تفسير سفر أيوب ١١ للقمص أنطونيوس فكري

تفسير سفر أيوب – الإصحاح الحادي عشر

 

نجد هنا خطاب صوفر وهو إستمر في نفس الخط، بل زاد في إتهام أيوب بدون رأفة.

الأيات 1-6:

“فاجاب صوفر النعماتي وقال، اكثرة الكلام لا يجاوب ام رجل مهذار يتبرر، اصلفك يفحم الناس ام تلخ وليس من يخزيك، اذ تقول تعليمي زكي وانا بار في عينيك، ولكن يا ليت الله يتكلم ويفتح شفتيه معك، ويعلن لك خفيات الحكمة انها مضاعفة الفهم فتعلم ان الله يغرمك باقل من اثمك”.

 أكثرة الكلام لا يُجاوَب= هل تكسب يا أيوب قضيتك بأن تكثر من الكلام، وتظن بهذا أننا لن نستطيع أن نفحمك. أبكثرة كلامك تظن أنك تغلبنا فلا نستطيع أن نجاوبك. أم رجل مهذار لا يتبرر= مهذار أي كلامه فارغ لا يساوي شئ، فمهما تكلم فلا قيمة لكلامه. أصلفك يفحم الناس= هنا يتهم أيوب بالكبرياء وأنه يستهزئ بكل الناس، ويعرف كيف يصور كل شئ تصويراً كاذباً. أم تلخ وليس من يخزيك= لخ في كلامه= جاء به ملتبساً

( القاموس المحيط). وكلمة تلخ جاءت في (اليسوعية) تتهكم وفي الإنجليزية (تستهزئ).

ولنلاحظ أن صوفر نجد في كلامه حكمة يجب أن نتأمل فيها. فمن يتكلم كثيراً مستهزئاً بأراء الأخرين من المؤكد أنه سيفقد الأذن الحساسة التي يستفيد بها ويضيف إلي حكمته وخبرته من خبرات وحكمة الأخرين. بل سيفقد الأذن الحساسة لصوت الله الذي يوبخه، بل سيفقد أيضاً الحساسية للتوبيخات الصادرة من الطبيعة حولنا والتي تشهد لعدل الله ورحمته وطوبي لمن له أذنان للسمع وليس لمن له لسان مستهزئ. ولكن عيب صوفر أنه حاول تطبيق حكمته علي أيوب بطريقة خاطئة، والسؤال الأن هل هذه كلمات تعزية لإنسان متألم؟! فإننا وجدنا صوفر وقد إنقض بلا رحمة علي أيوب وبمنتهي العنف وكال له الشتائم والإتهامات، وكان صوفر أفظع الأصحاب الثلاثة وأقلهم رحمة وأدباً، بل نفهم أن هذا دليل كبرياؤه هو وليس أيوب. وربما تصور صوفر أنه يدافع عن كرامة الله، ولكن الله لا يحتاج لمن يدافع عنه بهذا الأسلوب، فحتي لو كان أيوب قد أخطأ في حق الله فأسلوب صوفر الهجومي لن يقنعه بأن يتوب بل سيثيره بالأكثر، بل يدفعه وهو في ضيقه للثورة ضد الله.

إذ تقول تعليمي زكي= وصوفر يحاول إثبات كبرياء أيوب وصلفه بأن إتهمه بأنه يقول تعليمي زكي، وحقاً كان تعليم أيوب أي إيمانه نقياً. وأنا بار في عينيك أيوب قال أنا كامل وقال كلاماً يفهم منه هذا فعلاً. ولكن المشكلة أن أيوب كان ربما يشعر أن له خطايا وهو ليس كامل كمالاً مطلقاً. . . . لكن هو أيضاً لم يجدف علي الله ولا فرط في حق الله، وأيوب وحده هو الذي يعرف قلبه وأنه فعلاً يحب الله فكان يدافع عن هذا بينما أصحابه مصرين علي أن تدينه كان ظاهرياً وأن قلبه مملوء شراً.

ياليت الله يتكلم. . . ويعلن لك خفيات الحكمة= لو تكلم الله لكان في جانبناوهو سيظهر شرك الخفي الذي عاقبك بحكمته عليه، حكمته التي تعرف الخفيات. . ولكن بعد ذلك حين تكلم الله فعلاً وقف في صف أيوب وليس في صف أصحابه. مضاعفة الفهم= أي أن حكمة الله لا يمكن إدراكها. وما نعرفه عن الله لا يقاس بجانب مالا نقدر ان نعرفه. والخفيات أكثر من ضعف المعلنات. الله يغرمك بأقل من إثمك= أي أن الله لو أعلن لك خطاياك ستجد أنه عاملك بالرأفة. وأن النكبات التي تشكو منها هي أقل بكثير مما تستحق [وحقاً لو عاملنا الله كما نستحق نهلك] لكن هذا الكلام لا يقال لمتألم مثل أيوب.

الأيات 7-12:

االى عمق الله تتصل ام الى نهاية القدير تنتهي، هو اعلى من السماوات فماذا عساك ان تفعل اعمق من الهاوية فماذا تدري، اطول من الارض طوله واعرض من البحر، ان بطش او اغلق او جمع فمن يرده، لانه هو يعلم اناس السوء ويبصر الاثم فهل لا ينتبه، اما الرجل ففارغ عديم الفهم وكجحش الفراء يولد الانسان“.

 هنا شهادة طيبة من صوفر عن الله. ثم عن غرور الإنسان وحماقته أإلي عمق الله تتصل= الله لا يمكن إدراكه فهو لا نهائي وغير محدود، ومداركنا المحدودة لا تدركه، لذلك نعجز علي الحكم علي مشورته وأعماله، وعندما ننتقد تصرفات الله فنحن نتحدث عما لا نفهم. أم إلي نهآية القدير تنتهي= حسب الترجمة الإنجليزية “أتستطيع بالبحث أن تكتشف الله، أتستطيع أن تكتشف القدير اكتشافا كاملاً فإذا كانت العين لا تدرك نهآية المحيط أفندرك أعماق الله. فالله أعلي من السموات. . . = ولنلاحظ أنه حتي الأن لم يكتشف الإنسان السماء والأرض والبحر اكتشافاً كاملاً. وهنا صوفر يستخدم ألفاظ (أعلي/ أعمق/ أطول/ أعرض) لإثبات أن طبيعة الله غير مدركة ولا نهائية، وبولس الرسول في أف 18:3، 19 إستخدم نفس الألفاظ لندرك أن محبة الله غير محدودة وغير مدركة ولا نهائية. والله له السلطان المطلق. . .إن بطش= بأن يسمح بموت إنسان أو أذيته. أو أغلق= أي سجن إنسان أو سمح بوضع إنسان في شبكة مصائب كما يقبض الصياد علي فريسته (ولقد سبق أيوب وإشتكي بأن الله كأسد وقد إصطاد أيوب)

أو جَمَع= مترجمة في ترجمات أخري “جَمَع قضاته” ليحكموا علي المذنب فمن يرده= أي من يمنعه. لأنه هو يعلم= نحن لا نعلم سوي القليل عنه لكنه هو يعلم كل شئ. ومعرفته كاملة. والعكس. . . أما الرجل ففارغ عديم الفهم= ما هو الإنسان بالمقارنة مع الله. ولقد خلق الله آدم وله الحكمة النسبية ولكنه بالخطية فقد كثيراً من حكمته وكلما إزداد الإنسان حمقاً في طريق الخطية يفقد حكمته بالأكثر ويصير مخلوق عنيد مثل حمار الفرا وهو حيوان بري يتميز بأنه لا يمكن إخضاعه. وقوله كجحش الفرا يولد الإنسان= صحيح ويدل علي الطبيعة المتمردة للإنسان “بالخطية ولدتني أمي” ولكن الله قادر علي تغيير طبيعتنا (موسي الأسود) جحش الفرا = حمار الوحشي ومع طبيعة الإنسان الفارغة فهو متكبر. . . وهل يصلح لمثل هذا الإنسان أن يناقش الله.

الأيات 13-20:

“ان اعددت انت قلبك وبسطت اليه يديك، ان ابعدت الاثم الذي في يدك ولا يسكن الظلم في خيمتك، حينئذ ترفع وجهك بلا عيب وتكون ثابتا ولا تخاف، لانك تنسى المشقة كمياه عبرت تذكرها، وفوق الظهيرة يقوم حظك الظلام يتحول صباحا، وتطمئن لانه يوجد رجاء تتجسس حولك وتضطجع امنا، وتربض وليس من يزعج ويتضرع الى وجهك كثيرون، اما عيون الاشرار فتتلف ومناصهم يبيد ورجاؤهم تسليم النفس”.

هنا صوفر يطلب من أيوب أن يتوب ليري أوقاتاً أفضل. إن أعددت أنت قلبك= بدآية التوبة أن ينظر الإنسان إلي داخله ويغير تفكيره بأن يتخذ قراراً بالتغيير. ثم بسطت إليه يديك= صلاة وتضرع بلجاجة. إن أبعدت الإثم= هنا عمل إيجابي في تغيير طريق الإنسان بأن يرجع عن طريق شره ويتركه.

ولايسكن الظلم في خيمتك= هذا ما قاله زكا “إن كنت ظلمت أحداً أرد له أربعة أضعاف. فالمال الذي حصلت عليه بالظلم أو النهب هو نار في بيتي وتجعل صلاتي وتوبتي غير مقبولة. حينئذ ترفع وجهك بلا عيب= أي تكون صلاتك وتوبتك مقبولة عند الله. وتكون ثابتاً ولا تخاف= يملأ السلام قلبك. لأنك تنسى المشقة= فالله بعد توبتك سيرفع عنك ألامك وتنساها. كمياه عبرت تذكرها= لن تترك وراءها ألاماً كمياه إنسكبت من كوب فلا تجد فيه شيئاً. وفوق الظهيرة يقوم حظك= وتكون مدتك أشرق من الظهيرة حسب الترجمة اليسوعية. أي لو كانت أيامك السابقة في مثل سواد الليل فبعد أن تتوب ستكون أيامك مشرقة أكثر من إشراق الشمس في الظهر.

تتجسس حولك وتضطجع أمناً= بسبب عدم الأمان في تلك الأيام كان الرجل يطمئن بأن يتجسس المكان حوله قبل أن ينام لعله يجد عدواً كامناً. وإذا كان الله معنا ونشعر بهذا ننام آمنين. ولن نشعر بوجود الله معنا إلا لو كنا في حالة توبة.

وتربض وليس من يزعج= وترقد حسب الترجمة الإنجليزية. أي تنام آمناً ولا من يضايق ويتضرع إلي وجهك كثيرون= إن كان قد إزدري بك من قبل كثيرين، فبعد ان يتغير الحال سيأتي إليك كثيرون يستعطفونك.

وكلام صوفر هنا رائع عن التوبة وهكذا قال الكتاب “إرجعوا إلي أرجع إليكم” زك 3:1 أما عيون الأشرار فتتلف= هنا تحذير لأيوب حتي لا يرفض التوبة. ومناصهم يبيد من كثرة الضيقات لن يجدوا المهرب منها. ورجاؤهم تسليم النفس= من كثرة ضيقهم سيترجون الموت. ولنلاحظ أن الأبرار لهم رجاء والرجاء يعطي حياة. بينماالأشرار يكون رجاؤهم تسليم النفس. وعندما تفارق الروح الجسد يموت الجسد وبالمثل عندما يفارق الرجاء النفس، تموت النفس، فيشتهي الإنسان الموت ويكون الموت رجاؤه.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى