تفسير سفر إرميا ١ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الأول
الدعوة للخدمة
افتتح السفر بمقدمة صغيرة أوضحت موطن النبي وتاريخ بدء الخدمة ونهايتها، الأمور التي سبق لنا دراستها في المقدمة. جاء الأصحاح الأول كله كمقدمة للسفر، أشبه بدستور عملي للخادم الحقيقي، بنوده الأساسية هي:
مقدمة [1-3].
مثل كثير من الأسفار النبوية قدم هذا السفر في اختصار ثلاثة أمور لفهمه: بعض الأخبار الشخصية الخاصة بالنبي، وإرساليته الإلهية، والمدة التي خلالها مارس إرميا عمله النبوي. وقد سبق لنا الحديث عن هذه الأمور.
ادراك الدعوة الإلهية [4-5].
تحدث السفر عن دعوة النبي ورسالته خلال أمرين: حوار بين الله وإرميا [4-10؛ 17-19] وخلال رؤيتين [11-16]، ركز الحوار على دعوة إرميا الشخصية والرؤيتان على رسالته.
إذ تدخل الله في حياة إرميا وتحدث معه في حوارٍ مفتوحٍ، فتح عن عينيه ليدرك إرميا من هو، وما هي رسالته في الحياة، وما هي إمكانياته في الرب.
افتتح النبي حديثه بعلاقته مع الله مرسله هكذا: “فكانت كلمة الرب إليّ قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك، وقبلما خرجت من الرحم قدستك” [4-5].
ما أعجب هذه العبارة، فإنها تكشف عن سرّ الحب العميق بين الله والإنسان.
أدرك النبي أن علاقته بالله تمتد جذورها إلى ما قبل تكوينه كجنين في أحشاء أمه، فقد كان في ذهن الله، وموضوع محبته، يمثل جزءًا لا يتجزأ من خطة الله الخلاصية! دعوته للعمل النبوي لم تقم من عندياته ولا بخطة إنسانية، لكنها بتخطيط إلهي!
لقد أدرك إرميا النبي أن حياته لم تأتِ جزافًا نتيجة اتحاد جسدي بين والديه، إنما هو أعظم من هذا. ميلاده الجسدي ليس هو بداية حياته الحقيقية، ولا موته الجسدي هو نهاية حياته! إنه من صنع الله نفسه!
إذ تحدث عن الأنبياء الكذبة يقول الله من خلال إرميا: “لم أرسل الأنبياء بل هم جروا، لم أتكلم معهم بل هم تنبأوا” (23: 21).
لكي يؤكد إرميا نبوته ذكَّر قارئيه إنه مدعو من الله مباشرة ومرسل منه للشعب الداخل في ميثاق إلهي، مثله في ذلك مثل عاموس النبي وغيره من الأنبياء (عا 7: 14-15؛ إش 6: 1-13؛ حز 1: 4، 3: 15).
هذا ما أدركه الرسول بولس الذي دُعى للإيمان وللعمل الرسولى بعد أن اضطهد كنيسة الله وافترى عليها (1 تي 1: 12-13) وأتلفها (غلا 1: 13)، إذ عرف أنه كان مفرزًا وهو في بطن أمه (غلا 1: 15).
تعبير “صورتك” مأخوذ عن عمل الله كخزاف (تك 2: 7-8)، أما الكلمة العبرية فمن الجانب الفنى تعنى “خلقتك” (عا 4: 13؛ إر 51: 19؛ إش 45: 18؛ 49: 5؛ مز 59: 5)[23].
يدعو الله الخدام والرعاة بطرق كثيرة. دُعى موسى بظهوره له على شكل عليقة ملتهبة نارًا، وأمره أن يخلع نعليه حتى يقدر أن ينصت إلى الرسالة المقدسة بخوف وخشية، ساندًا إياه بالآيات والمعجزات (خر 3). وعند دعوته لإشعياء وحزقيال النبيين قدم لهما رؤى خاصة بمجد الله والخليقة السماوية (إش 6، حز 1)، فصرخ إشعياء تحت وطأة شعوره بثقل خطاياه وخطايا الشعب، وسقط حزقيال أمام بهاء مجد الرب. أما دعوة إرميا فكانت مختلفة تمامًا، إذ يقول في بساطة: “فكانت كلمة الرب قائلاً: قبلما صورتك في البطن عرفتك…“. كان اللقاء بين الله وإرميا لقاءً طبيعيًا وكأنهما صديقان حميمان، وأن هذه الرسالة جاءت نتيجة علاقة قديمة تمتد جذورها إلى أيام تكوين إرميا في أحشاء أمه.
اختيار الله لإرميا وتقديسه وهو بعد في الأحشاء هزّ قلوب الكثيرين من آباء الكنيسة، فرأي القديس أمبروسيوس في ذلك صورة حية لعمل الله فينا لأجل تقديسنا، فإنه يهب التقديس كعطية من جانبه لا فضل لنا فيها، ويكمل قائلاً: [احفظ هبات الله، فإن مالم يعلمك إياه أحد يهبه لك الله ويوحى به إليك[24]]. ورأي القديس جيروم أن الله بسابق معرفته ادرك ما يكون عليه إرميا فإختاره للعمل النبوي (رو 8: 29): [عرف الله مقدمًا ما يكون في المستقبل عندما قدّس إرميا وهو لم يُولد بعد[25]]. ويرى القديس كيرلس الأورشليميأن الله الذي شكلّ النبي في الرحم، وهيأه للعمل النبوي، لا يخجل من أن يأخذ لنفسه جسدًا في الرحم: [إن كان الله لم يخجل من أن تكون له علاقة بتشكيل إنسان، فهل يخجل من أن يشكل لنفسه جسدًا مقدسًا كحجاب للاهوته؟![26]].
ويرى العلامة أوريجينوس أن ما جاء في العبارة السابقة إنما هو هبة لم يتمتع بها أحد من قبله أو من بعده من الأنبياء، حتى إبراهيم أب الآباء والذي يُحسب كنبي أيضًا لم ينعم بهذا. يقول:
[ماذا قالت له كلمة الرب؟
قالت له شيئًا مميَّزًا جدًا ومختلفًا عما قيل للأنبياء الآخرين. فإننا لا نجد هذا الكلام موجهًا إلى أيٍّ من الأنبياء.
فقد دُعى إبراهيم نبيًا في الآية: “إنه نبي وهو يشفع لك” (تك 20: 7)، ولم يقل له الله: “قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك” [5]؛ كما تقدس إبراهيم بعد فترة من الزمن حينما خرج من أرضه ومن عشيرته ومن بيت أبيه؛ ووُلِد إسحق بوعد، لكننا نجد أنه لم توجه إليه تلك الكلمات.
لقد حصل إرميا على عطية خاصة وهي: “قبلما صورتك في البطن عرفتك وقبلما خرجت من الرحم قدستك”[27]].
أما سرّ الامتياز فهو أن إرميا كان يرمز للسيد المسيح، الذي تنطبق عليه هذه العبارة بمفهوم فريد رائع، فإنه قبل تجسده منذ الأزل يعرف الآب ابنه وحيد الجنس، وقد قدسه بمعنى سلّم إليه العمل الخلاصى من جهة الإنسان. لم يكن السيد المسيح في عوز إلى تقديس خارجي، إذ هو القدوس، لكنه قدم ذاته للآب في طاعة ليقوم بخلاصنا، لعله لهذا قال: “لأجلهم أقدس أنا ذاتى ليكونوا هم مقدسين في الحق” (يو 17: 19). يقول العلامة أوريجينوس: [يقدس الله لنفسه بعضًا من الناس، فلا ينتظر ميلادهم ليقدسهم (يخصصهم لعمله)، إنما يفعل ذلك قبل خروجهم من الرحم… ينطبق هذا على المخلص الذي ليس فقط قدَّسه قبل خروجه من الرحم، وإنما أيضًا قبل ذلك (قبل التجسد)، أما بالنسبة لإرميا فقدسه قبلما يخرج من بطن أمه[28]].
ربما يتسأل البعض: لماذا يقول “قبلما صورتك في البطن عرفتك“، ألا يعرف الله الجميع قبل أن يصورهم في البطن؛ نجيب أن المعرفة ليست إدراكًا ذهنيًا مجردًا، وإنما هي معرفة الصداقة والحب التي تقوم بين الله ومؤمنيه. فالكلمة العبرية yada غالبًا ما تحمل تعهدًا شخصيًا، كما يعرف الرجل إمرأته (تك 4: 1)، وكما قيل: “إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض” (عا 3: 2). لهذا حزن الله جدًا لأنه “لا معرفة الله في الأرض” (هو 4: 1)، حاسبًا معرفته أفضل من تقديم محرقات (هو 6: 6)[29]. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يُعتبر الخاطى مجهولاً من الله…
لا يعرف الله الذين يصنعون الإثم، لأنهم لا يستحقون أن يكونوا معروفين لديه[30]].
[يعرف الله الأبرار الذين هم مستحقين أن يكونوا معروفين له، إذ “يعلم الرب الذين هم له” (2 تي 2: 19)، وعلى العكس فهو لا يعرف غير المستحقين لذلك، إذ يقول المخلص: “إني لا أعرفكم قط” (مت 7: 23).
نحن البشر حسب مقايسنا نحكم على بعض الأشياء أنها تستحق أن نعرفها، بينما بعضها لا نريد حتى أن نسمع عنها، ولا أن نعلم عنها شيئًا. هكذا رب كل الأشياء يريد أن يعرف فرعون والمصريين لكنهم كانوا غير مستحقين أن يُعرفوا منه. كان موسى مستحقًا أن يعرفه الله، وهكذا كان كل الأنبياء مثله.
إذن لتُمارس أعمال المحبة بكثرة، فيبدأ الرب في معرفتك. فإن كان الله قد عرف إرميا قبلما صوره في بطن أمه، لكنه يبدأ في معرفة البعض عندما يبلغون الثلاثين أو الأربعين من عمرهم…
يقدس الله لنفسه بعض الناس، أما في حالة إرميا فإنه لم ينتظر حتى وقت ولادته ليقدسه، لقد تقدس فعلاً قبل أن يخرج من الرحم[31]].
عرف (yada) الله إرميا، وقدسه (hiqdis)، وعينه أو أقامه (ntn) للخدمة النبوية.
بجانب المعرفة، أي اهتمام الله به شخصيًا والتصاقه به نجد التقديس، يعني فرز الشخص أو الشيء وعزله لكي لا ُيستخدم إلا لحساب الله. كما أفرز الله سبط لاوى لخدمته والهيكل والسبوت وأيام الأعياد والبكور والعشور الخ. من يستخدمها لغير خدمة الله يُحسب مجدفًا.
أقامه الله نبيًا للشعوب، وليس لشعبِ واحدِ، لأنه متحدث باسم الله الذي هو إله كل الشعوب، الذي يود أن يجمع الكل للتمتع به.
اتساع القلب بالحب [5].
يعلن الرب لإرميا النبي حدود خدمته؛ قائلاً له: “جعلتك نبيًا للشعوب” [5]. إن كان إرميا قد بدأ خدمته في حدود قريته التي رفضته لكن قلبه لم يضق بالناس إنما اتسع ليشمل كل يهوذا التي أصرت على رفضه مرارًا، بل يؤكد الله له أنه قدّسه “نبيًا للشعوب”. وكأنه أراد أن يخرج به من الدائرة الضيقة لكي يئن مع أنات كل إنسانٍ، ولا يستريح قلبه ما لم يسترح الكل في الرب.
هل دُعى إرميا لخدمة يهوذا، أم نبيًا للشعوب؛ من الجانب الحرفي تنبأ عن بعض الشعوب الأخرى مثل بابل (25: 12-14، أر 50)، ومصر (49)، وفلسطين (47)، وموآب (48)، وبنى عمون (49)، وأدوم (49)، ودمشق (آرام – إر 49)… وكأن الله قد جعل لإرميا دورًا يمس لا حياة يهوذا فحسب، بل وتاريخ الأمم الأخرى أيضًا[32]. حينما يدرك الإنسان رسالته التي من أجلها خلقه الله يكون له دوره الحيوي في حياة الآخرين بطريق أو آخر. أما من الجانب الروحى فكان إرميا يشير إلى السيد المسيح، الذي وهو الابن الوحيد الجنس جاء كنبي (18: 15) يسحب قلب الشعوب إلى الحياة السماوية. هكذا خدامه المرتبطون به يحملون ذات الروح، مشتاقين بروح الأبوة الجامعة الحانية أن يضموا كل إنسان إن أمكن إلى ملكوت الله. وكما يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [أؤتمن (الكاهن) على العالم كله، وصار أبًا لجميع الناس[33]].
اتضاع النفس [6-7].
إذ دُعى إرميا للخدمة لم يرفضها بطريقة مطلقة وإنما اعتذر بضعفاته الشخصية، قائلاً: “قلت: آه يا سيد الرب إني لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” [6]. وكانت إجابة الرب: “لا تقل إني ولد، لأنك إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به” [7].
للقديس غريغوريوس النزينزى تفسير روحى حيّ عن اعتذار البعض عن الخدمة وقبول الآخرين لها، إذ يقول: [جيد للإنسان أن يتراجع عن (دعوة) الله إلى حين كما فعل العظيم موسى (خر 4: 10) وإرميا من بعده، لكننا نقبل الدعوة بعد ذلك حين يدعونا ونحن متأهلون كما فعل هرون (خر 4: 27) وإشعياء (1: 6). يلزم أن يتم ذلك خلال الشعور بالمسئولية، فيكون التراجع بسبب الشعور بالحاجة إلى قوة، ويكون القبول بسبب قدرة ذاك الذي دعانا[34]].
في حديث للأب غريغوريوس (الكبير) عن الرعاية يقدم لنا إشعياء مثالاً لمن بالحب يقبل الخدمة، وإرميا كمثال لمن بالحب يعتذر عنها، قائلاً: [من هذين الرجلين تظهر صورتان متباينتان في الخارج لكنهما يصدران عن ينبوع حبٍ واحدٍ. توجد وصيتان للحب: حب الله وحب القريب. بينما اشتاق إشعياء إلى نفع أقربائه خلال الحياة العاملة مشتهيًا عمل الكرازة، اشتهي إرميا الالتصاق بمحبة خالقه بمثابرة خلال الحياة التأملية، معتذرًا عن إرساله للكرازة[35]].
على أي الأحوال، لم يعتذر إرميا عن الخدمة لبلادةٍ في قلبه، ولا هربًا من المسئولية، وإنما شوقًا إلى فترة خلوة مع الله ولو إلى حين مع شعوره بالضعف الشخصي أمام إدراكه لجسامة المسئولية، فجاء هذا الشعور يؤكد تأهله لقبول عمل الله فيه، إذ يعمل الله في المتواضعين. كما يقول القديس أمبروسيوس: [اختار الله موسى وإرميا ليعلنا كلمة الله للشعب خلال الاتضاع، فيقدران أن يحققا هذا العمل بالنعمة[36]]. ويقول الرسول بولس: “اختار الله جهال العالم ليخزى الحكماء، واختار الله ضعفاء العالم ليخزى الأقوياء، واختار الله أدنياء العالم المزدرى وغير الموجود ليبطل الموجود، لكي لا يفتخر كل ذى جسد أمامه” (1 كو 1: 27-29). إذن سرّ القوة لا في الإناء المختار، وإنما في العامل فيه، لهذا يؤكد الرب لإرميا في أكثر من موضع “أنا معك” [8-9].
ويتساءل العلامة أوريجينوس[37]: كيف يمكن أن تنطبق كلمات إرميا النبي: “لا أعرف أن أتكلم لأني ولد” على المخلص، مادام الأول رمزًا له؟ ويجيب بأنه في العهد القديم قيل عن المخلص بكل وضوح: “ها العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل… قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير تُخلى الأرض التي أنت خاشٍ من ملكيها” (إش 7: 14، 16). فقد قيل “قبل أن يعرف الصبي…”، إذ “أخلى نفسه” (في 2: 7)، وجاء عنه في الإنجيل أنه كان “يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس” (لو 2: 52). فإنه إذ أخلى ذاته بنزوله على الأرض أخذ من جديد ما قد تركه خلال إخلاء ذاته بإرادته؛ ليس غريبًا أن ينمو من جهة الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس، بهذا يتحقق القول: “قبل أن يعرف الصبي أن يرفض الشر ويختار الخير” وما غير هذا من النصوص التي ذكرها إشعياء. يقول العلامة أوريجينوس إن المخلص هو كلمة الله العالم بكل شيء، في اتضاعه قبل أن يتجسد ويصير طفلاً ليتعلم لا الأمور الكبيرة وإنما الأمور الصغيرة، لا لغة الله فهي لغته وإنما لغة البشر، لكي يكون مشابهًا لنا في كل شيء. لقد كان التأنس حقيقة بكل معنى الكلمة، حمل ناسوتنا وتدرج معنا في كل شيء كواحدٍ منا حتى يرفعنا إلى مجده الأبدي.
نعود إلى النص الكتابي حيث يجيب الله إرميا: “لا تقل إني ولد (تطلق الكلمة على الطفل المولود حديثًا أو الصبي حتى بلوغه الثلاثينات للزواج)[38]”، فإن كان إرميا بحسب عمره صغيرًا، لكنه في عيني الله ناضج روحيًا. وكما يقول العلامة أوريجينوس: [يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الداخلي حتى وإن كنا شيوخًا حسب الجسد، كما يمكن أن نكون أولادًا صغارًا حسب إنساننا الخارجي ولكننا ناضجون حسب الإنسان الداخلي، وهذا ما كان عليه إرميا، إذ كانت لديه نعمة الله وهو بعد ولد صغير حسب الجسد. لذلك قال له الرب: “لا تقل إني ولد”. وأما علامة أنه إنسان ناضج (كامل) وليس بولد فهو ما جاء بعد ذلك “إلى كل من أرسلك إليه تذهب وتتكلم بكل ما آمرك به، لا تخف من وجوههم”[39]].
لقد اعتذر إرميا عن الخدمة كما فعل موسى النبي (خر 3). وقد رأي بعض الدارسين أن إرميا هو “موسى” جديد أقامه الله للشعب، من جهة:
أ. اعتذارهما في البداية عن الخدمة لشعورهما بالعجز البشري!
ب. كانا يتشفعان في شعب الله بحبٍ شديدٍ ومرارةٍ!
ج. نالا وعدًا بأن يضع الله كلماته في فمهما (1: 8؛ خر 3: 12).
د. أراد موسى أن يخلص الشعب من عبودية فرعون، وأراد إرميا أن يخلص الشعب من عبودية الخطية التي تدخل بهم إلى الأسر البابلي.
هـ. قدم موسى للشعب ميثاق الله معهم، وأعلن إرميا عن عهد جديد مع الله (31: 31-34).
شجاعة الخادم [8].
الاتضاع لا يعني الاستكانة، إنما الشعور بضعف الإنسان وعجزه بذاته، مع الإيمان بإمكانيات الله الجبارة التي تسنده، فيعمل بشجاعة دون خوف أو اضطراب. فالراعي بل وكل مؤمن حقيقي يتمسك بكلمة الله الحازمة التي تعلن الحق وتفضح الباطل، يكون موضع غضب السالكين في الظلمة بل وأحيانًا موضع مضايقات حتى العاملين في الكرم، لذا جاء في سفر ابن سيراخ: “إن أردت أن تخدم الرب فأعدد نفسك للتجربة”.
يقول العلامة أوريجينوس: [يعرف الله المخاطر التي تلاحق الموكلين على الكلمة من المستمعين لهم، فعندما يوبخون يكرههم الناس، وعندما يلومون يُضطهدون، فيتحمل الأنبياء كل هذه الآلام إذ “ليس نبي بلا كرامة إلا في وطنه وفي بيته” (مت 13: 57). هكذا إذ يعرف الله المخاطر التي تلاحق من يرسلهم يقول: “لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك يقول الرب” [8]. فقد جاء عن إرميا أنه أُلقى في الجب (38: 6) فكان لا يأكل إلا رغيف خبز كل يوم (37: 21) ولا يشرب إلا قليل ماء محتملاً آلامًا كثيرة، وكما قيل لليهود: “أي الأنبياء لم يضطهده آباؤكم؟!” وقيل أيضًا: “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع ُيضطهدون” (2 تي 3: 12)، وذلك خلال العمل العدواني وبكل وسيلة للمضايقة. كذلك يتحمل المضطَهدون كل الآلام بدون تذمر، راجين أن ُيضطهدوا بلا سبب وليس بسبب خطأ ارتكبوه، وإذا حدث أن أُضطهدنا من أجل الحق، فلنسمع هذا التطويب: “طوبى لكم إذا عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين افرحوا وتهللوا؛ لأن أجركم عظيم في السموات، فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين قبلكم” (مت 15)[40]].
لقد أكدّ الرب لإرميا: “لا تخف من وجوههم لأني أنا معك لأنقذك” [8]. هذه كلمات صادرة عن الفم الإلهي، يلتزم بها الله بارادته المملؤة حبًا نحو كل خدامه الأمناء، ألا وهي “معية الله”، أن يكون معهم (خر 4: 12؛ يش 1: 5، 9؛ قض 6: 16؛ 1 صم 3: 19؛ 16: 13، مت 28: 20). الخدمة شاقة بل ومستحيلة بالأذرع البشرية، لأنها في جوهرها خدمة إقامة من الأموات، لا موت الجسد بل موت النفس؛ الأمر الذي يمارسه الخالق المخلص خلال خدامة المتكئين عليه.
يؤكد له: “هأنذاك جعلتك اليوم مدينة حصينة وعمود حديد وأسوار نحاس على كل الأرض… فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب: لأنقذك…” [18-19]. لم يعد الله إرميا بإزالة المتاعب عنه، لكنه وعده بمؤازرته اثناء الشدائد والضيقات، لا لكي لا يسقط فحسب، وإنما يجعل منه مدينة حصينة تحتضن الكثيرين، وعمود حديد يُبنى عليه هيكل الرب، وأسوار نحاس يختفي وراءها الكثيرون في المسيح يسوع. إنه يهب خدامه كلمته “كمطرقةٍ تحطم الصخر” (23: 29)، ويقدم لهم اسمه ليبيد الشر المحيط بهم (مز 118: 11).
الله لا يمنح قديسيه عدم التعرض للتجارب، إنما يعطيهم القوة للغلبة، وكما يقول القديس بيامون: [لا يختلف القديس عن الخاطي في أنه ليس مُجربًا مثله، بل يختلف عنه أنه لا يُقهر حتى من الهجوم العنيف، أما الآخر فينهزم من أقل تجربة[41]].
العجيب أن الله لا يطمئن خدامه بنزع التجارب عنهم بل يهددهم إن تركوا روح الشجاعة ليس فقط ينهزمون بل هو أيضًا يرعبهم، إذ يقول: ” لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم” [17]. وكأن سرّ نجاحهم هو شجاعتهم في الرب.
أخيرًا إذ اعتذر إرميا عن الخدمة بسبب ضعفه دفعه الله إلى الإيمان به ليحيا بروح الشجاعة، واهبًا إياه إمكانية الغلبة والنصرة على كل العقبات دون أن يلزمه بالخدمة قسرًا. في هذا يتحدث القديس يوحنا الذهبي الفم عن العاملين في كرم الرب، قائلاً: [أنظر، في سلطانهم أن ينطقوا أو يمتنعوا عن الكلام. فإنهم لا يلتزمون بالعمل قسرًا… فقد هرب يونان (يونان 1: 3)، وتأخر حزقيال (حز 3: 13) واعتذر إرميا (1: 6) ومع ذلك لم يدفعهم الله قسرًا ولا ألزمهم بالعمل وإنما نصحهم وأرشدهم وهددهم… وأنار أذهانهم لكي تدرك الأمور الضرورية[42]].
الاختفاء في كلمة الله [9-14].
“ومدّ الرب يده ولمس فمي، وقال الرب ليّ: ها قد جعلت كلامي في فمك” [9]. يختفي خادم الله في كلمة الله تمامًا، ويخفيها في أعماقه ليعيش بها. إنه يُبتلع في الكلمة، والكلمة تبتلعه…
بقدر ما يظهر الخادم بذاته ينَّمق الكلمات، تخرج الكلمة مشوهة وضعيفة بلا سلطان؛ وبقدر ذوبانه فيها تخرج في بساطتها قادرة أن تخترق أعماق القلب لتهب سلامًا وروحًا وحياة! لهذا تُصلي الكنيسة في ليتورجية الأفخارستيا أن يهب الله خدامها ألا ينطقوا إلا بكلمة الحق، أي “كلمة الله”؛ فتطلب من أجل الأب البطريرك أن يكون مفصلاً كلمة الحق باستقامة، ومن أجل العاملين معه: “والذين يفصلون كلمة الحق باستقامة أنعم بهم يارب على كنيستك”.
جاء في الدسقولية: [اهتم بالكلام يا أسقف إن كنت تقدر أن تفسر ففسر كلام الكتب. إشبع شعبك واروه من نور الناموس، فيغتني بكثرة تعاليمك[43]]. ويقول القديس إيرنيموس: [يلزم أن تتناسب كلمات الكاهن مع قراءات الإنجيل. لا تكن بليغًا في الأسلوب فحسب، ولا مكثرًا في الكلام، تثرثر بلا هدف. إنما كن عميقًا في الأمور، مختبرًا أسرار الله[44]]. كما يقول: [اقرأ الكتب المقدسة باستمرار، فلا ترفع الكتاب المقدس قط من يدك. تعلم ما ستُعلمه للآخرين، ملازمًا للكلمة الصادقة التي بحسب التعليم لتكون قادرًا أن تعظ وتوبخ المناقضين (1 تي 3: 4)…[45]] ويقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [الذي يميز المعلم هو قدرته على التعليم بالكلمة[46]].
سرّ القوة إذن في حياة إرميا أن الله مدّ يده، ولمس فيه، وجعل كلامه فيه. وللعلامة أوريجينوس تعليق جميل على مدّ الله يده ولمس فم إرميا، إذ يقول: [لاحظ الفارق بين إرميا وإشعياء. فإشعياء يقول: “ويل لي إني هلكت لأني إنسان نجس الشفتين وأنا ساكن بين شعب نجس الشفتين، لأن عينيّ قد رأتا الملك رب الجنود” (إش 6: 5)، وبعد هذا الاعتراف… لم يمد الله يده ويلمسه، ولكن طار إليه واحد من السيرافيم وبيده جمرة قد أخذها بملقط … ومسّ بها فمه، وقال: إن هذه قد مست شفتيك فانتزع أثمك وكفر عن خطيتك (إش 6: 6-7)، أما إرميا فتقدس وهو في بطن أمه، ولم يرسل له الله ملقطًا أو جمرة من على المذبح، إذ لم يكن به شيء يستحق النار، بل مدّ يده ذاتها ولمسته[47]].
هكذا تمتع إرميا النبي بتقديس الله له وهو في البطن، كما أُنعم عليه بلمسة يد الرب لفمه لينال الكلمة في داخله… أما عمل الكلمة الإلهية في حياة رجال الله فهي: “أنظر قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم وتهلك وتنقض وتبني وتغرس” [10].
يقول الرسول بولس: “لأن كلمة الله حية وفعالة وأمضى من كل سيف ذي حدين” (عب 4: 12)، فهي تفصل بين الشر والخير، وتميز بين مملكة إبليس ومملكة الله، تقلع جذور الخطية وتغرس بذار الصلاح، تهدم الفساد وتبني برّ المسيح فينا. هكذا كان الله صريحًا مع نبيه إرميا منذ اللحظة الأولى، علّمه التمسك بكلمة الله التي تهدم وتبني، وتقلع وتغرس! رسالة صعبة وقاسية تثير الشعوب والممالك ضده. لم يرسله ليقدم كلمات لينة مهدئة، وإنما ليعمل بالهدم والنقض والاقتلاع، وفي نفس الوقت البناء والغرس.
يقول القديس أغسطينوس: [هذا هو صوت الحق. هذا ما يفعله الأطباء حينما يقطعون، إذ يجرحون ويشفون. يحملون السلاح لكي يضربوا بالمشرط، ثم يتقدموا ليشفوا[48]]. وجاء في مناظرات القديس يوحنا كاسيان: [يعتمد الكمال العملي على نسق مزدوج: الوسيلة الأولى هي التعرف على طبيعة كل الأخطاء وطريقة علاجها، والوسيلة الثانية هي اكتشاف تدبير الفضائل… يجدر بنا أن نعرف أننا نبذل جهدًا بغرض مزدوج: سحق الرذيلة ونوال الفضيلة[49]].
هذا هو عمل كلمة الله المزدوج في حياة الإنسان الداخلية، وفي حياة الكنيسة والعالم، لكنه عمل واحد متكامل، فلا بناء بدون هدم، ولا غرس دون اقتلاع! هذا هو أيضًا عمل الروح القدس في المعمودية حيث يقوم بهدم الإنسان القديم وأعماله الشريرة، لينعم المؤمن بالإنسان الجديد الذي على صورة خالقه. وكما يقول القديس كيرلس الأورشليمي للمعمدين حديثًا: [كنتم تموتون وفي نفس اللحظة كنتم تولدون، كانت مياه الخلاص بالنسبة لكم قبرًا وأمًا[50]]. ويقول القديس غريغوريوس النزينزي: [إن الخطية دفن في الماء… والمعمودية نوال للروح[51]]. ويقول القديس جيروم: [الذي ينال المعمودية في الآب والابن والروح القدس يصير هيكل الله، فينهدم البناء القديم ليقوم مقدس جديد للثالوث القدوس[52]].
يرى العلامة أوريجينوس أن هذا العمل من الهدم والبناء خاص بالسيد المسيح نفسه، إذ يقول:
[أين هي الشعوب التي قلعها إرميا؟
وأين هي الممالك التي هدمها؟
لأنه مكتوب بكل وضوح: “قد وكلتك اليوم على الشعوب وعلى الممالك لتقلع وتهدم”.
أي سلطان كان لإرميا حتى ُيهلك، إذا افترضنا أن هذه الكلمة موجهة لإرميا: “وُتهلك”؟
هل يوجد أعداد كثيرة من الناس بناهم إرميا حتى يقال له: “وتبني”؟
يعلن إرميا: “لم أعمل صلاحًا” فكيف إذًا يُكلف بـ البناء والغرس؟
إذا طُبقت هذه الكلمات على المخلص فلا تُحير المفسرين أو تقلقهم ، لأن إرميا هنا هو رمز للمخلص[53]].
إن كان عمل الكلمة هو هدم شعوب وممالك واقامتها… فما هي هذه الممالك من الجانب الرمزي؟
يقول العلامة أوريجينوس:
[مَن مِن الناس أخذ كلامًا من عند الله وله نعمة الكلمات الإلهية يقوم بقلع وهدم شعوب وممالك؟
عندما نقول أن من أخذ كلامًا من الله لقلع وهدم شعوب وممالك، أرجوك ألا تأخذ كلمتي “شعوب” و”ممالك” بالمعنى المادي؛ إنما باعتبار أن الخطية تملك على النفوس البشرية، بحسب كلمات الرسول: “إذًا لا تملكن الخطية في جسدكم المائت” (رو 6: 12)، وبما أن هناك أنواع جديدة من الخطايا، فسوف نفهم أن المعنى الرمزي لـشعوب وممالك هو الشرور الفظيعة الموجودة في نفوس البشر، والتي تُقلع وُتهدم عن طريق كلام الله المعطي لإرميا أو لغيره من الأنبياء[54]].
[توجد ممالك كما توجد شعوب، فتوجد مملكة النجاسة وتوجد شعوب النجاسة تبسط أعمال الشر في حياة كل شخص، كالطمع والسرقة… أنظر إلى الخطاة، كل واحدٍ فواحدٍ، فتفهم الشعوب موضوع المملكة… كلمة الرب مُرسلة إلى الشعوب والممالك بالقلع والغرس؛ فماذا تقتلع؟ لقد علمنا مخلصنا “كل غرسٍ لم يغرسه أبي السماوي يُقلع” (مت 15: 13). توجد داخل النفوس أشياء لم يغرسها الآب السماوي، هي “أفكار شريرة، قتل، زنى، فسق، سرقة، شهادة زور، تجديف” (مت 15: 19). هذه لم يغرسها الآب السماوي. أتريد أن تعرف من الذي غرس أفكارًا من هذا النوع؟ اسمع ما قيل: “إنسان عدو فعل هذا” (مت 13: 28)، زرع زوانًا وسط الحنطة (مت 13: 25). الله يهتم ببذوره، والشيطان أيضًا، فإن تركنا الحقل فارغًا للشيطان يزرع الغرس الذي لم يغرسه الآب السماوي، الذي يجب اقتلاعه تمامًا. إذن لا تتركوا الحقل فارغًا للشيطان بل للرب فيزرع البذور في نفوسنا بفرح. لا تظنوا أن إرميا قد حصل على خدمة مؤلمة عندما ملك على ممالك وشعوب، فإن الله الصالح كان بكلمته يقتلع كل ما هو مخزي، ينزع ملكوت العدو عن الملكوت السماوي، ويقتلع شعوب الأعداء (الخطايا) عن شعب الله! [55]].
إذن بكلمة الله يقتلع خادم الله الغرس الغريب لكي يقوم الآب بتقديم غرسه في النفس؛ ويهدم مملكة الخطية لكي يقيم الرب مملكته السماوية؛ ويطرد الشعوب الغريبة الدنسة (الرجاسات) لكي يتمجد الله في شعبه.
لكي تبني كلمة الرب مملكته في داخلنا يلزمنا أن نتركها تهدم فينا ما هو غريب عنها، وتنزعه تمامًا، تحرقه بنارٍ أو تُلقي به خارجًا حتى لا يعوق البناء الجديد والغرس الجديد. لهذا السبب كان البيت المضروب بالبرص تُقلع حجارته التي فيها الضربة، وتُطرح خارج المدينة في مكانٍ نجسٍ (لا 14: 40)… لا يكفي قلع الحجارة، وإنما يلزم ألا تُترك فتحتل حيزًا مقدسًا أو تسرب النجاسة إلى غيرها، بل تُطرح خارجًا… هكذا لا نترك فينا أثرًا للخطية بل ويُحرق الغرس الغريب تمامًا كما بنار… إذ يقول: “اجمعوا أولاً واحزموه حزمًا ليحرق” (مت 13: 30).
يقول العلامة أوريجينوس:
[“لتقلع وتهدم”،
يوجد بناء من الشيطان، ويوجد بناء من الله.
البناء الذي “على الرمل” هو من الشيطان، لأنه غير مؤسس على شيء صلب موحد، أما البناء الذي “على الصخر” فهو من الله؛ أنظر ماذا ُيقال للمؤمنين: “أنتم فِلاحة الله، بِناء الله” (1 كو 3: 9).
إذًا يُوجَّه كلام الله ليكون “على الشعوب وعلى الممالك، ليقلع ويهدم، ليهلك وينقض”. إذا قلعنا ولم نقم بإهلاك الشيء المقلوع، فإن هذا الشيء يبقى؛ وإذا هدمنا ولكن بدون أن نهلك (نُزيل) حجارة الأساس فإن ما تهدم يظل باقيًا. فمن مظاهر صلاح الله وحبه أنه بعد ما يقلع يهلك، وبعدما يهدم يبيد ما قد هُدِم.
أما فيما يختص بالأشياء المقتلعة والمهلكة، فاقرأ بعناية كيف يتم إهلاكها: “احرقوا القش بنار لا تُطفأ، واجمعوا الزوان حزمًا وألقوها في النار”. هذه هي طريقة الإبادة والإهلاك بعد القلع.
أتريد أن ترى أيضًا الهلاك الذي يحدث للأبنية الفاسدة بعد هدمها؟ كان البيت الذي يتم هدمه بسبب البَرَص يتحول إلى تراب، ثم يؤُخذ هذا التراب وُيلقى خارج المدينة، حتى لا يبقى حجر واحد، كما في العبارة “سوف أبيدهم كما وَخل الشوارع” أو (سوف أساويهم بالأرض).
يجب ألا تبقى مطلقًا الأشياء الفاسدة؛ إنما يتم إهلاكها لتجنُّب استخدام بقاياها في بناء أبنية جديدة يعملها الشيطان، كما يتم اقتلاع الأشياء الفاسدة حتى لا يجد الشيطان فيها بذارًا أخرى يزرعها من جديد، يتم أهلاكها حتى لا توجد فرصة للشيطان لكي يزرع الزوان مع الحنطة[56]].
لا يقف الأمر عند الهدم ونزع كل أثر للشر، وإنما يجب أن يلازمه العمل الإيجابي، وهو بناء المملكة الجديدة وتقديم الغرس السماوي. يقول العلامة أوريجينوس: [لا يقف كلام الله عند هذا الحد، عند القلع والهدم والإهلاك… ماذا يفيدني نزع الأشياء المخجلة وهدم ما هو شرير إن لم يحل مكانه غرس الخيرات العليا وبناء الأمور الفاضلة؟! لهذا فإن كلمة ربنا تعمل أولاً بالضرورة على القلع والهدم والإفناء، ثم بعد ذلك البناء والغرس… يقول “أنا أميت وأحييّ” (تث 32: 39). لم يقل أحييّ وبعد ذلك أميت، فإنه يستحيل أن ما يعمل الرب على إحيائه ينزعه (يميته) الآخر… ماذا يميت؟ إنه يميت شاول المشتكي والمضطهد ليجعله يحيا فيصير بولس رسول يسوع المسيح (2 كو 1: 1)!… إذن يبدأ الرب بالأمور الأكثر حزنًا لكنها لازمة، فيقول “أميت”، وبعدما يميت “يُحييّ”. يسحق ويشفي (تث 32: 39)، لأن الذي يحبه الرب يؤدبه!… يجب أن ُيقتلع الشر من جذوره، ويُهدم بناء الإثم تمامًا ويُطرح خارج نفوسنا، لكي تبني كلمة الرب فينا وتغرس. لأنه لا يمكنني أن أفهم تلك العبارة بطريقة أخرى: “ها قد جعلت كلامي في فمك.” لماذا؟ “لتقلع وتهدم وتهلك”. نعم إنها كلمات تقلع شعوب. كلمات تهدم ممالك، ولكن ليست الممالك المادية التي في هذا العالم، إنما يجب عليك أن تفهم بطريقة سامية ما هو المقصود بالكلمات التي تقلع والكلمات التي تهدم. عند ذلك تُمنَح قوة من الله كما هو مكتوب: “الرب يعطي كلمة للمبشرين بعظم قوة”، قوة تقلع ما تصادفه من عدم الإيمان، أو الرياء أو الرذيلة. قوة تهلك وتهدم إذا ما تواجدت أوثان مُقامة في داخل القلب، حتى إذا ما هُدم الوثن يُقام مكانه هيكل للرب، وفي هذا الهيكل يترأي مجد الله ويظهر، فلا يعود ينبت زوان، وإنما فردوس الله في هيكل الله، في المسيح يسوع[57]].
هذه الكلمة الإلهية التي بها يهدم ويبنى، ويقلع ويغـرس، يهتم بها الله نفسه، إذ هي كلمته. يقول النبي: “ثم صارت كلمة الرب إليّ قائلاً: ماذا أنت راءٍ يا إرميا؟ فقلت: أنا راءٍ قضيب لوز. فقال الرب لي: أحسنت الرؤية، لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها” [11-12].
لقد رأي إرميا “قضيب لوز (shaqed)”، هو القضيب الذي أفرخته عصا هرون الجافة، التي وإن كانت لا تحمل حياة في ذاتها لكنها أثمرت كلمة الله الحية لإشباع المخدومين. ويرى العلامة أوريجينوس أن قضيب اللوز يشير إلى ضرورة معرفة الخادم لكلمة الله من الجانب الحرفي، والجانب السلوكي، والجانب الروحي، فاللوزة لها غلاف خارجي مُرّ يسقط تلقائيًا عند نضوجها، هذا هو التفسير الحرفي أو الظاهري، وهو مرّ وقاتل، عاق اليهود الحرفيين وأيضًا الغنوسيين عن بلوغ المعرفة الحقيقية[58]. ولها أيضًا غلاف داخلي سميك نقوم بكسره لكي نأكل الثمرة التي في داخله، يشير هذا الغلاف إلى التفسير السلوكي أو الأخلاقي، خلاله يدخل المؤمن إلى حالة إماتةٍ وكسرٍ، خلال الحياة النسكية السلوكية من أصوامٍ ومطانيات وميتات كثيرة. وأخيرًا الثمرة الداخلية وهي حلوة ومشبعة، تشير إلى التفسير الروحي الخفي، وهي غذاء مشبع للمؤمن، لا في هذه الحياة الحاضرة فحسب، وإنما في الأبدية أيضًا[59].
يلاحظ أن “قضيب اللوز” يعني في العبرية “الساهر” وعلة هذه التسمية أن شجر اللوز يزهر مبكرًا في شهر فبراير قبل سائر الأشجار. تمتلىء الشجرة بالورد الأبيض لتعلن أن فصل الشتاء قد قارب على الانتهاء، وأن فصل الربيع أوشك على الاقتراب. بمعنى آخر، أنتهي وقت الموت (للنبات) لتحل الحياة من جديد! تشهد شجرة اللوز لعمل الله الفائق الذي يخرج الحياة من الموت! وكأن هذه الشجرة تبقى “ساهرة” على بقية الأشجار، فتشير إلى الله الذي يسهر على كلمته لتعمل في حياة الناس، إذ يقول: “لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها” [11].
يؤكد الله لإرميا خطأ ما يقوله الكثيرون في عصره، كما في كل العصور حتى يومنا هذا: “الرب لا ُيحسن ولا ُيسىء” (صف 1: 12)، بمعنى أن الله لا يفعل شيئًا، لا حول له ولا قوة!
من جهة أخرى، كأن الله يُعطي لإرميا النبي طمأنينة وتحذيرًا في نفس الوقت، فإن كان العمل صعبًا ومرًا، لكن الله نفسه هو العامل، فلا يليق به أن يخاف أو يضطرب، وفي نفس الوقت الله هو الملتزم بكلمته والساهر عليها، فإن لم يعمل النبي بالكلمة الإلهية يعمل الله بآخر غيره.
إن كان الله يجرى بنفسه كلمته وهو ساهر عليها لكنه يطلب من جانبنا نحن أيضًا أن نسهر لئلا يحل بنا الشر. لهذا بعد رؤية قضيب اللوز، جاءت رؤية القِدْر المنفوخة ووجهها من جهة الشمال حيث الشر قادم.
“ثم صارت كلمة الرب إليّ ثانية قائلاً:
ماذا أنت راءٍ؟
فقلت: إني راءٍ قِدرًا منفوخة ووجهها من جهة الشمال.
فقال الرب لي:
من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض” [11-14].
يرى العلاّمة أوريجينوس أن التطلع نحو الشمال يشير إلى السهر والحذر من الشر القادم على النفس البشرية لتحطيم خلاصها، إذ يقول:
[لتُوضع المنارة في الجنوب لكيما تتطلع نحو الشمال. لأنه عندما يُضاء النور، أي عندما يكون القلب ساهرًا يلزم أن يتطلع نحو الشمال ويلاحظ ذاك القادم من الشمال، وكما يقول النبي أنه رأي “قِدرًا على نار ووجهها من جهة الشمال، لأن “من الشمال ينفتح الشر على كل سكان الأرض” [14].
في سهرٍ ورعدةٍ وغيرةٍ يليق به أن يتأمل على الدوام في حيل الشيطان، ويلاحظ من أين تأتي التجربة، ومتى يقتحمه العدو، ومتى يزحف نحوه. إذ يقول الرسول بطرس: “إبليس خصمكم كأسد زائر يجول ملتمسًا من يبتلعه هو” (1 بط 5: 8)[60]].
الأمانة في العمل [15-19].
إن كان النبي قد أُقيم كوكيل لله، إذ يقول له الرب: “أنظر. قد وكلتك هذا اليوم على الشعوب…” فهو ملتزم أن يعمل بروح موكله، يقلع ويغرس، ويهدم ويبني. هذا العمل أجرته ضيق ومرارة من العالم نحو العاملين به.
قدم الله لإرميا النبي رؤيا ثانية، إذ نظر قدرًا منفوخة من جهة الشمال تنفتح فوهتها بالشر نحو الشعب، ويفسر له الرؤيا هكذا: “لأني هأنذاك داعٍ كل عشائر ممالك الشمال يقول الرب، فيأتون ويضعون كل واحدٍ كرسيه في مدخل أبواب أورشليم وعلى كل أسوارها حواليها وعلى كل مدن يهوذا؛ وأقيم دعواى على كل شرهم، لأنهم تركوني وبخروا لآلهة أخرى وسجدوا لأعمال أيديهم” [15-16]. بهذه الرؤيا أوضح الله لإرميا كل شيء مقدمًا، كموكل قدم لوكيله خطته الإلهية بكل وضوح حتى لا يُفاجأ بها الوكيل فيضطرب عندما يرى الضيق قد حلّ بأورشليم وكل مدن يهوذا. هذا ما فعله السيد المسيح مع تلاميذه حين حدثهم مقدمًا بكل ما سيحل بهم من ضيقات ليستعدوا لمواجهتها. ومن جهة أخرى أوضح له أنه يعمل بكل الطرق فيستخدم حتى الأمم الشريرة لتأديب شعبه.
لما كانت أغلب متاعب إسرائيل تأتي من الشمال (من الأشوريين والأراميين والبابليين) لذا صار الشمال رمزًا لقوى الظلمة[61].
يرى القديس جيروم في هذه الرؤيا أن الله يسلم أولاده للشيطان مؤقتًا للتأديب حتى يذوقوا مرارته فيعودوا إلى أبيهم السماوي، كما فعل معلمنا بولس مع من ارتكب الشر مع إمرأة أبيه، إذ قال: “حكمت كأني حاضر… باسم ربنا يسوع المسيح… أن يُسلم مثل هذا للشيطان لهلاك الجسد لكي تخلص الروح في يوم الرب يسوع” (1 كو 5: 5). ويرى القديس جيروم أن بالقدر لحمًا (حز 24: 10-11) حتى يصير الخطاة لطفاء عوض القساوة وذلك بعمل النيران، فتصير قلوبهم لحمية عوض أن كانت حجرية[62].
يلاحظ أن الرؤيا الأولى مفرحة حيث ُتقدم كلمة الله كلوز مشبع للنفس له لذته، والثانية مرة ومؤلمة خاصة بالتأديب الحازم. وكأن الله يود أن يقدم كلمته العذبة لكل نفس لتنعم وتشبع بها، فإن رفضتها يسمح لها بالتأديب الذي يبدو قاسيًا ومرًا. وفي هذا كله يطلب الله ودّنا وحبنا ومجدنا الأبدي!
ولا تقف الأمانة عند تبليغ الرسالة فحسب وإنما تمس الحياة الداخلية، فأمانة الوكيل ُتعلن من خلال تقديسه الداخلي اللائق به كوكيل للقدوس. لهذا يقول له: “أما أنت فنطّق حقويك، وقم، وكلمهم بكل ما آمرك به. لا ترتع من وجوههم لئلا أريعك أمامهم” [17]. طالبه أن يمنطق حقويه ويقوم، فإنه إذ يمنطق حقويه يكون كمن يشترك في وليمة الفصح (خر 12: 11)، يشترك في العبور مع الشعب من عبودية الخطية للدخول في أورشليم العليا. أما قوله “قم” فتؤكد أنه لن يقدر أن يتمم رسالته الكرازية والشهادة للكلمة مالم يقم مع المسيح يسوع ربنا فيقيم إخوته معه!
في تفسيرنا لسفر الخروج رأينا تمنطق الحقوين يشير إلى الدخول في حياة الإماتة لشهوات الجسد وضيقه كما بمنطقة، لأجل تحرير النفس وانطلاقها بالروح القدس إلى السمويات.
إذن فعلامة الأمانة في العمل الكرازي إنما هو التمنطق، أي الدخول إلى الموت مع المسيح والتمتع بقوة قيامته، عندئذ يستطيع الخادم أن يتكلم بكل ما يأمره به الرب، إذ تخرج الكلمة حية وفعّالة، عاملة فيه هو أولاً، فيقبلها الناس كحياة؛ وبهذا أيضًا لا يرتاع من وجوه الناس لأنه إذ مات وقام هل يخاف الموت بعد؟! بهذا يقيمه الله مدينة حصينة وعمودًا حديديًا وأسوار نحاس على كل الأرض [18]، يصير سرّ بركة للكثيرين، يسندهم ويعينهم ويكون بالمسيح الصخرة هو أيضًا صخرة لكثيرين. بهذا يسمع الصوت الإلهي: “يحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني أنا معك يقول الرب لأنقذك” [19].
من وحي إرميا 1
لست واحدًا من بين البلايين!
v كثيرًا ما تطلعت إلى نفسي،
فظننت إني واحد من بين بلايين المخلوقات،
لكنني اكتشفت أنك خلقتني وعرفتني شخصيًا!
قدستني وأقمتني لأتمم رسالتك!
v قد يزدري بي العالم،
وقد استهين أنا بنفسي،
لكنك لن تتجاهلني… فأنا محبوبك أيها العجيب!
v أفرزتني وأنا في أحشاء أمي؛
قلت لي:
“أنت لي، وأنا لك!
اخترتُكَ لتعمل لحسابي،
وأنا أقدس ذاتي لأجلك!”
حقًا، ما أعجبك يا شهوة قلبي!
v صغير أنا عن أن أتمم رسالة إلهية،
أعترف لك إني ولد!
لكن بك أستطيع كل شيء يا قوتي!
v مدّ يدك، ولتلمس شفتي،
فلا أنطق بكلمة مزاح،
ولا أتفوه بكلمة باطلة،
بل أحمل كلماتك النارية،
أفيض بنعمتك ينابيع مياه حية!
v كلمتك كقضيب لوز!
لتحطم الغلاف الخارجي، الحرف القاتل،
ولتهبني ثمرة اللوز الروحية شبعًا لنفسي!
v كلمتك مشبعة ومفرحة،
لكنها أيضًا حازمة وجادة!
هب لي حبك وسمِّر في خوفك!
بكلمتك أدرك من أنا يا حبيب نفسي!
علمني، دربني، أدبني، ولا تغضب عليّ!
v هب لي أن أختفي فيك،
هب لي أن أحتمي بك،
فأنعم بثمرة كلمتك الحية في داخلي!
ليتنى أقتنيك،
ويقتنيك معي كل بشر،
فأنت الكل لي ولهم يا مخلصي!
مقدمة | تفسير سفر إرميا | تفسير العهد القديم |
تفسير إرميا 2 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر إرميا | تفاسير العهد القديم |