تفسير سفر أيوب 28 للقمص تادرس يعقوب ملطي
الأصحاح الثامن والعشرون
الحكمة: من يدركها؟
يبدأ أيوب في هذا الحديث الختامي بالإعلان عن الله الخالق بكونه وحده الكلي الحكمة، وأن خليقته تكشف عن سمو حكمته، وأن دور الإنسان في الحكمة هو أن يخاف الرب، ويحيد عن الشر.
تختلف نغمة هذا الأصحاح تمامًا عن نغمة سائر الإصحاحات الأخرى، حيث نرى قدرًا كبيرًا من الفلسفة الطبيعية والفلسفة الأدبية. يُعتبر هذا الأصحاح أقدم وثيقة عن التاريخ الطبيعي في العالم. هنا نراه يبين الآتي:
1- كيف يسعى بنو البشر وراء الثروة العالمية، ويكدون ويتعبون في البحث عنها. فالإنسان يبحث عن الكنوز المخفية تحت الأرض في المناجم. يبحث عما لا تستطيع الطيور والوحوش البلوغ إليه.
2- فيما يختص بالحكمة يقول إن الحكمة بصفة عامة ثمنها عظيم، وقيمتها لا تُقدر، ومكانها خفي جدًا. توجد حكمة خاصة بالله لا يعلم مكانها أحد سواه، وتوجد حكمة معلنة لبني البشر. علينا ألا نبحث عن الأولى، بل نجتهد في طلب الثانية، لأن هذا من اختصاصنا. الحكمة موهبة ثمينة للغاية،
من يحصل على الحكمة يصير أكثر غنى وسعادة ممن يحصل على الذهب والحجارة الكريمة. يستطيع الإنسان بواسطة الطاعة لله والتمتع بمخافة الرب الحصول على الحكمة اللازمة للتمييز بين الخير والشر، ورؤية ما هو حق وصحيح، والعبادة لله والاتكال عليه، فإن مخافة الرب هي الحكمة، والحيدان عن الشر هو الفهم (أي 28:28). هذه هي الحكمة التي جعلها الله من نصيب الإنسان.
1. الحكمة الإلهية تفوق الفكر البشري
لأَنَّهُ يُوجَدُ لِلْفِضَّةِ مَعْدَنٌ،
وَمَوْضِعٌ لِلذَّهَبِ حَيْثُ يُمَحِّصُونَهُ [1].
يجاهد البشر لمعرفة أسرار الطبيعة مثل اكتشاف المعادن الثمينة من ذهب وفضة، وقد أمكنهم ذلك. فمن أجل الغنى يجاهد الإنسان في هذه الأمور وما أشبهها، لكنه في غباوة لا يهتم بالتعرف على أسرار ملكوت السماوات. من أجل الغنى الزمني وحب الاستطلاع يبحث عما هو مدفون في الأرض ولا يبحث عن خلاص نفسه ومجده الأبدي.
* “لأنه يوجد موضع، منه تأتي الفضة، وموضع للذهب حيث يمحصونه؛ الحديد يُستخرج من التراب، والنحاس يُسكب مثل الحجارة” [راجع 1-2 LXX]. يعني بهذا أنه وإن كان الله قد وضع نظامًا خاصًا بالأمور العامة، فبالأكثر يضع نظامًا بخصوص الحقائق البشرية… إنه يسبق فيرى الأمور ويهتم بنفسه بها، ولا يحدث شيء ما مصادفة. أو بالحري يقصد أن تجميع الحقائق (الطبيعية) أمور منظورة بوضوح، أما خطة الله نفسه فغير منظورة. فللفضة والنحاس موضعهما المعروف، أما موضع الحكمة فلا يعرفه أحد، بل الله وحده يعرفه. يقول (الله) للإنسان: “التقوى هي الحكمة”، وأن تصنع الصلاح هو الفهم.
القديس يوحنا الذهبي الفم
* كما أن الفضة غالبًا ما تُنقى، هكذا يُمتحن البار، فيصير عُملَة الرب، تتقبل الصورة الملكية. سليمان أيضًا يدعو “لسان الصديق ذهبًا ممحصًا بالنار” (راجع أم 20:10)، مظهرًا أن التعليم الذي يُمتحن وتثبت حكمته يُمتدح ويُقبل، حيث يُمحص على الأرض عندما تتقدس نفس الغنوصي (الإنسان الروحي صاحب المعرفة) بعدة طرقٍ، منسحبة من النيران الأرضية. أما الجسد الذي تسكنه (هذه النفس) فيتطهر وتصير له النقاوة اللائقة بهيكل مقدس.
القديس إكليمنضس الإسكندري
يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا لهذه العبارة، وهو إن كان الإنسان يبحث عن الفضة والذهب ليستخرجهما من الحجارة، يليق بالكارزين أن يعملوا بلا توقف ليكون لهم الفضة الروحية أي كلمة الله الممحصة بالنار سبع مرات كالفضة (مز 12: 6). وأن يكون لهم الذهب الذي يشير إلى الحياة البهية الحكيمة السماوية.
ويميز البابا بين الكرازة الصادقة التي تقدم الفضة والذهب النقيين من الأسفار المقدسة، مفسرين إياها حسب فكر الآباء، كما عاشتها الكنيسة الأولى، وبين الهراطقة. فإن الأخيرين لا يقدمون فضة وذهبًا مُنقى بالنار، بل تعاليم من ذواتهم لأجل كرامتهم الخاصة ولمجدهم البشري.
* “الفضة بدايتها في العروق (في الحجارة)، وللذهب موضع حيث يمحصونه(1131)” [1]. تشير الفضة إلى قوة الكلام، والذهب إلى بهاء الحياة أو بهاء الحكمة… وكأنه يقول بوضوح: من يهيئ نفسه لكلمات الكرازة الصادقة يلزمه أن يستخلص أصول عَرْضِه (للمواضيع) من الأسفار المقدسة، فيجلب كل شيءٍ ينطق به على أساسٍ إلهيٍ، وذلك لنفع الذين يكلمهم.
غالبًا ما يسعى الهراطقة في مساندة ما يقدمونه من أمور خاطئة من عندهم، فيستخرجون أمورًا بالتأكيد لا سند لها من صفحات الأسفار المقدسة.
لهذا ينصح الكارز العظيم تلميذه، قائلًا: “يا تيموثاوس، احفظ الوديعة، مُعرضًا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم” (1 تي 20:6). إذ يشتاق الهراطقة أن يتمجدوا كأنهم بارعون في الفكر، يقدمون أمورًا جديدة لم ترد في الكتب القديمة للآباء القدامى، إذا بهم يلقون بذور الجهل إلى البائسين الذين يستمعون إليهم، رغبة في الظهور أنهم حكماء.
إنه كمن يقول بوضوح: “الحكمة الحقيقية للمؤمنين، لها موضع في الكنيسة الجامعة، وهي تعاني من متاعب تصدر عنكم ومن اضطهادكم لها، لكنها تتنقى من كل شوائب الخطايا بنار اضطهادكم. هكذا مكتوب: “يُختبر الذهب في النار، والناس المقبولون في أتون المحنة” (ابن سيراخ 5:2)…
يعلمنا الرسول بولس إذ يقول: “إن سلمت جسدي حتى احترق، ولكن ليس لي محبة فلا أنتفع شيئًا” (1 كو 3:13). فإن أفكار البعض عن الله خاطئة، وآخرون أفكارهم صادقة من جهة الخالق، لكنهم لا يحفظون الوحدة مع إخوتهم. الأولون يُقطعون بسبب خطأهم في الإيمان، والآخرون بسبب انشقاقهم. لهذا فإن أول جزء في الوصايا العشرة منع الخطية التي للفريقين، إذ جاء القول بالصوت الإلهي: “حب الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قوتك”. وفي الحال أضاف “حب قريبك كنفسك” (تث 5:6؛ مر 30:12-31). فمن يعتقد بما هو خطأ بخصوص الله بالتأكيد لا يحب الله، ومن له مفاهيم صادقة نحو الله ويشق وحدة الكنيسة المقدسة واضح أنه لا يحب قريبه، إذ يرفض أن يأخذه رفيقًا له.
البابا غريغوريوس (الكبير)
* كلام الرب كلام نقي (مز 12: 6)… يقول “نقي”، ليس فيه زغل المظهر المزيف. فإن كثيرين يكرزون بالحق في غير نقاوة، إذ يبيعونها من أجل نوال رشوة لنفع زمني(1132).
القديس أغسطينوس
* (الانشقاق) هو سلاح الشيطان يقلب كل شيء رأسًا على عقب. مادام الجسد متحدًا معًا لا يقدر أن يجد الشيطان له مدخلًا، أمّا العثرة فتأتي بسبب الانقسام. من أين يأتي الانشقاق؟ من الآراء المخالفة لتعاليم الرسل. ومن أين تأتي هذه الآراء؟ من عبوديّة الناس للبطن والأهواء الأخرى… هذا ما قاله عندما كتب إلى أهل فيلبي: “الذين إلههم بطنهم“ (في 3: 19)(1133).
القديس يوحنا الذهبي الفم
يليق بالكارز بالحق، بل وبكل مؤمن أن يقدم فضة وذهبًا من قبل الله، أي سلامه السماوي الفائق، لا سلام هذا العالم الزائل، يقدم الله المخلص هو السلام الحقيقي.
* سيكون السلام هو ذهبك؛ السلام هو فضتك؛ السلام هو أرضك. السلام هو حياتك، إلهك هو السلام. يكون لك السلام في كل ما تشتهيه!(1134)
القديس أغسطينوس
الْحَدِيدُ يُسْتَخْرَجُ مِنَ التُّرَابِ،
وَالْحَجَرُ يَسْكُبُ نُحَاسًا [2].
إن كان استخراج الفضة والذهب يتطلب جهدًا أعظم من استخراج الحديد والنحاس، إلا أن المعدنين الآخيرين أكثر نفعًا للإنسان، ولوفرتهما فإن ثمنهما أقل بكثير من الفضة والذهب. يمكن لإنسانٍ أن يعيش بدون الفضة والذهب، لكنه يصعب عليه جدًا، وحاليًا يستحيل عليه أن يعيش بدون الحديد والنحاس. إنها حكمة الله الفائقة جعلت ما هو ضروري للإنسان أكثر وفرة واستخراجه أكثر سهولة، بينما ما هو للترف أقل في الكمية وأصعب في استخراجه.
يرى البابا غريغوريوس (الكبير) أن استخراج هذه المعادن جميعها من فضةٍ وذهبٍ وحديدٍ ونحاسٍ هو من التراب والحجارة، إشارة إلى رجال الله القديسين – مع اختلاف مستواهم الروحي ودورهم في العمل الكرازي والشهادة لله، لكن الكل مُستخرج من التراب والحجارة. كنا ترابًا وحجارة، مشغولين بالزمنيات، قساة القلوب. لكن نعمة الله أقامت منا أناسًا شهودًا لله، ننعم بالشركة في الطبيعة الإلهية من حبٍ وحنوٍ ووداعةٍ وتواضعٍ وطهارةٍ وقداسة إلخ. هذه كلها ليست من عندنا، لكنها عطايا الله المجانية للمؤمنين الجادين في طلب خلاص نفوسهم وخلاص إخوتهم في البشرية.
* “الحديد يستخرج من الأرض” [2]. كأنه يقول في وضوحٍ: رجال القوة الذين بألسنتهم الأحد من السيوف، صاروا حديدًا في هذه المعركة العنيفة في الدفاع عن الإيمان، هؤلاء الذين كانوا وقتًا ما “أرضًا”، في مجال الأعمال الدنيا. فعندما يخطئ الإنسان، يقال له: “أنت تراب وإلى تراب تعود”. وأما “الحديد فيُستخرج من الأرض”، عندما ينفصل محارب الكنيسة الصارم من السلوك الأرضي…
ألم يُستخرج حتى من الأرض، إذ كان مشغولًا بالأمور الأرضية، ذاك الذي كان يخدم في جمع الجزية (مثل زكا العشار)؟ لكنه إذ استخرج من الأرض، تقوى بقوة الحديد، ألزمه الرب بالإنجيل، ممزقًا بلسانه قلوب غير المؤمنين كما بسيفٍ حادٍ. هذا الذي كان قبلًا ضعيفًا ومرتبكًا بالأعمال الأرضية صار فيما بعد قويًا بالكرازة السماوية.
“والحجر يُسكب بالحرارة، فيصير نحاسًا(1135)” ينحل الحجر بالحرارة، عندما يكون القلب قاسيًا وباردًا يتلامس بنار الحب الإلهي، وينسكب في نار الروح المتوهجة. عندئذ تصير له الحياة الملتهبة بحرارة في العمل. بقدر ما كان قاسيًا من قبل في محبته للعالم، يصير قويًا في حبه لله.
البابا غريغوريوس (الكبير)
يرى القديس غريغوريوس النزينزي أن فكر المؤمن التقي يشبه الحديد المستخرج من الصوان أو الحجارة.
* إنهم يشبهون الحديد المستخرج من الصوان يشع نارًا من الذهب الخصب المتأهل للنور، فإن شرارة صغيرة يمكنها أن تشكل شعلة الحق في داخلها بسرعة(1136).
القديس غريغوريوس النزينزي
إذ يتحدث القديس كيرلس الأورشليمي عن قيامة الجسد يقول إنه يصير كالحديد المُحمي بالنار. إنه ذات الجسد الذي لنا في هذه الحياة، لكن بطبيعته نارية تليق بالأبدية.
* لقد دّون هذا خصيصًا، كيف يقول بولس بصراحة: “لأن هذا الفاسد لا بُد أن يلبس عدم فساد” (1 كو 15: 53). إذن هذا الجسد سيقوم ويلبس عدم الفساد ويشكل جديدًا. وكما يمتزج الحديد بالنار ويصبح نارًا، أو الأفضل كما يعرف الرب الذي يقيمنا: هذا الجسد سيقوم لكنه لن يمكث كما هو الآن.
إنه جسم أبدي. لا يحتاج تغذية لحياته كما هو عليه الآن، ولا إلى درجات لصعوده لأنه سيكون روحيًا. إنه لأمر عجيب لسنا جديرين بالكلام عنه، إذ قيل في إنجيل القديس متى البشير: “حينئذ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم” (مت 13: 43)، “وكالقمر وكضياء الجلد” (دا 12: 3)(1137).
القديس كيرلس الأورشليمي
قَدْ جَعَلَ لِلظُّلْمَةِ نِهَايَةً،
وَإِلَى كُلِّ طَرَفٍ هُوَ يَفْحَصُ.
حَجَرَ الظُّلْمَةِ وَظِلَّ الْمَوْتِ [3].
إذ يتحدث أيوب عن استخراج المعادن من بطن الأرض، أي من المناجم المظلمة، فإن الإنسان من أجل حصوله عليها يدخل إلى المناجم ليفحص ما فيها مستخدمًا المشاعل ليضع للظلمة حدًا فلا تعوقه عن تحديد هدفه. إنه يغامر بحياته، ويدخل إلى الوعر من أجل استخراج المعادن.
من ليس له دراية بفن استخراج المعادن يسخر بالباحثين عنها. يتطلع إليهم كمن يعرضون أنفسهم للمخاطر والموت دون هدفٍ. هكذا يستخرج الله من ترابنا وحجارتنا معادن نفيسة في عينيه. لكن كثيرين يجهلون خطة الله فيحسبونه كمن يدخل إلى ظلمةٍ ويفحص أمورًا لا قيمة لها. بمعنى آخر يليق بنا أن نثق في خطة الله وعنايته وعمله من أجلنا. إنه يقدم لنا الخلاص، مهما تكن تكلفته، إذ يرى بسابق معرفته ما سنتمتع به من أمجاد. يرانا ذهبًا وفضة ونحاسًا وحديدًا مستخرجًا من الأرض والحجارة! يستخرج منا نحن الذين كنا ظلمة نورًا. وكما يقول الرسول: “لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، والآن فنور في الرب” (أف 5: 8).
* يقول “جعل للظلمة موضعًا” [3] كمن يقول إن للعقل أيضًا موضع، فإن الظلمة تعرف أن تتراجع خطواتها، وتطمس ذاتها (قبل بزوغ النهار)… إنه يحثنا ألا نطلب محاسبة (الله). يقول: “لماذا توجد الظلمة؟ ألا تعرف الله أنه الكلي القدرة، يفعل كل شيءٍ بحكمةٍ؟”
القديس يوحنا الذهبي الفم
* “قد جعل للظلمة زمانًا، وهو نفسه يفحص كل شيءٍ، وكل أحدٍ(1138)” [3]. لقد وضع بنفسه زمانًا للظلمة، أي وضع حدًا للأشرار، حيث يتوقفون عن كونهم أشرارًا. هكذا يُقال لهم بالرسول: “لأنكم كنتم قبلًا ظلمة، وأما الآن فنور في الرب” (أف 8:5). يقول ذات الرسول العظيم لتلاميذ آخرين: “قد تناهى الليل، وتقارب النهار، فلنخلع أعمال الظلمة ونلبس أسلحة النور. لنسلك بلياقةٍ كما في النهار” (رو 12:13-13). لهذا جاء في نشيد الأناشيد عن مجيء الكنيسة: “من هذه المشرقة مثل الصباح؟” (نش 10:6). تُشَّبه الكنيسة بالصباح، أي بمعرفة الإيمان، تتحول من ظلمة الخطايا إلى بهاء نور البٌر…
إذ يفعل الله ما هو صالح، ويقوم بالتدبير، ولا يفعل ما هو شر، يضبط الأمور التي يفعلها الأشرار حتى لا تسير الأمور إلى ما هو رديء، بل يفحص نهاية كل الأمور ونهاية كل أحدٍ، ويحتمل كل الأشياء في طول أناةٍ، ويرى نهاية المختارين، إذ يتحول الشر بالنسبة لهم إلى الخير…
لقد رأى الله نهاية ما يصل إليه شاول حتى وهو يضطهد (الكنيسة)، يراه يسقط على الأرض يقول: “يا رب ماذا تريد أن أفعل؟” (أع 6:9)…
رأى أهل نينوى يع
تفسير أيوب 27 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 29 |
القمص تادرس يعقوب ملطي | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |