تفسير سفر إرميا ٨ للقمص تادرس يعقوب
الأصحاح الثامن
شكلية في حفظ الشريعة
إذ شاهد إرميا النبي الجموع المحتشدة في أورشليم قادمة لتمارس ليتورجيات التسبيح ولمساهمة في تكاليف إصلاح الهيكل وتقديم ذبائح، قادمة في تشامخ وفرح من أجل الهيكل الذي أصلحوه حديثًا، يلتمسون صلوات الأنبياء والكهنة حزن للغاية، لأن عبادتهم حملت الشكل دون الروح. كما عاد بفكره إلى وادي هنوم ليرى الأطفال القادمين مع والديهم للعبادة هناك يُقدمون ذبائح للوثن… تحرق الأمهات أطفالهن! هذا هو موضوع الأصحاح السابق، أما هنا فيركز على موضوع “كتاب الشريعة” الذي وُجد أثناء اصلاح الهيكل وقُدم للملك. تهلل الكل بوجود السفر دون الاهتمام بالاستماع العملي لما ورد فيه. ظنوا أن مجرد حفظ كتاب الشريعة في الهيكل فيه كل الحماية، حتى وإن احتفظوا بعبادتهم الوثنية ومارسوا رجاساتها.
الخلط بين كلمة الله والعبادة الوثنية[1-3].
تلامس إرميا بروح النبوة مع كلمات السيد المسيح: “دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم، لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات” (مت 19: 14). بينما كان يشاهد الشعب قادمًا بأطفاله إلى الهيكل ليعودوا بهم إلى “ابن هنوم” يقدمون بعضهم للقتل أو الحرق باسم الوثن. لقد اختاروا لأنفسهم ولأولادهم المرارة عوض الفرح الحقيقي، والموت عوض الحياة.
انحرف الكل: الملوك والرؤساء والكهنة والأنبياء الكذبة والشعب وعبدوا الآلهة التي بلا حياة واهبة الموت عوض الله الحيّ واهب الحياة. وها هو يقدم لهم الله سؤل قلبهم، إذ يقول:
“في ذلك الزمان يقول الرب
يخرجون عظام ملوك يهوذا وعظام رؤسائه وعظام الكهنة وعظام الأنبياء وعظام سكان أورشليم من قبورهم،
ويبسطونها للشمس والقمر ولكل جند السموات التي أحبوها والتي عبدوها والتي ساروا وراءها والتي استشاروها والتي سجدوا لها.
لا تجمع ولا تدفن بل تكون دمنة (روثًا) على وجه الأرض.
ويُختار الموت على الحياة
عند كل البقية الباقية من هذه العشيرة الشريرة الباقية في كل الأماكن التي طردتهم إليها يقول رب الجنود” [1-3].
تهلل الكل بوجود سفر الشريعة التي يعتزون بها حرفيًا بغير روح، يهتمون بنسخها بكل دقة، ويغسلون القلم لتطهيره قبل كتابة اسم “يهوه”، ويحسبون عدد الحروف حتى لا يخطئوا في كلمة، ويضعون الشريعة في الهيكل، ولا يلمسها من كان دنسًا. ومع هذا كله كانوا يعبدون الأوثان ليس تحت ضغط العدو، ولا عن جهالة، لكنهم أحبوها وعبدوها وساروا وراءها واستشاروها وسجدوا لها. شعروا أنها مشبعة ومفرحة ومرشدة لهم تستحق كل عبادة وسجود! والعجيب في الأمر أنه لم يكن ذلك عن احتياج مادي أو لطلب الكرامة، فقد عبدها الملوك والعظماء والكهنة الخ. الذين لا ينقصهم شيء ما.
ما هو ثمر ذلك؟
أ. الذين عبدوها وهم أحياء تُخرج عظامهم بعد الموت لُتبسط للشمس والقمر وجند السماء التي تعبّدوا لها، فيصيرون في عارٍ وخزي حتى بعد موتهم.
العدو الذي عبدوا آلهته ينكل بهم، حيث ُيخرج عظام الكل من القبور ويلقي بها في الطريق للتشهير والإهانة، إذ كان الوثنيون يعتقدون أن إهانة عظام الموتى تجرح نفوس الراقدين، وتدمير بقايا الأموات وعظامهم يلُقي بهم في بحر النسيان[170].
بمعني آخر الكل أخطأوا: الذين كانوا في عصر إرميا ومن سبقوهم، لذلك تحل الإهانة حتى بالأموات[171].
هم اختاروا الآلهة الميتة عوض الإله الحيّ، لذا يحل بهم الموت، ويحل بهم العار حتى بعد موتهم.
ب. صارت عظام الكل – الملوك والعظماء والكهنة والأنبياء والشعب – ملقاة “كدمنة على وجه الأرض”، أي كالروث أو بقايا الحيوانات، وهذا لا يحمل فقط معني الإهانة، وإنما تدنيس الأرض. فمن يفسد حياته باعتزال الله مُقدِسه تصير حتى عظامه دنسة ونجسة لا يطيق الناس رؤيتها أو لمسها، أما من يتقدس بروح الله فتتقدس عظامه لتقيم أمواتًا كما حدث مع اليشع (2 مل 13: 21)، ويتقدس ظله ليشفي المرضى كما حدث مع بطرس الرسول (أع 5: 15) وتتقدس حتى المناديل والخرق التي على جراحاته لتخرج الشياطين كما حدث مع بولس الرسول.
ج. إخراج العظام من القبور وبسطها أمام الكواكب إنما يعني توبيخًا من الله الذي تركوه وهم أحياء، كأنه يسأل عظامهم إن كانت تقدر أن تتعبد لها؟! أما مؤمنوه فستقوم عظامهم وتشارك أجسادهم نفوسهم العبادة السماوية الملائكية.
د. كان اهتمام الغازين بنبش القبور عادة قديمة، غايتها سلب كل ما وُضع مع الراقدين من معادن ثمينة وحجارة كريمة وأوانٍ قيمة الخ[172].
هـ. يقول “هذه العشيرة الشريرة” [3]، وكأنه بهذا التأديب المرّ يؤكد الله لهم أنهم أشرار ليس فقط في تسابيحهم بلا عمل، واهتمامهم بالتقدمات والذبائح بلا روح، والانشغال بالهيكل الخارجي دون الداخلي وإنما أشرار حتى كأسرة واحدة!
و. وسط هذا العار والمرارة يشتهي الكل الموت فلا يجدونه، إذ قيل: “وُيختار الموت على الحياة” [3]. وكما جاء في سفر المراثي: “كانت قتلى السيف خيرًا من قتلى الجوع” (مرا 4: 9)، وقال يونان النبي: “موتي خير من حياتي” (يونان 4: 8).
في اختصار يمكننا أن نقارن بين الارتباط بكلمة الله الحية وليس بالكلمة في حرفيتها مع اعتزال الكلمة الإلهي نفسه هكذا:
« ينال المؤمن سؤل قلبه، ويتمتع بالمكافأة حسب أعماله، الأول يرتبط بالكلمة الحية فيحيا بها ومعها، والثاني يرتبط بالباطل فيصير باطلاً.
« تهب كلمة الله الحية شركة مجد أبدى، والتخلي عن الله يهين حتى عظامنا بعد الموت، فيجعلها أشبه بالروث الملقى في التراب.
« تقدس كلمة الله النفس والجسد حتى الخليقة الجامدة.
« كلمة الله غنى، والتخلي عنها يحث اللصوص على سلب حتى قبورنا.
« كلمة الله يجعلنا أهل بيت الله، وتركها يجعلنا عشيرة شريرة.
« كلمة الله تعطي رجاءً، وتركها يبث روح اليأس، فيشتهي الإنسان الموت ولا يجده.
حفظ الشريعة بدون التوبة[4-12].
بعد أن تحدث عن خطورة الاهتمام بالكتاب المقدس (الشريعة) لحفظه في الهيكل دون الالتصاق بالله وحده يؤكد أيضًا خطورة قبوله في غير توبة أو الرجوع إلى الله، إذ يقول:
“وتقول لهم هكذا:
هل يسقطون ولا يقومون؟
أو يرتد أحد ولا يرجع؟
فلماذا يرتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا؟!
تمسكوا بالمكر.
أبوا أن يرجعوا” [4-5].
يبدأ الحديث بالجمع “يسقطون”، ويكمل بالفرد “يرتد”، لعله أراد تأكيد أن الله ينتظر رجوع الشعب كله كابنة واحدة له، كما يترقب توبة كل عضوٍ في الجماعة، أي يطلب التوبة الجماعية كما التوبة الشخصية. فكما انغمس الشعب كله في الشر، وأحب كل عضو منهم الخطية هكذا تكون أيضًا التوبة.
يرى بعض المفسرين اليهود أن صيغة الجمع هنا تشير إلى الشعب وصيغة المفرد إلى الله، وكأن تفسيرهم هو هذا: “هل يعود الشعب إلى الله بعد سقوطهم، ولا يرجع الله إليهم؟!
يرى البعض أن ما جاء بصيغة الجمع يشير إلى الجانب السلبي وما جاء بصيغة المفرد يشير إلى الجانب الإيجابي، وكأن التفسير هو: هل يسقط الشعب في الشر ويبقى في سقوطه دون قيام؟! هذا هو الجانب السلبي، أما الإيجابي فهو: هل يرتد أحد إلى الله ولا يجد الله راجعًا إليه؟!
هكذا يؤكد إرميا النبي الالتزام بالتوبة كعمل رئيسي في تمتعنا بالشريعة، فإننا وإن سقطنا يترقب الله قيامنا، وإن عاد قلبنا إليه نجده ينتظرنا ليحملنا فيه.
يطلب الله عودتنا إليه باستمرار، بل ونمونا في الشركة معه، وذلك بفضل نعمته العاملة فينا، ولكن ليس بغير إرادتنا، لأن الله يقدس الحرية الإنسانية.
وكما يقول الأب شيريمون: [أن الله يبدأ معنا ما هو صالح، ويستمر معنا فيه، ويكمله معنا. وذلك كقول الرسول “والذي يٌقِّدم بذارًا للزارع وخبزًا للأكل سيقدم ويكثر بذاركم وينمي غلات بركم” (2 كو 9: 10). هذا كله من أجلنا نحن، لكي باتضاع نتبع يومًا فيومًا نعمة الله التي تجذبنا. أما إذا قاومنا نعمته برقبةٍ غليظة وآذانٍ غير مختونة (أع 7: 51)، فإننا نستحق كلمات النبي إرميا القائل “هل يسقطون ولا يقومون؟! أو يرتد أحد ولا يرجع؟! فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا؟! تمسكوا بالمكر، أبَوا أن يرجعوا؟!” [4-5][173]].
في رقة عجيبة يؤكد لنا النبي أن الله ينتظرنا دون أن يعاتب على الماضي، إذ يقول: “فلماذا ارتد هذا الشعب في أورشليم ارتدادًا دائمًا؟!” [5]. في دهشة يعاتب: كيف احتمل هذا الشعب كسر الشريعة والتغرب عن الله مصدر حياته على الدوام؟ ألا يليق به أن يرجع إليه؟!
ظن البعض أنه إن سقط إنسان مؤمن لا يمكن أن يقوم، وكتب القديس أمبروسيوس كتابًا عن قيام الساقطين من المؤمنين قمت بترجمته تحت عنوان “التوبة”، كما فند القديس يوحنا ذهبي الفم ذلك في مقاله الأول لثيؤدور الساقط.
v السقوط في ذاته ليس بالأمر الخطير، بل يكمن الخطر في البقاء منطرحًا بعد السقوط، وعدم القيام مرة أخرى. فالجبن والكسل يخفيان نية الضعف الخلقي تحت حجة اليأس[174]…
v ليتنا نحن الساقطون لا نيأس بل نقول: “هل يسقطون ولا يقومون؟!” [4]… فإنه يوجد من ارتفع من هاوية الشر إلى السماء، ومن المسارح والأوركسترا إلى طقس الملائكة، ومارسوا فضيلة عظيمة كهذه حتى أنهم صاروا يخرجون شياطين ويصنعون عجائب أخرى[175].
v نصيحتنا ليست هي عن عدم السقوط بل قدرة الساقطين على القيام.
لنقم ثانية حتى إن كان الوقت متأخرًا،
أيها الأطباء، لنقم ونقف!
إلى متى نبقى مطروحين أرضًا؟!
إلى متى نبقى سكارى بالرغبة المتزايدة للأمور الزمنية؟
إنها فرصة مناسبة الآن لنقول “إلى متى اتكلم واشهد؟” هكذا صار كل الناس صّم حتى بالنسبة للتعاليم الخاصة بالفضيلة، بهذا امتلأوا شرورًا[176].
القديس يوحنا ذهبي الفم
v الكل سقطوا، وهم لا يبالون بالقيام.
لهذا فإن نصيحتنا لا تخص عدم السقوط، بل قدرة الساقطين على القيام.
لنقف مرة أخرى أيها الأحباء، مهما طال بنا السقوط.
لنقف مرة أخرى، لنقف بكرامة! [177]
القديس يوحنا الذهبي الفم
v أن تسقط هذا ليس بالأمر الخطير، وإنما الخطورة أن تبقى منبطحًا بعد السقوط دون أن تقوم ثانية، وأن تقوم بدور الإنسان الجبان والبليد وتستمر في حالة عجز بسبب اليأس[178]…
القديس يوحنا الذهبي الفم
v لا تيأس من الخلاص. اذكر كيف جاء في الكتاب المقدس إن الساقط يقوم، والضال يرجع، والمجروح يُشفي، والذي هو فريسة للحيوانات الضارية يفلت، والذي له خطاياه يُغفر له…
إنه وقت للاحتمال وطول الأناة والشفاء والتصحيح.
هل تعثرت؟ قم.
هل أخطأت؟ كف عن الخطية. لا تقف في طريق الخطاة (مز 1: 1)، بل اهرب منها. عندما تتغير تنهد فتخلص. فإن الجهاد يجلب الصحة والعرق الخلاص[179].
القديس باسيليوس
v في حديث الأب شيريمون عن حماية الله يقول: [إنه لا يريد أن يهلك أحد أصاغره، فكيف لا نكون مجدفين إن كنا نتصور أنه لا يريد كل البشر أن يخلصوا بل بعضهم؟! فالذين يهلكون إنما يهلكون بغير إرادته[180]].
v لأنه بحق يريد رحمة لا ذبائح (هو 6: 6، مت 9: 13).
السماء، والملائكة هناك، تفرح بتوبة إنسان (لو 15: 7، 10).
لتفرح أيها الخاطئ، ها أنت ترى إني افرح بعودتك[181].
العلامة ترتليان
أما العائق عن رجوعهم فهو “المكر” الذي تمسكوا به، أو خداع الأنبياء الكذبة الذي عوض أن يحثوهم على التوبة سلموهم إلى التهاون، إذ قيل: “برؤيا كاذبة وعرافة وباطلٍ ومكر قلوبهم هم يتنبأون لكم” (14: 14).
لقد فقد الشعب اتزانه ليمارس كل منهم هواه كفرسٍ ثائرٍ في وسط المعركة دون ضابط له [6]؛ بل صاروا يناقضون الطبيعة ذاتها. فالطيور تعرف بالطبيعة موعد رجوعها إلى وطنها، أما هم فيهجرون الله ولا يعرفون للتوبة والرجوع موعدًا. أفقدتهم الخطية “المعرفة” و”الحكمة” و”الحق”، فسلكوا في الكذب.
هذا ما عبر عنه النبي مؤكدًا أنهم أكثر جهالة من الطيور:
“بل اللقلق في السموات يعرف ميعاده،
واليمامة والسنونة المزقزقة حفظتا وقت مجيئهما.
أما شعبي فلم يعرف قضاء الرب.
كيف تقولون: نحن حكماء وشريعة الرب معنا؟!
حقًا إنه إلى الكذب حوّلها قلم الكتبة الكاذب” [7-8].
تعرف الطيور والحيوانات مواعيدها بالغريزة وتحترمها، وأما شعب الله الذي هو تاج الخليقة الأرضية كلها فلا يعي نداء خالقه، ولا يدرك “قضاء” الرب، أي خطته الإلهية نحو شعبه. بهذا فقدوا روح الحكمة والمعرفة.
يكشف لنا القديس يوحنا الذهبي الفم كيف انحطت حياتنا وطبيعتنا، فصرنا أقل من الحيوانات والطيور. لكن مسيحنا رفعنا من هذه المذلة بصعوده ووهبنا التمتع بسمواته، إذ يقول:
[انظروا إلى طبيعتنا كيف انحطت ثم ارتفعت. فإنه ما كان يمكن النزول إلى أكثر مما نزل إليه الإنسان، ولا يمكن الصعود إلى أكثر مما ارتفع إليه المسيح… ويوضح بولس ذلك إذ يقول: “الذي نزل هو الذي صعد أيضًا”. أين نزل؟ إلى أقسام الأرض السفلي؛ وصعد إلى “فوق جميع السموات” (أف 4: 9-10)…
إننا لم نكن سوى ترابًا ورمادًا… لقد صرنا أكثر غباء من الحيوانات غير العاقلة، فقد صار الإنسان يُقارن بها وصار مثلها (مز 48: 21؛ إش 1: 3)…
أنظروا كيف صرنا أكثر غباءً من الحمار والثور (إش 1: 3)،
ومن طيور السماء واليمامة والسنونة [7]…
صرنا تلاميذًا للنمل (أم 6: 6)…
أكثر جمودًا من الحجارة (إش 6: 2)،
نُشبِّه بالأفاعي (مز 58: 5)…
نُدعى أبناء إبليس (يو 8: 44)…
هكذا صار انحطاطنا وعدم استحقاقنا!!!…
لكن اليوم ارتفعت طبيعتنا فوق كل خليقة.
اليوم استعاد الملائكة من فقدوهم منذ زمن بعيد!
اليوم رأوا طبيعتنا في العرش الإلهي تتلألأ في جمال أبدى ومجد سرمدي![182]].
v لنتعلم من هذه الحيوانات وأمثالها أن نسلك في الفضيلة، ونتجنب الشر بالأمور المضادة[183].
القديس يوحنا الذهبي الفم
هنا أول إشارة للكتبة كفئة خاصة مسئولة عن تفسير الشريعة[184]. يظهر من (1 أي 2: 55) أن الكتبة كانوا منظمين على أساس عشائر أو أسر معينة، وفي (2 أي 34: 13) كان لهم دورهم الحيوي في أيام يوشيا. على أي الأحوال كان لهم نشاطهم في وقتٍ مبكرٍ عن هذا، يقومون بكتابة السجلات الرسمية لملوك إسرائيل ويهوذا، ويمسكون حساباتهم، كما كان بعضهم ينسخون التوراة، وكان لهم عملهم التعليمي. خلال تعاليمهم الخاطئة يحولون الحق الكتابي إلى الكذب، يهتمون بالتوراة ككتاب دون الاهتمام بالله نفسه.
استلموا الشريعة، ووجدت بين أيديهم، لكن طمعهم أعمى عيون قلوبهم، فصاروا في ظلمة الجهل التي حلَّت على كل الطبقات وكل الأعمار: الصغير والكبير، الكاهن والنبي والشعب.
بجانب عبادتهم للأصنام وكسرهم للوصية يلجأون إلى خداع أنفسهم بنبوات كاذبة. فعوض التوبة يطلبون من الأنبياء والكهنة سلامًا كاذبًا وخداعًا، لهذا ظهر أنبياء يتنبأون ليس حسب أمر الله إنما حسبما يُرضى أهواء الناس، وبادت الشريعة عن الكاهن والمشورة عن الشيوخ. هؤلاء يقولون “سلام سلام ولا سلام” [11].
بينما كان الأنبياء الكذبة يتكلمون بالناعمات (إش 30: 10)، لكي يهدئوا مخاوف الشعب، ويكسبوا القيادات لصفهم على حساب الحق، كان الأنبياء ينطقون بالحق ولو كان جارحًا.
كلمات الأنبياء الكذبة أعطتهم طمأنينة خادعة إلى حين، فحسبها الكل دواءً لجراحاتهم. “ويشفون كسر بنت شعبي على عثم، قائلين: سلام سلام ولا سلام” [11]. ومن جانب آخر نزعت عنهم روح الحياء والخجل حتى إن ارتكبوا رجاسة.
هل خزوا لأنهم عملوا رجسًا؟
بل لم يخزوا خزيًا ولم يعرفوا الخجل.
لذلك يسقطون بين الساقطين في وقت معاقبتهم يعثرون قال الرب” [12].
في اختصار قبلوا كلمة الله في حرفها بدون التوبة فصاروا في جهالة:
أ. يسقطون ويستسلمون بغير توبة ورجوع [4-5].
ب. صاروا كالخيل الثائرة بلا ضابط في وسط المعركة [6].
ج. نقضوا الطبيعة وخالفوها، فصاروا أحط من الطيور [7].
د. قبلوا كلمات الكتبة الكاذبة [8].
هـ. انشغلوا بالربح القبيح فضلوا عن الحق [10].
و. قبلوا خداع الأنبياء الكذبة [11].
ز. فقدوا الحياء في خزيهم [12].
حفظ الشريعة بدون ثمر الروح[13-17].
إذ قبلوا الشريعة الإلهية بدون التمتع بالتوبة صارت كلمة الله بالنسبة لهم عقيمة وبلا ثمر. صاروا أشبه بكرم بلا عنب وشجرة تين بلا ثمر، فاستحقوا اللعنة واقتلاعهم من حقل الرب:
“نزعًا أنزعهم يقول الرب.
لا عنب في الجفنة،
ولا تين في التينة،
والورق ذبل،
وأعطيهم ما يزول عنهم” [13].
ينتزعها من انتسابها له بكونها كرمته وتينته. فالنفس التي لا تلتصق بإخوتها حول خشبة الصليب كما تجتمع حبات العنب معًا، والتي ترفض أن تلتقي معهم حول غلاف الوحدة العذب كما يحدث لبذار التين الرفيع، تفقد انتسابها للكرمة أو التينة، ولا تُحسب عضوًا في كنيسة المسيح، ولا تتمتع بخلاصه.
إن كان الورق يشير إلى مظاهر الخدمة والعبادة، فحتى هذه المظاهر تذبل وتزول عنهم، كقول السيد المسيح للشجرة غير المثمرة: “لا يأكل أحد منكِ ثمرًا بعد إلى الأبد” (مر 11: 14)، “وفي الصباح إذ كانوا مجتازين رأوا التينة قد يبست من الأصول” (مر 11: 20).
يصف النبي كيف انتزع الله كرمه، أو كيف سلّم شعبه للسبي هكذا:
أ. باطلاً حاول شعب يهوذا أن يحمى نفسه من العدو، إذ يقولون:
“لماذا نحن جلوس؟
اجتمعوا فلندخل إلى المدن الحصينة ونصمت هناك.
لأن الرب إلهنا قد أصمتنا” [14].
أدركوا أن الخطر قد حلّ بهم فقرروا الدخول إلى المدن الحصينة، لا ليستعدوا للمقاومة، بل في خيبة يصمتون أمام هذا الحدث الرهيب الذي سمح به الرب لهم لتأديبهم، ينتظرون لحظات الموت وهم في رعبٍ. تتحول مدنهم الحصينة إلى مقابرٍ جماعية!
ب. قدم الله لهم الكأس التي ملأوها لأنفسهم، كأس سم الخطية المرّ والمميت: “وأسقانا ماء العلقم لأننا قد أخطأنا إلى الرب” [14]. ولعله قصد بذلك الماء الذي ُيقدم للزوجة الخائنة لامتحان أمانتها لرجلها (عد 5: 11-31)، فإن ثبتت خيانتها تُقتل.
ج. فقدوا السلام الذي وعدهم به الأنبياء الكذبة: “انتظرنا السلام ولم يكن خير” [15]. تأكدوا أن الرجاء الذي قُدم لهم كان كالسراب المخادع.
د. فقدوا تسكين الجراحات الذي قدمه الكذبة لهم كشفاء، وحلّ عوض راحة الضمير رُعب وخوف: “وزمان الشفاء وإذا رعب” [15].
هـ. جاء العدو بعنف شديد حتى سُمعت حمحمة خيله في أورشليم عندما دخل العدو في دان، وهي الحدود الشمالية للبلاد التي دخل منها العدو (حاليًا منطقة الجولان)؛ وعند صوت صهيله ارتجفت كل الأرض [15]، لأن العدو ضخم للغاية.
و. جاء عدوهم ليأكل ويلتهم مفترسًا كل من يلتقي به: “فأتوا وأكلوا الأرض ومِلأها، المدينة والساكنين فيها” [16].
ز. ضربة لا علاج لها، كسم الحيات التي لا تُرقى. “لأني هأنذا مرسل عليكم حيات أفاعي لا تُرقى فتلدغكم يقول الرب” [17]. في القديم “أرسل الرب على الشعب الحيات المحرقة فلدغت الشعب فمات قوم كثيرون” (عد 21: 6)، وقد “صنع موسى حية من نحاس ووضعها على الراية فكان متى لدغت حية إنسانًا ونظر إلى حيَّة النحاس يحيا (عد 21: 9). أما وقد أصر الشعب على المقاومة ففي هذا التأديب أرسل حيات أفاعي لا تُرقى.
الحاجة إلى المسيح الكلمة[18-22].
أدرك النبي إرميا ما وصل إليه الشعب في علاقتهم بالشريعة، إنهم يحفظونها دون توقف عن العبادة الوثنية، فيخلطون الحق بالباطل [1-3]، يقرأونها دون تقديم توبة واشتياق نحو الرجوع إلى الله [4-12]، يعتزون بها دون أن يحملوا ثمر الروح [13-17] فامتلأ قلبه مرارة، وبدأ يتساءل: ما هو الحل؟ أما من دواء لهذا الشعب؟ أما من طبيب يهتم بهم؟
عبَّر عن مرارة نفسه، قائلاً:
“من مفرِّج عني الحزن؟
قلبي فيّ سقيم” [18].
هكذا لم يقف إرميا شامتًا في ذلك الشعب الذي لم يسمع له، بل وقاومه بشدة، إنما كان يئن مع أنَّاتهم، إذ أدرك بروح النبوة ما سيحل بهم في السبي. هذا هو روح الحق المملوء حبًا الذي به يشعر إرميا أن جراحات شعبه إنما هي جراحاته هو، تمزق جسده، وتحطم حياته. لقد اهتزت نفسه فيه جدًا، فقال “أخذتني دهشة“، أي حلّ به رعدة في أعماقه. كأنه يتشبه بمخلصه الذي دخل إلى البستان يحمل آلامنا في جسده، صارخًا: “نفسي حزينة جدًا حتى الموت”.
لم يقف إرميا النبي متفرجًا، لكنه دخل مع شعبه إلى أتون الألم، تمزق قلبه تمامًا، قائلاً: “قلبي في سقيم” [18].
يليق بنا كغرباء على الأرض أن نهتم بالغرباء، وكأناس معرضين للسقوط تحت الضيق أن نسند المتضايقين، إذ يقول الرسول: “اذكروا المقيدين كأنكم مقيدون معهم، والمذلين كأنكم أنتم أيضًا في الجسد” (عب 13: 3). لا نشاركهم بالرثاء المجرد بل بالحب العامل، نشعر بالشركة الحقيقية مع كل عضو. “فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه” (1 كو 12: 26)؛ “فرحًا مع الفرحين وبكاءً مع الباكين” (رو 12: 15). هذه الشركة عاشها أولاد الله في العهدين القديم والجديد، فيقول إرميا النبي وهو يرى شعبه منسحقًا بسبب السبي رغم مقاومة الشعب له: “من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة” [21]، ويقول الرسول: “من يضعف وأنا لا أضعف، من يعثر وأنا لا ألتهب؟!” (2 كو 11: 29). وتظهر شركة الحب العملي في كلمات آباء الكنيسة المحبين، فيقول القديس يوحنا الذهبي الفم: [ليس شيء أحب إليّ أكثر منكم، لا، ولا حتى النور! إني أود أن أقدم بكل سرور عيني ربوات المرات وأكثر – ما أمكن من أجل توبة نفوسكم!… إنيأحبكم، حتى أذوب فيكم، وتكونون لي كل شيء، أبي وأمي وإخوتي وأولادي].
سمع النبي بروح الحب صوت شعبه في أرض السبي يستغيثون وليس من مجيب:
“ألعل الرب ليس في صهيون؟
أو ملكها ليس فيه؟!…
أليس بلسان (دواء) في جلعاد[185]؟
فلماذا لم تُعصب بنت شعبي؟!” [19-22].
لم يستطع رجال العهد القديم أن يتمتعوا بالإجابة على هذه الأسئلة إلا قلة قليلة خلال الرموز والظلال، لذا كانوا يصرخون: “مضى الحصاد، انتهي الصيف، ونحن لم نخلص” [20]. إذ كان الفلاحون يتوقعون في ذلك الحين أن يحصدوا الحنطة في الفترة ما بين شهري إبريل ومايو، وإن لم تأتِ الحنطة بحصاد يترجون حصاد العنب والتين والزيتون الخ. في الصيف. لكن عبر وقت الحصاد وانتهي الصيف وليس من ثمر! أي رجاء لهم بعد؟
رجاؤنا في السيد المسيح القائل: أنا هو البلسان، أنا هو الطبيب! “من أجل سحق بنت شعبي انسحقت، حزنت، أخذتني دهشة” [21]. وجدنا الإجابة في مسيحنا الذي بصليبه انسحق ليردنا من سبي الخطية، ويدخل بنا إلى أورشليمه السماوية، ويقيمنا ملوكًا وكهنة لله أبيه.
يقدم لنا مسيحنا طرق علاج كثيرة:
v إنكم تجدون بالحق طرق علاجٍ كثيرة من الشر في الكتاب المقدس، أدوية كثيرة تخلصكم من الدوار وترد لكم الصحة،
أسرار الموت والقيامة،
عبارات الدينونة المرعبة والعقاب الأبدي،
تعاليم التوبة وغفران الخطايا،
وتوضيحات بلا حصر عن الندامة مثل الدرهم (المفقود)، والخروف (الضال)، والابن الذي أنفق ماله مع الزواني، الذي كان ضالاً وُوجد، وميتًا فعاش (لو 15).
ليتنا لا نستخدم طرق العلاج هذه بطريقة شريرة، وإنما لنستخدمها لشفاء نفوسنا. فكر في يومِك الأخير[186]…
القديس باسيليوس
من وحيّ إرميا 8
بشريعتك أتلذذ
v عرفت شريعتك وحفظتها منذ حداثتي،
عرفتها بفكري وعقلي،
هب لي أن أختبرها بقلبي و حياتي!
أخطأت إذ لم أتذوقها في سلوكي،
هب لي أن تكون لذتي و حياتي ومرشدي!
v خارج شريعتك كل ما فيّ يتدنس،
حتى عظامي بعد رقادي تصير في عارٍ وخزي!
بشريعتك تتقدس كل حياتي،
حتى أكلي وشربي وملبسي وكل عظامي!
v عجيبة هي شريعتك… هبني أن ألتصق بها!
أتحد بها فأحيا، ولا يقدر الموت أن يحطمني!
أتقدس بها، فتتبارك نفسي مع جسدي وعظامي!
أغتني بها، ولا يقدر لص ما أن يسلبني كنزي!
تضمني إليك، فأصير عضوًا في العائلة السماوية!
تفتح لي أبواب السماء، فلن يقدر الموت أن يحطم رجائي!
v لتحملني كلمتك إلى التوبة، فأرجع إليك،
ولا أصير في غباوتي كخيلٍ جامح في وسط المعركة!
لا أقبل كلمات الخطية الناعمة،
بل في حياء وخجل أعترف لك بإثمي!
v شريعتك كشفت لي عقمي ومرارة خطيتي.
لم أجد لي حصنًا من خطاياي سواك،
ولا من ينزع عني ماء العلقم سوى صليبك،
ولا من يرد لي السلام إلا قيامتك.
ولا من يهبني الشفاء من خطاياي إلا نعمتك،
ولا من يخلصني من العدو الشرير المفترس إلا قوتك.
تعال يا مخلصي الصالح،
فقد لدغتني الحية المحرقة،
انقذني، خلصني، وارفع غضبك عني!
v أنت يا مخلصي هو الكلمة الإلهي!
أنت هو بلسم جلعاد الذي يشفي جراحاتي!
أنت طبيب النفس والجسد!
لتعصب أعماقي، ولتهبني الشفاء،
فأوجد معك إلى الأبد!
تفسير إرميا 7 | تفسير سفر إرميا | تفسير العهد القديم |
تفسير إرميا 9 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر إرميا | تفاسير العهد القديم |