تفسير سفر إرميا أصحاح 13 للعلامة أويجانوس

عظة ١٢

تفسير الآيات من : ” فتقول لهم هذه الكلمة . هكذا قال الرب إله إسرائيل. كل زق يمتلئ خمرا ” ( إر 13: 12) ، إلى : ” وتبكى عيني بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبى قطيع الرب ” ( إر 13: 17) .

1. إن الكلام الذي يقوله النبي بأمر من الله ، يجب أن يكون جديرا بأن يقال من الله. ولكنه في بعض الأحيان يبدو غير جدير بالله إذا توقفنا في فهمنا لهذا الكلام عند مجرد الحرف فقط ، حتى إن بعض هؤلاء الناس الذين يتمسكون بالحرف يقولون عند سماعهم لكلام الكتاب المقدس : إن هذا الكلام ما هو إلا جهالة! هذا ما سوف يقوله الإنسان الحيواني ( الجسداني ) لأن ” الإنسان الحيواني لا يأخذ ما يوافق روح الرب ، فهو بالنسبة له جهالة ” . أنظر إذا ما يقول الكتاب : فتقول لهم هذه الكلمة . هكذا قال الرب إله إسرائيل ” -وما يقوله الرب إله إسرائيل يجب أن يكون جديراً بإله إسرائيل- ” كل زق يمتلئ خمرا . فيقولون لك : أما نعرف معرفة أن كل زق يمتلئ خمرا ؟ ” أو فيقولون لك : هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زق يمتلئ خمرا ؟ .

فإذا كان هؤلاء الناس الذين أجابوا بتلك الإجابة قد قالوا ذلك متمسكين بالحرف ومتظاهرين أنهم يعرفون أن كل زق يمتلئ خمرا ، فهم في ذلك مخطئين ، لأنه ليس صحيحا أن ” كل زق يمتلئ خمرا ” . فإنه في الواقع توجد زقاق تكون مملوءة زيتاً أو أي سائل آخر ، ويوجد منها أيضا ما يظل فارغاً؛ إذا فإنهم مخطئون ، ومع ذلك يجيبون : ” هل نحن جاهلون حتى لا نعرف أن كل زق يمتلئ خمرا ؟ ” . سوف نشرح هذه الإجابة كالأتي : إذا كان يوجد بين الزقاق واحداً يمكن أن يقال عنه زق جيد ، إذا فسوف يملأ بخمر تناسب جودته ، وإذا كان الزق فاسداً فسيملأ بخمر تناسب فساده . ونجد الكتاب المقدس أمثلة عن أنواع الخمر المختلفة ، فعن الخمور الرديئة الفاسدة يقول : ” لأن كرمهم يأتي من كرمة سدوم وزرعهم من عمورة ، عناقيدهم عناقيد مرارة وعنبهم مر ، خبزهم سم مميت”.

وعن الخمور الجيدة يقول : ” لأن حبك أطيب من الخمر ” . وتدعونا ” الحكمة ” لنشرب كأسها فتقول : “تعالوا كلوا خبزي واشربوا خمري الذي أعددته لكم ” . فيوجد إذا خمر سدوم ويوجد أيضا خمر الحكمة . ويقال كذلك : ” كان لحبيبي كرم على أكمة خصبة ‘ ( إش 5 : 1 ) ، والكرم الذي يزرعه الله يسمى كرمة سورق ( إر2: 21) لأنها كرمة مختارة وجميلة المنظر. ويوجد أيضا كرمة عند المصريين ضربها الله ، كما في الآية : ” وضرب الرب كرومهم بالبرد ” .

2. إذا فإنني أرجوك أن تتخيل معي ، أن جميع الناس في استطاعتهم الآن أن يمتلئوا بالخمر ؛ ومن أجل ذلك فسوف أسميهم زقاقا ، وسأقول إن الشرير منهم سوف يمتلئ بخمر كرمة سدوم ، وخمر المصريين ، وخمر أعداء إسرائيل ؛ بينما البار منهم فسوف يمتلئ بخمر من كرمة سورق ، وبالخمر التي كتب عنها ” لأن حبك أطيب من الخمر ” . ويمكننا أيضا أن نطبق هذه الكلمات على موضوع الرذيلة والفضيلة حتى نفهم أن كل زق يمتلئ خمرا ، ولكن ينبغي أيضا أن نعرف ما هي عواقب الرذيلة وعواقب الفضيلة : عقوبات للرذيلة ، وبركات ووعود للفضيلة ؛ ولنوضح الآن من خلال كلمات الكتاب المقدس كيف أن العقوبات وأيضا الوعود يشار إليها بالخمر : يقول الرب لإرميا : ” خذ كأس خمر هذا السخط من يدي واسق جميع الشعوب الذين أرسلك أنا إليهم إياها. فيشربوا ويترنحوا ويتجننوا ويسقطوا ” ( إر 25: 15-16) . إذا فلقد أشار هنا إلى العقاب بخمر السخط . وإذا أردت أن ترى أيضا كأس البركة التي يشربها الأبرار ، كان يمكننا أن نكتفي بكلام سفر الحكمة : ” اشربوا الخمر التي أعددتها لكم ” ولكن مع هذا تأمل أيضا السيد المسيح حينما صعد في عيد الفصح إلى العلية الكبيرة المعدة ليحتفل بالعيد مع تلاميذه ، وأعطاهم كأس الخمر قائلا لهم : ” اشربوا منها كلكم . لأن هذا هو دمى الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا . اصنعوا هذا لذكري ” وأيضا : ” وأقول لكم أني من الآن أشرب من نتاج الكرمة هذا إلى ذلك اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي ” ( مت 26: 37).

لاحظ إذا أن الوعد هو ” كأس العهد الجديد ” ، والعقاب هو ” كأس خمر السخط ” ، حيث يشرب كل واحد بما يتناسب مع أعماله سواء الصالحة أو الشريرة . لذلك فإن ” كل زق ” سواء كان جيداً أو فاسداً سوف يمتلئ بالخمر التي تناسب طبيعته.

3. وبسبب الخطاة الموجودين في أورشليم في ذلك الوقت وفي اليهودية ، فإن إرميا يوضح ما هو نوع الخمر الذي سيملأ الله به الزقاق أي الخطاة . فيقول بعد ذلك : ” فيقولون لك أما نعرف معرفة أن كل زق يمتلئ خمرا . فتقول لهم . هكذا قال الرب . هاأنذا أملأ كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة ” . فإن الله الذي يعاقب لم يشفق على أحد. فإنه حتى النبي إذا أخطأ فسوف يملأ بجميع تلك التهديدات التي ذكرت ، ولن ينقذه حينئذ اسم ” نبي” من العقاب. كذلك أيضاً فإنه ليس من يدعى كاهن ويبدو أن له درجة أعظم وأعلى من العلماني ، يمكنه أن ينال إشفاقا من الله إلى الدرجة التي لا يعاقبه فيها على خطاياه. فإنه حتى إذا أخطأ أحد من بين الكهنة – أقصد بذلك نحن الكهنة المسيحيين – أو من بين اللاويين الذين يقودون الشعب – أقصد بهم الشمامسة – فسوف يُعاقب بذات العقاب.
ولكن توجد أيضا بركات خاصة بالكهنة يمكننا أن نراها بنعمة الرب عندما نقرأ سفر العدد ، حيث تذكر هذه البركات فيه.

إذا فإن ” كل سكان هذه الأرض والملوك الجالسين لداود على كرسيه والكهنة والأنبياء وكل سكان أورشليم ” يقول الرب أنه سوف يملأهم سكراً، وسوف ” أحطمهم الواحد على أخيه الآباء والأبناء معاً يقول الرب“. فلنفهم هذا أيضاً هكذا : إن الله يجمع الأبرار ويُفرق ( يحطم ) الخطاة . وكذلك فإن الله لم يفرق الناس حينما كانوا يعيشون في المشرق ( تك 10: 30) ، أما عندما ارتحلوا عن المشرق وتحولوا عنه ، وقال بعضهم لبعض : “هلم نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء ” ( تك 11: 4) فقال الله بشأنهم : ” هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم فتبلبلت ألسنتهم وتبددوا على وجه كل الأرض ( تك 11: 9). وهكذا أيضاً بالنسبة لشعب إسرائيل، فطالما كانوا لا يخطئون كانوا متجمعين في اليهودية ، ولكن منذ أن بدأوا يخطئون تفرقوا وتبددوا كل واحد منه في مكان من الأرض.

ويجب أن نعلم أنه يحدث بالنسبة لنا جميعاً شيئاً مماثلاً. فإنه توجد كنيسة في السماء حيث جبل صهيون ومدينة الله الحي ، أورشليم السماوية ، وهناك سيجتمع كل المختارين والمطلوبين ليكونوا في شركة بعضهم مع بعض ، بينما سيحصل الخطاة على عقاب إضافي يتمثل في عدم وجودهم مع بعضهم البعض. إني أعرف ملوكا في هذا العالم يحبون استخدام ” النفي إلى الجزر كعقاب ، وأنه حينما يخطئ إنسان في مملكتهم ، فإنهم يقومون أيضا بنفي عائلته إمعانا في عذابه وعذابها ، إلى درجة أنهم في هذا النفي يقومون بتفريق وتشتيت أفراد العائلة : الزوجة في مكان ، والابن في مكان ، والابن الآخر في مكان ، حتى أنه في وسط الكارثة ، لا تستطيع الأم أن تطمئن على ابنها ، ولا يستطيع الأخ أن ينعم بصحبة أخيه . ولك أن تتخيل شيئاً كهذا بالنسبة للأشرار . فيجب عليك أيها الخاطئ أن تذوق هذه المرارة الشديدة الآن التي يوقعها الله بك ، حتى ترتد عن طريقك فتخلص.

ونفس الشيء بالنسبة لك أيضاً، فإنك لا تعاقب خادمك أو ابنك لمجرد رغبتك في إيذائهم ، وإنما لتصلحهم من خلال الآلام ، وهكذا فإن الله يقوم بإصلاح الخطاة الذين لا يرجعون من أنفسهم، وذلك من خلال توقيع الآلام عليهم ، وإلا لما تابوا ولا رجعوا ، وبالتالي أيضا لما شفوا. إذا فإن هذه الضربات التي تحل بنا هي نافعة لتعليمنا ، كما يقول الكتاب : ” بلا توقف بالألم والسوط سوف تتعلمين يا أورشليم“.

وكذلك فإن التفريق ( التبديد ) يزيد من القيمة التعليمية للألم ، عندما نفرق الذين نعاقبهم كل واحد بعيداً عن الآخر بحيث لا يوجدون مجتمعين ؛ وذلك لأنه إذا اجتمعوا مع بعضهم فإن قوة الألم سوف تضعف من خلال كلمات التعزية التي سيتبادلونها ليخففوا آلام بعضهم البعض.

4. وإذا كان يجب إضافة مبرر آخر للتفريق إلى جانب ما تم شرحه ، فإليك أيضا هذا السبب : فإن الأشرار حينما يجتمعون معاً، فهم لا يفكرون ألا في الشر ويعملون دائما على زيادته وكذلك أيضا الأبرار حينما يجتمعون فلا يفكرون ألا في الخير . إذا فإن نيات الأشرار وأهدافهم التي تتشدد وتقوى بوجودهم معاً، سوف تذوب وتتحطم حينما يتفرقون ويتشتتون . ولذلك فإن الله في عطفة ورفقه بالخطاة يعمل على تفريقهم عن بعضهم حتى يقل شرهم ويتلاشى بدلاً من أن ينمو ويكثر.

5. ” لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم ” . ( إر 13: 14).

يعتمد الهراطقة على تلك الكلمات ويستندون عليها ليقولوا : انظروا ما يقوله خالق العالم ورب الأنبياء عن نفسه ، فكيف يمكن إذا أن يكون إلها صالحاً؟

فإنني أخذ هنا مثلاً للقاضي الذي لا يشغل فكرة ألا الصالح العام ، وبالتالي فهو يطبق القانون دون إشفاق على المخطئ ، فهو يعاقبه حتى يحمى باقي المجتمع . فيمكنني بهذا المثال أن أوضح بطريقة مقنعة ، أن الله في إشفاقة على البشرية كلها يرفض أن يشفق على إنسان واحد ؛ ثم أتى أيضا بمثال آخر لطبيب يرفض أن يشفق على عضو واحد من أعضاء الجسد في سبيل إشفاقه على الجسد كله.

فلنفترض مثلاً أن قاضياً حدد لنفسه مهمة إقرار السلام للشعب الخاضع لقضائه وأن يحافظ على مصالحهم؛ ولنفترض أنه حضر أمامه في المحكمة قاتلاً حسن المظهر وملامحه جذابه، وأن والدة هذا القاتل جاءت إلى القاضي لتستعطفه وتسأله أن يشفق على ابنها ويرحم شيخوختها، وأن زوجة القاتل طلبت له أيضاً الرحمة ، وكذلك أيضا أبناءه التفوا كلهم حول القاضي ليترجوه من أجل أبيهم : أمام كل ذلك ، ما هو النافع للصالح العام ؟ أن يرحم القاضي أو أن لا يرحم ؟ أني أجيب بأنه ، إذا رحمة القاضي فأنه سوف يعود إلى خطأه ؛ أما إذا لم يرحمة فإن القائل سوف يموت وإنما سيصبح المجتمع في حالة أفضل.

نفس الشيء يقال بالنسبة لله: فإنه إذا أشفق على القاتل ورحمة وذهب في إشفاقة هذا إلى درجة عدم معاقبته على خطأه ، فمن من الناس لن يندفع في طريق الشر ؟ ومن من الخطاة لن يزيد في شره ويتحول إلى الأسوأ ؟ ويمكننا أن نرى أشياء مماثلة تحدث في الكنائس : فمثلا إنسان يخطئ ثم يطلب أن يتناول من الأسرار المقدسة بعد خطأه ، فإذا أشفقنا عليه سريعاً، فإن الشعب كله سوف يُحرض على فعل الشر وسوف تزيد أخطاء الآخرين ؛ ولكن إذا عرف القاضي ( الكاهن ) مبلغ الخسارة التي سوف تلحق بالشعب في حالة السماح لهذا الشخص بالتناول والتساهل معه في خطأه ، فإنه يجب عليه في هذه الحالة طرد هذا الخاطي ، ليس على سبيل الوحشية أو عدم الإحساس ، وإنما لأنه يهتم به ويهتم أيضا بكل الشعب قبل أن يهتم به كفرد واحد ، إذا فهو يطرد الفرد ليخلص الجماعة.

انظر أيضاً إلى الطبيب ولاحظ كيف لو أشفق على المريض ولم يستخدم معه المشرط في الوقت المناسب، ولو أشفق عليه ولم يعالجه بأنواع الأدوية الكاوية حتى يجنبه الآلام المصاحبة لهذه الأنواع من العلاج ، انظر كيف سيتفاقم المرض وتزيد خطورته عن ذي قبل . أما إذا تقدم الطبيب في جرأة ولجأ إلى الاستئصال أو إلى الكي ، فإنه في هذه الحالة يمنح المريض الشفاء، رغم أن المظهر الخارجي يوحي بأنه يرفض أن يشفق وأن يرحم المريض بتعريضه لكل الألم.

كذلك أيضاً الله ، فإنه لا يمارس سلطة لمصلحة إنسان واحد وإنما لمصلحة العالم أجمع. يدير ما في السماوات وما على الأرض وما في كل مكان. وهو يعمل إذاً لمصلحة كل العالم وجميع الكائنات ؛ وهو يعتني أيضاً، بقدر المستطاع ، بمصلحة الفرد بشرط ألا تتعارض وألا تكون على حساب مصلحة الجماعة. ومن أجل ذلك أعدت النار الأبدية وأعدت أيضا جهنم وكذلك الظلمات الخارجية ، ليس لأجل الإنسان المعاقب وحده ، بل أيضا لأن فيها العالم مصلحة الجميع.

6. وإذا أردت أن أذكر لك مثالاً من الكتاب المقدس يشهد أن معاقبة الخطاة تكون أيضا من أجل نفع الآخرين وتعليمهم ، حتى ولو كنا يائسين من شفاء هؤلاء الخطاة أنفسهم ، فإليك ما يقوله سليمان الحكيم في سفر الأمثال : ” اضرب المستهزيء فيتذكى الأحمق ” ( ام 19 :25)، فهو لم يقل إن الذي يضرب هو الذي يتذكى ويعود إلى عقله بسبب الضربات ، وإنما يقول إن الأحمق بسبب الضربات الواقعة على المستهزيء يكف عن التمادي في حماقته ويصير عاقلاً. فهو يتغير حينما يرى عقاب الآخرين .

وكما أن سقوط إسرائيل كان فيه خلاص الأمم ، كذلك أيضا فإن عقاب البعض يكون فيه خلاص الآخرين. فمن أجل ذلك يقول الله في صلاحه : ” لا أشفق ولا أترأف ولا أرحم من إهلاكهم ” .

7. ” اسمعوا وأصغوا . لاتتعظموا لأن الرب تكلم. أعطوا الرب إلهكم مجداً قبل أن يجعل ظلاماً وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة فتنتظرون نوراً، فيجعله ظل موت ويجعله ظلاماً دامساً. وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكى في أماكن مستترة من أجل الكبرياء وتبكي عيني بكاء وتذرف الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب ” . ( إر 13 : 15-17). فهو يريدهم ان يسمعوا وأن يصغوا ( يميلوا بأذانهم)، ولا يكفيه أن يسمعوا فقط أو أن يصغوا فقط ؛ ثم يأمرهم بالا يتعظموا ويعلمهم ما يجب أن يفعلوه.

ما هو إذا السماع ؟ وما هو الإصغاء ؟ فلنفهم ذلك من خلال الكلمات نفسها :
اصغوا” : أي تقبلوا الكلام في أذانكم ؛ و ” اسمعوا ” : أي تقبلوا الكلام في أذهانكم. وبما أنه توجد في الكتاب المقدس بعض الكلمات الغامضة والأسرار الخفية كما توجد أيضا بعضها ظاهر وبسيط في فهمه ، فإنني أظن أنه بالنسبة للكلمات الغامضة قيل : ” اسمعوا ” ، وللبسيطة قيل ” أصغوا“. ثم بعد أن نكون قد سمعنا وأصغينا ، يوصينا قائلا : ” لا تتعظموا ” لأن ” كل من يرفع نفسه يضعفها“.

كما أن المخلص يقول لنا : “تعلموا منى لآني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم” ، فهو يعلمنا ألا نتعظم. لأنه إلى جانب شرور الناس الكثيرة، فإن هذه الخطية ( التعاظم ) منتشرة بيننا: فتارة نتعظم ونتفاخر بلا أي سبب ، وتارة نتعظم من أجل شيء لا يستحق أي تعظم بالمرة ، وتارة نتعظم من أجل أن الشيء الذي فعلناه يستحق بعض التعظيم، وحتى في ذلك فإن تعظمنا يصيرمؤذي لنا.

8. وسوف أوضح الآن ما أريد أن أقوله . يفتخر أناس بكونهم أبناء حكام ، وبقدرتهم على إنزال بعض الكهنة من درجاتهم الكهنوتية ، مثل هؤلاء يتعظمون ويتفخرون من أجل أمور تافهة لا طائل من ورائها ، وبالتالي فإنه لا يوجد أدنى سبب لتعظمهم هذا . ويوجد من يفتخرون بأنهم يملكون سلطان إعدام الناس ، ويفتخرون بأنهم قد حصلوا على ما يسمونه امتیاز Promotion يمكنهم من الإطاحة برؤوس الناس : إن مجد هؤلاء الناس يكون في خزيهم ( في 3 : 19) . وآخرون يفتخرون بغناهم ، ليس الغنى الحقيقي ، بل الغنى الأرضي. وغيرهم يفتخرون بامتلاكهم منزلاً جميلاً مثلاً ، أو أراض كثيرة. لا تستحق كل هذه الأشياء حتى أن توضع في الاعتبار ، ولا يليق بنا أن نتفاخر بأي منها.

الأشياء التي تعطينا الحق في التعظم والتفاخر، هي أن نفتخر بأننا حكماء ، أو أن نفتخر ( بتعقل ) بأننا منذ عشر سنوات مثلا لم نقترب من الملذات الجسدية والشهوات ، أو لم نقترب منها منذ الطفولة؛ أو أيضاً حينما نفتخر بحمل القيود في أيدينا من أجل السيد المسيح، هذه أشياء تدعو للتفاخر عن حق ، ولكن حتى هذه الأشياء أيضاً، فإذا حكمنا عقلنا بالحق، نجد أنه ليس لنا أن نتعظم أو نتفاخر بها.

كان لدى بولس الرسول ما يدعوه للتعظم بسبب الرؤى والإعلانات والمعجزات والعلامات وبسبب الآلام التي تحملها من أجل السيد المسيح ، وبسبب الكنائس التي أقامها في أماكن كثيرة من العالم ، في كل ذلك كان لديه ما يدعوه للتفاخر ، وبحسب الأشياء الخارجية الظاهرة التي تدعو للفخر، كان سيبدو افتخار بولس الرسول شيئا طبيعيا بالنسبة للناس ؛ ومع ذلك ، وبما أنه من الخطر عليه أن يتفاخر ، حتى بالنسبة لتلك الأشياء ، فإن الآب في رحمته ، كما أعطاه تلك الرؤى ، أعطاه أيضا على سبيل الرأفة به ، ملاك الشيطان ليلطمه لئلا يرتفع ؛ ومن أجل هذا الموضوع تضرع بولس إلى الرب ثلاث مرات أن يفارقه ، فأجابه الله : ” تكفيك نعمتي لأن قوتي في الضعف تكمل ” (2 کو 12: 7-9).

إذا يجب علينا ألا نتعظم ولا نتفاخر باي شيء ، لأن الكبرياء يصاحبه السقوط ، كما يقول الكتاب : ” قبل الكسر الكبرياء ، وقبل السقوط تشامخ الروح ” ( أم 16 :18).

9. لنري بعد ذلك ماذا يوصينا الله أن نفعل ، فهو يقول : ” أعطوا الرب إلهكم مجداً قبل أن يجعل ظلاما وقبلما تعثر أرجلكم علي الجبال العتمة فتنظرون نوراً“.

فهو يريد أن من يعطي الرب مجداً، يعطيه مجداً في وجود النور ، لأن مجد الرب لا يمكن أن يعلن حينما يأتي الظلام . فمتي إذا يأتي الظلام ، ومتي لا يأتي؟

اعملوا مادام النور فيكم “. فإن النور في الواقع هو موجود فيك ، طالما تحمل في داخلك السيد المسيح الذي قال عن نفسه ” أنا هو نور العالم ” . وطالما هذا النور موجود فيك أعط إذاً مجداً للرب ؛ ولكن اعلم أن الظلام يمكن أن يأتي ، فلا يجب أن تنتظر وقوع هذا الظلام ، بل أعط مجداً للرب قبل مجيئه.

۱۰. ربما يمكننا أن نفهم بوضوح هذا الموضوع إذا استعنا بكلام السيد المسيح: اعملوا مادام نهار . يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل ” ؛ فهو يقصد بالنهار وقتنا الحاضر ، وبالظلام والليل ، انتهاء العالم وفناءه بسبب عقاب الأشرار. ويقول عاموس النبي : ” ويل للذين يشتهون يوم الرب . لماذا لكم يوم الرب . هو ظلام لا نور ” ( عا 5 : 18). فإذا عرفت كم سيكون الحزن والشقاء عند هلاك العالم ، سيصيب الحزن تقريبا معظم الجنس البشري الذين يعاقبون على خطاياهم ، وعندئذ ستعرف أن الجو سيصبح معتماً ومظلماً بحيث لا يستطيع أحد أن يمجد الله ، لأنه حتى الأبرار أوصاهم الله قائلا : ” اذهب يا شعبي . ادخل إلي بيتك ، وأغلق عليك بابك ، اختبئ قليلاً أو كثيراً حتى ينتهي حمو غضبي ” . فلنلاحظ أيضا في تلك الكلمات أن الرب قال : ” قليلا أو كثيرا ” . إن هذا الوقت القليل هو قليل بالنسبة لله ، ولكنه ليس كذلك بالنسبة للإنسان .

كم يجب أن نعلم أيضا أن الأشياء تكون قليلة وكثيرة بالنسبة للمخلوقات. وسوف أخذ مثالا على هذا : فإنه بالنسبة للحيوانات فإن كمية الطعام قد تكون قليلة إذا ما قيست بحجم أجسادهم أو أن تكون أيضا كبيرة بالنسبة لقدرتها علي الأكل.

وكذلك فإن ما يبدو قليلاً بالنسبة للإنسان البالغ يكون كثيراً بالنسبة للطفل. وهكذا كل زمان الحياة الإنسانية ، حتى بالنسبة لشيخ مسن ، ما هي إلا فترة قصيرة بالنسبة للعصر الحالي. ونفس الشيء في علاقتنا بالله ، فإن الذي هو قليل بالنسبة لله يكون في نظرنا وبالنسبة لنا كثيراً، والقليل عنده يماثل عصرا بأكمله عندنا.

11. “ أعطوا الرب إلهكم مجداً” . كيف يمكننا أن نعطي الرب إلهنا مجداً؟

لا نعطي الرب إلهنا مجدا بمجرد ترديدنا لبعض الكلمات والأصوات ، وإنما إذا أردنا تمجيده ، فلنمجده بأعمالنا . مجده بضبط النفس ، مجده بعمل الخير ، بالحق ، بالشجاعة ، والصبر والاحتمال ، مجد الله بالقداسة وكافة الفضائل الأخرى . وإذا كانت تلك هي طريقة ” تمجيد الله ” ، فلا تعتبروا أنني أجدف حينما استخدم التعبير المضاد ” إهانة الله ” ، لأنني في هذا أيضا أستعين بالكتاب المقدس ليشهد على كلامي . إن الإنسان البار يمجد الله ، والإنسان الشرير يهين الله ؛ وذلك كما في حالة نبوخذنصر ، فلقد هدم هيكل الرب ودنسه ، وبتعديه للناموس أهان الله ، كما يقول الرسول . إذا فإن الإنسان الخاطيء يهين الله ، وإذا أثير موضوع العناية الإلهية حتى إن البعض يشكون في وجود هذه العناية ، فإن ذلك يرجع إلى سبب واحد وهو وجود الرذيلة. فإذا نزعت الرذيلة فإنك لن تتعثر أبداً بعد ذلك في موضوع العناية الإلهية . فإن الذين يتعثرون فيها يقبلون الأوضاع ويبدلونها حينما يقولون : لماذا يوجد كل هؤلاء الزناة ، وكل هؤلاء الشواذ ، وكل هؤلاء الأشرار والملحدين ؟ وهم بذلك يتهمون العناية الإلهية ويهينون الله ويجدفون علي خالق الكون لأنهم خطاة . وبذلك فإن بعض الناس يمجدون الله بأعمالهم الحسنة ، وبعضهم يهينون الله بخطاياهم.

12. ” أعطوا الرب إلهكم مجدا قبل أن يجعل ظلاما وقبلما تعثر أرجلكم على جبال العتمة ” .إذا فإنه توجد جبال معتمة وجبال مضيئة ، ولكن بما أن النوعين هما جبال ، إذا فالاثنان أيضا مرتفعان . وتتمثل الجبال المضيئة في ملائكة الله القديسين ، والأنبياء ، وموسي ” الخادم ” ورسل السيد المسيح ، كل هؤلاء الجبال ، جبال مضيئة ، وأعتقد أن هذه هي التي كتب عنها في المزامير : ” أساساته في الجبال المقدسة“.

وما هي الجبال المعتمة ؟ إنهم الذين يقيمون مرتفعات ضد معرفة الرب. فإن الشيطان هو جبل معتم ، ورؤساء هذا العالم المجندين للتدمير والإهلاك هم أيضا جبال معتمة ؛ وحينما قال الرب لتلاميذه : ” لكنكم تقولون لهذا الجبل انتقل ” كان يقصد به جبل معتم وهو الشيطان. لأنه حينما أثيرت المناقشة بين السيد المسيح وبين تلاميذه بخصوص الشيطان المجنون الذي كان في الصبي ، وحينما سأل التلاميذ المخلص قائلين : ” لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه ” ؟ فإنه أجابهم : ” لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل – أي لهذا الشيطان الذي تتناقشون بخصوصه – انتقل من هنا إلي هناك فينتقل ” : انتقل من ” هنا ” أي من هذا الصبي ، ” إلى هناك ” أي إلي مكانه الطبيعي في الهاوية . إذاً فإن الذين يتعثرون لا يتعثرون علي الجبال المضيئة وإنما علي جبال العتمة حينما يذهبون مع الشيطان وملائكته . ” فتنتظرون نوراً ” ؛ فإنه إذا ما أعطيتم الرب إلهكم مجداً قبل ان يجعل ظلاما وقبلما تعثر أرجلكم علي جبال العتمة ، فإنه مما لا شك فيه ، حتى ولو حل الظلام ، فإنكم سوف تنظرون نوراً، وأن هذا النور سيصحبكم.

ولكن قد يقول أحد الحاضرين : إنه حتى هؤلاء الذين تعثر أرجلهم علي جبال العتمة سوف ينتظرون هم أيضا نور رحمة الرب بجانب تلك الجبال المعتمة . إن هذا أيضا هو بالفعل تفسير الكلمات : ” فتنتظرون نورا ” .

١٣. ” وإن لم تسمعوا ذلك فإن نفسي تبكي في أماكن مستترة من أجل الكبرياء ” . أو ” وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة ، فإن نفسكم سوف تبكي أمام الشدة ” . إن من بين الذين يسمعون ، يوجد من يسمعون بطريقة مستترة ويوجد من لا يسمعون بطريقة مستترة.فما هو إذا السمع بطريقة مستترة إلا ما تقوله الآية : ” بل نتكلم بحكمة الله في سر . الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا ” (1کو 2: 7). فعندما أسمع الناموس ، فإما أن أسمعه بطريقة مستترة أو لا أسمعه بطريقة مستترة ؛ فاليهودي مثلاً لا يسمعه بطريقة مستترة ؛ ولهذا فهو يختتن بطريقة ظاهرية ، غير عالم أن ” اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الذي في الظاهر في اللحم ختاناً” ( رو 2: 28) ، أما الذي يسمع ويفهم الختان بطريقة مستترة فسوف يكون مختتنا في الخفاء . وإذا كان اليهود قد قتلوا السيد المسيح قديماً، وهم مسئولون حتى يومنا هذا عن موته ، فإن هذا حدث لأنهم لم يسمعوا الناموس ولا الأنبياء بطريقة مستترة.

وكذلك أيضا بالنسبة لموضوع حفظ السبت ، فإنه توجد بعض النساء حتى يومنا هذا لم تسمع كلام الله بطريقة مستترة وبالتالي فهم لا يفعلون أي شيء في يوم السبت ، كما لو كان السيد المسيح لم يأت إلينا ليحملنا من حرفية الناموس إلي كمال الإنجيل.

لذلك فحينما نقرأ الناموس والأنبياء ، فلنحذر لئلا نقع تحت عاقبة البنوة التي تقول : ” وإن لم تسمعوا بطريقة مستترة فإن نفسكم سوف تبكي أمام الشدة “.

فإذا قرأنا أمثال السيد المسيح الموجودة في الإنجيل أمام إنسان من خارج الكنيسة فإنه لن يسمع بطريقة مستترة ، ولكن حينما يكون السامع هو أحد الرسل أو أحد أبناء الكنيسة ، فإنه سوف يقترب من السيد المسيح ويسأله ويتنافش معه حول غموض المثل ، فيقوم السيد المسيح بتفسير المثل له : وبالتالي فإن هذا المستمع سوف يصبح من السامعين بطريقة مستترة وبالتالي فإن نفسه لن تبك.

لماذا لم يقل الرب : ” سوف تبكون إن لم تسمعوا بطريقة مستترة ” وإنما قال : ” تفسكم سوف تبكي ” ؟ فيوجد بكاء خاص فقط بالنفوس التي تبكي ، ولعل السيد المسيح قد أوضح لنا هذا النوع من البكاء حينما قال : ” هناك يكون البكاء ” وأيضا حينما قال : ” ويل لكم أيها الضاحكون الآن لأنكم ستحزنون وتبكون ” ( لو 6: 25) . فهو يتحدث هنا عن البكاء الذي يهددنا به النبي هنا حينما يقول : ” إن لم تسمعوا بطريقة مستترة فإن نفسكم سوف تبكي أمام الشدة ” ، لأنه حينما تأتي عليكم الشدة سوف تبكون وسوف تذرف عيونكم الدموع لأنه قد سبي قطيع الرب ” . فإذا نظرنا اليوم إلى حالة اليهود ، وإذا قارناها بحالتهم في الماضي ، فسوف ندرك إلى أي مدي قد سبي قطيع الرب.

لأنهم كانوا قبلا قطيع الرب، ثم لأنهم حكموا على أنفسهم أنهم غير مستحقين فإن كلمة الكرازة وجهت نحو الأمم . فإذا كان قطيع الله هذا ، قد سُبي ، فإننا نحن الزيتونة البرية المطعمة بخلاف الطبيعة في الزيتونة الجيدة ( رو 11: 24) ، أفلا يجب علينا نحن أيضا أن نخشى بالأكثر أن يكون مصيرنا – نحن قطيع الله الجديد – مثل القطيع السابق؟

لأنه بحسب كلمات السيد المسيح فإن هذا القطيع أيضا سوف يسبى في يوم من الأيام ، عندما : لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين ” ، فمن هم هؤلاء الكثيرين إلا الذين يدعون أنهم مسيحيون ( بالاسم فقط ) ؟ ولمن قيلت الكلمات الآتية : ” ولكن متى جاء ابن الإنسان ألعله يجد الإيمان على الأرض ” ؟ ألسنا نحن المقصودين بتلك الكلمات ؟ فلنعمل إذاً بكل طاقتنا حتى يتقدم قطيع الرب وينمو يوماً بعد يوم ، ويصبح صحيحاً ويشفي من أمراضه ، وأن يبعد السبي عن نفوسنا حتى نصير كاملين في المسيح يسوع الذي له القوة والمجد إلى أبد الآبدين ، آمين .

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى