تفسير سفر إرميا ٥١ للقمص تادرس يعقوب

الأصحاح الحادي والخمسون

اهربوا من بابل!

أعلن الله في الأصحاح السابق على لسان إرميا النبي عن تقطيع بابل – مطرقة الأرض – وتحطيمها (50: 23)، فكما سحقت الأمم سُحقت هي أيضًا، لأنها مدينة ضد المسيح، تُقدم للعالم إبليس الذي هو بالحقيقة مطرقة كل الأرض، وقد سحقه رب المجد بالصليب (كو 2: 15) ولم يعد له سلطان على أولاد الله. في هذا الأصحاح يعلن الله عن التزامنا بالهروب سريعًا من بابل، لأننا في حاجة إلى بلسانٍ يشفي جراحات نفوسنا الخطيرة. هذا البلسان هو رب المجد يسوع المصلوب الذي لن يوجد في بابل بل في جلعاد الجديدة التي هي الكنيسة.

  1. ريح مهلكة [1-4].
  2. الله لن ينسى شعبه [5].
  3. اهربوا من وسط بابل[6].
  4. بابل كأس ذهب[7-8].
  5. جراحات لا تُشفي[8-18].
  6. نصيب يعقوب [19].
  7. عصا الرب للتأديب [20-25].
  8. حرمان من حجر الزاوية [26].
  9. جاء وقت الحصاد [27-33].
  10. شكوى إسرائيل [34-35].
  11. الله ينتقم لشعبه[36-44].
  12. اخرجوا من وسطها [45-46].
  13. الحكم [47-49].
  14. أمر بالعودة إلى المقادس[50-51].
  15. نهاية السبي البابلي [52-58].
  16. قراءة النبوات في بابل[59-62].
  17. سقوط بابل [63-64].
  18. ريح مهلكة:

“هكذا قال الرب:

هأنذا أوقظ على بابل وعلى الساكنين في وسط القائمين عليَّ ريحًا مهلكة.

وأرسل إلى بابل مذرّين فيذرّونها ويفرغون أرضها،

لأنهم يكونون عليها من كل جهة في يوم الشر.

على النازع في قوسه فلينزع النازع،

وعلى المفتخر بذراعه،

فلا تشفقوا على منتخبيها بل حرموا كل جندها.

فتسقط القتلى في أرض الكلدانيين والمطعونون في شوارعها” [1-4].

في الأصحاحات السابقة يشير النبي إلى بابل إما باسمها الذي يعني “بلبلة”، أو باسم “الكلدانيين” الذي يشير إلى انغماسهم في العقائد الخاطئة حيث يرفضون العناية الإلهية، حاسبين أن كل حياتهم حتى سلوكهم تديره حركة النجوم، بهذا يظنون أن الإنسان مسلوب الإرادة. هنا يدعو الله البابليين: “الساكنين في القائمين عليّ[1]، أي المقاومين لله علانية، لهذا استحقت بابل المخاطر التالية:

أ. هبوب ريح مهلكة عليها، عوض التمتع بروح الله القدوس الذي يهب كريحٍ ليجدد على الدوام؛ تهلك الريح حتى العطايا الطبيعية الموهوبة للإنسان.

ب. قيام مذرين لتفريغ أرضها، يكشفون أنها لا تحمل حبة حنطة واحدة وسط القش، لهذا تفرغ أرضها تمامًا.

ج. ضربات القوس المتواترة؛ عوض التمتع بسيف الكلمة الإلهية الذي يبتر كل شرٍ، أو برمح الحب الإلهي الذي يجرح النفس بجراحات الحب الإلهي، يُقتل شبابها المنتخب وكل جيشها بالرماح، ويُلقون في الشوارع [3].

د. تحريم جندها: تصير كل طاقات الإنسان التي للجسد كما للنفس جنودًا محرمين لا يمارسون الحياة المقدسة، ولا ينعمون بتكريسهم للرب.

يترجم البعض “الساكنين في القائمين عليّ” هكذا: “الساكنين في Leb- Kamai، أي في Atbash ، قاصدًا بذلك “كلديا”[694].

 يتحدث هنا عن مادي وفارس بكونهما ريحًا مهلكة تحطم بابل، وقد قدم إرميا النبي سبع تشبيهات لمادي وفارس:

أ. الأسد الصاعد من كبرياء الأردن إلى مرعى دائم (50: 44)، بينما يشبه بابل بصغار الغنم المسحوبة بلا قوة (50: 45)، يفترسها الأسد.

ب. ريح مهلكة [1]، لا تستطيع بابل أن تقاومها.

ج. مذرون يذرون أرض بابل ويفرغونها [2]، حيث تنفضح بابل فتظهر أنها قش يطير في الهواء بلا حنطة. بينما يكشفون عن حقيقة المؤمنين في الكنيسة، إذ يفصلون القش عن الحنطة. هذا هو عمل التجارب والضيقات، فالمؤمنون الحقيقيون يتمجدون خلال التجربة بالتصاقهم بالله مخلصهم بينما يتعثر الآخرون ويجدفون على الله.

د. “فأس حرب” يسحق بابل [20]، إذ كان الجند يستخدمون أحيانًا الفؤوس في المعارك الحربية.

هـ. أدوات حرب [20].

و. غوغاء أو جراد يرفعون على بابل جلبة أي يحدثون أصواتًا قوية أشبه  بصوت أغاني الغلبة والنصرة  [14، 27].

ز. ناهبون [35].

  1. الله لن ينسى شعبه:

“لأن إسرائيل ويهوذا ليسا بمقطوعين عن إلههما عن رب الجنود وإن تكن أرضهما ملآنة إثمًا على قدوس إسرائيل[5].

يرى إرميا النبي إسرائيل ويهوذا أرملتين مقطوعتين عن إلههما، العريس السماوي، لكن الله لا يتركهما بعد تأديبهما. حقًا لقد ملأَتا الأرض إثمًا ضد الله القدوس، لكن إذ رجعتا بالتوبة إليه تجدانه راجعًا إليهما لينزع عنهما حالة الترمل.

  1. اهربوا من وسط بابل:

“اهربوا من وسط بابل وانجوا كل واحدٍ بنفسه.

لا تهلكوا بذنبها لأن هذا زمان انتقام الرب هو يؤدي لها جزاءها” [6].

 يقدم لنا العلامة أوريجينوس تفسيرًا لهذه العبارة:

أين تقطن نفوسنا؟

[كما أن جسدنا يسكن في مكان معين من الأرض، كذلك نفسنا تسكن بحسب حالتها في المكان أو البلد الذي يحمل نفس اسمها (صفاتها)، أو بطريقة أكثر وضوحًا: جسدنا موجود إما في مصر أو بابل أو فلسطين أو سوريا أو في أي بلدٍ أخرى تحمل الاسم الذي يتناسب مع كل نفس[695]].

السكنى في بابل

[تقطن النفس بابل عندما تكون قلقة ومضطربة، حينما يرحل منها السلام، فتكون مضطرة للمصارعة مع الخطية ومواجهة حرب الشهوات والوقوف بمفردها في وسط ضجيج الأسلحة التي تحاصرها من كل جهة؛ إلى مثل تلك النفس يوجه النبي كلماته قائلاً:

“اهربوا من وسط بابل وانجوا كل واحدٍ بنفسه”.

طالما الإنسان موجود في بابل لن يستطيع أن يخلص؛ حتى ولو تذكر أورشليم، فإنه سوف يئن ويتنهد قائلاً: “كيف نرنم ترنيمة الرب في أرض غريبة؟ (مز 137: 4). مادمنا في بابل لن نستطيع أن نسبح الرب، لأن الآلات التي تُستخدم في توصيل النغمات للرب معلقة بدون استخدام، لذلك يقول النبي “على أنهار بابل هناك جلسنا، بكينا أيضًا عندما تذكرنا صهيون، على الصفصاف في وسطها علقنا أعوادنا (قيثاراتنا)”[696]].

التوقف عن التسبيح في بابل

يرى العلامة أوريجينوس أن الله يطالبنا بالخروج من بابل والانطلاق إلى أورشليم، لأنه في بابل تُعلق قيثارتنا على الصفصاف فلا يمكننا التسبيح لله بتسبحة جديدة للرب في أرض غريبة، إذ نفقد سلامنا السماوي ونُحرم من الفرح الداخلي. لهذا يليق بنا أن نهرب إلى أورشليم لنسترد قيثارات قلوبنا ونترنم لله لا بألسنتنا فحسب، بل بكل كياننا حيث تتحول مشاعرنا وأحاسيسنا وطاقاتنا إلى أوتار روحية تُخرج سيمفونية حب، تتجاوب مع حب الله الفائق. يقول:

[طوال وجودنا في بابل، تظل قيثاراتنا معلقة على الصفصاف؛ لكن إذا جئنا إلى أورشليم حيث “رؤية السلام” ترجع القيثارات التي كانت قبلاً معلقة بلا استخدام مرة أخرى إلى أيدينا، ونظل نعزف عليها بلا توقف مسبحين الله.

كما قلنا في البداية، تكون النفس موجودة دائمًا في المكان الذي يحمل اسمها؛ كما أن نفس الخاطئ توجد في بابل، فإن نفس البار توجد في اليهودية (الروحية). مع ذلك فإنها (نفس البار) توجد أيضًا في أماكن مختلفة داخل اليهودية نفسها، بحسب حياتها ودرجة إيمانها: قد تكون موجودة في “دان” التي تشغل أطراف اليهودية، أو في مواقع أفضل من دان، أو في وسط اليهودية، أو في الأراضي المجاورة لأورشليم، أما النفس الأكثر سعادة فتكون في وسط مدينة أورشليم.

من جهة أخرى، الإنسان الذي ارتكب أفظع أنواع الجرائم يكون في بابل، بينما الذي ارتكب خطايا أقل يكون في مصر (تأويليًا).

كما أن الموجودين في اليهودية لا يسكنون كلهم في مكانٍ واحدٍ، فيسكن أحدهم في أورشليم، وآخر في دان، وآخر في نفتالي، وآخر في أرض جاد؛ كذلك أيضًا الذين في مصر لا يسكنون كلهم في أماكنٍ سيئة بنفس الدرجة: منهم من يسكن في تانيس، ومنهم من يسكنٍ في نوف أو في سين أو في فيبستة (حز 30: 13-18). فإذا كان القارئ إنسانًا روحيًا يحكم في كل شيء دون أن يُحكم فيه من أحد (1 كو 15: 2)، يستطيع أن يجد تفسيرًا تأويليًا لأسماء المواقع الموجودة في مصر والتي ذكرها حزقيال النبي في نبوته، فلا يكتفي فقط بمعرفة تفسير أسماء الأمم مثل بابل ومصر واليهودية، وإنما يهتم أيضًا بمعرفة ما هو المقصود من خلال تلك الاسماء الصغيرة. “من هو حكيم حتى يفهم هذه الأمور، وفهيم حتى يعرفها؟!” (هو 14: 9)[697]].

الهروب السريع من بابل

[هناك تساؤل آخر: لماذا تعطى كلمة الرب للذين في بابل هذا الأمر: “اهربوا من وسط بابل“؟ لا تتركوها بالتدريج، بل اهربوا منها بسرعة، لأن الهروب يعني الجرى أثناء الخروج.

“اهربوا من وسط بابل”. هذه الكلمات موجهة إلى كل النفوس “المضطربة” بأمور هذا العالم وشهواته الرديئة المختلفة. فماذا إذا يعني أمر الرب؟ لم يقل: “اخرجوا من وسط بابل” لأن الخروج يمكن أن يحدث بالتدريج، بل قال: “اهربوا من وسط بابل”، في الواقع قوله: “من وسط” بابل، دفعني للبحث عن المقصود بتلك الكلمة. فقد يحدث أن يكون إنسان موجودًا في أطراف بابل، وبالتالي يكون بطريقة أو بأخرى خارجها. أما الوجود في وسط بابل فهو شيء آخر، لأن المسافة من الوسط إلى أي طرف من أطراف بابل تكون متساوية: أي أن الوجود في مركز بابل هو مثل وسط قلب أي حيوان. ففي الواقع القلب هو الجزء المتوسط في جسم أي حيوان، كما أن وسط الأرض يُسمى في إنجيل متى “قلب الأرض” (مت 12: 40)؛ إذًا يلزم على الخطاة أن يهربوا من وسط بابل أي من قلبها.

اهربوا إذًا من وسط بابل لكي إذا ما تركتم وسطها تصبحون بعد ذلك في أطراف أرضها.

حتى لا يكون هذا الكلام غامضًا أوضحه أكثر: الإنسان الغارق في الشرور والخطايا هو في وسط بابل؛ أما الذي يبتدئ تدريجيًا في ترك الخطية متجهًا نحو الخير ولم يحصل بعد على الفضائل، إنما يبدأ في الحصول على الاشتياق للفضائل، فبالرغم من هروبه من وسط بابل إلا أنه لم يتركها كلية[698]].

نجاة من جديد

يقول القديس جيروم في رسالته إلى استوخيوم إن والدتها قد نفذت هذه الوصية الإلهية فخرجت من أرضها لتستريح مع مخلصها[699].

يقول العلامة أوريجينوس:

 [ثم أضاف قائلاً: “وانجوا (من جديد) كل واحدٍ بنفسه”.

يجب أولاً أن نهرب من وسط بابل، ثم بعد ذلك ننجو من جديد كل واحدٍ بنفسه. لم يتحدث هنا عن النجاة فقط، بل عن النجاة من جديد، هذه الإضافة تحوى سرًا؛ تعني أننا قد ذقنا الخلاص قبل ذلك، لكن إذ حُرمنا منه بسبب خطايانا، أدى هذا إلى مجيئنا إلى بابل. لهذا يجب أن ينجو كل واحدٍ منا بنفسه من جديد، لكي نبدأ في استعادة ما قد فقدناه، وبحسب كلمات بطرس الرسول: “نائلين غاية إيمانكم خلاص النفوس. الخلاص الذي فتش وبحث عنه أنبياء، الذين تنبأوا عن النعمة التي لأجلكم” (1 بط 1: 9-10) [700]].

الفرق بين الطرد والرفض

[يوجد أمر ثالث: “لا تُطردوا بإثمها

إذا كان أحد يعيش في إثم بابل ولا يقدم توبة يصير “هلاكه” أمرًا طبيعيًا. لاحظ كيف أن العهد القديم رغم أنه مُترجم من العبرية إلى اليونانية، إلا أنه قد نجح جدًا في التعبير عن الكلمات وتوضيح الفروق بينها إلى حدٍ كبيرٍ. قال على سبيل المثال: “اخترت أن أصير مرفوضًا (مطروحًا أو مُلقى) في بيت إلهي الخ.” (مز 10: 84)، فهو لم يقل: “اخترت أن أصير مطرودًا”. نفس الشيء بالنسبة للآية التي نفسرها، فهي لم تقل: “لا تصيروا مرفوضين بإثمها” بل: “لا تصيروا مطرودين بإثمها”.

الطرد شيء والرفض شيء آخرٍ. الإنسان المُحتقر من الناس والمُهمل منهم، ليس مطرودًا وإنما مرفوض. أيضًا الإنسان الذي يوجد باستمرار خارج دائرة الخلاص مطرود لأنه لا ينعم بالتطويب الإلهي. لكي تفهم الفرق بين الكلمتين، يمكنك تجميع كل النصوص الموجودة في الكتاب المقدس والتي تحتوي على هاتين الكلمتين، والمقارنة بينهما[701]].

التأديب الإلهي علامة الحب والاهتمام

 [“لأن هذا زمان انتقام الرب“. يوضح الكتاب المقدس أن العقوبات تُوقع على الإنسان الذي يحتملها ويصبر على احتمالها. فعندما لا يُعاقب الإنسان على الأرض يظل هكذا بدون عقاب حيث يتم عقابه في يوم الدينونة. ويقول الرب على لسان هوشع النبي: “لا أعاقب بناتكم لأنهن يزنين ولا كناتكم لأنهن يفسقن” (هو 4: 14).

لا يعاقب الله الخطاة بسبب غضبه عليهم كما يظن البعض، أو بمعنى آخر عندما يوقع الله عقابًا على إنسانٍ خاطئ، لا يوقعه بدافع الغضب من هذا الإنسان، بل على العكس، فإن غضب الله على الإنسان يظهر في عدم توقيع العقاب عليه. لأن الإنسان المُعاقب حتى ولو تألم تحت تأثير هذا العقاب، إلا أن القصد هو إصلاحه وتقويمه. يقول داود: “يارب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بسخطك” (مز 6: 1).

إن أردت أن تؤدبني، فكما يقول إرميا: “أدبني يارب ولكن بالحق لا بغضبك لئلا تفنيني” (24: 10). كثيرون أُصلحوا بسبب عقوبات الرب وتأديباته لهم. كما يقول الكتاب، حينما يخطئ أبناء السيد المسيح يتم عقابهم لكي تكون أمامهم فرصة للرحمة من قبل الرب: “إن ترك بنوه شريعتي ولم يسلكوا بأحكامي، إن نقضوا فرائضي ولم يحفظوا وصاياي، افتقد بعصا معصيتهم وبضربات إثمهم، أما رحمتي فلا أنزعها عنهم” (مز 89: 30-33).

من ذلك نفهم أنه إذا ارتكب أحد الخطايا ولم يُعاقب حتى الآن يكون ذلك  علامة عدم استحقاقه للعقاب بعد[702]].

“هو يؤدي لها جزاءها”

[لن يوقع الله عقابه وجزاءه على بابل من خلال خدامه، بل هو بنفسه يؤدى لها جزاءها. أريد أن أضيف شيئًا على ذلك، وهو أن الله لا يُعاقب الخاطئ بنفسه، لكنه أحيانًا يرسل وسطاء، سواء لتنفيذ العقاب، أو لمنح الشفاء من خلال الألم كما نرى في المزامير: “أرسل عليه حمو غضبه سخطًا ورجزًا وضيقًا (عن طريق) جيش ملائكة أشرار” (مز 78: 49). بالنسبة لهؤلاء لم يؤدِ لهم الله جزاءهم بنفسه، لكنه استعان بملائكة أشرار ليقوموا بتنفيذ مهمة العقاب.

قد يستعين الرب بملائكة أطهار لمعاقبة بعض الناس. لكن يحدث في بعض الأحيان أن الرب يرفض الاستعانة بهؤلاء الوسطاء، ويوقع العقوبات بنفسه، كما هو الحال هنا بالنسبة لبابل.

عندما تكون الجروح طفيفة وقابلة للشفاء السريع، يكتفي الطبيب بإرسال تلميذه أو مساعده يعالج المريض. يحدث أحيانًا أن يكون المريض محتاجًا إلى بتر أحد أعضائه وإلى استخدام المشرط، مع ذلك لا يذهب إليه الطبيب بنفسه، بل يختار واحدًا من مساعديه قادرًا على القيام بهذا العمل، فيرسله ليعالج المريض.

لكن حينما تكون الجروح غير قابلة للشفاء، ويكون المرض قد انتشر في جميع أجزاء الجسم، بحيث يصل المريض إلى درجة كبيرة من الخطورة، هنا لا يتطلب الأمر يديّ التلميذ أو المساعد، إنما يحتاج إلى أيدي المعلم نفسه، فيقوم الطبيب بالتصدي لهذا الجرح المميت بنفسه. بالمثل حينما تكون الخطايا صغيرة، لا يوقع الله على الخطاة عقابهم بنفسه، لكنه يستخدم الوسطاء، أما إذا كانت الخطية خطيرة جدًا كما هو الحال هنا بالنسبة لمدينة بابل، يسرع الرب بتوقيع الجزاء عليها بنفسه[703]].

  1. بابل كأس ذهب:

“بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض.

من خمرها شربت الشعوب من أجل ذلك جنت الشعوب.

سقطت بابل بغتة وتحطمت. ولولوا عليها” [7-8].

يقول القديس جيروم: باختصار يلزمك أن تعرف أن الذهب غالبًا ما يكون تشبيهًا للبلاغة العالمية، كمثال لسان الهرطقة برّاق بالذهب[704].

v     اقام يربعام عجلي ذهب ووضع أحدهما في بيت إيل وجعل الآخر في دان (1 مل 12: 29) [قد يتساءل البعض: لماذا صنعوا عجلي ذهب؟ كنزنا محفوظ في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7). الكنسيون بحق هم بسطاء، أما الهراطقة فهم أرسطاطليون وأفلاطونيون. باختصار لتعرف أن الذهب هو التشبيه المعتاد للبلاغة الزمنية، حيث يكون لسان الهراطقة كتمثال ذهبي متلألئ، اسمع كلمات النبي: “بابل هي كأس ذهبي في يد الرب” [7]. لاحظ كيف يصف بابل المرتبكة. إذن هذا العالم هو كأس ذهبي، وكل الأمم يشربون منه[705].

 القديس جيروم

v     بابل تعني “ارتباكًا”، والكأس الذهبي حقًا هو تعاليم الفلاسفة وبلاغة الخطباء.

من بالحق لم ينحرف بواسطة الفلاسفة؟

من لم يُخدع بواسطة خطباء هذا العالم؟

كأسهم ذهبي، وسمو بلاغتهم من الخارج، أما الداخل فمملوء سمًا الذي لا يقدرون أن يخفوه إلا خلال بريق الذهب.

تذوقون عذوبة بلاغتهم لكي تتأكدوا ولا تشكوا أنه سم قاتل[706].

القديس جيروم

يقول العلامة أوريجينوس:

بين كأس الذهب والإناء الخزفي

[“بابل كأس ذهب بيد الرب تُسكر كل الأرض،

من خمرها شربت الشعوب،

من أجل ذلك جنَّت الشعوب (اختل عقلها)، سقطت بابل بغتة وتحطمت”.

نبوخذنصر، الذي كان يريد أن يغوي الناس ويجذبهم من خلال كأس بابل المُضِل والمخادع، لم يضع المشروب الذي أعده في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7)، ولا حتى في أوانٍ أخرى أفضل في النوع كالحديد أو النحاس أو حتى ما هو أفضل مثل الأواني الفضية؛ لكنه اختار إناءً من ذهب ليُعد فيه مشروبه، حتى يجتذب بريق الذهب عيون الناس، فيركزون كل اهتمامهم وأنظارهم على جمال الإناء الخارجي دون أن يلتفتوا إلى ما في داخله. بهذا يمسكون بالكأس ويشربونها وهم غير عالمين.

ماذا يعني كأس نبوخذنصر؟

ماذا يُقصد بكأس الذهب المذكورة هنا؟

إن نظرت إلى الجمال الخارجي الذي يغلف الكلمات القاتلة التي للعقائد الفاسدة، وإلى بلاغة لسانهم وفصاحة كلماتهم وفن ترتيب الكلمات وتنسيقها، عندئذ تدرك أن كل واحدٍ من هؤلاء الشعراء والفلاسفة قد أعد كأس ذهبٍ، يوجد في هذه الكأس سموم الزنا، وسموم الكلمات القبيحة، وسموم العقائد التي تقتل نفس الإنسان.

أما مسيحنا ففعل العكس: فإنه إذ يعرف أن كأس الشيطان مصنوعة من الذهب، لم يشأ أن يجعل الإنسان الذي يدخل في الإيمان يظن أن كأس السيد المسيح مشابهة للكأس التي تركها (أي كأس الشيطان التي تركها الإنسان حينما آمن بالرب)، ولم يشأ أن يصنع كأسه من الذهب حتى لا يقع المؤمنون في حيرة حينما يرون أن كأس الرب وكأس الشيطان مصنوعتان من نفس المادة، فمن أجل ذلك حرص السيد المسيح على أن يكون لنا هذا الكنز في أوانٍ خزفية (2 كو 4: 7).

“بابل كأس ذهب بيد الرب”.

بابل ليست كأس ذهب إلى الأبد، بل يأتي يوم تسقط من يديْ الرب حيث يقوم هو بنفسه بتوقيع العقاب عليها.

“تُسكر كل الأرض”، كأس الذهب هذا، أي بابل، تُسكر كل الأرض.

كيف تسكر كل الأرض؟ ستفهم ذلك حينما تدرك أن كل الناس أصبحوا سكارى: لقد سكرنا من الغضب، ومن الحزن، ومن الحب الفاني، ومن الشهوات الشريرة، ومن كل ما هو باطل. فكم من مشروبات أعدتها لنا بابل؟ وكم من كأس ذهبٍ أسرتنا بها؟

“بابل كأس ذهبٍ بيد الرب تُسكر كل الأرض”.

إن أردت أن تعرف كيف أصبحت كل الأرض سكرى بفعل كأس بابل أنظر إلى الخطاة الذين يملأون الأرض كلها. قد تقول لي إن الأبرار لم يسكروا من كأس الخطاة، فكيف يقول الكتاب أن كل الأرض تسكر من كأس بابل؟ لا تظن أن الكتاب لا يقول الصدق حينما يقول ذلك، لأن الأبرار في الواقع ليسوا أرضًا (ترابًا)، وبالتالي فإن كل الأرض فقط، أي الخطاة وحدهم، هم الذين يسكرون. أما الأبرار، فبالرغم من وجودهم على الأرض إلا أن مكانهم في السماء. بالتالي لا يليق أن يُقال للإنسان البار: أنت تراب (أرض) وإلى التراب تعود”، بل سيقول له الرب طالما أن ذلك الإنسان يلبس صورة السماوي (1 كو 15: 49): “أنت سماء وإلى السماء تعود”. لذلك فإن كأس بابل لن يُسكر إلا الذين ما زالوا “أرضًا”.

“من خمرها شربت الشعوب، من أجل ذلك جنت الشعوب”.

 الذين يشربون الخمر العادي، عندما يشربون منه أكثر من حاجتهم ويكثرون من شربه بدون عقل نرى فيهم صورة إنسانٍ سكرانٍ مختل الجسد ذو أرجل متراخية ورأس مثقلة، ولسان ثمل، ينطق بكلمات غير مفهومة، تخرج من خلال شفتين مضمومتين. بذلك يمكننا أن ندرك كيف أن الذين شربوا من خمر بابل جنوا واختل عقلهم، صارت خطواتهم غير ثابتة، وبسبب عقولهم الواهية وأفكارهم المترددة يعيشون دائمًا في قلقٍ واضطرابٍ ويملأ الشك حياتهم باستمرار. يقول الكتاب عن مثل هؤلاء الناس: “لذلك أخذتهم الرعدة” (مز 48: 6).

دعونا نتوقف قليلاً عند بعض الكلمات الغامضة: لماذا قيل عن قايين الخاطئ إنه حينما خرج من لدن الرب، سكن في أرض نود شرقي عدن (تك 4: 16)؟ إن كلمة “نود” تترجم في اليونانية “اختلال أو رعدة”. الإنسان الذي يترك الله، والذي لا توجد عنده القدرة على التفكير في الرب يكون موجودًا في أرض نود، أي يعيش في القلق واضطراب قلبه الرديء وفي اختلال الفكر والعقل.

سقطت بابل بغتة وتحطمت

متى سقطت بابل بغتة؟”

أعتقد أن المقصود بتلك الكلمات هو أن نهاية العالم تجيء بغتة، ستكون مثل أيام الطوفان حين كان الناس يأكلون ويشربون ويتزوجون ويزوجون إلى اليوم الذي دخل فيه نوح الفلك، ولم يعلموا حتى جاء الطوفان وأخذ الجميع” (مت 24: 37-38)، وكما حدث في أيام لوط (لو 17: 28). نفس الشيء يحدث في نهاية العالم، لن تجيء بالتدريج وإنما بغتة. وفي رأيي أن هذا أيضًا يتشابه مع ما جاء في سفر يشوع عن مدينة أريحا التي سقطت “بغتة” بمجرد حدوث صوت الأبواق، يحدث نفس الشيء أيضًا مع مدينة بابل في نهاية العالم تسقط بغتة وتتحطم. هذا إذا اعتبرنا أن العبارة السابقة تتحدث عن وقت انتهاء العالم؛ أما إذا تأملنا ماذا حدث في وقت السيد المسيح، ونظرنا إلى عمله العجيب، كيف أنه أفسد جميع التعاليم الوثنية المتعلقة بالأصنام وعبادتها، لكي يحمي المؤمنين من ثقل الخطية، عندئذ ستدرك أن في ذلك الوقت سقطت بابل بغتة وتحطمت.

ليفحص كل واحدٍ منا نفسه ليرى هل سقطت بابل من داخل قلبه أم لا. إذا كانت مدينة الاضطراب (بابل) لم تسقط بعد من قلبه، هذا دليل على أن السيد المسيح لم يأتِ بعد إلى هذا القلب، لأنه بمجرد دخوله إلى القلب تنهار بابل وتتحطم في الحال. فمن أجل ذلك حينما تصلون، اجتهدوا أن تطلبوا مجيء السيد المسيح في قلوبكم حتى يحطم بابل ويسقط كل شرها وخبثها ومكرها، ويقيم على أنقاضها أورشليم مدينة الله المقدسة، يقيمها في داخل قلوبنا[707]].

  1. جراحات لا تُشفي:

“خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تُشفي.

داوينا بابل فلم تُشفَ.

دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه،

لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب” [8-9].

هذا الحديث في رأى الأب سيرينوس[708] موجه من الله إلى الأطباء والجراحين ليحزنوا بسبب عدم قبولها الدواء، بينما تكملته [9] هو تعليق هؤلاء الأطباء من ملائكة منوطين بهم ورسل وروحيين ادركوا أن بابل رفضت العلاج.

v     حاول إرميا أن يشفي بابل إن استطاع!…

لم يُشفَ المجمع لأن البلسان قد عبر إلى الكنيسة! جاء التجار من جلعاد، أي من موضعهم أو سكناهم في الناموس، واحضروا بضائعهم إلى الكنيسة لكي يشفي البلسان خطايا الأمم. عن هؤلاء قيل: “شددوا الأيادي المسترخية والركب التي بلا قوة” (إش 35: 3 LXX).

البلسان هو الإيمان غير الفاسد. مثل هذا الإيمان عرضه بطرس إذ قال للأعرج: “باسم يسوع المسيح الناصري قم وامشىِ” (أع 3: 6) [709].

القديس أمبروسيوس

v     لقد اعتنى ببابل، لكنها لم تنل صحة، لأنه حين يكون الذهن مرتبكًا بالشر يسمع كلمات التوبيخ ويشعر بتأديبات الانتهار، لكنه يستخف بالرجوع إلى طرق الخلاص المستقيمة[710].

الأب غريغوريوس(الكبير)

يقول العلامة أوريجينوس:

[“ولولوا عليها، خذوا بلسانًا (بلسمًا – مرهمًا) لجرحها لعلها تُشفي“.

بما أن كل نفس يمكنها أن تحصل على الخلاص، لا توجد نفس واحدة غير قابلة للشفاء بالنسبة للرب، لذلك ينصح الله الذين يستطيعون أن يعبروا إلى أورشليم أن يحصلوا على بلسم العهد الجديد، أن يحاولوا بقدر استطاعتهم أن يستخدموا هذا العلاج مع بابل لكي تُشفي وتستعيد صحتها.

ليتنا نحاول نحن أيضًا أن نفعل ذلك، فنطلب من الله أن يعطينا البلسم الروحي؛ لكي نتعلم كيف نعصب جراحات بابل، مقتدين بالسامري الصالح؛ وبالتالي تُشفي هذه المدينة البائسة، فلا تعود بعد إلى حالتها الأولى.

أين هم الهراطقة الآن؟ أين الذين يؤمنون بتعدد أنواع النفوس، ويؤكدون وجود نوعٍ من النفوس لا رجاء فيه، والأمل في خلاصه مفقود؟ لو كانت هناك نوعية من النفوس لا بد أن تهلك، أفما كانت بابل هي أول تلك النفوس التي يجب أن تهلك؟

ومع ذلك، فإنه حتى بالنسبة لبابل، لم يحتقرها الله، بل يأمر الأطباء أن يضعوا بلسمًا لجرحها لعلها تشفي!

إذًا هؤلاء الذين صدر الامر إليهم بمعالجة بابل، حينما علموا بإمكانية شفائها واستعادة صحتها، قاموا بالفعل بتنفيذ الأمر، ووضعوا بلسمًا على جرحها، لكن إذ وجدوا أنهم لم يحصلوا على النتيجة التي كانوا ينتظرونها، لأن بابل ظلت في شرورها ولم ترد أن تُشفي، قالوا بعد أنهم أدوا مهمتهم وتمموا مسئوليتهم: “داوينا بابل فلم تُشفَ، دعوها“. أفلا يحدث معك هذا أنت أيضًا أيها الإنسان؟

يحدث أحيانًا أن يرسل لك الله الملائكة ويأمرهم بوضع المراهم عليك لعلاجك من مرض النفس “لعلك تُشفي”، فتكون النتيجة أن هؤلاء الملائكة يجيبون الرب قائلين: “داوينا بابل، التي هي نفسك المضطربة بشهوات هذا العالم، فلم تُشفَ”. سبب عدم الشفاء لا يرجع إلى قلة معرفتهم وخبرتهم الطبية ولا إلى رداءة نوع البلسم، بل يرجع السبب أولاً وأخيرًا إليك أنت، لأنك لم تشأ أن تُشفي، فلم تتبع تعليماتهم وعلاجهم. “دعوها”؛ إن الملائكة هنا كانوا يمثلون أطباء مهمتهم تنفيذ أوامر الله الطبيب الأعظم؛ لقد أرادوا معالجة ضعفاتنا وتحرير نفوسنا من الرذائل، أما نحن فإننا نُبعدهم عنا بعيدًا برفضنا اتباع نصائحهم. لذلك فإن هؤلاء الملائكة، إذ يرون أن تعبهم يذهب هباءً، يقولون: “دعوها. ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه”. أو أنهم يقولون بطريقة أخرى: لقد سلمنا الله الدواء لمعالجة النفس البشرية، فجئنا لنجدتها وقدمنا لها الدواء، أما هي فإنها عنيدة جدًا وعاصية لا تريد أن تستمع إلى ما نقوله، وقد أصبح مجهودنا بلا ثمر، وبالتالي “دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه”.

احذر أيها الإنسان لئلا يتركك الطبيب، سواء كان هذا الطبيب ملاكًا من قبل الرب أو إنسانًا مكلفًا من قبل الله بإعطائك الدواء الذي يقودك إلى الخلاص. لأنه لو تركك الطبيب وقال: “دعوها ولنذهب كل واحدٍ إلى أرضه، لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب”، فإن تركه إياك إنما يعني إدانتك كإنسانٍ غير قابل للشفاء لأنك رفضت أن تعالج. عندما يتركك الطبيب، ماذا يحدث لك إلا الشيء الطبيعي الذي يحدث لأي مريض فقد الأطباء الأمل في شفائه؟ المريض الذي أحب مرضه يسقط حتمًا في حالة أكثر سوءًا.

يظل الأطباء الصالحون المخلصون  بجانب المريض طالما يستطيعون معالجته بحسب مهنتهم، وطالما يمكنهم أن يستخدموا الدواء مع هذا المريض. لكن إذا تفاقم المرض وازداد سوءًا إلى درجة فقدان الأمل في الشفاء، أو إذا خالف المريض تعليمات الأطباء نتيجة لتعبه من الآلام وضجره منها، إذ يفقد الطبيب الأمل في مثل هذا الإنسان يدعه (يتركه) وينسحب لئلا يموت المريض بين يديه، وبالتالي تُلقى المسئولية عليه. نفس الشيء يحدث معنا نحن أيضًا، فلكي تتجنب الملائكة الأطهار أن نموت بين أيديها يتركوننا عندما يفقدون الأمل في شفاء نفوسنا ويقولون: “من أسفل القدم إلى الرأس ليس فيه صحة بل جرح وإحباط وضربة طرية لم تُعصر ولم تُعصب ولم تلين بالزيت” (إش 1: 6).

“لأن قضاءها وصل إلى السماء وارتفع إلى السحاب“.

الإنسان الذي تكون خطيته صغيرة، لا يرتفع قضاؤه إلى السماء، بينما الذي ينمو في الشر ينمو أيضًا قضاؤه ويزداد حجمه، وكلما تزيد شروره يزيد أيضًا عقابه. إذا كان قد أخطأ إلى الدرجة التي وصلت فيها خطاياه إلى السماء وارتفعت إلى السحاب حينما يقاوم الله بعناده ترتقى خطاياه أكثر فأكثر، لذلك فإن الرب يهين الخطية التي أوصلت قضاء الإنسان إلى السماء، كما أنه في الوقت نفسه يكافئ الإنسان البار مكافأة تليق بالحياة التي عاشها في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة والسلطان إلى أبد الآبدين آمين[711]].

يرى القديس جيروم أن الأنبياء والرسل هم السحاب، إذ قيل “حقك للسحاب” (مز 36: 6)، هكذا ينبع الحق من السحاب أي من الأنبياء والرسل. إذ يلتقى هذا السحاب ويحتك معًا يعطي بهاءً وبريقًا لتعليمٍ واحدٍ يضيء على العالم كله[712].

[أتريد ان تعرف كيف يُدعى المؤمنون سحابًا في الكتاب المقدس؟ يقول إشعياء: “أوصي الغيم أن لا يمطر عليهم مطرًا” (راجع إش 5: 6). كان موسى سحابة، لذلك قال: “يهطل كالمطر تعليمي” (تث 32: 2). رسائل الرسل هي مطر روحي يهطل علينا. كحقيقة واقعة “لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي عليها مرارًا كثيرة” (عب 6: 7)، مرة أخرى يقول “أنا غرست وأبولس سقى” (1 كو 3: 6) [713]].

الآن إذ أعلن أن خطايا بابل قد بلغت إلى السماء وتعرف عليها رجال الله خاصة الأنبياء، مؤكدين أن جرحها لا يبرأ لأنها ترفض البلسان (السيد المسيح) الذي في جلعاد (كنيسة العهد الجديد)، يؤكد الحقائق التالية:

أ. أن الرب هو برنا:

“قد أخرج الرب برنا” [10].

شتان بين خطايا بابل وخطايا المؤمنين، الأولى إصرار على العصيان وعناد ومقاومة لعمل الله؛ أما الثانية فضعفات لذا يلجأ المؤمنون إلى الله الذي يبرر، إذ يستر علينا بنعمته، فلا تُحسب علينا خطية مادمنا نتجاوب مع عمل نعمته، ونُحسب أبرارًا، لأن “الرب برنا”. إنه يؤدبنا وأيضًا يبررنا!

ب. إعلان عمل الله في كنيسته: 

“هلم فنقص في صهيون عمل الرب إلهنا” [10].

يحلو لله أن يقص على أولاده أعماله المجيدة، فيكشف لهم إرادته الإلهية، من جهتهم كما من جهة الأشرار المُصرين على عنادهم.

ج. قضاء بابل:

خلاص الكنيسة يحوي ضمنًا تحطيم الشر وسقوط مملكة إبليس المظلمة، لذلك يقول:

“سنوا السهام.

أعدوا الأتراس.

قد أيقظ الرب روح ملوك مادي لأن قصده على بابل أن يهلكها.

لأنه نقمة الرب نقمة هيكله.

على أسوار بابل ارفعوا الراية.

شددوا الحراسة.

أقيموا الحراس.

أعدوا الكمين،

لأن الرب قد قصد وأيضًا فعل ما تكلم به على سكان بابل” [11-12].

هنا نجد دعوة موجهة من الله إلى ملوك مادي، أي رؤسائها، رجال كورش، للتحرك والهجوم ضد بابل. عاش أهل مادي في شمال غرب إيران، في المنطقة التي تدعى حاليًا كردستان الايرانية، كانت تنقسم إلى ست مقاطعات، وفي أيام اليونان والرومان انقسمت إلى مقاطعتين، وهما أتروباتينة في الشمال ومادي الكبيرة في الجنوب مع الشرق.

الماديون هم نسل بن يافث (تك 10: 2)، اشتهروا بخيولهم، وكانوا يتصلون بالفرس في الجنسية واللغة والثقافة والتاريخ (دا 5: 28؛ 6: 8، 12، 15).

عاصمة مادي هي Ecbatana، من أعظم ملوكها Astyages (585-550 ق.م). مع وجود معلومات عن تاريخ مادي إلا أنه يعتبر تاريخًا غامضًا قبل كورش الذي أَخضع المنطقة عام 550 ق.م.

هنا يلاحظ أن تأديب الرب لهم هو تأديب بسبب هيكله الذي خربوه.

وقد طلب حراسة مشددة على أبواب بابل حتى لا يهرب منهم أحد.

“أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن، قد أتت آخرتك، كيل أغتصابك.

قد حلف رب الجنود بنفسه إني لأملأنك أناسًا كالغوغاء فيرفعون عليكِ جلبة[13-14].

دعاها الساكنة على مياه كثيرة، وقد سبق لنا التعليق على ذلك، فإنها تشير إلى الآتي:

أ. تجلس ملكة على أمم كثيرة حيث أن المياه تشير إلى الشعوب.

ب. كثرة المياه تعني الموارد الطبيعية الضخمة في تحويلها إلى جنات وحقول تفيض عليها بالخيرات.

ج. تشير إلى مركزها الجغرافي بكونها على نهر الفرات بقنواته الكثيرة وبرك المياه التي تقوم بدور الحصانة العسكرية للمدينة.

اتسمت بالحصانة مع الغنى حيث جمعت كل ما في مخازن الأمم المحيطة بها حين استولت عليها، لكن نهايتها قد قربت، إذ يغزوها جيش مادي وفارس كسحابة جراد بأصواته القوية… أصوات الغلبة والنصرة. ليس من يقدر أن يقف أمام حملاته!

يرى البعض أن الجلبة هنا تعني صوت نصرة الغالبين، وهو نفس التعبير الذي يُقال عن الذين يدوسون العنب لعصره. وكأن جيش مادي وفارس دخل ليدوس بابل تحت أقدامهم كعنب يُعصر ويصير خمرًا مسكرًا. إنه خمر غضب الله الذي يلزم لبابل أن تشربه!

يقدم بعد ذلك تسبحة حمد لله [15-19]، إذ يقول:

“صانع الأرض بقوته،

ومؤسس المسكونة بحكمته،

وبفهمه مدّ السموات.

إذا أعطى قولاً تكون كثرة مياه في السموات،

ويصعد السحاب من أقاصى الأرض.

صنع بروقًا للمطر وأخرج الريح من خزائنه.

بَلُدَ كل إنسان بمعرفته.

خزى كل صائغ من التمثال، لأن مسبوكه كذب ولا روح فيه.

هي باطلة صنعة الأضاليل.

في وقت عقابها تبيد” [15-18]. 

حملت هذه التسبحة نفس الروح والعبارات الواردة في (10: 12-16).

أراد النبي أن يوضح لبابل سر شقائها وإصابتها بالجراحات القاتلة وهو حرمانها من الله الحقيقي، الطبيب الحقيقي، فقدم هذه التسبحة التي تعلن عن الله أنه القدير، الحكيم، يهب الأمطار والبرق، ويجلب الرياح من مخازنها. هو قادر أن يسخّر الطبيعة بكل إمكانياتها لحساب مؤمنيه، بقوته الإلهية وحكمته وأبوته. إنه يبسط الفكر السماوي في داخل النفس ويجلب عليها أمطار نعمته الغزيرة، ويبرق بنور المعرفة على الفكر، ويهبها روحه القدوس فتُشفي وتغتني! إذ تفخر بابل أنها جالسة على مياهٍ كثيرة، يؤكد النبي أن مصادر المياه في يديْ الخالق، الذي بكلمته تفيض المياه، ويأتي بالسحاب من أقاصي الأرض، وبكلمته أيضًا يمنعها لتأديب بابل.

  1. نصيب يعقوب:

“ليس كهذه نصيب يعقوب، لأنه مصور الجميع وقضيب ميراثه رب الجنود اسمه” [19].

شتان ما بين عقوبة الأشرار المصممين على عنادهم وتأديب النفوس الساقطة في الخطايا عن ضعفٍ أو جهلٍ. يخشى الأشرار قدرة الله إذ يرونه جبارًا يسيطر عليهم، أما المؤمنون فيفرحون بجبروته إذ يرتبط ذلك بأبوته وحبه. حقًا يؤدب، لكن في تأديبه يعلن عن حبه واهتمامه بهم، لأنهم ميراثه، منسوبون إليه.

  1. عصا الرب للتأديب:

إن كان الله يقطع مطرقة كل الأرض ويحطمها، فإنه يوضح هنا عمله أنه يستخدم مطرقة لتحطيم الشر. ما هي هذه المطرقة؟

كانت في البداية أشور التي استخدمها الله كعصا تأديب لإسرائيل (10: 5-19)، وفيما بعد استخدم عبده  نبوخذنصر البابلي لتأديب يهوذا وبقية الأمم (27: 4-11)، وأخيرًا استخدم كورش ليطرق به بابل داعيًا إياه راعيه ومسيحه (إش 44: 28؛ 45: 1). يبدأ هنا ببابل كمطرقة في يد الرب (20-23)، يليه دينونة بابل (25-24).

“أنت لي فأس وأدوات حرب،

فأسحق بك الأمم وأهلك بك الممالك.

وأكسر بك الفرس وراكبه وأسحق بك المركبة وراكبها.

وأسحق بك الرجل والمرأة،

وأسحق بك الشيخ والفتى،

وأسحق بك الغلام والعذراء.

وأسحق بك الراعي وقطيعه،

وأسحق بك الفلاح وفدانه،

وأسحق بك الولاة والحكام” [20-23].

كانت فؤوس المعارك متنوعة؛ كانت الفأس المصرية بيدٍ طويلة ولها رأس واحدة نحاسية أو حديدية، بينما الفؤوس الفارسية أياديها قصيرة ولها رأس ضخمة. توجد فؤوس حرب لها رأسان.

بفؤوس الحرب والأدوات الأخرى التي للرب، أي بجيش بابل سحق الأمم والممالك، كما الجيوش وأدواتها، وكل طبقات الشعب لتأديبهم… وكان يليق ببابل أن تتعظ ولا تسقط في العجرفة حتى على الله نفسه.

إذ إنتهي الحديث عن بابل كمطرقة تسحق الأمم، تتقبل بابل ثمرة شرها وغطرستها. كانت تتشامخ كجبلٍ عالٍ، الآن يهددها لتصير “جبلاً محرقًا” لا يصلح لشيء.

“وأكافئ بابل وكل سكان أرض الكلدانيين على كل شرهم الذي فعلوه في صهيون أمام عيونكم يقول الرب.

هأنذا عليك أيها الجبل المهلك يقول الرب،

المهلك كل الأرض،

فأمد يدي عليك،

وأدحرجك عن الصخور،

وأجعلك جبلاً محرقًا” [20-25].

يدعو الله بابل جبلاً مع أنها قائمة على سهل، وذلك كرمز كقوتها وعظمتها.

  1. حرمان من حجر الزاوية:

“فلا يأخذون منك حجرًا لزاوية ولا حجر لأسسٍ بل تكون خرابًا إلى الأبد يقول الرب” [26].

عوض كونها جبلاً متشامخًا صارت جبلاً محرقًا لا تجد فيه حجرًا يصلح لزاوية ولا كأساسٍ لأي مبنى. هذا هو ثمر الكبرياء، يفقد الإنسان كل صلاحية.

لقد دُعى السيد المسيح “حجر الزاوية”، وصار إيمان التلاميذ به هو حجارة الأساسات التي يقوم عليها مبنى كنيسة العهد الجديد، لكن بابل لم تتمتع بالسيد المسيح ولا بإيمان الرسل، لذلك  انهارت تمامًا. 

تتحقق هذه النبوات بالكامل حين يسكب الملاك السابع جامه (رؤ 14: 8؛ 16: 17-21؛ 18: 1-24).

  1. جاء وقت الحصاد:

في هذه المرة لا توُجه الدعوة إلى رؤساء مادي وحدهم بل إلى كل الأمم والشعوب لتتحالف معًا وتقدس حربًا ضد بابل. هذا النداء مُوجه للأمم بعد خضوعها لمادي لتعمل مع مادي ضد بابل، وتحسب أن حربها مع بابل هو عمل مقدس، لأنه بسماحٍ إلهي. النداء موجه بالأكثر إلى ممالك في منطقة أرمينيا (ممالك أراراط ومِنّيِ واشكناز).

“ارفعوا الراية في الأرض.

اضربوا بالبوق في الشعوب.

قدسوا عليها الأمم، نادوا عليها ممالك أرارط ومِنّيِ وأشكناز.

أقيموا عليها قائدًا،

أصعدوا الخيل كغوغاء (جراد) مقشعرة” [27].

أراراط: منطقة في ارمينيا شمال بحيرة فان Van.

مِنّيِ Minni  شعب قريب من مملكة أراراط، شرق بحيرة فان.

اشكناز: يُقال إنهم من نسل جومر (تك 10: 3)، يرى البعض أنهم السكيثيون.

واضح أن هذه الممالك صارت خاضعة لملوك مادي، غلبها الماديون في القرن السادس ق.م. هنا الدعوة موجهة إليهم للعمل مع مادي [28] في مقاومة بابل، إذ يقول:

“قدسوا عليها الشعوب ملوك مادي وُلاتها وكل حكامها وكل أرض سلطانها” [28].

لقد ارتجفت الأرض واهتزت أمام ما حلَّ ببابل العظيمة:

“فترتجف الأرض وتتوجع،

لأن أفكار الرب تقوم على بابل ليجعل أرض بابل خرابًا بلا ساكن.

كف جبابرة بابل عن الحرب وجلسوا في الحصون.

نضبت شجاعتهم.

صاروا نساء.

حرقوا مساكنها.

تحطمت عوارضها.

يركض عداء للقاء عداء،

ومخبر للقاء مخبر،

ليخبر ملك بابل بأن مدينته قد أخذت عن أقصى.

 وأن المعابر قد أمسكت والقصب أحرقوه بالنار ورجال الحرب اضطربت.

 لأنه هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل إن بنت بابل كبيدر وقت دوسه.

بعد قليلٍ يأتي عليها وقت الحصاد” [29-33].

نلاحظ هنا أن تكرار نفس العبارات التي قيلت عن يهوذا بعد دماره بواسطة نبوخذنصر (4: 7؛ 44: 22)، وأيضًا عن مصر (46: 19) وموآب (48: 9)؛ وكأن ما فعلته بابل بغيرها يسقط عليها.

كثيرًا ما يكرر هذا الأصحاح انهيار جيش بابل، إذ كفّ الجبابرة عن الحرب بسبب المفاجأة التي لم تكن متوقعة، فاختفوا في الحصون، وفقدوا شجاعتهم، وصاروا كنساءٍ في ضعف، غير قادرين على الدخول في معركة.

يظهر مقدار ما حلّ بجبابرة بابل من ضعف إذ أُصيبوا كما بفالجٍ فشُلَّت حركتهم بسبب الخوف. يذكر هيرودت أن البابليين رجعوا إلى المدينة وبقوا في الحصون كما سبق فتنبأ إرميا [30] [714].

كانت العادة قديمًا أن يركض واحد وراء آخر قادمين من أرض المعركة ليخبروا الملك بالأحداث (2 صم 18: 19؛ 19: 1). هنا يركض كثيرون من كل جانب ليخبروا الملك بسقوط المدينة في يد العدو.

جاءت الاخباريات الأولى تعلن عن انهيار الحصون الخارجية. بجانب الحصنين العظيميين اللذين كانا يحيطا بقلب بابل وُجد حصن داخلي سمكه 21 قدمًا وآخر خارجي سمكه أكثر من 21 قدم. كانت هناك حصون في شمال المدينة وجنوبها، كما قام نهر الفرات مع قنوات والبرك بتحصين المدينة طبيعيًا.

يقصد بالمعايير أُمسكت، أنهم قد سيطروا علي النهر ذاته؛ وإذ هرب كثيرون وسط القصب حرق العدو القصب حتى لا يختفي أحد فيه.

ماذا يعني أن بنت بابل صارت كبيدر وقت دوسه؟ إذ يأتى وقت الحصاد تجمع عيدان القمح، وتُلقى على الأرض، وتدوسها الحيوانات، وتقطع العيدان بالنورج ثم تذرى. هكذا صارت بابل كبنت ملقاه على الأرض تدوسها الحيوانات ويمزقها النورج ويذرونها كما في البيدر!

  1. شكوى إسرائيل:

“أكلني أفناني نبوخذراصر ملك بابل.

جعلنى إناءً فارغًا.

ابتلعني كتنينٍ وملأ جوفه من نعمي، طوَّحني.

ظُلمي ولحمي على بابل تقول ساكنة صهيون،

ودمي على سكان أرض الكلدانيين تقول أورشليم” [34-35].

لماذا حلّ كل هذا ببابل؟ لأن إسرائيل يشتكي عليها، فقد افترسته وأكلته وشربته حتى صار كإناء فارغ. أكل نبوخذنصر وشرب ولم يترك شيئًا في إناء إسرائيل!

لم يصنع هذا عن احتياجٍ إلى أكلٍ أو شربٍ، إنما كان نبوخذنصر كتنينٍ يبتلع فريسته ليملا جوفه بها ويتنعم بها ثم يتقيأها (طوَّحني). بهجته في ابتلاع الآخرين ليتقيأهم بعد ذلك.

  1. الله ينتقم لشعبه:

يأخذ الله على عاتقه دفاعه عن أولاده في الوقت المناسب. يدافع شرعيًا، فيقيم خصومة ومحاكمة لكي يعطي للخصم فرصة الدفاع عن نفسه.

“لذلك هكذا قال الرب:

هأنذا أخاصم خصومتك وأنتقم نقمتك،

وأنشف بحرها وأجفف ينبوعها.

وتكون بابل كومًا ومأوى بنات آوى ودهشًا وصفيرًا بلا ساكن” [36-37].

سبق أن شبَّه البابليين بالأسود التي تزمجر، الآن إذ تشعر بالجوع تزمجر وتضطرب، فيعد لها الله وليمة، لا من أكلٍ بل من شربٍ، لكي تشرب منها وتسكر. يقدم لها كأس غضبه (25: 15الخ)، يشربون فينامون ولا يقومون. لقد صاروا كخرافٍ مذبوحة وليس كأسودٍ قوية.

“يزمجرون معًا كأشبال.

يزئرون كجراء أسود.

عند حرارتهم أعد لهم شرابًا وأسكرهم لكي يفرحوا ويناموا نومًا أبديًا ولا يستيقظوا يقول الرب.

أنزلهم كخرافٍ للذبح وككباش مع أعتدة” [38-40].

استولى كورش على بابل بينما كانت المدينة كلها منشغلة بعيدٍ دنس. تحولت أغاني العيد إلى زمجرة أشبال صغيرة وزئير جراء أسود لكن بلا عون.

كانوا يسكرون في لهوٍ بالعيد ولم يدروا أنهم يسكرون بخمر غضب الله.

كانوا يقدمون الخراف والكباش ذبائح للإله بيل ولم يدركوا أنهم هم صاروا خرافًا للذبح وكباشًا تُستهلك.

“كيف أُخذت شيشك؟!

وأُمسكت فخر كل الأرض؟!

كيف صارت بابل دهشًا في الشعوب؟!

طلع البحر على بابل فتغطت بكثرة أمواجه.

صارت مدنها خرابًا أرضًا ناشفة وقفرًا،

أرضًا لا يسكن فيها إنسان ولا يعبر فيها ابن آدم.

وأعاقب بيل في بابل،

وأخرج من فمه ما ابتلعه،

فلا تجرى إليه الشعوب بعد ويسقط سور بابل أيضًا” [40-44]. 

سبق أن رأينا أن كلمة “شيشك” شفرة خاصة ببابل[715]، وأنها غالبًا مأخوذة عن فعلٍ معناه “يغطس”. كأن بابل تغطس في وسط المياه ولا تقوم. لقد سبق فغطس يونان في البحر بينما جلست بابل على المياه الكثيرة كملكة. لكن شتان ما بين الإثنين، إذ تحولت مياه البحر بالنسبة ليونان إلى نهرٍ حلوٍ يحوط به (يونان 2: 5)، حوّلت قفر قلبه إلى جنة، فقدم تسبحة القيامة (يونان 2)، وعاين هيكل قدس الرب وتمتع بالخلاص (يونان 2: 7، 9). أما بابل الجالسة كملكة على نهر الفرات العذب فغطاها البحر المالح بأمواجه، وغرَّق حقولها ومدنها، ولم يعد يسكنها إنسان أو حيوان. أما إلهها بيل الذي ظنوه يأكل ما يذبحونه له وما يقدمونه له من أطعمةٍ فإنه يتقيأ ما ابتلعه، فيكون سخرية أمام الشعوب! وأخيرًا أسوار بابل التي كان العالم يتطلع إليها كإحدى الأعاجيب العظمى، فإنها تسقط. وكأن بابل تفقد نهرها وأرضها ومدنها وسكانها وحيواناتها وإلهها وأسوارها وحمايتها وسلامها!

  1. اخرجوا من وسطها:

“اخرجوا من وسطها يا شعبي،

ولينجِ كل واحدٍ نفسه من حمو غضب الرب.

ولا يضعف قلبكم فتخافوا من الخبر الذي سُمع في الأرض،

فإنه يأتي خبر في هذه السنة ثم بعده في السنة الأخرى،

خبر وظلم في الأرض متسلط على متسلط.” [45-46].

تكررت الدعوة بالخروج من وسط بابل، وكأنها إنذارات خطر تدوّى بلا توقف حتى يهرب المؤمنون منها. ليخرجوا بلا خوف وليترقبوا أخبار متوالية تعلن عن خراب بابل ودمارها تمامًا.

  1. الحكم:

“لذلك ها أيام تأتي وأعاقب منحوتات بابل،

فتخزى كل أرضها، وتسقط كل قتلاها في وسطها.

فتهتف على بابل السموات والأرض وكل ما فيها،

لأن الناهبين يأتون عليها من الشمال يقول الرب.

كما أسقطت بابل قتلى إسرائيل تسقط أيضًا قتلى بابل في كل الأرض” [47- 49].

يُسمع هتاف النصرة والفرح في السموات وعلى الأرض، ليس شماتة في زملائهم البابليين، وإنما تهليلاً بعمل الله بخلاص أولاده، وتحقيق العدل الإلهي في الزمن المناسب.

هذه هي خبرة المؤمن إذ تتحطم بابله الداخلية يهتف جسده (أرضه) مع نفسه (سمواته)، ويشترك كل كيانه في التهليل للرب.

  1. أمر بالعودة:

“أيها الناجون من السيف اذهبوا لا تقفوا،

اذكروا الرب من بعيد، ولتخطر أورشليم ببالكم.

قد خزينا لأننا قد سمعنا عارًا غطى الخجل وجوهنا،

لأن الغرباء قد دخلوا مقادس بيت الرب” [50-51].

للمرة الخامسة في هذه النبوات ضد بابل يطالب الله شعبه بالخروج من بابل، ويحثهم على العودة إلى أرضهم (50: 8، 51: 6، 9، 45، 50).

إنه يطالبهم بالانشغال بأورشليم وتطهير هيكلها من الغرباء الذين دنسوها. إنها دعوة لكل نفس أن تُمتص أفكارها في أورشليمها الداخلية، مقدس الرب، ولا تسمح لفكرٍ غريب يدخل فيها ليدنسها.

  1. نهاية السبي البابلي:

“لذلك ها أيام تأتي يقول الرب، وأعاقب منحوتاتها،

ويتنهد الجرحى في كل أرضها.

فلو صعدت بابل إلى السموات،

ولو حصنت علياء عزها،

فمن عندي يأتي عليها الناهبون يقول الرب.

صوت صراخ من بابل وانحطام عظيم من أرض الكلدانيين.

لأن الرب مخرب بابل وقد أباد منها الصوت العظيم،

وقد عجت أمواجهم كمياه كثيرة وأطلق ضجيج صوتهم.

لأنه جاء عليها على بابل المُخرب وأخذ جبابرتها وتحطمت قسيهم لأن الرب إله مجازاة يكافئ مكافأة.

وأُسكر رؤساءها وحكماءها وولاتها وحكامها وأبطالها،

فينامون نومًا أبديًا ولا يستيقظون يقول الملك رب الجنود اسمه.

هكذا قال رب الجنود:

إن أسوار بابل العريضة تُدمر تدميرًا وأبوابها الشامخة تُحرق بالنار،

فتتعب الشعوب للباطل والقبائل للنار حتى تعيا” [52-58].

سقوط بابل هو تحقيق للعدالة الإلهية، ما تعاني منه هو ثمر طبيعي لجرائمها.

إذ اجتمع الرؤساء والحكماء، أي المنجمون، والولاة والحكام والأبطال للتشاور معًا تحول مجلسهم إلى جلسة مستهزئين، لأنهم سكروا من خمر اليأس وترنحوا، وفقدوا قدرتهم على التفكير والتصرف.

  1. قراءة النبوات في بابل:

“الأمر الذي أوصى به إرميا النبي سرايا بن نيريا بن محسيا عند ذهابه مع صدقيا ملك يهوذا إلى بابل في السنة الرابعة لملكه. وكان سرايا رئيس المحلة.

فكتب إرميا كل الشر الآتي على بابل في سفرٍ واحدٍ كل هذا الكلام المكتوب على بابل.

وقال إرميا لسرايا: إذا دخلت إلى بابل ونظرت وقرأت كل هذا الكلام.

فقل أنت يارب قد تكلمت على هذا الموضع لتقرضه حتى لا يكون فيه ساكن من الناس إلى البهائم بل يكون خربًا أبدية” [59-62].

سرايا هذا هو أخ باروخ كاتب إرميا النبي، ذهب مع صدقيا الملك إلى بابل لكي يجدد عهده بالولاء، لكن بعد العودة مباشرة كسر الملك عهده وثار ضد ملك بابل.

كتب إرميا كل النبوات ضد بابل في سفر وأرسلها مع سرايا ليذهب بها إلى بابل ويقرأها على الذين سبق سبيهم، ويختم القراءة بصلاة [62] فيه يطلب سرايا أن يحقق الله وعوده هذه بتحطيم بابل.

واضح أن تصرفات إرميا النبي تبدو غير منطقية بشريًا، فقد أعلن نبواته ضد بابل قبل سبي يهوذا، أي في الوقت الذي فيه كان يوبخ الملك وكل رجاله مع كل القيادات بسبب عدم خضوعهم لبابل، عصا التأديب الإلهي؛ وفي نفس الوقت يعلن عن انهيار بابل، ويسلم ذلك لأحد مساعدي الملك ليذهب بهذه النبوات إلى بابل نفسها ويتحدث بين المسبيين علانية عن ذلك! بمعنى آخر بينما يطالب بالخضوع لبابل يعلن عن نهاية إمبراطوريتها! حقًا هكذا يسلك أولاد الله بروح الاخلاص للكلمة الإلهية حتى إن بدت غير مقبولة في أعين الكثيرين.

لماذا كتب إرميا السفر بنفسه؟

ربما كان باروخ متغيبًا في ذلك الحين، أو لأنه لم يرد أن يعرضه للخطر البابلي، فقد قبل أن يتعرض هو لا كاتبه للمتاعب! هنا نجد فيه أبوة عجيبة! 

غالبًا لم يتقبل كل المسبيين هذه النبوات بترحاب:

أولاً: لأن بعضهم نجح في تجارته هناك واستقر ماديًا.

ثانيًا: لأنهم خشوا انتشار هذه الأخبار في بابل وبلوغها إلى الملك فيسيء معاملتهم. لقد قُرأت بالعبرية التي لا يفهمها الكلدانيون، لكن يمكن أن تبلغ إليهم بطريق أو آخر.

  1. سقوط بابل وعدم قيامها:

ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر أنك تربط به حجرًا وتطرحه إلى وسط الفرات.

وتقول هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبه عليها ويعيون.

إلى هنا كلام إرميا” [63-64].

تختم نبوات إرميا بإلقاء السفر في البحر مربوطًا بحجر إشارة إلى دمار بابل التام وعدم قيامها مرة أخرى. هكذا عند مجيء الرب ينحدر عدو الخير وملائكته إلى جهنم ولا تقوم له قائمة، ويعيش أولاد الله يشاركون الرب أمجاده الأبدية دون أية مقاومة من عدو!

يتحقق ذلك بالنسبة لبابل الأخيرة، أي مملكة ضد المسيح، إذ نسمع: “ورفع ملاك واحد قوي حجرًا كرحى عظيمة ورماه في البحر، قائلاً: هكذا بدفع ستُرمى بابل المدينة العظيمة ولن توجد فيما بعد” (رؤ 18: 21).


 

من وحي إرميا 51

لتلقِ ببابلي في نهر النسيان!

v     على أنهار بابل جلست حزينًا مرّ النفس،

علقت قيثارات حبي على الصفصاف،

وانهارت سخريات العدو عليّ!

v     لأسمع صوتك العذب يأمر أعماقى:

اهربوا من وسط بابل فتنجوا.

نعم روحك القدوس يحملني من وسط الخطية،

ويقدم لي قيثارات الروح لأعزف عليها.

أنضم إلى صفوف السمائيين،

وأشارك تسابيح الحمد وهتافات التهليل!

v     أُصيب أعماقي بجراحات لا يُرجى شفاءها!

أنت طبيب نفسي وبلسانها الفريد،

احملنى إلي جلعاد الجديدة، كنيستك الحية،

أنت طبيبي ودوائي، أنت قوتي وتسبحتي،

أنت الكل لي!

v     هب لي أن ألقي بكأس بابل الذهبي،

بريقه خدعني سنوات هذه عددها،

سكب لي فيه عدو الخير سمًا خفيًا،

أسكرني وقتلني وطرحني في الهاوية!

قدم لي خطية تسحبني إلى أخرى،

سحب أعماقي من دنسٍ إلى دنسٍ،

بلبل أفكاري بفلسفات براقة!

v     عوض كأس بابل الذهبي هب لي إناءك الخزفي!

عوض الخمر الممزوج سمًا،

هب لي ذاتك بلسانًا من جلعاد الجديدة!

أنت طبيب نفسي واهب القيامة للموتى!

أنت البلسان السماوي شافي النفوس!

أنت منقذ حياتي من الموت والفساد!

هب لي كأسك الخزفي،

فلا يخدعني بريق الذهب،

بل أنعم بالكنز المخفي،

أغتنى بك،

وأسكر بحبك يا شهوة قلبي!

v     أعترف لك بخطاياي فتستر عليّ،

تطلب آثامي فلا تجدها،

لأنها مُحيت بدمك الطاهر!

نعم! روحك النارى يحول ترابي إلى سماء!

فلا تستطيع بابل أن تخدعني،

ولا تقدم لي كأس الذهب الذي يُسكر كل الأرض!

أقمني سماءً تسكنني أنت أيها القدوس المتواضع!

فلا تقترب كأس كل الأرض إلى شفتي!

بل أشارك كأس آلامك المملوءة حبًا!

كأسك كأس البذل، يُعطي النفس اتساعًا ومجدًا!

v     حدرتَ بابل كحجر رحى كما إلى مياه نهر الفرات فلم تعد تُوجد،

صارت جبلاً محرقًا،

لا يصلح منه حجرٌ لزاويةٍ ولا لأساسٍ.

أما أنت فصرت لي حجر الزاوية وحجر الأساس،

تحملني بحبك فتجعل مني حجرًا حيًا متكئًا عليك!

v     استمع يارب إلى شكواي،

حطم بابل الداخلية، اقتلها،

فقد قَتَلتْ أعماقي وحَطَمت حياتي!

ولتقم أورشليمك فيّ أيها الحياة!

تمم وعودك الإلهية فيّ أيها الأمين!

 

زر الذهاب إلى الأعلى