تعليقات لامعة على سفر التكوين للقديس كيرلس عمود الدين

المقالة الخامسة: 10- يعقوب العظيم مثال لنا

 

إذن ، فلنأخذ يعقوب العظيم مثا لنا ، الذي قطع شوطاً كبيراً على قدر ما يتناسب مع عصره في الطريق المستقيم للحياة آخذاً إله الكل معيناً وقائداً له ، الله الذي ارتضي أن يسمح له – لأجل فائدته – أن يكابد أتعاباً كثيرة . لأنه ليس من الممكن أن ينال المرء مفاخر الفضيلة بدون تعب . وقد كلله الله ، بعد التجارب ، بنعم وعطايا من تلك التي تعطى للمصارعين الأقوياء بسبب مواجهاتهم الصعبة والكثيرة[1].

حسناً، لا تقل لنفسك : لماذا لم يمنح حياة بدون تعب طالما هو يعرف أنهم سيفلحون ويعترفون بإحسانه ويبجلونه ؟ إنه لو ( فعل هكذا ) فهذا معناه إنه سوف يتركهم في الحياة بدون أن يتدربوا ، وهكذا يكون أجرهم قليلاً بالمقارنة بالأجر العظيم الذي يناله من يحيا في الفضيلة. وأيضاً، فإن قبول الله لهم سيكون ليس بسبب أنهم في داخلهم لهم تأهب واستعداد وإرادة قوية ومنافسة جليلة لاكتساب المواهب، بل عكس ذلك . فإنه كان يجب عليهم أن يبرهنوا أنهم مختبرون جيدون، ويظهرون بأعمالهم مسبقاً أنهم جديرون بتلك العطايا وكان ينبغي عليهم أيضا أن يكونوا أمثلة ونماذج تُحتذى بالنسبة للاحقين في تفضيلهم للألم والصبر مبرهنين على أن أولئك الذين يحيون بتنعم لا ينالون مكافأة بينما ينال المكافأة أولئك الذين يفضلون الألم والتعب والجهد لأجل حياة صالحة.  قال أحد الحكماء : « یا بني ، إن أقبلت لخدمة الرب فأعدد نفسك للتجربة . أرشد قلبك وأصبر » ( حكمة ابن سيراخ ۱:۲) ، كما هو مكتوب أيضا « الصبر تزكية والتزكية رجاء . والرجاء لا يخزي لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المُعطى لنا » ( رو 5: 4-5 . راجع مز 20:25).

دعونا نأتي إلى الهدف من حديثنا . لقد أسرع يعقوب ، بعد رحيل لابان من جبل جلعاد ، في السير في طريقة وأراد أن يُعجل بانطلاقه . لكن بمجرد أن تحرر من هجوم لابان واستراح قليلا ، فإنه سقط حالاً في مخاوف مرعبة . لقد رحل من ما بين النهرين سائراً نحو حاران ، وكان ينبغي أن يمر في أرض سعير حيث يسكن عيسو، لذا استولى عليه خوف شديد . لأنه لم ينس أن عيسو كان غاضباً وحزيناً بسبب البركة والبكورية.

حسناً، بأي طريقة جعل أخاه عيسو يتحرر من الحزن والغضب ، ونقله إلى المحبة والوداعة ، ألا يستحق أن نتأمل في هذا الأمر الجدير بالإعجاب ؟ فنحن نقرأ ما يلي : “وأرسل يعقوب رسلاً قدامه إلى عيسو أخيه إلى أرض سعير بلاد أدوم».
أرأيت كيف إنه يلاطف عیسو ، ويقع عند قدميه متأسفاً، وقد حاول أن يتجنب غضبه الشديد بأقواله الحسنة ؟ لأنه بالرغم من أنه صار الأعظم ببركة أبيه وتفوق عليه بمجد البكورية، وكان له الله معيناً، فإنه تنازل كما يليق بالقديسين ، وتصرف بالطريقة التي أشار بها بولس فيما بعد « إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس » ( رو ۱۸:۱۲ ) . لأن الكلمة القاسية والثقيلة والمملوءة بالتفاخر والتعالي لا يمكن لأحد أن يحتملها . وكما كتب حكيم الأمثال « الجواب اللين يصرف الغضب » ( أم 15: 1) . لاحظ من فضلك بصيرة البار المملوءة تقوي . لقد أرسل رسلاً لكي يطلبوا السلام ويحملوا كلاماً لطيفاً لعيسو . لقد أمرهم بشدة أن يقولوا له : « هكذا قال عبدك يعقوب » ( تك 4:32 ) . لقد استند يعقوب على الصلاة وطلب المعونة التي تنقذ ، وعلى الرجاء في عمل الله ، فعندما أشار إلى الماضي قال : « فإني بعصاي عبرت هذا الأردن والآن قد صرت جیشین » ( تك من۱۰:۳۲ ) . كأنه يقول يا رب بعصاي فقط والتي كانت معي عبرت الأردن وصرت بعد ذلك سيداً لكثيرين نائلاً رضاك.

دعونا نحن أيضا أن نعرف من كل هذا إنه يجب أن نكون ودعاء وصانعي سلام راغبين بكافة الطرق أن نحيا في سلام ، لأنه مكتوب : « عبد الرب لا يحب أن يخاصم بل يكون مترفقاً بالجميع » ( ۲ تیمو 2: 24) . ويجب علينا أيضا أن نستخدم الطرق والأساليب البشرية[2] ، كما فعل يعقوب ، لأجل الصلاح ، وهذه لن تعيقنا ، بل ستكون من الأمور الممدوحة طالما تهدف إلى السلام والمصالحة . ومن الضروري عندما نفعل هذا الأمر أن نطلب عناية الله والمعونة السماوية بدون أن نكون « متفاخرین » ( انظر رو 12 :16) ، بل متذکرین بالحري ما هو مكتوب « ازدد تواضعاً ما ازددت عظمة فتنال حظوة لدى الرب » (حكمة ابن سيراخ ۱۸:۳ – انظر فيلي ۳:۲) .

فلنسع أن نحيا ونعمل بهذه الطريقة ، وسوف نربح خيرات الصلح والسلام ، وهؤلاء الذين لهم أساليب شرسة ضدنا ، سوف نجعلهم مسالمين . لأنه يقول : « ستكون الوحوش مسالمة لك » ( أيوب 22:5 س ) .

هذا ما فعله يعقوب . لأنه لم يلاطف أخيه فقط بكلام ناعم ومعسول ، بل قدم له عطایا ، جاعلاً إياه شريكاً في ما يملك ، إذ أعطى له جزء كبيرة من الأغنام والماعز ، وكذلك من العجول والحمير والجمال والقطعان . لأن السلام أسمي من الأموال والممتلكات ، وينبغي أن تكون الأولوية لمحبة الأخوة قبل الممتلكات الوقتية.

كان يعقوب طبعاً- كما قال هو بنفسه – خائفاً من أخيه عیسو كأن الأخير سيصب جام غضبه عليه ، لذا عاني من ضيق شديد . لكن عیسو سما فوق غيرته القديمة وعانق يعقوب . وقبله باكياً. لأنه وفقا لنواميس الطبيعة البشرية تنتصر المحبة الأخوية على الغمة الثقيلة والغضب . إذ نقرأ : « فركض عيسو للقائه وعانقه ووقع على عنقه وقبله باكياً» ( تك 4:33) . وكل مفاخر الوداعة هي ثمرة التصرف المتواضع الذي يخلو من التعالي ، وعطية رضي الله لهؤلاء الذين يحبونه، الله الذي يحل الصعاب ويقوم المعوجات ، إذ يمنح للمقربين منه نفساً هادئة.

أعتقد أنه يجب أن نغير حديثنا ، ونحاول إعطاء شرح روحي لهذه الأمور التي سردناها . حسنا ، فلنمض في حديثنا ونعود إلى بداية الكلام ، لأنه هكذا يمكن لنا أن نوضح سر المسيح لأولئك الذين يبتغون الاستفادة .

فاصل

  1. يدعونا القديس يوحنا ذهبي الفم إلى حياة الجهاد ، قائلا : “ فلتستعد هكذا مثل جندي شجاع ، وأن تكون دائماً متسلحاً، وهادئاً، ويقظاً مستعدا لهجوم العدو . لكن يجب إلا تستدعي الحرب ، لأن هذه ليست سمة جندي ، بل سمة العاصي والمخالف. أما إذا دعاك بوق التقوى ، فتجند على الفور ، احتقر الحياة ، انطلق إلى الجهاد الروحي برغبة كبيرة ، حطم فيلق الأعداء ، اقطع وجه الشيطان ، وأقم نصب الانتصار ” تفسير الرسالة إلى العبرانيين.
  2. يقصد هنا كل المناهج البشرية والأساليب العلمية والمجهودات والمبادرات التي يقوم بها البشر والتي تهدف إلى المصالحة والسلام .

فاصل

9- الاقتداء بالقديسين

المقالة الخامسة 

11- التفسير الروحي لقصة يعقوب

البابا كيرلس عمود الدين
تعليقات لامعة على سفر التكوين

 

زر الذهاب إلى الأعلى