تعليقات لامعة على سفر التكوين للقديس كيرلس عمود الدين

المقالة الثالثة: 3-إسحق ورفقة

 

 کتب بولس الحكيم لأولئك الذين تبرروا بالإيمان واتحدوا معه وصاروا بتحنن ومسرة الآب  شركاء الروح القدس ، قائلا : « خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح » ( ۲ کو ۱۱ : ۲ ) . إن التلاميذ الطوباويين صاروا کارزين وحملوا على عاتقهم رسالة اجتذاب البشر ليكونوا عروس للمسيح . هكذا أتوا بأولئك الذين كانوا بعيدين ليصيروا قريبين من المسيح وملتصقين به و موجودين فيه بفضل نعمة الروح القدس . وسوف تظل الكنيسة ( العروس ) [1] بجوار المسيح عريسها ، إذ أن الله الآب قد أقامها وقادها وصارت موضع ثقته في الابن ، ولا ينبغي أن يشك أحد في أن هذا الأمر قد تحقق في المؤمنين المقدسين . وقد سبق وأعلن لنا داود النبي هذا الأمر مخاطباً الكنيسة قائلا : « اسمعي يا بنت وانظري وأميلي أذنك وانسي شعبك وبيت أبيك . فيشتهي الملك حسنك لأنه هو سيدك فاسجدي له » ( مز 10:45 – 11) ، وقد أكد بولس الرسول – كما قلت سابقاً – هؤلاء الذين آمنوا أنهم سيقفون بجوار المسيح كعروس . ويستطيع المرء أن يرى التقوى بوضوح فيما كتب : « وشاخ إبراهيم وتقدم في الأيام . وبارك الرب إبراهيم في كل شيء . وقال إبراهيم لعبده كبير بيته المستولي على كل ما كان له : « ضع يدك تحت فخذي . فأستحلفك بالرب إله السماء وإله الأرض أن لا تأخذ زوجة لابني من بنات الكنعانيين الذين أنا ساكن بينهم . بل إلى أرضي وإلى عشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لأبني إسحق » ( تك 24 : 1- 4 ) . فعندما أمر إبراهيم العبد بكل هذا ، أقسم العبد حالاً واضعاً يده تحت فخذ سيده ، وهذا يجعلنا نفكر أن هذا القسم يخص كل الأبناء الذين سوف يأتون من صلبه . هكذا انطلق العبد محملاً بخيرات سیده موزعاً إياها على عشرة جمال ، ووصل بسرعة إلى آرام النهرين ، إلى مدينة ناحور . وقد ترك الجمال تستريح خارج المدينة بالقرب من بئر تأتي إليه النساء في المساء ليأخذن ماء . وتضرع العبد إلى الله لكي يرشده ويريه عذراء حسنة ومحبة للغرباء ، وتتحلى بمثل هذه الصفات الحسنة بحيث لا يتردد في أن يختارها لابن سيده . لذا قال العبد : « فليكن أن الفتاة التي أقول لها : أميلي جرتك لأشرب فتقول : اشرب وأنا أسقي جمالك أيضا هي التي عينتها لعبدك إسحاق . وبها أعلم أنك صنعت لطفاً إلى سيدي » ( تك 14:24) . وبعد قليل أتت العذراء المحتشمة وذات الوجه الجميل التي هي رفقة . وعندما طلب منها أن يشرب ، رحبت به وقدمت له الماء وأبدت استعدادها أن تسقي جماله أيضا . فاستنتج العبد أن هذه هي التي يريدها الله لابن سيده ،وليست أية فتاة أخرى . وفي الحال أخذ خزامة ذهب وسوارين وقدمهم للفتاة ، وهي بدورها طلبت منه أن يأتي إلى منزلها . وهكذا نزل العبد ضيفاً في منزلها وبدأ يتحدث مع أهل البيت ، ويقول لهم بالتفصيل عن ثروة سيده ، وأن له ابناً وحيد محبوب اسمه إسحق ، وقد أعطاه أبوه كل شيء . وأبدى العبد رغبته في العودة بسرعة وطلب أن يأخذ الفتاة معه ، فسألوا رفقة هل هي مستعدة للذهاب معه . فقبلت رفقة بفرح وذهبت معه . وعندما وصلت استقبلها إسحق وتعزي كثيرة بوجودها معه بعد موت أمه . طبعا القصة طويلة ، لكننا سردناها[2] بإيجاز على قدر المستطاع ، ولكن دون إخلال بما حدث . ليتنا نفكر في هذه القصة برؤية ثاقبة لنستكشف السر المستتر وراء الظلال الغامضة ، ونرى الحق المعطى لنا . لم يقبل إبراهيم أن يزوج إسحق ابنه بامرأة من بنات كنعان ، بل أمر عبده بأن سرع إلى أرض وثنية ، لكي يبحث عن فتاة مناسبة ليزوجها لابنه . وهذا يشير إلى أن الله الآب لم يرد أن تكون هناك علاقة بين مجمع اليهود والمسيح ، إذ أن سحق يرمز إلى المسيح . وقد ولد إسحق بعد انتظار طويل وكان محبوبا من أبيه . هكذا أتى المسيح في الأيام الأخيرة وبعد انتظار طويل وهو المحبوب ، بل مشتهي كل الأمم[3]. وأيضا فإن اسم إسحق معناه « البهجة والانشراح. وكون أن الكنعانيين يشيرون إلى الإسرائيليين ، فهذا يتضح لنا من ترجمة كلمة « كنعانيين » التي تعني « الميالون للوضاعة» ، وفي الحقيقة قد صاروا أكثر وضاعة من اليهود ، وهم ملعونون في كل شيء . حسنا ، إن عروس إسحق لم تأت من کنعان ، بل من آرام ما بين النهرين . لأن الكنيسة المتحدة روحياً بالمسيح المخلص -كما قلت لم تأت من اليهود ، بل من الأمم . وهذا صار بمسرة الله و بواسطة الخدام الذين هم مؤمنون وعبيد أمناء ، وهؤلاء الخدام هم التلاميذ الذين صاروا وكلاء مدبرين لأسرار المسيح والله الآب ( ۱ کو 4 : 1) ، وأعطي لهم كل ما لسيدهم . هؤلاء بمجرد أن تركوا اليهودية مثل عبد إبراهيم حين ترك كنعان ، بشروا في البلاد التي كانت فيها عبادة الأوثان ، مقدمين كنوز الله الآب وغني الحكمة السماوية والمواهب الروحية التي فاضت على الجميع . لاحظ أيضا أن هذا العبد كان غير معروف ، وهذا يشير إلى أن كل تلميذ مؤمن ومختبر لغني الله يصلح أن يكون خادماً ( لمقاصد الله).

لقد كان العبد عند بئر الماء وقت المساء ، وتضرع في صلاته إلى الله لكي يساعده في اختيار فتاة لابن سيده ، واختير العبد الفتاة العذراء بواسطة طلب الماء. كذلك أيضا فإن التلاميذ الملهمين بالروح اختبروا وقت المساء – أي في آخر الأيام – العذراء العقلية بجوار الماء أي كنيسة الأمم[4] أنها شربت الكلمة الحية بغزارة من بئر المخلص . وكانت تتمتع بحكمة عقلية لتعطي أي أمور أخرى يحتاجها المرء لتساعده في حياته.

حسنا ، فقد سقت رفقة العبد وأيضا جماله . والعبد هنا يشير إلى بني إسرائيل . أي إلى أناس عندهم الناموس والظلال وعندهم سر المسيح مخفياً، لكنهم لا يفهمونه تماما ( انظر غلا ۲۱:۳ ) . والجمال تشير إلى الأمم الذين كانوا لا يختلفون عن الحيوانات . لأن الحيوان بحسب الناموس دنس ، وهم مثل الحيوانات الدنسة التي لم تعرف الله الحقيقي . إذن ، فالكنيسة – التي تشير إليها رفقة – هي قادرة على أن تروي بينابيعها المقدسة الإلهية أولئك الذين أتوا من اليهود وفضلوا محبة المسيح ، وكذلك المدعوين من الأمم الذين أشير إليهم بالجمال.

وإذ رأى التلاميذ أن العذراء الكنيسة جميلة ، فإنهم قدموا لها إسورة لليد وحلق للأذن . أي جعلوها لامعة وظاهرة للجميع بأمجادها التي يُسمع عنها بفرح ، وهذا ما يشير إليه حلق الأذن . وهكذا أيضا جعلوها ظاهرة للجميع بأعمال يديها أي بأعمالها العظيمة ، وهذا ما تشير إليه الأساور.

وأخبر العبد سكان حاران عن غنى سيده وعن وريثه الوحيد المحبوب إسحق . وهكذا أيضا فإن التلاميذ علموا الأمم وبشروهم بغني الله الآب ، وبالرجاء وبالحياة وبالقداسة ، وأيضا عن ابنه الوحيد الذي هو منه بالطبيعة ، الابن الحقيقي الذي هو المسيح ، و کرزوا بكل وضوح أن الابن قد صار وارث لكل شيء . وسُئلت الفتاة إن كانت تريد أن تذهب مع العبد ، وقد وافقت بدون تردد ، حدث مع كنيسة الأمم التي كانت مهيأة جدا للانضمام للمسيح من فرط محبتها له . ويشهد داود العظيم متنبأ عن الأمم : « أذنك ( يا رب ) استمعت إلى استعداد قلوبهم » ( مز ۱۷:۹ س ) .

وعندما تزوج إسحق برفقة ، قال الكتاب إنه : « تعزَّى بعد موت أمه » . هكذا فإن[5] العريس الحقيقي ( المسيح ) قد حزن لموت شعب اليهود بسبب عدم إيمانهم ، ذلك الشعب الذي ولد منه حسب الجسد ، ولكنه تعزى إذ صار عريساً لكنيسة الأمم . لأن الأنبياء بالروح قالوا موجهين الحديث للكنيسة : « و کفرح العريس بالعروس يفرح بك إلهك » ( إش 5:62) ، الذي به وله المجد مع الله الآب والروح القدس إلى أبد الآبدين آمين .

فاصل

  1. يشرح القديس كيرلس كيف أن الكنيسة التي اتحد بها المسيح هي العروس أثناء الحديث عن المنارة الموجودة في خيمة الاجتماع ، قائلا : “ الفن المرسوم على المنارة والذي به فرعا الزيتون يميناً ويساراً، هو مثال للمسيح . وإنه بوضعهما الدائري هذا ينسكب الزيت فيهما ، وهذا الزيت يشير إلى الروح القدس ، وهو الذي يروي عقول المؤمنين وفق المكتوب “ مسحت بالدهن رأسي ” ( مز 23: 5 ) . لقد تذكر هذه الفروع – مرة – المرنم الطوباوي تجاه مخلص الجميع المسيح ، قائلا عن العروس التي أتحد بها ، أي الكنيسة وأبنائها اللذين هم ثمار الإيمان ‘ ‘ امرأتك مثل کرمة مثمرة في جوانب بيتك . بنوك مثل غروس الزيتون حول مائدتك (مز 128: 3 ) . ونحن نحيا مشتركين في الروح ، أخذين الحياة من مائدة المسيح المقدسة ، معلنين إيماننا بالمسيح ” . السجود والعبادة بالروح والحق ، المقالة التاسعة.
  2. المقصود هنا هو السرد التاريخي ، ومن ثم يجيء بعد ذلك تفسير النص روحياً مثلما كان يفعل آباء مدرسة إسكندرية. 
  3. مسکونية تعليم المسيح تتأسس على العناصر الآتية :
    أ- مسکونية رسالته : “ كان هو النور الذي ينير كل إنسان آتيا إلى العالم ” ( يو 9:1 ) .” وهذه هي الدينونة أن النور قد جاء إلى العالم وأحب الناس الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة “ ( يو 19:3) . “ ما‏ دمت في العالم فأنا نور العالم ” ( يو 9: 5 ) . ‘ ‘ أنا قد جئت نورا إلى العالم حتى كل من يؤمن بي لا يمكث في الظلمة “ ( يو 46:12) .
    ب – شمولية الهدف من تعليمه : “ لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية ” ( يو 16:3) . “ إن الأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنحيل ” ( أف 6:3) .
    ج – المسيح مخلص العالم : “ ونعلم أن هذا هو بالحقيقة المسيح مخلص العالم ” ( يو 42:4 ). » لأننا لهذا نتعب ونعير لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله الحي الذي هو مخلص جميع الناس ولا سيما المؤمنين ” ( 1تي 10:4 ) . “ وهو كفارة لخطايانا . ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كل العالم أيضا ( 1یو 2:2 ) .
    د – اتحاد الكل : “ ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة ينبغي أن آتي بتلك أيضا فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد” ( یو 16:10) . “ وأنا أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد ” ( يو 12:17) . وصنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون على كل وجه الأرض (اع 26:17) .
    كنيسة الأمم هي العذراء العقلية التي تتكون من الخراف العقلية حيث تشرب من الكلمة الحية من بئر المخلص والقديس اكليمندس السكندري يصلى للمسيح في النشيد الذي يختم به کتاب “ المربي : كن أنت المرشد والراعي للخراف الناطقة ” . الخراف الناطقة ، الخراف العاقلة ، خراف اللوغوس ) الكلمة . ’
  4. يصور القديس مقاريوس علاقة النفس بالمسيح كعلاقة النفس بعريسها ، إذ يقول : إن النفس التي تحب الله والمسيح بالحق ولو عملت ربوات من أعمال البر ، تحسب نفسها كأنها لم تعمل شيئا بسبب اشتياقها للرب بدون شبع . حتى وإن أرهقت جسدها في الأصوام والأسهار ، تعتبر ذاها كأنها لم تبدأ بعد الجهاد من أجل الفضيلة . لكنها طول النهار تجوع وتعطش بالإيمان والمحبة في الصلاة المتواترة للحصول على أسرار النعمة وعلى كل فضيلة بلا شبع ، وتكون مجروحة بمحبة الروح السماوي ، وتضرم باستمرار داخلها الاشتياق المشتعل بالنعمة نحو العريس السماوي ، وتشتهي أن تؤهل بالكمال للدخول معه في شركة سرية لا ينطق ما ، في تقديس الروح ، وأن ينكشف الغطاء عن وجه نفسها ، فتنظر إلى العريس السماوي وجهاً لوجه في نوره الروحاني غير المنطوق به . وتمتزج به بكل يقين ، متشبهة بموته باشتیاق كثير ، ومنتظرة كل حين أن تموت من أجل المسيح -عظة 41.

زر الذهاب إلى الأعلى