسبها له، شريكه معه في مجده. وفي نفس الوقت يدعوها “الملكة” ليذكرها بمركزها الملوكي فمن حقها أن تطلب بدالة وجرأة لتنال قلب الملك ومجده أيضًا.

إنها مشاعر الله وكلماته لكل نفس، يُناديها باسمها كعروسه الخاص به وحده، ويدعوها ملكة حتى تدخل إلى عرش نعمته بثقة (عب 4: 16)، ويسألها أن تفرح قلبه بسؤالها إياه أن تأخذ ولو إلى نصف مملكته. لهذا يحث  السيد تلاميذه: “إلى الآن لم تطلبوا شيئًا بإسمي، اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملًا” (يو 16: 24).

الله يشتاق أن تسأله كل نفس لتنال، فإنه يود أن يهبها حتى ذاته ويجعلها وارثة تنعم بشركة أمجاده. أمام هذا الحب الإلهي الفائق ماذا تطلب الكنيسة أو النفس البشرية كعضوة في الكنيسة؟ إنها كأستير لا تطلب مالًا ولا كرامة ولا بركة أرضية، إنما طلبت من أجل خلاص نفسها وخلاص إخوتها، إذ قالت: “إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك أيها الملك وإذا حسن عند الملك فلتعط ليّ نفسي بسؤلي وشعبي بطلبتي، لأننا قد بعنا أنا وشعبي للهلاك والقتل والابادة، ولو بعنا عبيدًا أو إماء لكنت سكت مع أن العدو لا يعوض عن خسارة الملك” [3-5].

ماذا تطلب أستير وقد تعرضت حياتها وحياة شعبها للهلاك والقتل والإبادة؟!

هنا تبرز أستير كأم حقيقية تحتضن بالحب كل إخوتها، تعمل وتطلب من أجل خلاص الجميع. لم تقف في سلبية أمام إخوتها، وإنما تذللت وصلت وجاهدت حتى النهاية من أجل خلاصهم. فالحياة الإيمانية تنطق بالإنسان خارج الأنا ليعيش بفم مفتوح وقلب متسع للجميع (2 كو 6: 11).  هذا ما أعلنه الرسول حين قال: “فمنا مفتوح إليكم أيها الكورنثيون، قلبنا متسع… لذلك أقول كما لأولادي كونوا أنتم أيضًا متسعون” (2 كو 6: 11، 13). وبنفس الروح يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء  يجعل الإنسان مثل المسيح كاهتمامه بقريبه[37]]، [لا أقدر أن أصدق خلاص إنسان لا يعمل من أجل خلاص أخيه[38]]، [ليس شيء تافهًا مثل مسيحي لا يهتم بخلاص الآخرين… كل أحد يقدر أن يعين أخاه حتى ولو بالإرادة الصالحة إن لم يكن له في قدرته أن يفعل شيئًا… إن قلت أنك مسيحي ولا تقدر أن تفعل شيئًا للآخرين يكون في قولك هذا تناقضًا، وذلك كالقول أن الشمس لا تقدر أن تهب ضوءًا[39]].

3. كشف هامان الرديء 5-6:

إذ سأل الملك عن العدو الذي باع أستير وشعبها للهلاك والقتل والابادة، قالت: “هو رجل خصم وعدو هذا هامان الردي، فإرتاع أمام الملك والملكة” [6].

إن كان عمل وليمة الصليب الأول هو خلاص أستير (الكنيسة) وشعبها، فهذا لن يتحقق إلاَّ بفضيحة هامان الردي وفقدانه كل سلطان ليقف مرتاعًا أمام الله والكنيسة المقدسة. وكما يقول القديس بولس: “إذ جرد الرياسات والسلاطين أشهرهم جبارًا ظافرًا بهم فيّه (في الصليب)” (كو 2: 15). يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن الصليب، قائلًا: [به لم تعد الشياطين مرعبة بل تافهة ومزدرى بها. به لم يعد الموت موتًا بل رقادًا، فقد انطرح الذي يُحاربنا تحت أقدامنا[40]].

4. مذلة هامان أمام أستير 7-8:

إن كان الصليب قد فضح الشيطان وكسر شوكته وأفسد الموت الذي جلبه على الإنسان، وصار منطرحًا تحت قدمي المخلص، فقد دخل في مذلة أمام الإنسان الذي يملك بدونه. هذا المفهوم انكشف في سقوط هامان عند قدمي أستير الجالسة على السرير كعادة الشرق قديمًا في الولائم… وإذ كان الملك قد خرج إلى جنة القصر ربما ليفكر ماذا يعمل، عاد ليجد هامان هكذا في مذلة يتوسل وهو متواقع على السرير فقال: “هل أيضًا يكبس الملكة معي في البيت؟!” [8]. إنه لم يشك في شيء إذ يعرف مرارة نفس هامان في تلك اللحظة، لكن كلماته هذه إنما جاءت لتعبر عن ثورته الداخلية… كانت مؤشرًا للواقفين عن غضب الملك ووضع نهاية لحياة هامان.

ما قاله الملك: “هل أيضًا يكبس الملكة معي في البيت؟!” إنما تعلن عن نظرة الله إلى هامان الحقيقي أي إبليس الذي يدخل إلى قلب المؤمن ليغتصب النفس من يد الله وحضنه، وكأنه بهامان الذي يود أن يسحب أستير من حضن الملك ويغتصبها! الله إله غيور، لا يطيق أن يدخل العدو إلى بيته، ويغتصب عروسه من بين يديه!

5. صلب هامان 9-10:

إذ أعلن غضبه على هامان، “غطوا وجه هامان. فقال حربونا واحد من الخصيان الذين بين يدي الملك: هوذا الخشبة أيضًا التي عملها هامان لمردخاي الذي تكلم بالخير نحو الملك قائمة في بيت هامان ارتفاعها خمسون ذراعًا، فقال الملك: أصلبوه عليها” [8-10].

 هكذا بعدل صُلب هامان على ذات الخشبة التي عدها ظلمًا لمردخاي، وكما قيل: “الصديق ينجو من الضيق، ويأتي الشرير مكانه” (أم 11: 8)، “الشرير فدية الصديق ومكان المستقيمين الغادر” (أم 21: 18)، “الشرير يعلق بعمل يديه؛ في الشبكة التي أخفوها انتشبت أرجلهم” (مز 9: 15-16). “كما فعلت يفعل بك، عملك يرتد على رأسك” (عو 15)، “بالكيل الذي به تكيلون يكال لكم” (مت 7: 2).

لقد تهلل الشيطان بالصليب وأثار أعوانه لتحقيقه، ولم يدرك أن ما يفعله إنما يرتد عليه. وكما يقول القديس جيروم: [على الصليب خزي الشيطان وكل جيشه، بالتأكيد صلب المسيح جسديًا وإذا به يصلب الشياطين على الصليب[41]].

فاصل

فاصل

تفسير أستير 6

تفسير سفر أستير
القمص تادرس يعقوب ملطي

تفسير أستير 8
تفسير العهد القديم

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى