تفسير سفر أيوب ١٣ للقمص تادرس يعقوب

اَلأَصْحَاحُ الثَّالِثُ عَشَرَ
عتاب جريء 
أو 
مدافع في المحكمة!

 

أوضح أيوب في الأصحاح السابق أن حكمة أصدقائه باطلة، لأنها حتى وإن حملت شيئا من الحق، لكنها ليست بجديدة. ما نطقوا به كحكماء يعتزون بمشورتهم وتوبيخاتهم له، يعرفه تمام المعرفة. هذا بجانب أن حكمتهم قد فقدت كيانها لأنه ينقصها الحب، مع عدم التمييز، لا يعرفون حدود التوبيخ الذي يتوقفون عنده، كما لا يعرفون التوقيت المناسب لتقديم المشورة. الآن في هذا الأصحاح يكمل أيوب حديثه موضحا بأنه ليس بأقل منهم في الحكمة والخبرة.

وجه إليهم أيوب الاتهامات التالية:

أولاً: إنهم أطباء بطالون، يجيدون الكلام، لكن لا يقدمون الدواء اللائق.

ثانيًا: صمتهم أكثر نفعا من كلماتهم التي تشبه الرماد، لذا طالبهم بالصمت، فيحيون حكماء.

ثالثًا: لا يحملون غيرة صادقة على مجد الله، إنما يتسترون بالمظهر الخارجي للغيرة المقدسة.

رابعًا: اتسموا بمحاباة الوجوه خفية.

خامسًا: ليس فيهم مخافة الرب، ولا رهبة جلاله.

سادسًا: كلماتهم حطمته، وأفقدته الرجاء

بعد أن قدم هذه الاتهامات التي أفضت إليه باشتهائه الموت وتسليم الروح، حول نظره عنهم لئلا يهلك، ورفع عينيه نحو الله يتحدث معه ويعاتبه.

في جرأة وسط آلامه المرة دافع أيوب عن نفسه معلنًا أنه هو وأصدقاءه بدأوا بإعلان ذات الحقائق [١-٢]، بالاعتقاد بأن الله كلي القدرة وكلي الحكمة [١-٢]. لكنهم حولوا معرفتهم ضده، وأن بعض أفكارهم ليست صحيحة. إنهم ملفقو كذب، أطباء بطالون، وكلماتهم وخطبهم مثل رماد يُذرى، ومثل الطين لا تثبت عند المقاومة. يطلب إليهم أن يصمتوا، فيكون ذلك أولى بهم [4-5]. لأنكم بهذا يخفون جهلهم وسوء طبيعتهم.

حاول إقناعهم بالإساءة التي ارتكبوها في حق مجد الله، في الوقت الذي ادعوا فيه إنهم يدافعون عنه. لقد افتخروا إنهم دافعوا عن الله، وتعهدوا بتبريره وتبرير كل ما فعله مع أيوب، بالرغم من أن الله غير محتاج لمحامين مثلهم، وحق الله لا يحتاج إلى أكاذيبهم أو طرقهم الخاطئة. فإن “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (يع 2:1).

حاول أن يثير فيهم الخوف من دينونة الله. فإن دلّ موقف أيوب على الجسارة في الحديث، فموقفه أيضًا موقف الإجلال والكرامة له أكثر من محاولات أصحابه. ثم يطلب أيوب أن يتركوه وشأنه، لأنه ليس في أيديهم حل المشكلة الحيوية. إنه يود الحديث مع الله بخصوصها مباشرة [٣]. من حقه الدفاع عن نفسه في محكمة الله إن كان شريرًا أو مذنبًا، وليس أمام قضاة بشريين. الله – في الحقيقة – أكثر أمانة من أصدقاء أيوب. هنا مرة أخرى يرى أيوب يتحرك نحو الله بكونه رجاءه الوحيد. تكلم مع الله في جسارة، حتى ولو كان ثمن ذلك هو حياته نفسها [١٣-١٥].

يسأل الله ألاَّ يُعاقب قبل أن يسمع منه، ولا أن يظهر جلاله الفائق بطريقة تجعله عاجزًا عن الحديث معه. يجد أيوب مسرته أن يدافع عن نفسه وأن يجيب على أي إتهام موجه ضده. في نهاية كلامه يؤكد إنه ينتظر الخلاص حتى في الهاوية، ثم يسأل الله أن يهب له أمرين: أن يبعد يده عنه، وأن لا يدع هيبته ترعبه [20-21]. ويتضح هنا إن صورة التهكم ولهجة العناد قد حل محلها طلب الصبر والتأني، ويعرب أيوب عن دهشته من أن الله يعامل بقسوةٍ إنسانًا ضعيفًا، حياته مملوءة من المشقة، وأيامه قصيرة كالعشب الذي ييبس، وكالظل الذي سرعان ما يزول. بل إن الشجرة التي تقطع قد تعود فتفرخ، أما الإنسان فإذا مات فإنه لا يحيا. لا يتظاهر أيوب إطلاقًا بأنه بلا خطية، ولكنه يقول بصراحة إنه خاطئ منذ صباه، يعترف أنه خاطيء إلى حدٍ ما لكن هذا لا يبرر كل ما حلّ به من متاعب مرعبة. يريد أن يعرف بدقةٍ أية خطية معينة هي التي استوجبت عداوة الله له [24]. فإنه قبلما يُسمع إليه يُعفى من العقوبة على خطاياه [٢٣-٢٥].لقد صار مسجونًا مدانًا، موضعًا في القيود، تحت حراسة مشددة، وتحت الحفظ [٢٧]، مع أنه إنسان ضعيف للغاية، ليس إلاَّ [٢٨].

هنا يذكر ثلاثة أنواع من الخطايا: الخطأ والفشل والعصيان.

في جرأة يعاتب أيوب أصدقاءه الثلاثة الذين سخروا به وقدموا اتهامات ضده. وفى جرأة عاتب الله بسبب ما حلّ به.

  1. ليس دونهم                        1-3.
  2. أطباء بطالون                     4-8.
  3. الله يدينهم                         9-12.
  4. دعوة للصمت                     13.
  5. عتاب مع الله                      14-19.
  6. صرخة لوقف التأديب             20-22.
  7. لماذا تحجب وجهك عني؟         23-28.

 

  1. ليس دونهم

هَذَا كُلُّهُ رَأَتْهُ عَيْنِي.

سَمِعَتْهُ أُذُنِي وَفَطِنَتْ بِهِ [1].

v     انظروا كيف – حتى في تواضعه – ما أعلنه كان رمزيًا، يقوده روح النبوي، ويعلن له ما هو أسمي. فإنه يقول: “هذا كله رأته عيني“، واضح أنه ينطق برؤيا نبوية. “سمعته أذني“، ذاك الذي يجده الله مقدسًا اختاره ليسمع أسراره.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     “وفطنت به“… متى نُظر إلى شيء أو سمع عنه دون أن يُمنح الإنسان فهمًا لا تعود تكون هذه رؤيا نبوية. ففرعون رأى في حلم أمورًا ستحدث لمصر، لكنه لم يقدر أن يفهم ما رآه، لم يكن نبيًا. الملك بلتشصر رأى أصابع يد تكتب على الحائط، ومع هذا لم يكن نبيًا، لأنه لم ينل فطنة ما رآه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

مَا تَعْرِفُونَهُ،

عَرَفْتُهُ أَنَا أَيْضًا.

لَسْتُ دُونَكُمْ [2].

التزم أيوب المتواضع أين يدافع عن نفسه ويمدح نفسه، كما فعل فيما بعد الرسول بولس حين وجهت بعض الجماعات في كورنثوس اتهامًا أنه ليس برسول.

هنا يؤكد أيوب أنه ليس دونهم، وأن ما يعرفونه كان يعرفه هو أيضًا، فهو لا يحتاج وسط هذه الظروف إلى عظات ومناقشات، بل إلى حب ورعاية وصلوات تسنده.

v     ليتنا لا نكون مجاهدين في الحوار وكسالى في صلواتنا (عنهم). لنصلِ أيها الأعزاء المحبوبين، لنصلِ لكي يعطينا الله النعمة، حتى لأعدائنا وبالأخص عن اخوتنا والمحبوبين[670].

القديس أغسطينوس

وَلَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُكَلِّمَ الْقَدِيرَ،

وَأَنْ أُحَاكَمَ إِلَى اللهِ [3].

تحَّول عن أصدقائه واتجه نحو الله، فإنه لم يسترح في الحديث معهم، لذا أراد الحديث مع القدير، فإن المحاكمة أمام الله أفضل من الوقوع في يد إنسانٍ. الدخول في حوار مع الله أهون من الحوار مع الأصدقاء. وكما قال داود لجاد النبي: “قد ضاق بي الأمر جدًا، فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان (2 صم 24: 14؛ 1 أخبار 21: 13).

v     أنا أيضًا أعرف عظمة الله اللانهائية، حكمة الخالق غير المحدودة، وقوته المذهلة، ولكن مع معرفتي بهذا “أريد أن أكلم الرب“، فإني أعرف برّه. إذ هو بار يحتمل أولئك الذين يتحدثون معه دون أن يكونوا متهمين. فإنه إن لم يرد ذلك سأصمت، إذ أعرف ما ألتزم به بكوني أنال شرف الخادم له. بأمره “أتكلم“، وأتجاسر إلى درجة اتهام الله.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     إني لن أكف عن الكلام مع الله، لأنني هل أتكلم مع إنسان؟ إني أتكلم مع الله، العارف بأسرار أفكاري.

يقول إنه لأمر ذو قيمة عظيمة أن يحاكم أمام الله عن أن يحاكم أمامهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     نحن نكلم القدير حين نطلب حنوه، ونجادله (أُحاكم أمام الله) حين نتحد معه في برّه، نمحص أعمالنا ببحثٍ دقيقٍ. وربما يعني بالجدال مع الله أن من أطاع وصايا الله هنا سيأتي معه كديان حين يدين الشعب (مت 19: 28)… لهذا فإن الرب أيضا يقول بإشعياء: “انصفوا المظلوم، اقضوا لليتيم، حاموا عن الأرملة، هلم نتحاجج” (إش 1: 17-18).

فإنه بحق يلزمهم أن يحاجوا الله بخصوص الاتهامات في الدينونة، هؤلاء الذين عند (سماعهم) كلمات الله يجحدون العالم الحاضر تمامًا. هكذا يتحقق الكلام معه بالصلاة، والمحاجة معه بالحكم.

لهذا يتكلم القديس مع القدير هنا، حتى يحاججه فيما بعد (في وقت الدينونة العام)، حيث يأتي مع الله فيما بعد كديان هذا الذي يلتصق مع القدير هنا بالصلاة.

وأما الكنيسة المقدسة التي سبق فقلنا أن أيوب يحمل شبها يأتي لها، فإنها ليس فقط تدين الأشرار حين يحل وقت الدينونة النهائية، وإنما حتى الآن لا تكف عن أن تدين الكل، سواء الذين يسلكون بالشر أو الذين يفكرون بغباوة.

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. أطباء بطالون

أَمَّا أَنْتُمْ فَمُلَفِّقُو كَذِبٍ.

أَطِبَّاءُ بَطَّالُونَ كُلُّكُمْ [4].

يشتكي أيوب من أصدقائه، لأنهم حكموا عليه ودانوه حسب تصوراتهم الكاذبة وعدم إدراكهم لعناية الله ورعايته وخطته من نحو البشرية. لهذا صاروا ملفقي كذب. نطقوا بالكذب ولفقوا له اتهامات كاذبة.

جاءوا إليه كأطباء يتعهدون جراحاته، لكنهم بالحق كانوا أطباء بطالين، لم يعرفوا المرض، فجاء العلاج قاتلاً. تحولوا من أطباء حكماء إلى مشعوذين دجالين. ادعوا العلم والمعرفة، وهم في جهل تامٍ للحق الإلهي، لأنهم فقدوا الحب.

لم يقبل أيوب اخوته كأطباء يقدمون له العلاج، متطلعًا إلى المسيا القادم، بكونه طبيب النفوس والأجساد السماوي، الذي يشفي عيون نفوسنا، فتتمتع برؤية الإلهيات.

عجيب هو طبيبنا السماوي، فإنه حين أعلن عن نفسه كطبيبٍ كان يأكل في بيت عشار، ويلتف حوله كثير من العشارين والخطاة. لم يكن يعظهم ولا كان يوبخهم على خطاياهم، لكنه كان يأكل معهم (لو5: 27- 32). لست أظن إني أجد طبيبًا يدخل إلى مستشفي ويدعو كل المرضى ليأكل معهم ثم يتركهم ويخرج من المستشفي دون أن يقدم لهم أدوية خاصة بأمراضهم لشفائهم منها.

لقد قدم السيد الدواء حين أكل معهم، حيث قدم لهم الحب العملي، كان يأكل مع أولئك الذين كان المجتمع يمقتهم ولا يريد حتى التعامل معهم لئلا يتدنس. يمد القدوس يده ويأكل معهم، لكي يدركوا أن مخلصهم ليس ببعيدٍ عنهم، ولا منعزلٍ عنهم. هذا هو الدواء السماوي الذي قدمه الطبيب السماوي. إنه طبيب فريد ودواءه فريد!

والعجيب أنه أعلن شخصيته هكذا كطبيب في اللحظات التي أعلن فيها أن تلاميذه هم بنو العرس أو أصدقاء العريس. وكأن العاملين معه عملهم أن يتقبلوا أسرار العريس، فيعلنوا عن شخصه وسماته وإمكانياته للعروس، البشرية التي تقبل الإيمان به. كأنه لا عمل للعاملين مع الطبيب سوى الإعداد للعرس السماوي المفرح.

عمل خادم السيد المسيح وكل القادة، بل وكل مسيحي أن يساهم في الإعداد لهذا العرس، لا بالتوبيخ والانتهار والإدانة، بل بالكشف عن محبة العريس ونزوله إلى عروسه، وفتح أبواب السماء – حجاله – لها. فالعروس تُعد لعريسها باكتشافها محبة عريسها لها وشوقه إليها.

v     إنكم أطباء ضارون تجددون الأمراض، “تجددون الشر“، أنتم الذين لا تحققون الشفاء من الجراحات باستخدام أدوية لائقة جدًا. هكذا أنتم تظنون أنكم تدافعون عن الله، وأن فمكم ينطق بكلمات مُسرة، ها أنتم ترون شرورًا لمن قد وضع تحت المحاكمة، وتأتون لتعينوا العدو بإثارة مشاعر الألم للمجروح.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     المرشد السماوي، اللوغوس يدعى الهادي عندما يدعو البشرية للخلاص… لكنه إذ يعمل كطبيب أو مربى يصير اسمه “المربي”… فإن النفس المريضة تحتاج إلى مربٍ يشفي آلامها. ثم تحتاج إلى المعلم الذي يعطيها الإدراك… “إعلان اللوغوس”. هكذا إذ يريد اللوغوس خلاصنا خطوة فخطوة يستخدم وسيلة ممتازة: أنه في البداية يهدي، ثم يصلح، وأخيرًا يعلم[671].

v     من هو؟ تعلموا باختصار أنه كلمة الحق، كلمة عدم الفساد، الذي يجدد الإنسان إذ يرده إلى الحق. أنه المهماز الذي يحث على الخلاص. هو محطم الهلاك وطارد الموت. أنه يبني هيكل الله في الناس، فيأخذهم لله مسكنًا له.

يحتاج المرضى إلى مخلص،

ويحتاج الضالون إلى مرشد،

يحتاج العميان إلى من يقودهم إلى النور،

والعطاش إلى الينبوع الحيَّ الذي من يشرب منه لا يعطش أبدًا،

والموتى إلى الحياة،

والخراف إلى راعى،

والأبناء إلى معلم؛

تحتاج كل البشرية إلى يسوع![672]

القديس إكليمنضس السكندري

v     طوبى لهم حقًا، الذين في احتياجهم لابن الله، قد تجاوزوا الحاجة إليه كطبيب لشفاء أمراضهم، أو كراعٍ، أو كفادٍ، وصار احتياجهم إليه كحكمة وكلوغوس، أو كأحد الألقاب الأخرى التي يقدمها لأولئك الذين لهم الفصح الروحي الذي يهيئهم لأسمى النعم.

v     في داخل ألوهية الكلمة قوة، ليس فقط لمساعدة وشفاء من هم مرضى…، بل للإعلان عن الأسرار لأنقياء الجسد والذهن.

قد أُرْسِلَ الكلمة كطبيب للخطاة، بل وكمعلم لأولئك الذين هم بالفعل أنقياء وبغير خطية.

v     بواسطة نور الكلمة تتبدد ظلمة التعاليم الهرطوقية. فالكلمة يفتح أعين أنفسنا، فنستطيع التمييز بين النور والظلمة، ونختار في كل حال أن نمكث في النور.

v     ليس أمام من ينشد الشفاء سوى أن يتبع يسوع.

v     تعال الآن إلى يسوع، الطبيب السماوي.

ادخل إلى هذه العيادة، التي هي كنيسته.

أنظُر. فهناك يرقد أعداد من الضعفاء. تجد امرأةً تطلب التطهير (مر 25:5، لا12). كما تجد أبرص معزولاً “خارج المحلة” بسبب دنس برصه (مر 40:1، لا46:13).

إنهم ينشدون الشفاء من الطبيب، يطلبون كيف يصيرون أصحاء، وكيف يتطهرون.

يسوع الطبيب هو نفسه كلمة الله. إنه يُعِدُّ أدوية لمرضاه، لا من مستحضرات أعشاب، بل من قُدسِيات الكلمات.

إذا ما نظر أحد إلى تلك الأدوية اللفظية متناثرة بلا ترتيب في ثنايا الكتب، ولم يعرف قوة مُفْرَد الكلمات، ربما يعدل عنها كأشياء رخيصة تعوزها بلاغة. أما من يَعْلَم أن دواء النفوس هو في المسيح، فسيفهم حتمًا من هذه الكتب التي تُقرأ في الكنيسة كيف يجب على كل شخص أن يجمع أعشابًا مفيدة من الحقول والجبال، أعني قوة الكلمات، لكي يحصل من هو متعب النفس soul على الشفاء، لا بقوة الأغصان الخارجية (للنباتات الطبية) والقشرة السطحية، بقدر ما هو  بفاعلية العصارة الداخلية.

v     هناك أيضا أمور أخرى كثيرة مخفية عنا، لا يعلمها إلا ذاك الذي هو طبيب نفوسنا. فإنه فيما يختص بصحتنا الجسدية نجد لزامًا علينا في بعض الأحيان أن نتعاطى أدوية كريهة ومُرَّة كعلاجٍ لأمراضٍ جلبناها على أنفسنا من خلال الطعام والشراب. كما يحدث إذا ما استلزمت طبيعة الداء أن تحتاج إلى معالجة قاسية بمشرط الجراح في عملية جراحية مؤلمة. نعم، وإذا حدث أن امتد المرض إلى حد تجاوز تأثير هذه الوسائل العلاجية، يصير اللجوء آخر المطاف إلى حيث لابد من كي الداء بالنار. كيف يتسنى لنا أن ندرك أن الله طبيبنا، يرغب في غسل أمراض نفوسنا التي جلبتها علينا العديد من الخطايا والجرائم، ويستخدم علاجًا تأديبيًا من أنواع مماثلة قد تصل إلى حد توقيع عقوبة النار على الذين فقدوا صحة نفوسهم.

العلامة أوريجينوس

v     أولاً لتدركوا تنازل الله. لتتنازلوا فتكونوا متواضعين لأجل أنفسكم، متطلعين إلى الله الذي تنازل متواضعًا لأجلكم أيضًا وليس لأجل نفسه…

اعترفوا بضعفكم؛ ولترقدوا أمام الطبيب في صبرٍ.

عندما تدركون تنازله ترتفعون معه، ليس بأن يرفع نفسه بكونه الكلمة، بل بالحري يُدرَكْ منكم أكثر فأكثر…

هو لا يزيد، لكنكم أنتم تتقدمون، فيكون كمن ارتفع معكم…

تطلعوا إلى الشجرة فإنها أولا ضربت جذورها إلى أسفل حتى تنمو إلى فوق. تثبت جذرها السفلي في الأرض لكي ما تمتد بقمتها إلى السماء. هل تبذل جهدًا للنمو إلاَّ من خلال التواضع؟ إذن “ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم، وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة… لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله” (أف ٣: ١٧ – ١٩)[673].

القدِّيس أغسطينوس

v     نرى الكتاب المقدس لا يقدم لنا الرب تحت اسم واحد، ولا تحت الأسماء المنوطة بلاهوته فقط، أو الدالة على عظمته، بل تارة يستعمل ميزات الطبيعة (خواصه الأقنومية)، فيعرف أن يقول: “الاسم الذي يفوق جميع الأسماء” (في 2: 9)، اسم الابن، والابن الحقيقي، والله الابن الوحيد، وقوة الله وحكمته وكلمته. وتارة، بالنظر إلى كثرة سبل وصول النعمة إلينا التي بصلاحه يمنحها لطالبيه حسب حكمته الكثيرة الأوصاف، يدعوه الكتاب المقدس بنعوت أخرى كثيرة، فهو يسميه تارة الراعي، وتارة الملك، ثم الطبيب، فالعريس والطريق والباب والينبوع والخبز والفأس والصخرة. هذه التسميات لا تدل على الطبيعة، كما قلت، بل على تعدد مظاهر النشاط الذي يبذله، رحمة منه بكل فرد من خليقته، وتلبية لحاجة كل من يسأله[674].

القديس باسيليوس الكبير

v     يوجد طبيب واحد، هو في الوقت نفسه جسم وروح (إنسان وإله)، مولود gennetos، وغير مولود، الله صار إنسانًا. حياة حقيقيّة في موت (في جسدٍ قابل للموت)، كان قابلاً للموت (بالجسد) وأصبح الآن غير قابلٍ للموت (بقيامته)، من مريم ومن الله،، هو يسوع المسيح ربّنا[675].

القدِّيس أغناطيوس الثيوفورس

v     إذن لنتعبد له بكونه إله مؤمنين بتأنسه، لأنه لا نفع من القول عنه إنه إنسان وليس الله، أو أي خلاص لنا إن رفضنا الاعتراف ببشريته مع ألوهيته؟ لنعترف بحضوره إذ هو ملك وطبيب. لأن يسوع الملك إذ صار طبيبًا اتزر بكتان ناسوتنا، وشفي ما كان مريضًا. المعلم الكامل للرُضع صار رضيعًا بينهم (رو 20:2) لكي يعطى حكمة للجهلاء. خبز السماء نزل إلى الأرض لكي يطعم الجياع![676]

v     “يسوع” تعني “مخلص”، أما في اليونانية فتعني “الشافي”، إذ هو طبيب الأنفس والأجساد، شافي الأرواح، فتح عيني المولود أعمى، وقاد الأذهان إلى النور. يشفي العرج المنظورين، ويقود الخطاة في طريق التوبة، يقول للمفلوج: “لا تخطئ”، وأيضًا: “احمل سريرك وامشِ“، لأن الجسد كان مفلوجًا بسبب خطية النفس. خدم النفس أولاً حتى يمتد بالشفاء إلى الجسد.

لذلك إن كان أحدكم متألمًا في نفسه من خطاياه، فإنك تجده طبيبًا لك. وإن كان أحدكم قليل الإيمان فليقل له: “أعن عدم إيماني” (مر 24:9).

وإن أصاب أحدكم آلام جسدية، فلا يكن غير مؤمنٍ، بل يقترب فإن يسوع يعالج مثل هذه الأمراض، وليعلم أن يسوع هو المسيح[677].

القديس كيرلس الأورشليمي

v     أدوية الطبيب الكثيرة، يهب بها الشفاء… يضمِّد الجراحات بوصايا حازمة، ويبعث الدفء عندما يغفر الخطايا. وينخس القلب كما تفعل الخمر، عندما يعلن دينونته. وأركبه على دابَّته (لو 10: 34)؛ تأمَّل كيف يُصعدك (فيه) إذ حمل خطايانا وتألَّم لأجلنا (إش 53: 4). حمل الراعي أيضًا الخروف الضال على منكبيْه (لو 15: 5).

القدِّيس أمبروسيوس

لَيْتَكُمْ تَصْمُتُونَ صَمْتًا.

يَكُونُ ذَلِكَ لَكُمْ حِكْمَةً [5].

أنهم جاءوا ليقدموا مشورات حكيمة، فظهروا أنهم هم بالأكثر يحتاجون إلى من يرشدهم، ويدخل بهم إلى الحكمة. أما الحكمة التي هم في عوز إليها فهي أن يصمتوا صمتًا، فصمتهم أنفع من الكلام الباطل الجارح. وكما يقول الحكيم: “الأحمق إذا سكت يُحسب حكيمُا، ومن ضم شفتيه فهيمًا” (أم 17: 28).

v     ِكان الأفضل من أجل الله أن تلتزموا بالصمت، فيكون لكم حكمة” [5]… الحكيم ليس فقط من يتكلم حسنًا، مقدمًا مشورات مفيدة، ومعلنًا ما هو نافع ووقور للكل، وإنما أيضًا من يلجم نفسه (يع 3: 2)… إنه يراعي ما تغنى به داود في المزامير: “ضع يا رب حارسًا لفمي، وبابًا حصينًا لشفتي. لا تمل قلبي للشر لأتعلل بعلل الشر مع فاعلي إثم” (مز 141: 3-4).

لننعزل تمامًا عنهم حتى إن ظنوا أحيانًا أنهم يدافعون عن الله، لا بقصد تمجيد الله، وإنما للافتراء على من يكرس نفسه للبرّ، وأن يخون جندي الصلاح… إذ يحتاج الإنسان أن يهرب من المخادعين وصداقتهم، ويدير وجهه عن إطرائهم. أما رجال الصلاح فيقبلون التوبيخ الصادر عنهم، ويذكرون في وقارٍ حديثهم الخبيث ضدهم، فإن كل الأمور تؤول لخيرهم، وتعمل للصلاح (رو 8: 28)، وسرعان ما ينالون مديح الله الآب والابن والروح القدس

لقد تحدث أيوب بعد فقدانه كل غناه كما لو كان في فيضٍ.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     كما في منزلٍ عندما يكون الباب مغلقًا لا يعرف أي الأعضاء مختفين فيه، هكذا بصفة عامة إن التزم الجاهل بسلامه (صمته) يخفي أمره إن كان حكيمًا أو غبيًا. هكذا هو الأمر متى لم يخرج عمل إلى حيز النور، فيتكلم الذهن حتى وإن كان الإنسان صامتًا. لهذا فإن القديس إذ يرى أصحابه يظهرون على ما هم ليسوا عليه يوصيهم بحفظ سلامهم (صمتهم) حتى لا ينكشفوا على ما هم عليه. هكذا قيل بسليمان: “الأحمق إذا سكت يُحسب حكيمًا” (أم 17: 28).

البابا غريغوريوس (الكبير)

v    “ضع يا رب حافظا لفمي، وبابا حصينا لشفتي” (مز 141: 3). لم يقل: “حاجزًا حصينًا، بل “بابًا حصينًا”. فالباب يُفتح كما أيضا يًغلق. فإن كان هذا بابًا، فليفتح ويغلق. يفتح للاعتراف بالخطية، ويغلق للغفران عن الخطية. فإنه باب للحصانة لا للتدمير[678].

القديس أغسطينوس

اسْمَعُوا الآنَ حُجَّتِي،

وَاصْغُوا إِلَى دَعَاوِي شَفَتَيَّ [6].

يدعوهم إلى الاستماع إليه عوض الكلام الباطل. بالرغم من أنهم لم يقاطعوه، لكنهم لم يبالوا بكلماته، ولا أصغوا لصرخات نفسه المرة. ظنوا أنهم دافعوا عن الله، ونطقوا بالحق، لكن بدون الحب العملي لا يعرفون الله، ولا يدركون الحق.

v     “اسمعوا الآن توبيخاتي، وأنصتوا إلى حكم شفتي” [6] حسنًا يبدأ أولاً بتقديم التوبيخ وبعد ذلك “الحكم“. فإنه ما لم يخمد غرور الأحمق لا يفهم حكم البار نهائيًا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَتَقُولُونَ لأَجْلِ اللهِ ظُلْمًا،

وَتَتَكَلَّمُونَ بِغِشٍّ لأَجْلِهِ؟ [7]

يسخف بهم أيوب لأنهم ظنوا أن الله محتاج إليهم ليدافعوا عنه، ويكشفوا عن عدله. وكأنه يقول لهم: من أنتم أيها الضعفاء العديمي الحب حتى تدافعوا عن الحق الإلهي الذي لا ينفصل عن الحب؟

خلال دعوتهم بالدفاع عن العدل الإلهي نطقوا بالغش، وقدموا اتهامات باطلة ضد أيوب، وحسبوه شريرًا، فسقطوا في الكذب والقسوة والظلم والإساءة إلى أخيهم. ويبررون هذا كله بأنه “لأجل الله“. لم يدركوا أن “غضب الإنسان لا يصنع برّ الله” (يع 1: 20).

برروا تصرفاتهم الشريرة مع أيوب بأنها لتحقيق هدفٍ سامٍ وهو الدفاع عن الله، فهل تبرر الغاية الصالحة الوسيلة الشريرة؟ وكأنهم يقولون: “لنفعل السيئات لكي تأتي الخيرات” (رو 3: 8). لقد وبخ الله الذين يبغضون إخوتهم وهم يسبحون الله: “قال إخوتكم الذين أبغضوكم وطردوكم من أجل اسمي ليتمجد الرب. فيظهر لفرحكم، وأما هم فيخزون” (إش 66: 5).

من له شركة مع الله، الحق، لن يقدر أن يمارس الغش والكذب، إلا إذا انحرف الإنسان عن الله الذي لا يطيق الغش. كثيرًا ما يضع المرتل الغش مع سفك الدماء في ذات الدرجة، لأن غايته هلاك نفوس الآخرين وممتلكاتهم أو كرامتهم، وإذا بالغاش يُهلك نفسه، ويحرم نفسه من المجد والتطويب الأبدي.

“تهلك المتكلمين بالكذب، رجل الدماء والغش يكرهه الرب” (مز 5: 6).

“طوبى لرجلٍ لا يحسب له الرب خطية، ولا في روحه غش” (مز 32: 2).

“صن لسانك عن الشر، وشفتيك عن التكلم بالغش” (مز 34: 13).

“وأنت يا الله تحدرهم إلى جب الهلاك، رجال الدماء والغش لا ينصفون أيامهم، أما أنا فاتكل عليك” (مز 55: 23).

“لا يسكن وسط بيتي عامل غش، المتكلم بالكذب لا يثبت أمام عيني” (مز 101: 7).

“ماذا يعطيك، وماذا يزيد لك لسان الغش؟” (مز 120: 3).

موازين غش مكرهة الرب، والوزن الصحيح رضاه” (أم 11: 1).

“الشرير يكسب أجرة غش، والزارع البرّ أجرة أمانة” (أم 11: 18).

“من يتفوه بالحق يظهر العدل، والشاهد الكاذب يظهر غشًا” (أم 12: 17).

الغش في قلب الذين يفكرون في الشر، أما المشيرون بالسلام فلهم فرح” (أم 12: 20).

“حكمة الذكي فهم طريقه، وغباوة الجهال غش” (أم 14: 8).

“الشاهد الأمين منجي النفوس، ومن يتفوه بالأكاذيب فغش” (أم 14: 25).

“معيار فمعيار مكرهة الرب، وموازين الغش غير صالحة” (أم 20: 23).

ذبيحة الشرير مكرهة، فكم بالحري حين يقدمها بغشٍ” (أم 21: 27).

“بشفتيه يتنكر المبغض، وفي جوفه يضع غشًا” (أم 26: 24).

“لأن روح التأديب القدوس يهرب من الغش، ويتحول عن الأفكار السفيهة، وينهزم إذا حضر الإثم” (الحكمة 1: 5).

خطفه لكي لا يغير الشر عقله، ولا يطغي الغش نفسه” (الحكمة 4: 11).

“لا تدخل كل إنسان إلى بيتك، فإن مكائد الغشاش كثيرة” (سيراخ 11: 31).

v     ألا تتكلمون أمام الرب، وتنطقون بالغش أمامه، بالرغم من كلماتكم الرائعة. هذا هو ما يود أن يقوله: إنكم لا تعتقدون أن الله يصغي إلى ما تقولونه، لأن الخداع يلقنكم الحوار. ليس من دافعٍ حسن يحرككم، وإنما الرغبة في الإساءة إلى شهرتي، وتقديم تعليقات جارحة. فإنه وإن كانت كلماتكم لائقة، فإنكم لا تعبرون بها عن نية حسنة؛ إنها لا تطلب التقويم والإصلاح والتقدم، بل تطلب الهدم، فإنكم لستم تعلمون إنسانًا جاهلاً تمامًا.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     “هل يحتاج الله إلى كذبكم، فتتكلمون بغش لأجله؟” لا يحتاج الله إلى كذب، فإن الحق لا يقبل أن يتحقق بمعونة الباطل… ينطق الهراطقة بالغش لأجله، حيث يخدعون أصحاب العقول الضعيفة مضللين مفاهيمهم عن الله بطريقة حمقاء.

البابا غريغوريوس (الكبير)

في تعليق القديس أغسطينوس على مز 55: 23، يقارن بين سافكي الدماء والهراطقة المخادعين والمتكلمين بالغش فيقول أن سافكي الدماء هم قتلة ظاهرون يسفكون دماء الأجساد ولا يقتلون النفوس، أما الهراطقة فيهلكون النفوس ويسفكون دمها غير المنظور. إنهم سافكو دماء ومخادعون![679]

في تعليقه على تساؤل المرتل وإجابته: “ماذا يعطيك، وماذا يوضع أمامك مقابل لسان الغش؟ سهام جبار مسنونة مع جمر مهجور” (مز 120: 3-4) يرى مقاومة أصحاب الألسنة الغاشة لا تكون بالكلام المجرد، إنما تحتاج إلى كلمة الله، السهام المسنونة التي للجبار، مع وجود أمثلة حية لأشخاص أبرار كانوا كقفرٍ مهجورٍ بلا حياة وصاروا ملتهبين كالجمر. يقول: [لا يكفي أن نرد عليهم بالكلمات، إنما ندافع بالأمثلة أيضًا… فالكلمة: “جمر” تستخدم للتعبير عن أمثلة لخطاة كثيرين رجعوا إلى الرب. إنكم تسمعون أناسًا يندهشون قائلين: “أنا أعرف إنسانًا كيف كان مدمنًا السكر، كم كان في دنائة يهوى المسارح والسيرك ويحب الخداع، الآن ها هو يخدم الله، كيف صار هكذا بريئًا! لا تتعجبوا، فإنه صار جمرًا حيًا. لتفرحوا أنه حي، ذاك الذي حزنتم عليه بكونه كان ميتا[680].]

أَتُحَابُونَ وَجْهَهُ،

أَمْ عَنِ اللهِ تُخَاصِمُونَ؟ [8]

لا يحتاج الله إلى مدافعين عنه، في دفاعهم يبغضون اخوتهم. “أتحابون وجهه؟ أم عن الله تخاصمون؟” كيف يخدمون الله بالبغضة والكراهية لاخوتهم؟ ففي غيرتهم على الله، يهينون الله ويسلبون كرسي حكمه بكونه الديان للبشر. إذ هو وحده يعرف كل نفس وقوتها وميولها، ومواهب الإنسان وتكوينه البيولوچي وطاقاته والظروف المحيطة به. وبناء على هذا كله فهو الذي يدين أو يبرر. حقًا قد نعرف إنسانًا أخطأ خطية معينة وربما واضحة لا تحتاج إلى بحث، لكن هل يمكن أن نحكم على الإنسان ككلٍ من أجل خطية أو خطايا ارتكبها في وقتٍ ما، ونحن لا نعرف أعماقه أو ظروفه؟!

v     “هل تنوبون عن شخصه؟ هل عن الله تخاصمون؟” [8] لأنه عندما يرى الأغبياء أفعال الحكماء تبدو لهم كلها إنها مستحقة للوم. ينسون فراغهم ونقائصهم، ويحكمون على تصرفات الغير بغيرة أعظم… ومن الجانب الآخر عندما يوبخ الأبرار تصرفات الأشرار، يعترفون دومًا بضعفاتهم هم وأنهم مستحقون للوم. فإنهم حتى وإن انتهروا واندفعوا بقوة لمقاومة شرور الآخرين من الخارج غير أنهم يتعاطفون معهم في الداخل، مدركين أن فحص خطايا الناس هو من اختصاص الله… لهذا فإن أصدقاء أيوب الطوباوي وبخوا أعماله كما لو كانوا لم يرتكبوا هم شيئًا ملومًا.

حسنًا قيل هنا: “هل تنوبون عن شخصه؟ هل عن الله تخاصمون؟” فإن يرتدى الشخص وجه الله يعني أنه يدعي لنفسه سلطانه في الإدانة، ويخاصم الشخص عن الله عندما ينتهر نقاط الضعف في الآخرين ولا يشعر بضعفه الشخصي الداخلي.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     قال شيخ: “إذا كان لا يعرف ما في الإنسان إلاَّ روحه كقول الرسول، وإذا كنا نعلم أن كثيرين تابوا ولم نعلم بتوبتهم، إذن قد يتوب الإنسان في آخر حياته، وتُقبل كتوبة اللص، فعليك إلاَّ تدين أحدًا. فالديان هو الله وحده، فكيف يجسر أحد أن يتدخل فيما هو خاص بالله؟!

بستان الرهبان

v     لا تكن ديانًا لأخيك، لتؤهل أنت للغفران، فربما تراه دائمًا مخطئًا، لكنك لا تعلم بأية خاتمة يفارق العالم. فاللص المصلوب مع يسوع كان قاتلاً وسفاكًا للدماء، ويهوذا كان تلميذًا للمسيح ومن الأخصاء، إذ كان الصندوق عنده، إلاَّ أنهما في زمن يسير تغيرا، فدخل اللص الفردوس، واستحق التلميذ المشنقة وهلك.

القديس أنسطاسيوس

v     انظروا يا اخوتي، إن عمل الخدام في عرس ابن الملك (مت ٢٢) لم يكن سوى جذب الصالحين والأشرار إلى الوليمة، ولم يقل الرب عنهم أنهم دانوا المدعوين وميّزوا بين الصالحين والأشرار، ولا قال عنهم إنهم وجدوا من ليس عليه لباس العرس، بل الملك نفسه هو الذي رآه، سيد البيت وحده هو الذي اكتشفه وأخرجه.

القديس أغسطينوس

v     إن أبصرت إنسانًا قد أخطأ وشاهدته في الغد، فلا تنظر إليه كخاطئ، فإنك لا تعرف إن كان في فترة غيابك عنه قد عمل شيئًا صالحًا بعد السقطة، إنما تضرع إلى الرب بزفرات وعبرات مرّة، مستعطفًا إياه!

مار أفرام السرياني

  1. الله يدينهم

أَخَيْرٌ لَكُمْ أَنْ يَفْحَصَكُمْ،

أَمْ تُخَاتِلُونَهُ كَمَا يُخَاتَلُ الإِنْسَانُ؟ [9]

من صالحهم، والأفضل لهم أن يفحص الله قلوبهم، ويكشف لهم كراهيتهم لإخوتهم وبغضهم للحق، عن أن يتستروا بالدفاع الظاهري عن الله، فيخاتلونه (بخدعونه في غفلةٍ) كما يُخاتل الإنسان.

v     كل مبتدع بالنسبة لله هو “عدو ومدافع“، فإنه في صراعه وفي طريق دفاعه عن الله يقاوم الحق. لكن لا يمكن أن يهرب شيء من نظر الله، إذ يحكم حسب أفكار القلب أكثر من المظهر الخارجي الذي يبدو فيه كمن يخدم الله.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     كيف يقاومون الحق إلاَّ بواسطة غرور كبريائهم المتشامخ باطلاً؛ بينما يقيمون أنفسهم متشامخين إلى العُلَى كعظماء وأبرار، وإذا بهم يعبرون كالهواء الفارغ[681].

القديس أغسطينوس

v     إن كان أحد يعترض على وجود هراطقة الآن، فليذكر أن الأمر هكذا منذ البداية، إذ كان الشيطان يقيم الضلال على الدوام في مقابل الحق. في البداية وعد الله بالصالحات، وقدم أيضًا الشيطان وعده. أقام الله الفردوس، وخدع الشيطان الإنسان بقوله: “تصيران كالله” (تك ٣: ٥)، فإن كان قد عجز عن تقديم عمل قدم وعودًا هي بالأكثر كلمات، وهذه هي طبيعة المخادعين.

بعد هذا جاء قايين وجاء معه هابيل،

أبناء شيث ومعهم بنات الناس،

حام ومعه يافث،

إبراهيم (وفي أيامه) وُجد فرعون،

يعقوب ومعه عيسو.

وهكذا جاء موسى (وهرون) وقام الساحران.

الأنبياء ومعهم الأنبياء الكذبة.

الرسل والرسل الكذبة،

المسيح وسيجيء ضد المسيح.

هذا ما كان قبلاً، وما حدث إلى ذاك اليوم… وفي اختصار لم يكن هناك وقت لم يوجد فيه الباطل ليقف ضد الحق. إذن لا تقلقوا[682].

القديس يوحنا الذهبي الفم

تَوْبِيخًا يُوَبِّخُكُمْ، إِنْ حَابَيْتُمُ الْوُجُوهَ خِفْيَةً [10].

في توبيخهم لأيوب بهذه الروح المملوءة بغضة، صاروا محابين للوجوه ولو خفية، لذا لا يُحسبون في عين الله مستحقين للمدح، بل للتوبيخ بشدة. يستقبح الله الكراهية المستترة تحت الدفاع عن الله وعن مجده وملكوته. لعله قصد بمحاباة الوجوه أنهم كانوا يكرمونه ربما بمبالغة في غناه، وبلا سبب تغير سلوكهم تمامًا عندما افتقر وفقد مركزه الاجتماعي وسلطانه كملكٍ أو قائدٍ وأيَضًا كل ماله. لقد حذرنا الكتاب من المحاباة.

“والآن لتكن هيبة الرب عليكم، احذروا وافعلوا، لأنه ليس عند الرب إلهنا ظلم، ولا محاباة، ولا ارتشاء” (2 أخبار 19: 7).

“هذه أيضًا للحكماء محاباة الوجوه في الحكم ليست صالحة” (أم 24: 23).

“محاباة الوجوه ليست صالحة فيذنب الإنسان لأجل كسرة خبز” (أم 28: 21).

“لأن ليس عند الله محاباة” (رو 2: 11).

“وانتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور، تاركين التهديد، عالمين أن سيدكم أنتم أيضًا في السماوات، وليس عنده محاباة” (أف 6: 9).

“وأما الظالم فسينال ما ظلم به، وليس محاباة” (كو 3: 25).

“أناشدك أمام الله والرب يسوع المسيح والملائكة المختارين، أن تحفظ هذا بدون غرض، ولا تعمل شيئا بمحاباة” (1 تي 5: 21).

“يا إخوتي لا يكن لكم إيمان ربنا يسوع المسيح رب المجد في المحاباة” (يع 2: 1).

“وإن كنتم تدعون أبًا الذي يحكم بغير محاباة حسب عمل كل واحدٍ، فسيروا زمان غربتكم بخوفٍ” (1 بط 1: 17).

يقول البابا غريغوريوس (الكبير) إن الله هو فاحص أسرار القلوب ولا يخفي عنه شيء (1 كو 4: 5)، فقد يحدث تحت ستار الدفاع عن الحق، يلوم البعض الإنسان البار، ويحابون من يقف ضد البار، بينما يقفون في صف المجدفين على الله. هؤلاء يدعون أنهم يمجدون الله، بينما لا يحملون إخلاصًا في تصرفاتهم. إنهم مثل الشياطين التي قالت للسيد المسيح: “أنت هو ابن الله” (مر 3: 11)، وهم في هذا لا يطلبون مجده، بل يرتعبون مما سيحل عليهم.

v     ما هو النفع الذي يعود عليك بتكريمك (محاباتك) للغني؟ هل لأنه أكثر استعدادًا لإبقاء محبة الآخرين له؟ فنقدم المعروف لمن نتوقع منهم أنهم سيوافوننا عنه. إنه يلزمنا أن نفكر بالأكثر فيما يخص الضعفاء والمحتاجين لأننا بسبب هؤلاء نترجى الجزاء من الرب يسوع، الذي في مثال وليمة العرس (لو ١٤: ١٢-١٣) قدّم لنا صورة عامة للفضيلة. فقد طلب منا أن نقدم أعمالنا بالأكثر لمن ليس في قدرتهم ردها لنا[683].

v     إن كان ملكوت الله للمساكين، فمن هو أغنى منهم؟

القديس أمبروسيوس

v     الجميع عند الله متساوون، إنما تسمو منزلة كل واحدٍ منهم حسب إيمانه، وليس حسب أمواله.

القديس أغسطينوس

v     كثيرون ينتهرونني قائلين: أنت دائمًا تُضيِّق على الأغنياء، وهم بالتالي يُضيِّقون على الفقراء.

حسنًا إنني أُضيِّق على الأغنياء، أو بالحري ليس على الأغنياء، بل على الذين يُسيئون استخدام الأموال. فأنا لا أهاجم أشخاصهم بل جشعهم. فالغِنَى شيء، والجشع شيء آخر، وجود فائض شيء والطمع شيء آخر.

هل أنت غني؟ أنا لا أمنعك من هذا. كن غنيًا.هل أنت جشع؟ إنني أتوَعَّدك… إنني لن أسكت.

هل تهاجمني بسبب هذا؟ إنني مستعد أن يُسْفَك دمي، لكنني أريد أن أمنعك عن أن تخطيء. إنني لا أُكِنُّ لك بغضة، ولا أشنّ عليك حربًا، إنما أريد أمرًا واحدًا هو نَفْع المستمعين إليَ.

إن الأغنياء هم أولادي، والفقراء أيضًا أولادي. إن رَحمًا واحدًا (المعموديّة) تَمَخَّض بهم بشدة. فالكل هم نسل لمن تَمَخَّض بهم. فإن كنت تَكيل الإهانات للفقير، فإنني أَتَوَعَّدك، لأن الفقير في هذه الحالة لا تحل به خسارة مثلك. لأنه لا يسقط في الخطأ، بل ما يصيبه من خسارة هو مجرد فقدانه المال، أمَّا أنت فكغني تلحق بك الخسارة في روحك[684].

القديس يوحنا ذهبي الفم

فَهَلاَّ يُرْهِبُكُمْ جَلاَلُهُ،

وَيَسْقُطُ عَلَيْكُمْ رُعْبُهُ! [11]

يحذرهم أيوب من تصرفاتهم غير اللائقة، فإنهم إذ يظنون أنهم يدافعون عن الله، إذا بهم يسقطون تحت غضبه، لأنهم يسلكون بالشر، فتسقط عليهم رهبة جلاله ورُعبه.

v     الآن يدرك الأبرار رهبة الله قبل أن يثور سخطه عليهم. إنهم يخافونه وهو في هدوء (من جهتهم)، لئلا يلتزموا بالشعور به عند تحركه بالغضب. من الجانب الآخر، فإن الأشرار يرتعبون منه لأول مرة عندما يُضربون بالعصا، ويقيمهم الرعب من حالة النوم في جمودهم، إذ يقلقهم الانتقام. هكذا قيل بالنبي: “يكون الانزعاج وحده هو السند لفهم ما يسمعونه” (راجع إش 28: 19). فإنهم إذ يبدأون في السقوط تحت ضربات الانتقام بسبب استخفافهم بوصايا الله وإهمالهم لها، يفهمون ما يسمعونه. يقول المرتل: “إذ قتلهم طلبوه” (مز 78: 34)…

البابا غريغوريوس (الكبير)

خُطَبُكُمْ أَمْثَالُ رَمَادٍ،

وَحُصُونُكُمْ حُصُونٌ مِنْ طِينٍ! [12]

افتخر أصدقاء أيوب بأنهم مدافعون عن الله وعدله وأحكامه، فإذا بكل أحاديثهم تشبه الرماد، تافهة وبلا قيمة، يهب الريح فيتلاشى الرماد. تطير أفكارهم من أجسادهم الترابية، يعبرون وتعبر معهم حكمتهم البشرية. إنهم لا يكدسون حكمة للزمن، بل أكوامًا من الطين، يريد أولاد الله الخلاص منها.

يشّبه أحاديثهم بالتراب، لأنها تقوم على أفكار أرضية زائلة، ولا تعتمد على الحكمة السماوية الأبدية. يتحصنون بالمنطق البشري، الذي لن يقدر أن يحميهم إلا إلى لحظات.

v     “تذكارهم مثل رمادٍ” [12]. كل الذين يتشكلون حسب الحال الحاضر، تكون أفكارهم أرضية، فإنهم بكل ما يفعلونه يتركون ذكرى وقتية لهم في العالم. البعض يجاهدون في حربٍ، وآخرون بإشادة مبانٍ شاهقة، والبعض بتسجيل كتبٍ تحمل خبرات هذا العالم. إنهم يتعبون ويصارعون ويبنون لكي يقيموا ذكرى لأسمائهم. ولكن إذ تجري الحياة نحو النهاية بسرعة، أي شيء يثبت فيها، حينما تهوي الطبيعة عينها بسرعة؟

نسمة الهواء تذرى الرماد، كما هو مكتوب: “ليس كذلك الأشرار، لكنهم كالعصافة التي تذريها الريح” (مز 1: 4). بحق تُقارن ذكرى الأغبياء بالرماد، حيث يكون موضعها هو أن تذريها نسمة الهواء. بقدر ما يتعب الإنسان لينال مجدًا لاسمه، يضع ذكراه التي كالرماد في مهب رياح الإماتة المسرعة إلى لحظة. على عكس هذا كُتب عن الصديق: “الصديق يكون لذكرٍ أبديٍ” (مز 112: 6). فإنه بذات الظروف حيث يطبع أعماله على عيني الله وحده، يثبت اسمه لذكراه في العالم الأبدي.

v     “وتنحط أعناقكم إلى الطين” [12]… هكذا تنحط العنق إلى الطين، عندما ينزل كل متشامخٍ إلى الموت، وينحل الجسد الذي ارتفع في الفساد. لنتأمل في جثث الأغنياء الملقاة في قبورهم، أي نوعٍ من الموت حلّ بالجسد الذي بلا حياة، ما هي نتانة فساده!

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. دعوة للصمت

اُسْكُتُوا عَنِّي، فَأَتَكَلَّمَ أَنَا،

وَلْيُصِبْنِي مَهْمَا أَصَابَ [13].

إن كان قد أُصيب أيوب بتجاربٍ هذا مقدارها، فإنها أهون مما أصابه من كلمات أصدقائه. تجاربه لن تدينه بل تزكيه، أما كلماتهم الشريرة وكذبهم وبغضهم، فمصائب أخطر من كل نكبة أو كارثة!

يليق بهم أن يصمتوا لأنهم محبون للجدال غير النافع. ليتكلم أيوب، ويكشف لهم ما هم عليه، حتى وإن تكلم وهو جالس في المزبلة يرتدى ثوبًا من الدود المحيط به.

لا يبالي أيوب بما يصيبه: “وليصبني مهما أصاب“، ومهما فسروا هذه المصائب، وفكروا فيه أسوأ تفكير، فإن هذا كله لن يوقف شهادة ضميره التي يقدمها بكل استقامةٍ ونزاهةٍ.

v     “اسكتوا عني قليلاً، فأتكلم ما يمليه عليّ فكري” [13]. إنه يظهر أنهم تكلموا بإدراك جسدي، هؤلاء الذين يلزمهم بالصمت، ليتكلم حسبما يمليه عليه عقله. كأنه يقول بكلمات واضحة: “لست أتكلم بطريقة جسدية بل روحية، لأنني اسمع بإدراك روحي الأمور التي أقدمها بخدمة الجسد.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     عندما تلتقي بإنسان محب للمجادلات، ويبدأ يجادل معك فيما هو بديهي وحق، اقطع الحديث وانسحب سريعًا، إذ تَحوَّل ذهنه إلى حجر.

فكما أن الماء يفسد أجود أنواع الخمور، هكذا المناقشات الغبية تفسد الفضلاء في السيرة وفي طباعهم[685].

القديس أنطونيوس الكبير

  1. عتاب مع الله

لِمَاذَا آخُذُ لَحْمِي بِأَسْنَانِي،

وَأَضَعُ نَفْسِي فِي كَفِّي؟ [14]

لعل أيوب يود أن يبرز رغبته في الشهادة للحق تحت كل الظروف، ليس فقط عندما مُزق بسبب كوارثه، وإنما حتى إن مزق جسمه بأسنانه، وإن وضع نفسه على كفه ليسلمها للموت، هذا كله لن يجعله يصمت عن الكشف عن براءته في الرب، وعن خطأ تفسير أصدقائه للأحداث.

v     إنها تعني: لماذا أدين نفسي بطريقة صارمة أمام البشر، أو أظهر ما يميل إليه قلبي مادام هذا ليس فيه بنيان قريبي، سواء بإدانة شروري أو إبراز صلاحي؟

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     يقول: إنني أكون مثل هؤلاء الذين لهم تعزية بافتراسهم لأنفسهم؛ مثل أولئك الذين يعضون أجسامهم بشدة، مختبرين نوعًا من تخفيف آلامهم، هذا ما يحدث معي عندما أعبِّر عن نفسي بهذه الطريقة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     هذا هو السبب أنه يأخذ لحمه بأسنانه، كلماتهم الباطلة المثيرة. إنه يتكلم في غضبٍ، ويود أن يهدئ من نفسه.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن الأسنان هنا تشير إلى الحواس الداخلية التي تمضغ ما يشغل الذهن، وتقدمه لبطن الذاكرة. [لذلك بحق قيل: “كل إنسان يأكل الحصرم تضرس أسنانه” (إر 31: 30). ما هو الحصرم إلا الخطية؟ الحصرم هو ثمرة قبل الأوان. فمن يشتهي أن يشبع بملذات الحياة الحاضرة يكون كمن يُسرع فيأكل ثمرة قبل أوانها. لهذا فإن أسنان من يأكل الحصرم تضرس، بمعني أنه وهو يقتات ببهجة الحياة الحاضرة تكون له إدراكات عاجزة عن الأكل، أي تعجز عن إدراك الروحيات. لذات السبب إذ يبتهجون بالأمور الخارجية يصيرون متبلدي الحس من جهة الأمور الداخلية، وبينما تقتات النفس على الخطية، تعجز عن أن تأكل خبز البرّ. وإذ ترتبط الأسنان بعادة الخطية لن يمكنها أن تمضغ ذلك الصلاح لتستمع في الداخل.]

كأن أيوب وقد أراد ان يأخذ الأمور الخارجية (لحمه) بمفاهيم روحية، يمضغها بأسنان روحه ليتمتع بالملذات الروحية التي لا يقبلها أصدقاؤه، لأنهم يطلبون مجد العالم وملذات الجسد. يقاومونه ويطلبون هلاكه، لأن الجسدانيين لا يطيقون الروحيين.

هُوَذَا يَقْتُلُنِي.

لاَ أَنْتَظِرُ شَيْئًا.

فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ [15].

اعتزم أيوب على التمسك بطريقه، ولم يشأ قط أن يتخلى عن الراحة التي وجدها في السير باستقامة مع الله مهما بلغت ضيقاته، ولو إلى الموت. فيقول مع حزقيا: “آه يا رب. أذكر كيف سرت أمامك بالأمانة وبقلبٍ سليم؟” (2 مل 20: 3). حتى وإن دفعت بي التجارب إلى قتلي، فإني أبقى واثقًا فيه، أو مملوء رجاءً فيه، لكي أتزكى أمامه.  إني صديقه وهو صديقي، لن أتخلى عن الالتصاق به، حتى وإن بدا كعدوٍ لي يسلمني للتجارب حتى الموت.

v     “وإن كان يقتلني إلا إني أثق فيه” [15]… يكون الإنسان بالحق صابرًا عندما تحلّ به الكوارث… بهنا يتميز الذهن البار عن الشرير؛ ففي وسط الضيق، يعرف الأول أن المجد لله القدير لا يهتز مع الأحداث العالمية، فلا ينهار مع انهيار المجد الخارجي، بل بالحري يؤكد أنه يكون أكثر قوة عندما يفقد الخيرات الزمنية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا” (٢ كو 1: 5)… إنه يسمو بنفوسنا حاسبًا هذه الآلام خاصة به، فأي فرح يشملنا أن نكون شركاء المسيح، من أجله نتألم! بالإيمان ندرك الميلاد الجديد والقيامة. فالذين يؤمنون بيسوع المُقام حقًا، يلزمهم أن يقدموا أنفسهم للآلام. والذين لهم شركة في آلامه، يقومون معه أيضًا. لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهًا بموته لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات” (في ٣: 10)[686].

v     الإنسان المحب الملتصق بالله على الدوام لا تؤذيه الأمواج مهما كثرت، بل على العكس يخرج منها بقوةٍ جديدةٍ. أما الإنسان الضعيف المتخاذل فإنه يسقط كثيرًا حتى ولو لم يوجد ما يضايقه[687].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     إن كان كلما كثرت آلام المسيح هكذا أيضًا تزداد التعزية بالمسيح فلنرحب بآلام المسيح المشجّعة. ولتفض فينا، إن كنا بالحق نطلب التعزية الفيّاضة التي بها يتعزّى كل الحزانى، وإن كانت ليست متشابهة بالنسبة لكل واحدٍ. فلو أن التعزية متشابهة لكل أحدٍ ما كان قد كتب أنه كلما كثرت آلام المسيح فينا، هكذا تكثر التعزية بالمسيح جدًا. الذين يشتركون في الآلام سيشتركون أيضًا في التعزية حسب شركتهم في آلام المسيح[688].

العلامة أوريجينوس

فَهَذَا يَعُودُ إِلَى خَلاَصِي،

أَنَّ الْفَاجِر َ(المرائي) لاَ يَأْتِي قُدَّامَهُ [16].

لا يقصد هنا الخلاص الوقتي، فقد كان رجاؤه في الخلاص من تجاربه في هذا العالم وعودته إلى ما كان عليه يكاد يكون معدومًا، لكنه يترجى خلاصه الأبدي حيث يلتقي مع  الله، ويراه وجهًا لوجه. أما سرّ ثقته في خلاصه الأبدي، فهو أنه يعلم بأن علاقته بالله ليس فيها رياء ولا انحراف، فالله لا يلتصق بالمرائيين، ولن يسمح لهم بالوقوف أمامه يتمتعون بمجده.

v     “فإن المرائي (الفاجر) لا يأتي قدامه” [16]… يلزمنا أن نضع في أذهاننا أننا نأتي أمام الرب بطريقين.

نحاسب أنفسنا على معاصينا هنا ونحكم عليها أمامه ونعاقبها بالبكاء. فإننا في أي وقت نذكر إدراكنا لقوة خالقنا، نكون كمن يقف أمامه. هكذا حسنًا قال إيليا رجل الله: “حي هو الرب إله إسرائيل الذي أقف أمامه.

والطريق الآخر هو أن نأتي أمام الله عندما نُحضر أنفسنا أمام منبره فقط في الدينونة الأخيرة. هكذا فإن المرائي – في الحساب الأخير – يأتي أمام الديان، لكنه إذ يغمض عينيه عن التطلع إلى خطاياه هنا وانتحابها، يرفض أن يأتي أمام الرب…. وإذ يفسد ذهنه بكلمات المديح الموجهة إليه، لن يستدعيه للتعرف على الخطية، ولا يدرك أنه يعارض الديان الداخلي، ولا يخشى حزمه… بهذا لا تتجه عيناه إلى حزم الله، إذ يطمع في أن يبهج عيون الناس.

v     “لكنني أوبخ طرقي قدامه، سيكون هو خلاصي” [15] يقول بولس الرسول: “لأننا لو كنا حكمنا على أنفسنا لما حُكم علينا” (1 كو 11: 31). يكون الرب خلاصنا قدر ما نوبخ خطايانا بمخافة الله.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     سأحكم على نفسي، حتى لا يحكم عليّ ذاك الذي فيما بعد سيدين الأحياء والأمـوات (2 مك 7: 18- 19)[689].

القديس أغسطينوس

v     “تأمل إذن ذاتك” حتى تبلغ معاينة الله[690].

القديس باسيليوس الكبير

v     ليكن هذا هو اهتمامك الأول ألا تخدع نفسك.

القديس ميليتو أسقف ساردس

v     الرياء أمر مكروه لدى الله، وممقوت من الناس، لا يجلب مكافأة، ولا يصلح قط في خلاص النفس بل بالحري يهلكها.

إن كان أحد يهرب بالرياء لئلا يُكتشف أمره، فإلى حين، إذ لا يدوم كثيرًا، بل ينكشف كل شيء، فيجلب على صاحبه عارًا. وهكذا يكون أشبه بامرأة قبيحة المنظر، تُنزَع عنها زينتها الخارجيَّة التي وُضعت لها بطرق صناعيَّة.

الرياء إذن غريب عن القدِّيسين، إذ يستحيل أن يفلت شيء مما نفعله أو نقوله من عيني اللاهوت، إذ قيل: ليس مكتوم لن يُستعلن، ولا خفي لا يُعرف (لو 12: 2). فإن كانت كل كلماتنا وأعمالنا ستُعلن في يوم الدينونة، فالرياء مُتعب وبلا منفعة. يليق بنا أن نتزكَّى كعابدين حقيقيِّين نخدم الله بملامح صادقة وصريحة[691].

القدِّيس كيرلس الكبير

سَمْعًا اسْمَعُوا أَقْوَالِي،

وَتَصْرِيحِي بِمَسَامِعِكُمْ [17].

يعود فيدعوهم أن يكفوا عن الاتهامات ويصغوا بآذانهم، حتى يتمتعوا معه باللقاء مع الله خلال الإخلاص والنقاوة والحب.

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن أيوب يكرر كلمة “اسمعوا“، إذ يريدهم ألا يسمعوا بأذانهم الخارجية فحسب، وإنما أن ينصتوا بأذانهم الداخلية أيضًا حتى يفهموا أعماق كلماته بطريقة روحية.

هَأنَذَا قَدْ أَحْسَنْتُ الدَّعْوَى.

أَعْلَمُ أَنِّي أَتَبَرَّرُ [18].

إنه ليس في حاجة إلى شهادتهم، فقد أحسن الدعوى أمام الله، وقدم له إخلاص ضميره ونقاوة قلبه فيتمتع بالبراءة خلال نعمة الله.

v     “ها أنا قريب جدًا من حكمي، أعلم إنني سأوجد بارًا“. هذا هو الحكم الذي يقال عنه في سفر آخر: “سيظهر برَّكم كالنور، وحكمكم كالظهيرة”. لكنه لم يقل: “أنا بالفعل هكذا”، بل “أنا قريب جدا”. فإن كان حكمه الذي يعنيه لم يكن هكذا كما اختبره، إنما سيكون هكذا في اليوم الأخير، حيث يُدان الكل، فيوجدون أبرارًا هؤلاء الذين يصلون بإخلاص: “اغفر لنا ما علينا، كما نغفر نحن لمن لنا عليهم” ( مت 6:12). فخلال هذه المغفرة يوجدون أبرارًا، إذ تُمحى الخطايا التي ارتكبوها هنا وذلك بأعمال المحبة التي مارسوها (بغفرانهم للغير)[692].

القديس أغسطينوس

v     ها أنا قريب من ديَّاني“. يليق بالخصم أن يبكم لسانه، وإنما الديان هو الذي يتكلم…

v     “أنا أعرف إنني سأظهر بارًا“، فإنني قد تممت كل الناموس، ونفذت كل الوصايا. لم أبالِ بخطاياي غير المعروفة، وتلك التي ارتكبتها بإرادتي، فقد غسلتها بالصلاة والدموع. “إني أعرف إنني سأظهر بارًا“. بالرغم من أن العدو يرغب في إخفاء بري بإثارة أصحابي لاتهامي، فإنني حتى في هذا سأظهر بارًا، بينما حجاب هذه الحياة الحاضرة سيُفتح، بينما سُحب حال هذه الحياة فاسدة، لكنني حتى الآن أظهر بارًا مادام صبري قائمًا حتى النهاية، وسأظهر شجاعة في التجارب حتى المنتهى.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

يري البابا غريغوريوس (الكبير) أن ما قاله الطوباوي أيوب عن نفسه يحمل تواضعًا، فقد شهد الله نفسه عنه أنه ليس مثله على الأرض، وشتان بين شهادة الله له وبين قول أيوب عن نفسه في جداله مع أصدقائه الذين صاروا متهمين له بأنه بار. لقد رفض أن يصف نفسه أنه أعظم من غيره، مكتفيًا بتبرير نفسه من اتهامات أصحابه له.

مَنْ هُوَ الَّذِي يُخَاصِمُنِي،

حَتَّى أَصْمُتَ الآنَ، وَأُسْلِمَ الرُّوحَ؟ [19]

في يقين بمراحم الله المتسعة للمؤمنين المخلصين لا يبالي بخصومتهم، ولا يخشى التأديب الإلهي، إنما في طمأنينة يسلم روحه ويجد راحة أبدية.

يقدم لنا أيوب صورة حية للمسيحي الذي يتمتع برؤيا صادقة لعمل الصليب في حياته، كيف حرره من إبليس خصمه، وشهَّر به، فصار العدو تحت قدميه. بهذا لا يخاف منه ولا يرتعب، بل يسخر به.

v     إذ رأى في تصرفاته الخارجية ليس من إمكانية لأن يلومه أحد لهذا بكل حرية يتطلع نحو أي متهم له.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     تسقط الأرواح في الحزن، وإذ تريد هلاكنا تهلك هي بواسطتنا بنفس التهلكة التي يرغبونها لنا. ولكن لا تعني هزيمتهم أنهم يتركوننا بغير رجعة…

إذ تهلك قواهم ويفشلون في صراعهم معنا، نقول: “فليخزَ وليخجل الذين يطلبون نفسي لإهلاكها، ليرتد إلى الوراء ويخز المسرورون بأذيتي” (مز 40: 14). وأيضًا يقول إرميا: “ليخز طارديّ ولا أخزَ أنا، ليرتعبوا هم ولا أرتعب أنا، أجلب عليهم يوم الشر واسحقهم سحقًا مضاعفًا” (إر ١٧: ١٨)، إذ لا يقدر أحد أن يشك في أنه متى انتصرنا عليهم يهلكون هلاكًا مضاعفًا[693].

الأب سيرينوس

v     إن قلت إن القوة المضادة قوية جدًا، وإن للشر سيادة كاملة على الإنسان، فإنك بهذا تنسب لله الظلم حينما يدين البشر بسبب خضوعهم للشيطان، لأن الشيطان قوي جدًا ويُخضع البشرية بقوة لا تُقاوم. بهذا تجعل الشيطان أعظم وأقوى من النفس، ثم تقول لي لا تخضع للشيطان. هذا مثل معركة بين شاب وطفل صغير، فإذ ينهزم الطفل يُدان على هزيمته. هذا ظلم عظيم![694]

القديس مقاريوس الكبير

v     أفكار الشيطان هي مجرد تصور عقلي محض لشيء (أو عمل) شرير والذي يُمكَّنه من التملك علينا أو حتى مجرد الاقتراب إلى عقلنا هو ضعف إيماننا. لأننا بعدما تسلِّمنا الوصية لنطرح عنا كل الارتباكات ونحفظ قلوبنا في يقظة كاملة (أم 23:4)، ونطلب ملكوت الله الذي هو في داخلنا، إذ تخلى العقل عن القلب وعن الغرض الذي نسعى إليه، بهذا أفسحنا المجال في الحال لتخيلات الشيطان، وصار العقل متساهلاً في قبول أي مشورة شريرة.

 حتى إلى هذا الحد، ليس للشيطان أي سلطان أن يحرك أفكارنا وإلا ما كان يرحمنا بل كان يدس لنا كل أنواع الأفكار الشريرة ولا يسمح لنا بأي صلاح. إنما قدرته محصورة في مجرد تقديم مشورة كاذبة في بدء كل فكر، ليختبر أي جهة يميل إليها قلبنا: هل يميل إلى مشورته أم إلى مشورة اللّه؟ لأنهما نقيضان.

القديس مرقس الناسك

v     نخرج من بيت أبينا القديم… إذ كنا بالطبيعة أبناء غضب كالباقين أيضًا، مثبتين أنظارنا تجاه العلويات[695].

القديس بفنوتيوس

  1. صرخة لوقف التأديب

إِنَّمَا أَمْرَيْنِ لاَ تَفْعَلْ بِي،

فَحِينَئِذٍ لاَ أَخْتَفِي مِنْ حَضْرَتِكَ [20].

مع ما حلٌ بأيوب، فإنه لا يريد أن يختفي من وجه الله مثل أبيه آدم، وإنما يريد أن يتراءى في حضرته.

مع اعتراف أيوب في أكثر من موضع بخطاياه إلا أنه يريد أن يكون دومًا مع الله. “أعلمني ذنبي وخطيتي، لماذا تحجب وجهك، وتحسـبني عدوًا لك؟” (24:13).

اشتهى أيوب أمرين بهما يقف في حضرة الديان، لا في خوفٍ من محاكمة، بل كخالق محبٍ لمؤمنيه.

هذا ما يدفعه للشوق إلى الوقوف أمام الله، وعدم الرغبة في الاختفاء من حضرته كما فعله أبوانا الأولان حين ظنا أن ظلال شجرة التين تخفيهما عن خالقهما. ولكن ما هما هذان الأمران؟ أشار إليهما في العبارة التالية [21].

v     يقول الله نفسه بالنبي: “أنا الله القريب، ولست الله البعيد.” (إر 23: 23 LXX)[696]

الأب ثيؤدورت أسقف قورش

v     أينما توجد يأتي إليك الله إن وجد حجرات في نفسك بطريقة يمكنه أن يسكن فيها.

القديس غريغوريوس النيسي

v     الثالوث القدوس قريب من كل الأشياء، لكن ليس كل الأشياء قريبة منه.

المدعو ديونيسيوس الأريوباغي

v     ليكن الله الحي حاضرًا على الدوام في ذهنك. فإن ذهنك ذاته هو على مثاله، هو أيضًا غير منظور ولا مدرك، ولا يُمثل بأي شكل، ومع هذا بإرادته يتحرك كل الجسم.

القديس ميليتو أسقف ساردس

أَبْعِدْ يَدَيْكَ عَنِّي،

وَلاَ تَدَعْ هَيْبَتَكَ تُرْعِبُنِي [21].

ربما عني بالأمرين الآتي:

  1. أبعد يدك عني“: ربما طالبه لا أن ينزع التجربة عنه، بل أن يخففها. ففي تخفيفها يجد فرصته للهدوء، والتحرر من الانزعاج، فيتفرغ للحديث مع الله. فهو لا يطلب تخفيف آلامه لكي يفتخر أمام أصدقائه أنه ليس بشريرٍ كما ادعوا، وأن ما يشغله هو الوقوف في حضرة الله.
  2. يعلم أيوب هيبة الله، هذه المهابة مبعث فرح وبهجة للمؤمن الأمين وليست مبعث رعب!

v     “محتاج إلى أمرين، عندئذ لا أخفي نفسي عن وجهك” [20] ما هما الأمران الذي يحتاج إليهما أيوب من الله؛ هذان اللذان كما يقول إن نالهما لا يخفي نفسه عن وجه الديان؟

أمسك يدك عني، ولا تدع خوفك يرعبني” [21]… عن هذا قال داود: “انزع ضرباتك عني، لقد هزلت بسبب قوة يدك” (مز 39: 10)… أنت غير الفاسد، وأما أنا ففاسد (رو 1: 23). أنت هو السيد، وأنا عبد، كمصارعٍ تحت التمرين، كجنديٍ مسلح. أنت تتكلم، وأنا أجاوب، ليس في جسارة أعارض، بل رغبة في نوال الحكمة، وأن أتعلم خلال الكلام والاستماع.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

يرى البابا غريغوريوس (الكبير) في هذين الطلبين أن يمسك يده ولا يدع خوفه أن يرعبه نبوة عن الاشتياق إلى عصر النعمة، حيث لا تحل بالمؤمنين ضربات الغضب الإلهي بكسر الناموس، ولكي لا يعود المؤمنون يعبدون الله خلال الخوف كما في العهد القديم، بل خلال الحب. [لا يمكن للبرّ أن يكمل بالخوف، وبحسب صوت يوحنا: “المحبة الكاملة تطرد الخوف” (1 يو 1: 18). ويقدم بولس راحة لأبناء التبني، قائلاً: “لأنكم لم تأخذوا روح العبودية أيضا للخوف، بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا، الأب” (رو 8: 15). لذلك بصوت البشرية المشتاقة إلى إزالة قسوة ضربة الناموس، ورغبة حارة للتقدم من الخوف إلى الحب يحدد في الصلاة أمرين أن ينزعهما الله عنه، قائلا: “انزع يدك بعيدًا عني، ولا تدع خوفك يرعبني“. انزعني من قسوة الضربة، ارفع ثقل الرعب؛ وعندما تشرق عليَّ نعمة الحب اسكب عليَّ روح الطمأنينة. إن لم أُنتزع من العصا ومن الرعب، فإني أعرف إنني لن أُسحب من حزم امتحانك. من يخدمك ليس على أساس الحب بل على أساس الخوف لا يقدر أن يتبرر أمامك.]

ثُمَّ ادْعُ فَأَنَا أُجِيبُ،

أَوْ أَتَكَلَّمُ فَتُجَاوِبُنِي [22].

بهذين الأمرين يوجد في حضرة الله، ويدخل في حوار ممتع. يتكلم الله وأيوب يجيب، ويتكلم أيوب، والله يحجب. هذا هو الحب المشترك بين الله ومؤمنيه. هذه هي الدالة العجيبة التي لنا حين تقف أمام عرش النعمة الإلهية.

v     “لتدعوني وأنا أجيب، أو دعني أتكلم، وأنت تجيبني“… دعوة الله لنا هي تقديره لنا بالحب واختياره لنا، وإجابتنا نحن هي خضوعنا بالطاعة لحبه بالأعمال الصالحة… من يركض لاهثًا مشتاقًا إلى العالم الأبدي يفحص أعماله، يضع في نفسه أن يعمل بدقة عظيمة، ويفحص نفسه تمامًا لئلا يوجد فيه شيء يكون به معارضًا وجه خالقه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

  1. لماذا تحجب وجهك عني؟

كَمْ لِي مِنَ الآثَامِ وَالْخَطَايَا.

أَعْلِمْنِي ذَنْبِي وَخَطِيَّتِي [23].

الآن إذ يقف في حضرة الرب يسأل أيوب الله عن آثامه وخطاياه لكي يكشفها له، فيعترف بها، ويطلب الصفح عنها بروح التواضع لا يخشى فضيحته أمام نفسه.

يقول البابا غريغوريوس (الكبير) أنه يوجد فارق بين الجرائم والآثام. فالجرائم أثقل جدًا من قياس الخطية، أما الإثم فلا يتعدى وزن الخطية. عندما يًؤمر بتقديم ذبيحة حسب الناموس فإنها دون شك تُفرض عن “الخطية” وفي نفس الوقت عن “الإثم” أيضًا. لن تتحقق الجريمة إلا بالفعل، أما الإثم عادة ما يرتكب في الفكر وحده.

لِمَاذَا تَحْجُبُ وَجْهَك،َ

وَتَحْسِبُنِي عَدُوًّا لَكَ؟ [24]

يعترف أيوب أنه خاطئ أثيم، لكن بروح التواضع والتوبة يطلب من مخلصه الإلهي، ألا يحجب وجهه عنه، ولا يحسبه عدوًا له، فإنه مع كل ضعفاته وخطاياه لن يكف عن السؤال لكي يتمتع بالشركة مع الله خالقه.

v     “لماذا تخفي وجهك، وتحسبني عدوك؟” [24] تمتع الإنسان بنور التأمل الداخلي في الفردوس، لكنه إذ سرّ بذاته ورحل عن نفسه. فقد نور الخالق، وهرب من وجهه إلى أشجار الفردوس. بعد أن ارتكب خطيته خشي أن يراه، ذاك الذي كان قبلاً يحبه. لكن لاحظوا قد جلبت عليه العقوبة بعد الخطية، ولكن بعد العقوبة رجع إلى الحب، إذ وجد نتائج عصيانه، والوجه الذي كان يخشاه وهو في الخطية، إذ استيقظ إلى فهم سليم بدأ يبحث عنه من جديد خلال العقوبة، حتى يهرب من ظلمة حالة العمى التي حلت به، وصار يتراجع في فزع من هذه الوحدة التي منعته عن رؤية خالقه.

البابا غريغوريوس (الكبير)

أَتُرْعِبُ وَرَقَةً مُنْدَفَعَة،ً

وَتُطَارِدُ قَشًّا يَابِسًا! [25]

يستعطف أيوب الله، إذ يتصاغر أمام الله وأمام نفسه جدًا، فيحسب نفسه أشبه بورقة شجر يابسة تطير باندفاع تسقط على الأرض، وقش يابس تحركه الرياح… إنه مدوس بطبعه الفاسد، فهل يليق بكرامة الله أن يُداس بما هو مدوس فعلاً؟ أو يسحق شخصًا ليس لديه قوة للمقاومة؟

“جرفتهم كسنة، يكونون بالغداة كعشب يزول” (مز 90: 5).

“إذا زها الأشرار كالعشب وأزهر كل فاعلي الإثم، فلكي يبادوا إلى الدهر” (مز 92: 7).

“أيامي كظلٍ مائلٍ، وأنا مثل العشب يبست” (مز 102: 11).

الإنسان مثل العشب أيامه، كزهر الحقل كذلك يزهر” (مز 103: 15).

“ليكونوا كعشب السطوح، الذي ييبس قبل أن يقلع” (مز 129: 6).

“فسكانها قصار الأيدي قد ارتاعوا وخجلوا، صاروا كعشب الحقل، وكالنبات الأخضر، كحشيش السطوح، وكالملفوح قبل نموه” (إش 37: 27).

“لأن الشمس أشرقت بالحر، فيبست العشب، فسقط زهره، وفني جمال منظره، هكذا يذبل الغني أيضًا في طرقه” (يع 1: 11).

“لأن كل جسد كعشبٍ، وكل مجد إنسانٍ كزهر عشب، العشب يبس، وزهره سقط” (1 بط 1: 24).

v     “هل ُظهر سلطانك على ورقة شجر تطير هنا وهناك؟ وهل تقتفي أثر جذامة (بواقي الحصاد) الجاف؟” [25]

ما هو الإنسان إلا ورقة سقطت من الشجرة في الفردوس؟

ماذا يكون ذاك الذي تلعب به ريح التجربة، فترفعه عواصف شهواته، سوى أنه ورقة شجر؟

يُثار ذهن الإنسان بعواصفٍ كثيرةٍ عندما يعاني من التجارب. هكذا غالبًا ما يثيره الغضب. وإذ يزول الغضب يتبعه مرح فارغ. إنه ينسحب بمنخاس الشهوة، يرفعه الكبرياء، وأحيانًا يغطس به الخوف المتزايد إلى ما هو تحت التراب. هكذا إذ يرى الإنسان نفسه مرتفعًا محمولاً بعواصفٍ كثيرةٍ كهذه للتجربة يصير الإنسان كورقة شجر. لذلك حسنًا قيل بإشعياء النبي: “كلنا سقطنا كورقة شجر، وآثامنا مثل الريح استبعدتنا” (راجع إش 64: 6).

v     نرى أن ما نقوله يعبر، أما ما نكتبه فيبقى، لذلك قيل عن الله لا إنه يتكلم بل ويكتب أمورًا مرة، حيث أن ضرباته علينا تبقى إلى زمنٍ طويلٍ. قيل مرة للإنسان الذي أخطأ: “أنت تراب وإلى تراب تعود”، وظهرت الملائكة مرارًا، وأعطت وصايا للناس. وحدد موسى مستلم الناموس الخطايا بوسائل حازمة. وجاء ابن الآب والعلي الوحيد ليخلصنا. لقد ابتلع الموت بموته. لقد أعلن أن الحياة الأبدية لنا قد أظهرها في نفسه. غير أن هذا الحكم الذي صدر في الفردوس بخصوص موت جسدنا بقي دون تغيير منذ بداية الجنس البشري حتى نهاية العالم. “فإن أي إنسان يحيا ولا يرى الموت؟” (مز 89: 48) ، وأيضًا: “أنت، أنت المخوف، ومن يقف قدام عينيك عندما غضبت؟” (مز 76: 7). فبكونه قد غضب مرة عندما أخطأ الإنسان في الفردوس تثبت حكم موت جسدنا.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     “سنواتهم كأشياء بلا قيمة، في الصباح كعشب يزول” (مز 90: 50)… هكذا هي هذه الأمور التي لم تكن موجودة قبل مجيئها، وإذ تأتي لتكون هنا سرعان من تزول، فإنها لا تأتي هنا إلا لكي تعبر… إنها تأتي لكي تسقط في الموت، وتجف في جيفة، وتذبل في التراب. ما هذا إلا الجسد الذي فيه الشهوات الجسدية البغيضة؟[697]

v     الذين لا يفكرون في قلوبهم باستقامة يتطلعون الى الأشرار حينما يكونون كالعشب الأخضر، أي عندما يكونون مزدهرين إلى حين. لماذا يتطلعون إليهم؟ ” لكي يهلكوا إلى الأبد”. يتطلعون إلى ازدهارهم المؤقت ويتمثلون بهم، ويريدون أن يزدهروا معهم إلى حين، ويهلكون معهم الى الأبد[698].

v     إذ تقول في هذا الزمان إن كل شيء يعبر كظلٍ، فإنك لا تعبر أنت كظل. “أيامي تعبر كظل، وأنا مثل العشب يبست”… لكن العشب إذ يتبلل بدم المخلص يعود فيزدهر. لقد صرت يابسًا مثل العشب؛ فإني كانسان عانيت من حكمك العادل لأنك “أنت تقوم وترحم صهيون، لأنه وقت الرأفة، جاء الميعاد” (مز 102: 13)[699].

v     “الإنسان، مثل العشب أيامه” (مز 103: 15). ليدرك الإنسان ما هو؛ فلا يفتخر إنسان ما. “مثل العشب أيامه”. لماذا يفتخر العشب، هذا الذي يزدهر الآن، وفي وقت بسيط ييبس؟ لماذا يفتخر العشب هذا الذي يزهر فقط إلى فترة قصيرة، حتى تصير الشمس حارة؟ إذن من الصالح لنا أن تحل رحمته علينا، ويجعل من العشب ذهبًا! “إنه مثل زهر الحقل يزهر”. كل سمو الجنس البشري من كرامات وسلطات وغني وكبرياء وتهديدات هي زهر العشب. ذاك البيت يزهو، وهذه الأسرة عظيمة، وتلك العائلة تنمو؛ كم من كثيرين يزدهرون، وكم من سنين يعيشون! بالنسبة لك هي سنين كثيرة، أما بالنسبة لله فهي فترة قصيرة – حسابات الله ليست كحساباتك. بالمقارنة لطول الحياة لعصور طويلة تكون زهرة أي بيت مثل زهرة عشب. بصعوبة يبقى جمال السنة طوال العام. كل ما يزهو، كل ما يمتلئ بدفء الحرارة، كل ما هو جميل لن يدوم، لا بل ولا يبقي سنة كاملة!… لقد أرسل إلينا كلمته، كلمته الذي يدوم إلى الأبد… لا تعجب أنك ستشاركه أبديته، فقد شاركك العشب الذي لك. هل هذا الذي انتحل منك ما هو سفلي، يبخل عليك أن يهبك ما هو سام؟[700]

القديس أغسطينوس

لأَنَّكَ كَتَبْتَ عَلَيَّ أُمُورًا مُرَّةً،

وَوَرَّثْتَنِي آثَامَ صِبَايَ [26].

في أحاديثه مع أصدقائه إذ يقارن نفسه بالبشرية، يؤكد أنه بار وليس شريرًا كما يدعي أصدقاؤه. وعندما يتحدث مع القدوس يعترف بآثام صباه، ويطلب منه أن يفسر له لماذا يتركه ليبلى كما بالسوس، أو كثوب يأكله العث [28]!

يقول لله: إن كنت تسجل خطاياي وسقطاتي فهي مرة، لن أبرر نفسي منها، وإن سجلت آثامي فهي آثام صباي. أعرفها تمامًا ولا أنكرها، لكني أذكر حبك يا غافر الخطايا والآثام.

يطلب داود النبي من المعلم ألا يذكر خطاياه وإنما يذكره هو كخليقة الله المحبوبة لديه، والتي لها تقديرها الخاص، لا لفضل له فيها، وإنما من أجل مراحم الله وصلاحه، ولأجل اسمه القدوس. يقول: “لا تذكر خطايا صباي، ولا معاصي، كرحمتك أذكرني أنت من أجل جودك يا رب” (مز 25: 7). طلب اللص اليمين من المعلم الحق أن يذكره متى جاء ملكوته، فلم يذكر جرائمه ولا خطاياه، بل حمل نفسه إلى الفردوس، مبررة في استحقاقات الدم الثمين. هكذا إذ نطلب من الرب أن يذكرنا يجيب قائلاً: “أنا أنا هو الماحي ذنوبك لأجل نفسي وخطاياك لا أذكرها” (إش 25:43). يوصي القديس بولس تلميذه تيموثاوس: “أما الشهوات الشبابية فاهرب منها، وأتبع البرّ والإيمان والمحبة والسلام مع الذين يدعون الرب من قلب نقي” (2 تي 2: 22).

v     “لماذا كتبت عليٌ أمورًا شريرة، وتتهمني بخطايا صباي؟” (أي 13: 26 LXX)

إنه بصدق وجدارة حسب هذه الفترة من الحياة (الشباب) علة شكواه، لأنه بصفة عامة يكون الشخص في هذه الفترة مزعزعًا من جهة الخطية.

حقًا تتسم الطفولة بالبراءة، والشيخوخة بالحكمة. ويُنظر إلى الرجولة المبكرة التي تلتصق بمرحلة الشباب أنها مرحلة نوال سمعة طيبة، ويشعر الشخص بخجل إن ارتكب خطية. أما مرحلة الشباب فهي وحدها تحمل سمة الضعف والمشورة الواهنة، مع الحماس في الخطية، والاستخفاف بمن يقدمون لهم مشورة، وهم مهيأون أن ينخدعوا بالملذات. لذات السبب سأل داود بطريقة مدهشة العفو من الرب عما سقط فيه في تلك الفترة كلها، إذ قال: “خطايا صباي وجهلي لا تذكر” (مز 25: 7). لأنه في تلك الفترة الغالبية يعانون من التهاب الشهوات واشتعالها بحرارة الدم الساخن[701].

القديس أمبروسيوس

v     “لماذا تكتب شروري ضدي؟ وتتهمني بخطايا شبابي؟” بخصوص كتابة محني يقول: “ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك.  وشوكًا وحسكًا تنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزًا حتى تعود إلى الأرض التي أُخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود” (تكوين 3: 17-19). دينت كل البشرية بكل هذه، كما لو كان بسببٍ حسنٍ تُكتب هذه الأسطر بخصوص الصديقين والأشرار. بنفس الكيفية يضع الله على كل واحدٍ خطايا شباب آدم، لأن آدم كان لا يزال شابًا حين ذاق الطعام الضار. هذا هو السبب أنه ليس هو وحده، بل ونحن أيضًا نسله الذين نُمنع من أن نجمع من شجرة الحياة (تك 2: 3) التي في الفردوس.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     لا تذكر خطايا صباي وجهلي” (مز 25: 7). معاصي وجسارتي الوقحة وجهلي لا تحفظها للنقمة، بل انسها. “كرحمتك اذكرني” (مز 25: 7). بالحق أذكرني ليس حسب الغضب الذي استحقه، بل حسب رحمتك التي تليق بك”… ليس حسب استحقاقاتي وإنما حسب صلاحك يا رب[702].

القديس أغسطينوس

فَجَعَلْتَ رِجْلَيَّ فِي الْمِقْطَرَةِ،

وَلاَحَظْتَ جَمِيعَ مَسَالِكِي،

وَعَلَى أُصُولِ رِجْلَيَّ نَبَشْتَ [27].

لقد تأدبت بسبب ضعفاتي وآثام صباي، صرت كسجينٍ وُضعت رجلاه في مقطرة، عاجز عن الحركة. إني لن أهرب من ضربات تأديبك.

أنت تدرك كل مسالكي، وتؤدبني حتى من أجل أفكاري الخفية أو نظراتي المنحرفة. تسجل على باطن قدمي كل ما قد ارتكبته، وأنا لا أنكر ما فعلت.

v     “وضعت قدمي في المقطرة“، لأن أقدامنا قد مُنعت عن السير للتمتع بمنافع الفردوس. لأن اللهيلاحظأعمالنا“. بخصوص عصيان الوصية الذي ارتكبه آدم أدان الله الجنس البشري كله الذي هو نسله. على أي الأحوال، إذ هو صانع خيرات ومحب للإنسان (حك 7: 23) “يلاحظ أعمالنا“. فإن كانت شريرة ننسبها لأنفسنا، بكوننا على مثال آدم القديم، ونسقط تحت التأديب الذي حلّ عليه. أما إذا كانت أعمالاً صالحة، فسنخلص من اللعنة، ونتحرر من العقوبات (2 كو 11: 4) على شبه آدم الجديد، وبوساطته ننال إبطالاً لمحنتنا الكبرى.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     “وضعت قدمي في المقطرة“… هذا يعني: لقد ربطتهما. “لقد نفذت إلى أُصُولِ قدمي (عقبي)” بمعنى أنك هاجمتني بكليتي، وفحصتني حتى الأعماق؛ لقد ضربت قدمي ورأسي، ولم تترك فيّ جزءً سالمًا. مرة أخرى، إنه يتكلم عن خطورة محنته، إنه يسخر من انحطاط الطبيعة.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     وضع الله قدم الإنسان في المقطرة، لكي يقيد شره تمامًا بحكمٍ قويٍ حازمٍ.

v     “وتتطلع بتدقيق في كل سبلي، إنك تضع علامة لآثار قدمي” [27]… من الممكن أن تكون آثار القدمين هي الأمور الكثيرة التي تمارس خطأ، فإنها تدرك… عادة عندما نمارس أشياء خاطئة ويراها إخوتنا نكون مثالاً رديئًا لهم، وتكون أقدامنا قد انحرفت عن الطريق، ونترك آثار أقدامنا كلها المنحرفة لمن يتبعنا، فنكون بتصرفاتنا قدنا ضمائر الآخرين للعثرة.

لكن كل هذه الأمور يفحصها الله القدير بدقةٍ، ويزن كل منها في الحكم. ولكن متى يمكن للإنسان المربوط كما بضعف الجسد أن يكون له سلطان أن يقوم ضد هذه كلها بدقة ويحفظ خط استقامة فكر القلب دون أن يتحرك؟ لذلك يقول: “من أنا؟ كشيء فاسد يهلك، وكثوب أكله العث” [28]… فالإنسان مثل شيء فاسد يهلك، حيث يبدده فساد جسده. ولأن تجربة النجاسة تنبع فيه ليس من مصدرٍ آخر سوى منه هو، مثل العث، هكذا تهلك التجربة الجسد، كما يفسد العث الثوب مما يصدر عنه، فإن الإنسان يحوي فيه الفرصة التي منها تصدر التجربة، لذلك فالعث يفسد الثوب، بينما يصدر العث من الثوب ذاته.

البابا غريغوريوس (الكبير)

وَأَنَا كَمُتَسَوِّسٍ يَبْلَى،

كَثَوْبٍ أَكَلَهُ الْعُثُّ [28].

يعترف أيوب بأنه يدخل من فسادٍ إلى فسادٍ بسبب خطاياه، وكأن السوس قد أبلى عظامه والعث أكل ثوبه (جسده) فسدت أعماقه بسوس الخطية وبلي جسده بعث الإثم… لكن يوجد من ينقذ النفس من الفساد، ويهب الجسم مجدًا أبديًا حين يلبس الفاسد عدم الفساد، ويحتل الجسم الروحاني ذاك الترابي.

v     إن أردت، تستطيع أن تكون عبدًا للشهوات. وإن أردت، تقدر أن تتحرر منها ولا تخضع لنيرها، لأن الله خلقك وأعطاك هذا السلطان.

من يُقهر شهوات الجسد يُتوَّج بعدم الفساد. فلو لم تكن هناك شهوات ما كان يمكن أن توجد فضائل، وبالتالي ما كان يعطي الله أكاليل لمن يستحقونها[703].

v     من يفهم ما هو الجسد، أي إنه قابل للفساد وقصير الأجل، يفهم أيضًا أن النفس سمائية وخالدة، وأنها نسمة من الله، ومرتبطة بالجسد إلى أن تتقدم وتسمو نحو التشبه بالله[704].

القديس أنطونيوس الكبير

 

من وحي أيوب 13

أقع في يدك يا إلهي،

ولا أقع في يد إنسان!

v     الوقوع في يديك يا إلهي، أفضل من الوقوع في يد إنسان!

يظن الإنسان أنه صاحب السلطان، كمن هو فريد في معرفته.

يحسب أنه دون غيره صاحب معرفة وحكمة.

يدين أخاه كأنه عبد جاهل!

 لا يستطيع أن يدرك مساواته له!

v     لأُحاكم أمامك، فإنك تصغي إليّ.

أنت وحدك الطبيب السماوي الفريد.

تقدم ذاتك طبيبًا ودواءً.

دواءك الحب والحنو والقرب مني.

لا تجرح إنسانًا ولا تطلب إهانته.

v     الإنسان وهو يحاكم أخاه يظن في نفسه أنه بار.

تحت ستار الدفاع عنك، والشهادة للحق،

يدين ويحكم في محاباة للوجوه.

يتستر بالغيرة المقدسة، وقلبه غاش ومخادع!

لا يرهبه جلالك، ولا يرتعب من مجدك.

ينطق في خداع كأنك غير فاحص لقلبه.

كلماته رماد سرعان ما يذريها الريح،

وحصونه طين لا قدرة لها على حمايته.

ليته يسمع نصيحتي فيصمت ليسمع.

صمته أنفع من كلماته.

v     حقا، لقد قام البشر عليّ،

وثقلت التجربة للغاية.

لكني بنعمتك أبقى أمينًا لك إلى الموت!

لا أترجي شيئًا سوى أن أتبرر بدمك أمامك!

اعترف لك بخطاياي وآثامي.

أذكرني، لكن لا تذكر خطاياي!

أتراءى قدامك يا أيها الرحوم فأستريح.

v     لأراك فاطلب أن تسندني في ضيقتي.

ترفع يد التأديب حسبما ترى يا أيها المحب.

تلهب قلبي بحبك، فلا أحمل خوف العبيد.

تظهر وجهك أمامي،

فتنزع عداوتي، وتهبني روح البنوة.

v     لقد فسد كل كياني،

صرت كمن دب فيه السوس، فأصابه الدمار.

حلّ بي الفساد كالعث للثوب.

لست أبرر نفسي، هذا الفساد هو ثمرة خطاياي.

لكن دمك يغسل فسادي.

عوض الفساد أتمتع بعدم الفساد.

وعوض الموت أتمتع ببهجة قيامتك عاملة فيّ!

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى