تفسير سفر أيوب ٣ للقمص تادرس يعقوب

الباب الثاني

مرثاة أيوب

أيوب 3

الأصحاح الثالث
مرثاة أيوب

جلس الأصدقاء الثلاثة حول أيوب لمدة أسبوع، الكل في دهشةٍ وصمتٍ من هول الكوارث التي حلت به. غالبًا لم يشعر أيوب بهؤلاء الصامتين، أو لم ينشغل بوجودهم. فجأة عبٌَر أيوب عن المرارة التي في أعماقه، فقدم مناجاة أو مرثاة. لعلها أبلغ مرثاة سُجلت في التاريخ البشري تحمل يأسًا رهيبًا.

يصرخ أيوب في مرارة لكنه لم يسب الله. إنه مثل إرميا يسب يوم ميلاده (إر٢٠: ١٤-١٨). الموت يعني التحرر من الآلام الجسمانية التي في هذه الحياة. اشتهى أيوب الموت، فهو أفضل من الحياة، لكنه لم يفكر في الانتحار، إنما يطلب من الله أن يتدخل ليرحمه من الحياة الحاضرة.

حقًا لم ينطق أيوب بكلمة ضد الله، إذ لم يسبه، إنما سب حياته منذ حُبل به، ليس من أجل حاضره، ولا خشية ما سيحل به في المستقبل، وإنما امتد به اليأس ليكره حياته حتى وهو في رحم أمه. أي يرجع بفكره إلى الماضي الذي لن يعود، ولا يمكن تغييره.

احتفظ هؤلاء الأصحاب بصداقتهم مع أيوب في أيام شدته في الوقت الذي تخلى عنه أغلب أصدقائه. جلس أصدقاء أيوب بجانبه صامتين سبعة أيام وسبع ليالٍ، بعد هذا فتح أيوب فاه وأخذ يتكلم. تنقسم كلماته إلى ثلاث أقسام:

1- سبه ليوم ولادته وتمنيه لو لم يولد 1-10.

2- أنشودة الموت وعذوبته  11-19.

3- لغز بقاء الذين يشتهون الموت 20-26.

سبه ليوم ولادته وتمنيه لو لم يولد

كان ذلك ضعفًا في حياته أن يسب أيوب الحبل به. فمع وصفه أنه مستقيم لعن يومه، لكنه لم يجدف على الله.

بَعْدَ هَذَا فتح أيوب فاه،

وسَبَّ أَيُّوبُ يَوْمَهُ. [1]

جلس حزقيال في أرض السبي، وكانت نفسه تئن من أجل ما بلغ إليه الشعب ومدينته والهيكل من دمار وخراب. صمت سبعة أيام وهو متحير، فصارت إليه كلمة الرب (حز 3: 15-16). وجلس أيوب وسط أصدقائه، وكانت نفسه تئن مما حلّ به، لذا فتح فمه بعد الصمت الطويل ليسب يوم الحبل به ويوم مولده وأيام تجربته.

صمت الاثنان: حزقيال وأيوب، الأول كان ينشغل بما هو لله وشعبه وهيكله ومدينته، والثاني بما هو لنفسه وما يفكر الناس فيه عنه. الأول تمتع بكلمة الله الفائقة، والثاني انحدر إلى اليأس والمرارة وسب حياته.

نحتاج أن نجلس صامتين، لكن نرتفع فوق الأنا لننشغل بما لله والناس لا بما لذواتنا وكرامتنا، حينئذ يرفعنا روح الله القدوس كما إلى السماء، فنسمع الصوت الإلهي ونكتشف الأسرار الإلهية الواهبة الرجاء الحي.

للأسف تطلع أيوب إلى يوم الحبل به كأسوأ يوم في التاريخ، وحسبه بدء انطلاقة لآلامه التي لا تحتمل. لقد نسي ما تمتع به من خيرات. لقد التهمت السنوات العجاف السنوات المملوءة بالبركات. صار فكره سجين المر الذي يعيش فيه، فتطلع إلى حياته كلها بمنظار قاتم للغاية.

ما حلّ بأيوب يحل بالكثيرين حين تطول بهم أيام الضيق. فنسمع إرميا النبي يصرخ: “ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتنني” (إر 15: 10)؛ “ملعون اليوم الذي وُلدتُ فيه” (إر 20: 14).

حينما يغيب عن أعيننا يوم لقائنا الأبدي مع مسيحنا على السحاب ولو إلى لحظات يضيق العالم بنا ونحسب حتى خلقتنا باطلة. “حتى متى يا رب تختبئ كل الاختباء؟… إلى أي باطل خلقت جميع بني آدم؟” (مز 89: 46-47).

هنا نقف قليلاً أمام اهتمام البشرية بأعياد الميلاد منذ قديم الزمن، فنجد الأشرار يجدون في هذا اليوم الفرصة للتعبير عما في قلوبهم من لهوٍ ورغبةٍ جادةٍ في التسلط على الغير، بينما يقف أولاد الله في جديةٍ يتطلعون إلى دخولهم في طريق الآلام. يحسبون يوم ميلادهم هو يوم دخولهم وادي الدموع، ولكن في رجاء حي مفرح أنهم يعبرون إلى الحياة السماوية الجديدة.

v     في أعياد الميلاد حيث تسيطر على (الأشرار) الرغبة في الكلمة المتسلطة، يرقصون ليعَّبروا بحركات أجسامهم عن هذه الكلمة.

لاحظ أحدهم أنه جاء في سفر التكوين عن عيد ميلاد فرعون (تك20:40) حيث يُقال إن الرجل الجامح محب للأمور المتعلقة بأعياد الميلاد. وقد اقتبست عنه ذلك فلم أجد في الكتاب المقدس بارًا ما صنع عيد ميلادٍ له. فقد كان هيرودس أكثر ظلمًا من فرعون المشهور هذا. فالأخير قتل رئيس الخبازين في الاحتفال بعيد ميلاده، أما الأول فقتل يوحنا[153].

العلامة أوريجينوس

أفاض العلامة أوريجينوس في تعليقه علي كلمات إرميا النبي: “ويل لي يا أمي، لأنك ولدتِني إنسان خصام” (إر 10:15)، وقد سبق لي عرضها في تفسير سفر إرميا. هنا أقتبس فقرات صغيرة:

v     من أنا حتى لا أولد إلا لأكون محكومًا علّي، وأكون مُخاصمًا من الناس بسبب عتابي ولومي لهم، وبسب تعاليمي التي أعلمها لكل سكان الأرض[154].

العلامة أوريجينوس

حقًا من اختبر يوم ميلاده الثاني بالماء والروح وصار ابنًا لله لا يسب حتى يوم ميلاده الجسدي، حاسبًا كل آلامه صلبًا ودفنًا مع مسيحه، وطريقًا ضيقًا يدخل به إلى أبواب السماء المفتوحة، وبهجة القيامة الأبدية.

هنا يلزمنا ألا ننكر أنه مع ما بلغه أيوب من مرارة حتى سب يوم الحبل به، لم يجدف على الله، ولا ندم على تعبده له. مع ما نطق به يكشف عن مرارة نفسه، لكنه خضع لمشيئة الله. إنه تحت الآلام مثلتا!

v     بماذا يفهم: “بعد هذا؟” بعد وصول أصحابه… لأن هؤلاء الذين اقتربوا لم يحيوه كمصارعٍ ولم يسألوه: كيف حالك؟  لم يقدموا أدوية للقروح، ولا وقفوا على الثمن الذي ناله أيوب عن كنز فضائله. لم يقولوا له: لا تثبط همتك، فإن معزيك قريب منك، لا تخف فإن عدوك ينهزم. لا تخزى، لأن النهاية ليست ببعيدة، والنصرة على الأبواب.

v     ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه“، ليس اليوم الذي خُلق فيه، بل الذي وُلد فيه… فإن الله خلقتي بالصلاح، لكن حواء التي عصت ولدتني في متاعب (تك3: 16). لم يجهل داود ذلك، بل بالروح فهم وقال في مزمور نبوي: “بالآثام حبلت بي أمي، وفي الخطية ولدتني” (مز 51: 5).

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     يا للعجب الذي يفوق الطبيعة حقًا! وقائع مذهلة!

الموت الممقوت والمشجوب قبلاً، قد أحاطت به المدائح واعتُبر سعيدًا! فبعد أن كان يجلب الحداد والحزن والدموع والغم الكئيب، ها قد ظهر علة فرحٍ ومحط عيدٍ احتفاليٍ!

بالنسبة إلى جميع خدام الله أُعلن موتهم سرورًا! فإن خاتمة حياتهم هي وحدها تعطيهم اليقين بأنهم قُبلوا من الله. لهذا طُوَّب موتهم، لأنه يختم كمالهم، ويُظهر غبطتهم؟، حيث يطغي عليهم رسوخ الفضيلة كقول الوحي: “لا تعتبر أحدًا سعيدًا قبل موته” (سيراخ 11 : 28). لا نطبق عليكِ (يا مريم) هذا القول، لأن غبطتك لا تأتي من الموت، وموتك لم يتمم كمالك… ليس عند موتك، بل منذ هذا الحبل عينه تُغبطين من جميع الأجيال. لا، ليس الموت أبدًا هو الذي جعلكِ مغبوطة،  بل أنتِ طرحتِ الموت وبددتٍ كآبته وأظهرتِ أنه فرح (بالمسيح المولود منكِ)[155].

الأب يوحنا الدمشقي

v     أليس من المخجل أنك تئن بسبب الموت، بينما يتنهد بولس بسبب الحياة الحاضرة، فيكتب إلى أهل رومية: “الخليقة تئن وتتمخض معًا… بل نحن لنا باكورة الروح نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا” (رو 22:8-23). ينطق بهذا لا ليدين الأمور الحاضرة، بل شوقًا نحو الأمور المقبلة[156].

القديس يوحنا الذهبي الفم

وَأَخَذَ يَتَكَلَّمُ فَقَالَ: [2]

يرى القديس يوحنا الذهبي الفم أن صمت الأصدقاء طوال الأسبوع يكشف عن هول ما حدث، وأنهم لم يكونوا قادرين أن ينطقوا بكلمة ما لم يبدأ هو أولاً بالحديث.

لَيْتَهُ هَلَكَ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيه،ِ

وَاللَّيْلُ الَّذِي قَالَ:

قَدْ حُبِلَ بِرَجُلٍ! [3]

غالبًا ما كان أيوب ملكًا أو رئيسًا، وكان يوم ميلاده يومًا يعتز به الشعب، لذا اشتهى لو مُحي هذا اليوم، وطُرح في بحر النسيان، حيث صار منظرًا للبؤس والشقاء.

v     عرف أيوب أن ولادته هي بداية لكل الويلات، لهذا اشتاق لو هلك ذلك اليوم الذي فيه وُلد حتى يُنزع أصل كل المتاعب. لقد اشتهى أن يهلكك يوم ميلاده لكي يتقبل يوم القيامة. فقد سمع سليمان قول أبيه: “عرفني يا رب نهايتي ومقدار أيامي كم هي، فأعلم كيف أنا زائل”. (مز 4:39) فقد عرف داود أنه لا يمكن الاستحواذ على ما هو كامل هنا، لهذا كان مسرعًا نحو الأمور العتيدة. الآن نعرف بعض المعرفة، لكن سيكون ممكنًا نوال الكمال عندما تبدأ الحقيقة – لا الظل – للعظمة الإلهية والأبدية أن تشرق، فنراها بوجه مكشوف (1 كو 12:8)[157].

v     لقد سحبتنا اللذة الجسدية والمتعة في هذا الحياة، وصرنا نخشى أن نكمل هذه الرحلة التي سيكون فيها مرارة أكثر منها مسرة. أما القديسون والحكماء فرثوا طول العمر في هذه الرحلة، إذ حسبوا الانطلاق ليكونوا مع المسيح أكثر مجدًا (في 1: 23). إنهم لم يلعنوا يوم ميلادهم كما فعل أحدهم: “ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه” (أي 3: 3)[158].

القديس أمبروسيوس   

v     هذا ما قاله أيضًا الكارز (الجامعة): “فغبطت أنا الأموات الذين قد ماتوا منذ زمان أكثر من الأحياء الذين هم عائشون بعد” (جا 4: 2)…

إنها كلمات تُعلن عن نفسٍ مثبطة الهمة ومتأثرة للغاية. إذ يقول داود أيضًا: “قلت في حيرتي (خوفي الشديد)…” (مز 31: 22)… وفي عبارة أخرى: “وأنا قلت في طمأنينتي لا أتزعزع إلى الأبد” (مز 30: 6). هذا أيضًا ما قاله أيوب في حزنه. ألا ترون يا أحبائي أن الذين يصيبهم أذى يصدرون صرخات قوية؟ هل تلومونهم؟ لا بل نعفو عنهم! فلو أنهم لم يُعبِروا عن أنفسهم بهذه الوسيلة يبدو كما لو كانوا لا يشتركون في الطبيعة البشرية. أما تسمعون موسى يقول: “إن كنت تفعل بي هكذا فاقتلني قتًلا” (عد 11: 15)…

لا تصغوا إلى الكلمات مجردة، بل ابحثوا عن أساس الفكر. فقد سمعتم أن أيوب “لم يخطئ بشفتيه” (أي 2: 10)، لكنه لم يخطئ حتى بعدما نطق بتلك الكلمات. ها أنتم تسمعون الله نفسه يقول مرة أخرى: “أتعتقد إني أسلك معك بطريقٍ آخر سوى أن أعلن برّك؟” (أي 40: 3 LXX  )

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     ربما تقولون إن الله هو خالق العالم وبانيه (عب 11: 10) [فلماذا لا نحب العالم؟]

إنكم تتكلمون بالحق. لكن حاملي الله يستهينون بالعالم، ليس العالم الذي خلقه الله من العناصر، والذي شكَّله، بل ذاك نحن صنعناه بسلوكنا – إنه عالم مختلف، فاسد، والذي جعلنا العدو المخادع رئيسه (يو 12: 31؛ 14: 30؛ 16: 11).

هذا ما يؤكده الرب بدقة، إذ قال هذا لتلاميذه: “لأن رئيس هذا العالم يأتي، وليس له فيَّ شيء”. (يو 14: 30) إنه ليس بدون سبب يقول: “رئيس هذا العالم”، بل قال هكذا لكي لا تظن أنه يتحدث عن هذه الخليقة المنظورة، فإن عدونا ليس رئيس هذا العالم، والخائن ليس له أدنى سلطان على العناصر.

بأي معنى يقول: “رئيس هذا العالم يأتي”، سوى العالم الذي نصنعه نحن لا حسب مشيئة الله، والذي به نعطي أساسًا لعدم الإيمان والعصيان والفوضى وكل أنواع الخطايا؟

إلى هذا العالم يشير بولس بوضوح طبقًا لكلمة الرب، إذ يقول في رسالته إلى أهل أفسس: “وأنتم إذ كنتم أمواتًا بالذنوب والخطايا، التي سلكتم فيها قبلاً حسب دهر هذا العالم، حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية” (أف 2: 1-2). هكذا نحن شكَّلنا عالمًا شريرًا، وفي هذا العالم جعلنا أنفسنا أغنياء عن الآخرين من مصادر فاسدة…

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     ليقُل: ليته هلك اليوم الذي وُلدت فيه، والليل الذي قال حُبل برجل” [3]، وكأنه يقول: لتهلك البهجة التي تُسرع بالإنسان إلى الخطية، وضعف فكره المتسيب الذي به يصير أعمى كمن قد بلغ إلى الظلمة الموافقة على الشر.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِيَكُنْ ذَلِكَ الْيَوْمُ ظَلاَمًا.

لاَ يَعْتَنِ بِهِ اللهُ مِنْ فَوْقُ،

وَلاَ يُشْرِقْ عَلَيْهِ نَهَارٌ [4].

كان يود لو أن يوم ميلاده كان ظلامًا، لأن نور حياته قد انطفأ، والشمس قد غابت عنه، ولعله أراد أن تكون حياته كلها ليلاً، فينام ولا يقوم.

مع ما بلغه أيوب من تقوى واستقامة وإيمان، إلا أن السفر لا يخفي ضعفاته البشرية، فلا نعجب إن مرّت به أفكار اليأس مشتهيًا لو لم يولد. وقد حذرنا الآباء من الخوف الخاطئ الذي يدفع إلى اليأس.

v     يوجد انسحاق للقلب، روحي ومفيد، وهذا يلمس القلب في أعماقه. ويوجد انسحاق آخر، مضر ومقلق، هذا يقوده إلى الهزيمة فقط (كاليأس)[159].

القديس مرقس الناسك

v     إذا ما أنهكنا العمل (في حفظ الأفكار الصالحة) نسقط في اليأس، لهذا ليتنا نسرع إلى صخرة المعرفة ونتلو المزامير ونعرف الفضائل على أوتار قيثارة المعرفة[160].

الأب أوغريس الراهب

لِيَمْلِكْهُ الظَّلاَمُ وَظِلُّ الْمَوْتِ.

لِيَحُلَّ عَلَيْهِ سَحَابٌ.

لِتُرْعِبْهُ كَاسِفَاتُ (سواد) النَّهَارِ [5].

v     “ليملٍكه الظلام وظل الموت“، حيث أن الظلام بالحقيقة هو عدونا، كما أن المسيح هو النور (يو 8: 12، 9: 5، 12: 46). لهذا السبب عينه (الخائن) هو الظلام.

وكما أن المسيح هو البّر (1 كو 1: 30) هكذا (الخائن) هو خطية.

وكما أنه هو أساس الحياة (مز 36: 9) ورسم جوهره، هكذا الخائن هو “ظل الموت” (عب 1: 3)

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     هل يوجد ما هو مرعب أكثر من الشيطان؟ نعم، فإننا في مقاومته لا نجد درعًا سوى الإيمان (1 بط 5: 9)، إذ هو ترس خفي ضد عدو غير منظور، يرشق سهامًا متنوعة في ليل بهيم (مز 11: 2) ، تجاه غير المتيقظين. فإذ لنا عدو غير منظور يلزمنا الإيمان كعدة حربية قوية، إذ يقول الرسول: “حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16). فإذ يصوب إبليس سهم الشهوة الدنس الملتهب، يُقدم الإيمان صورة الدينونة فيبرد الذهن، وينطفئ السهم[161].

القديس كيرلس الأورشليمي

أَمَّا ذَلِكَ اللَّيْلُ فَلْيُمْسِكْهُ الدُّجَى،

وَلاَ يَفْرَحْ بَيْنَ أَيَّامِ السَّنَةِ،

وَلاَ يَدْخُلَنَّ فِي عَدَدِ الشُّهُورِ [6].

يميز الأب هيسيخيوس بين يومين: يوم المعصية الذي حلّ بالظلام علينا، ويوم المخلص الذي فيه يقول: “اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم” (لو 4: 21). اليوم الأول جلب الظلمة والحزن على البشرية، والثاني يوم الخلاص المفرح حيث تحققت نبوة إشعياء النبي (إش 61: 1-2). فإذ نلتقي بالمخلص لا تعود تُقارن أيامنا الإنجيلية المفرحة بأيام الظلمة القابضة والمفسدة للحياة. لهذا طلب أيوب أن يُلعن يوم ميلاده في الخطية ويستبعد تمامًا ولا يُحسب في عداد أيامه في الرب.

v     ليته يُلعن ذلك النهار والليل، وليحملهما الظلام بعيدًا، لا يدخل في عداد أيام الشهور… ليت هذا اليوم، يوم المعصية، لا يُحصى بين المنافع التي تُعطى لنا بواسطة المخلص. ليته لا يمتزج حزن (الظلام) القادم من اليوم بالبركات التي يهبنا إياها المخلص، ولا تفسدها اللعنة.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

هُوَذَا ذَلِكَ اللَّيْلُ لِيَكُنْ عَاقِرًا!

لاَ يُسْمَعْ فِيهِ هُتَافٌ [7].

لم تعد أذناه تحتملان صوت موسيقى أو هتاف وتهليل، لأنه لا موضع للسرور في أعماقه. وكأنه فقد رجاءه إلى حين.

يشبه القديس أغسطينوس الرجاء بالبيضة التي تحمل في داخلها حياة تقدمها خلال دفء الضيقات والآلام، إذ يقول: [إنها بيضة، وليس بعد (كتكوت). إنها مغلفة بقشرة، لكن لا تنظر إليها هكذا، بل انتظر في صبرٍ، ولتجعلها في دفء فستقدم حياة. اضغط عليها[162].]

v     الرجاء يدفع الإنسان تجاه الأبدية نحو المستقبل، في إيمان عملي، ومثابرة مع فرحٍ وبهجةٍ وسط الآلام[163].

v     لنصغ ولنبتهج في الرجاء حتى وإن كان الحاضر حياة لا تُحب وإنما تُحتمل، إذ تكون لك القوة على احتمال كل تجاربها[164].

v     نفرح بالرجاء متطلّعين إلى الراحة المقبلة، بهذا نسلك ببهجةٍ وسط المتاعب[165].

القديس أغسطينوس

v     الشخص الذي لا يتطلّع إلى ما يمكن أن يُرى، بل ينتظر بشغفٍ ما لا يمكن أن يُرى، هذا يفرح في رجاء[166].

العلامة أوريجينوس

v     ما هو رجاء الإنجيل إلا المسيح؟ فإنه هو سلامنا، الذي يعمل كل هذه الأمور… ومن لا يؤمن بالمسيح يفقد كل شيءٍ[167].

v     الرجاء بالتأكيد يشبه حبلاً قويًا مُدَلَّى من السماوات يُعين أرواحنا، رافعًا من يمسك به بثبات فوق هذا العالم وتجارب هذه الحياة الشريرة، فإن كان الإنسان ضعيفًا وترك هذا الهلب المقدس، يسقط في الحال، ويختنق في هوة الشر[168].

v     ليس شيء يجعل النفس شجاعة هكذا ومحبة للمخاطرة مثل الرجاء! وقبل نوالنا الأمور التي نترجاها يقدم لنا مكافأة هي: “صابرين في التجارب“. قبل نوالنا الأمور المقبلة تتمتع في الحياة الحاضرة بصلاح عظيم خلال التجارب إذ تصير إنسانًا صبورًا ومجرّبًا…

الحب يجعل الأمور سهلة، والروح يعين، والرجاء ينير، والتجارب تصقلك، فتجعلك مُجربًا قادرًا على احتمال كل شيء بشهامة، يرافق هذا كله سلاح عظيم جدًا هو الصلاة[169].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     صبر الإنسان يلد الرجاء، والرجاء الصالح يمجد الإنسان.

القديس أوغريس

لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ،

الْمُسْتَعِدُّونَ لإِيقَاظِ التِّنِّينِ [8].

كما أن النادبات يحضرن الجنازات ويندبن مع أهل الميت وأصدقائه، هكذا حسب يوم ميلاده جنازة مُرّة، فيطلب من اللاعنين أن يتقدموا ويشتركوا معه في لعن هذا اليوم.

يرى البعض أن بعض صيادي التماسيح كانوا يلعنون التماسيح بأشد اللعنات، مؤملين أن يصير التمساح بلعناتهم وتعاويذهم ضعيفًا فيتسلطون عليه.

جاءت الترجمة اليسوعية “لوياثان” عوض “التنين”، وكما سنرى في وصفه في الإصحاح الحادي والأربعين أنه ينطبق على التمساح، فيقصد هنا اللعنات التي يستخدمها السحرة والمنجمون لإثارة الشيطان.

يحذرنا القديس غريغوريوس النزينزي من مقارنة الأمور حسب حجمها أو وزنها. فلا نعجب إن ظهر الروح القدس على شكل حمامة، ودُعي السيد المسيح حملاً (إش 7:53) ولؤلؤة (مت 46:13) وندى (مز 6:72)، بينما دُعي الخصم جبلاً عظيمًا (زك 7:4)، ولوياثان (أي 8:3، 20:40) والملك الذي يعيش في المياه. لا نحتقر ملكوت السماوات لأنه شُبه بحبة خردل (مت 31:13)[170].

لِتُظْلِمْ نُجُومُ عِشَائِهِ.

لِيَنْتَظِرِ النُّورَ وَلاَ يَكُنْ،

َلاَ يَرَ هُدْبَ الصُّبْحِ [9]

v     “لتظلم نجوم عشائه (مسائه)… ولا يُرى لوسيفر يقوم” (3: 9 LXX). ذُكرت نجوم الليل هنا بنور رديء، إشارة إلى الشياطين. إذ يأخذون شكل ملاك نور، ولكن عند شروق النور الحقيقي (يو9:1) يظلمون، ويستمرون في انحرافهم.

هذا ما يقوله النص: “لتبقى مظلمة“. لكنهم لا يأتون إلى النور، إذ لا يستطيعون أن يستردوا طغيانهم.

علاوة على هذا فإنهم سوف لا يرون لوسيفر قائمًا، هذا الذي قال عنه إشعياء: “لوسيفر الذي قام في الصبح” (إش 12:14). بعد ذلك يقول “انسحق على الأرض” ليشير إلى أنه لا يقدر بعد أن يقوم ويرجع إلى كرامته السابقة.

بسقوطه من السماء إلى الأرض أراد أن يحطم الإنسان، لكن الله يعطي من لا يُخدع، سلطانًا أن يسحق المضل تحت قدميه، وأن يحطمه قطعًا قطعًا.

لكن لماذا يلعنه أيوب؟

لسببٍ حسن لا يخفيه (وهو ما ورد في العبارتين 10 و11).

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

يحدثنا القديس أغسطينوس عن هزيمة إبليس الشرير الذي انطفأ نوره المزيف بقتله السيد المسيح حسب الجسد، النور الحقيقي، البار الذي يبدد الظلمة. لقد ظن أنه قادر أن يبدده كما حطم آدم الأول، فإذا به يحطم نفسه.  

v     أي شيء يمكن أن يكون أكثر برًا من البلوغ حتى موت الصليب من أجل البرٌ؟

وأي عمل أعظم سلطانًا من القيامة من الأموات، والصعود إلى السماء بذات الجسد الذي فيه قد قُتل؟

أولاً غلب البٌر الشيطان، وبعد ذلك نال السلطان!

ينتصر البٌر لأن ليس فيه خطية، وقد مات ظلمًا بواسطة الشيطان!

ينال السلطان، لأنه عاش ثانية بعد الموت، ولن يموت بعد…

لقد هُزم الشيطان بذات نصرته…

بخداعه الإنسان الأول ذبحه، وبذبحه للإنسان الأخير فقد الإنسان الأول من شبكته![171]

 القديس أغسطينوس

v     في الكتاب المقدس يُستخدم لقب “النجوم” أحيانًا بخصوص برٌ القديسين المُشرق في ظلمة هذه الحياة، وأحيانًا عن المظهر الباطل للمرائين، الذين يمارسون كل صلاح من أجل مديح الناس. فلو أن صانعي الخير ليسوا كواكب ما كان لبولس أن يقول لتلميذه: “في وسط جيلٍ معوجٍ وملتوٍ تضيئون بينهم كأنوار في العالم” (في 15:2).

مرة أخرى لو لم يوجد بين (أعضاء الكنيسة) من يبدو حسب الظاهر أنهم سالكون بالاستقامة لما وجد البعض الذين بسلوكهم ينالون تكريم الناس لهم، ولما رأى يوحنا النجوم تسقط من السماء، عندما قال: “وذنب التنين يجر ثلث نجوم السماء، فطرحها” (رؤ 4:12).

v     “بروز الفجر” هو بدء الكنيسة في النور، حيث لا يمكن رؤية الأشرار، إذ يُغلق عليهم، ويُلزمون بالانحدار إلى الظلمة خلال ثقل أعمالهم الشريرة، فلا يرون الديان البار. هكذا بحق قيل بالنبي: ليُنزع الشرير من الطريق، فلا يرى مجد الله (إش 10:26 LXX).

البابا غريغوريوس (الكبير)

لأَنَّهُ لَمْ يُغْلِقْ أَبْوَابَ بَطْنِ أُمِّي،

وَلَمْ يَسْتُرِ الشَّقَاوَةَ عَنْ عَيْنَيَّ [10].

لقد خانته حكمته، فاشتهي أيوب أمرًا غاية في القسوة، وهو لو أن أمه ولدته قبل الموعد، فانفتح رحمها ليخرج سقطًا ميتًا، وتتعرض هي للخطر بل وللموت. صورة مؤلمة للغاية بسبب التذمر!

يقدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) تفسيرًا رمزيًا رائعًا لهذه العبارة حيث يرى المؤمن يعود إلى الأبوين الأولين وهما في الفردوس كما في رحم الأم، وكان يود أن يولد هناك ولا تنفتح أبواب الفردوس لطرده بواسطة الحية. يقول إن الحية قد فتحت فم هذا الرحم ليخرج الإنسان من الجنة المفرحة، ويحيا في وادي الموت. إنه يشتهي لو أن باب الفردوس الأول بقي مغلقًا لتُولد البشرية وتتكاثر في فرحٍ سماويٍ مفرحٍ.

  1. تعجبه لماذا لم يمت ويمضي إلى القبر حالما ولد

تمنى لو كان قد مات عقب ولادته مباشرة، فهو يعتقد أن هذا كان أفضل له، فسيكون مع “ملوك ومشيري الأرض”، في راحة وهدوء في القبر. فالموت أفضل من الحياة.

  1. أنشودة الموت وعذوبته

 إذ قدم مرثاة، مشتهيًا لو كان قد مات في الرحم، تطلع إلى حياته بآلامها ونكباتها فاستعذب الموت، مقدمًا قصيدة عن الموت الأكثر عذوبة من الحياة الزمنية إن صح التعبير. رأى في الهاوية خلاصًا مما يعنيه على الأرض.

قدم لنا البابا غريغوريوس (الكبير) في إسهاب تفسيرًا رمزيًا لأنشودة الموت وعذوبته، فرأى في أيوب أنه اشتهى أن يموت في الرحم، أي مع أبويه آدم وحواء في الفردوس قبل خروجه إلى العالم الذي وُضع في الشرير، كما رأينا. ويرى في لقائه في القبر مع الملوك ومشيري الأرض لقاء مع جبابرة الإيمان والقادة الروحيين، حيث يستريح الكل بحياة أبدية واحدة، ليس فيها من يئن أو يتألم، ولا من صغير يحسد كبير “الأسرى يطمئنون، ولا يسمعون صوت المُسخر، الصغير كما الكبير هناك، والعبد حُرٌَ من سيده” (18:3-19).

لِمَ لَمْ أَمُتْ مِنَ الرَّحِمِ؟

عِنْدَمَا خَرَجْتُ مِنَ الْبَطْنِ،

لِمَ لَمْ أُسْلِمِ الرُّوحَ؟ [11]

ربما أدرك أيوب خطأه حين اشتهي لو تعرضت أمه للخطر بنزوله سقطًا قبل موعده ميلاده، عاد ليصحح الأمر، فاشتهي لو أنه وُلد ومات فورًا بعد خروجه من رحم أمه.

تطلع أيوب إلى الحياة منذ ولادته أنها لعنة ونكبة له، وحسب الموت أعظم بركة كانت تحل عليه. على عكس هذا يقدم إرميا النبي وسط مرثاته المرة تسبحة شكر لله على “عطية الحياة“، فيقول: “إنه من احسانات الرب أننا لم نمت من الرحم، ولم نفنَ” (مرا 3: 22).

جاء في قصة خرافية أن شخصًا متقدمًا في السن تعب جدًا من حمله شيئًا ثقيلاً، فطرح الحمل على الأرض، وفى يأسه استدعي الموت. وإذ جاء الموت وسأله ماذا يطلب ظانًا أنه يطلب أن يأخذ نفسه ويموت، فوجئ به يقول: “أرجو أن تساعدني على حمل حملي الثقيل[172]”.

قدم لنا أيوب مرثاة يتغنى فيها بعشقه للموت المبكر منذ لحظات ولادته ويمتدح فيها القبر. وكأن الموت والقبر قد صارا صديقين حميمين له. أما وقد جاء السيد المسيح بإرادته وسلطانه إلى الموت والقبر محولاً ذلك إلى أغنية مفرحة، لا يترنم بها اليائسون، بل المملئون رجاء في السماويات، طالبو الشركة في المجد الأبدي، والمشتهون للالتقاء بأصدقائهم السمائيين، يشاركونهم تسابيحهم.

بالمسيح يسوع المصلوب واهب القيامة نتغنى: “إن عشنا فللرب نعيش، وإن متنا فللرب نموت، فإن عشنا وإن متنا فللرب نحن” (رو 14: 8).

لِمَاذَا أَعَانَتْنِي الرُّكَبُ،

وَلِمَ الثُّدِيُّ حَتَّى أَرْضَعَ؟ [12]

يرفض البابا غريغوريوس (الكبير) التفسير الحرفي للعبارتين 11-12، متطلعًا إلى أيوب الطوباوي الذي وُهب معرفة روحية سامية هكذا، وقدم تسابيح للديان في أعماقه لا يمكن أن يشتهي لو مات خلال الإجهاض، أو عند ولادته مباشرة. إنما يرى في هاتين العبارتين أيوب البار وهو ينتحب سواء لارتكابه الخطية في القلب أو ممارستها عمليًا. يقول أنه يوجد أربع طرق لارتكاب الخطية قلبيًا، وأربع طرق مماثلة لارتكابها عمليًا، مشتهيًا لو أنها بادت في مراحلها قبل أن تبلغ نضوجها الكامل. هذه المراحل الأربع هي:

أ. الحبل بها في الرحم: وهي المرحلة الأولى حيث تبدأ في القلب بتقديم الاقتراح، أما من جهة العمل فالممارسة تتم خفية.

ب. خروجها من الرحم أو ولادتها: وهي المرحلة الثانية، حيث يتحول الاقتراح إلى لذة في القلب، أما من جهة العمل فتتحول من ممارسة خفية إلى ممارسة علنية أمام أعين الناس بلا حياء.

ج. إعانة الركب لها: المرحلة الثالثة حيث تتحول من اللذة القلبية إلى الموافقة والقبول الداخلي. أما من جهة العمل فتتحول من ممارسة علنية إلى عادة يُستعبد لها الخاطي.

د. الرضاعة من الثدي: المرحلة الأخيرة، حيث تتحول من القبول للخطية إلى الدفاع عما يرتكب الخاطي كمن لم يخطئ. وبالنسبة للعمل تتحول من عادة إلى نضوج كامل في ممارسة الخطية.

 

المراحل الأربع الخطية في القلب الخطية بالعمل
(1) الحبل بها في الرحم اقتراح الخطية ارتكابها خفية
(2) الخروج من الرحم أو ولادتها لذة قلبية ارتكابها علنًا بلا حياء
(3) مساندة الركب لها موافقة قلبية داخلية تحولها إلى عادة
(4) إعالة الثديين للطفل أو الرضاعة الدفاع عن الخطأ نموها ونضوجها

يختم البابا غريغوريوس حديثه هذا قائلاً:

[يليق بنا أيضًا أن نعرف أن الطرق (المراحل الثلاثة الأولى) يمكن إصلاحها بسهولة… أما (المرحلة) الرابعة فلا يمكن إصلاحها إلا بصعوبة.

هكذا أقام مخلصنا الصبية في البيت، والشاب خارج الباب، أما لعازر فأقامه في القبر. فمن يرتكب الخطية سرًا يكون كميتٍ ملقى في البيت. أما الذي يرتكب الخطية علانية فيكون قد حُمل خارج الباب، يرتكب الخطية في غير خجل علانية. أما من يرتكب الخطية مرة ومرات تحت ضغط العادة فيكون قد سقط في كومة القبر.

ومع هذا فإن هؤلاء جميعًا يردهم المخلص برحمته إلى الحياة، إذ غالبًا ما تشرق النعمة في هذه الحالة بنورها على الأموات ليس بالخطايا الخفية فحسب، بل وعلى من يمارسها علانية، ومن يسقط تحت ضغط العادة…

لكن مخلصنا لا يقيم أصحاب الطريق الرابع إلى الحياة. حقًا إنه يصعب على الذي يستمر في عادته الشريرة، متمسكًا بألسنة المتملقين (مدافعًا عن الخطأ) أن يُشفى من موت النفس. عن هذا قيل: “دعْ الموتى يدفنون موتاهم” (لو 60:9). فالموتى يدفنون موتاهم.]

هكذا يرى البابا غريغوريوس في المرحلة الرابعة من الخطية وهي الدفاع عن الخطأ والتستر عليه، هو بلوغها إلى النضوج وعدم إمكانية القيامة من موتها حتى يعترف الخاطي بخطيته ولا يبرر خطأه أو يعطي لنفسه عذرًا كما فعل كل من آدم وحواء.

لأَنِّي قَدْ كُنْتُ الآنَ مُضْطَجِعًا سَاكِنًا.

حِينَئِذٍ كُنْتُ نِمْتُ مُسْتَرِيحًا [13]

يقدم لنا البابا غريغوريوس تبريرًا لمرارة نفس أيوب. إنه يتطلع إلى ما كان يمكن للإنسان أن يبلغ إليه لو لم تدخل الخطية إلى حياته. يقول:

[وُضع الإنسان في الفردوس، وقد التصقت به قيود الحب ليتبع خالقه في طاعة، بهذا كان يمكن أن يُنقل يومًا ما إلى مدينة الملائكة السمائية حتى بدون موت الجسد. فقد خُلق خالدًا بطريقة يمكن بها أن يموت إن أخطأ، فيصير قابلاً للموت. أما لو لم يخطئ فكان يمكنه أن يبقى بدون موت، وبكامل حريته ينال الطوبى التي لعالمٍ ليس فيه إمكانية الخطأ ولا الموت.

منذ وقت الفداء يُرسل المختارون خلال موت أجسادهم إلى ذات الموضع الذي كان يجب أن يبلغه الأبوان الأولان دون موت الجسد لو أنهما بقيا ثابتين فيما خُلقًا عليه. بهذا لبقي الإنسان “مضطجعًا مستريحًا“، يبلغ مدينته الأبدية في راحة. لكان قد وجد فيها موضع راحة وسكون من صخب الضعف البشري…

هذا السكون الذي للسلام تمتع به الإنسان عندما خُلق وتقبل حرية إرادته ليواجه عدوه. لكنه إذ خضع له بإرادته، للحال وُجد الضعف البشري حالاً فيه. فمع أنه قد خُلق بواسطة خالقه في حالة سكون مملوء سلامًا، لكنه ما أن انحنى تحت عدوه بإرادته حتى سقط تحت صخب الحرب. صارت اقتراحات الجسد نفسه نوعًا من الصرخة ضد راحة الذهن، الأمر الذي لم يكن يعرفه الإنسان قبل العصيان، ذلك لأنه لم يكن يوجد وربط نفسه بخطاياه صار يخدمه في أمور بغير إرادته، وعانى من صخب الفكر، إذ يصارع الجسد ضد الروح.]

v     الفرح بخليقة الله أمر مرغوب فيه، أن يصير الشخص رجلاً (ناضجًا) يتقبل صورة الله فهذه سعادة. أما التسكع في الحياة الدنسة، والافتنان من أجل أناسٍ كثيرين، فهذا يبغضه الأبرار.

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

مَعَ مُلُوكٍ وَمُشِيرِي الأَرْضِ،

الَّذِينَ بَنُوا أَهْرَامًا لأَنْفُسِهِمْ [14]

حسب أيوب الموت راحة مع ملوك الأرض ومشيريهم، هؤلاء الذين أرادوا تخليد ذكراهم ببناء الأهرامات والمدافن الضخمة الفاخرة، لكن أحدًا ما لم يعد قادرًا على التمييز بين ترابهم. فالأهرامات والذهب والفضة وكل ما خلفوه لم يعد يمثل شيئًا.

يرى البابا غريغوريوس أن الملوك هنا هم الأرواح الملائكية التي كرست طاقتها لخدمة خالق كل الكائنات التي تخضع لهم. وهم أيضًا يدعون مشيرين لأنهم يقدمون مشورة للعالم الروحي حيث يضموننا إليهم كشركاء معهم في الملكوت.

أَوْ مَعَ رُؤَسَاءَ لَهُمْ ذَهَبٌ الْمَالِئِينَ بُيُوتَهُمْ فِضَّةً [15]

كان من عادة الملوك والعظماء أن يضعوا ذهبًا وفضة في مقابرهم كنوعٍ من التكريم حتى بعد الموت، وربما لكي لا تختلط جثثهم بجثث الفقراء. لكن الموت لا يميز بين عظيمٍ وحقيرٍ، غنيٍ وفقيرٍ، سيدٍ وعبدٍ. كما يقول الحكيم: ” الغني والفقير يلتقيان” (أم 22: 2).

يرى البابا غريغوريوس أن الرؤساء هم قادة الكنيسة المقدسة يملأون بيوتهم بكلمة الله، الذهب المنقى بالنار (مز 6:12).

أَوْ كَسِقْطٍ مَطْمُورٍ،

فَلَمْ أَكُنْ كَأَجِنَّةٍ لَمْ يَرُوا نُورًا [16].

في القبر بعد انحلال الجسم ليس من يقدر أن يميز بين تراب ملك أو عظيم أو سقط مطمور لم يخرج قط إلى الحياة في العالم. يرى أيوب أن الأجنة التي ماتت قبل أن ترى نور الحياة هي في راحة أسعد مما هو عليه، إذ يشتهي النوم ليستريح فلا يجده.

اشتهي أيوب النوم ولو كجنينٍ لم ينظر العالم، ولم يدرك أن الراحة الحقيقية هو في المسيح يسوع الذي فيه وحده ننام – أي ندفن معه – لنقوم إلى الحياة الأبدية في مجدٍ فائق لا يُعبر عنه.

يرى البابا غريغوريوس أن السقط المطمور الذي يستريح هم المختارون منذ بدء العالم وعاشوا قبل الخلاص ومع ذلك ماتوا عن العالم، هؤلاء الذين لم يكن لهم لوحا الشريعة، فماتوا كما في الرحم، وخشوا الله خلال الناموس الطبيعي. لقد آمنوا أن الشفيع قادم، فجاهدوا ما استطاعوا؛ أماتوا أنفسهم عن الملذات، وحفظوا المفاهيم التي لم تكن بعد قد سجلها الناموس. هذه الفترة ما قبل الناموس قدمت لنا آباءنا أمواتًا من أجل هذه الحياة، كانوا أشبه بأجنةٍ قد ماتت في الرحم.

 قدم لنا هذا البابا أمثلة السقط:

 أ. هابيل: الذي لم نقرأ عنه أنه قاوم أخاه حين قتله.

 ب. أخنوخ: الذي تزكى، فسار مع الله وانتقل.

 ج. نوح: الذي بحكمٍ إلهيٍ صار الوحيد (مع أسرته) حيًا.

 د. إبراهيم: سائح في العالم، لأنه خليل الله.

 هـ. اسحق: سائح بعينيه الجسديتين الضعيفتين بسبب الشيخوخة، لم يرَ الأمور الحاضرة، وإنما استنار بروح النبوة، ليرى الأمور المقبلة ببصيرةٍ فائقةٍ فوق العادة.

 و. يعقوب: في تواضع هرب من سخط أخيه، وبلطفه غلبه. كان مثمرًا في نسله، وأكثر إثمارًا في غنى الروح، فربط نسله بقيود النبوة.

هُنَاكَ يَكُفُّ الْمُنَافِقُونَ عَنِ الشَّغَبِ،

وَهُنَاكَ يَسْتَرِيحُ الْمُتْعَبُون [17].

يضع الموت حدًا نهائيًا لظلم الأشرار الذين لا يكفوا عن مقاومة الحق واضطهاد أولاد الله، فالموت أنهى ما فعله هيرودس مضطهد الكنيسة (أي 12: 1-6، 23). والموت يهب راحة صادقة للذين احتملوا الاضطهاد بشكرٍ من أجل الله. “اكتب طوبى للأموات الذين يموتون في الرب منذ الآن. نعم يقول الروح، لكي يستريحوا من أتعابهم، وأعمالهم تتبعهم”. (رؤ 14: 13). “من وجه الشر يُضم الصديق، يدخل السلام، يستريحون في مضاجعهم” (إش 57: 1-2).

v     يأتي عندئذ المديح للموت، فشكرًا له، إذ ينزع البعض عن الشر، ويتحرر آخرون من بؤسهم، هؤلاء الذين يجدون فيه ملجأ ضد شرورهم، وأولئك يجدون فيه عائقًا يمنع خبثهم.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الأَسْرَى يَطْمَئِنُّونَ جَمِيعًا.

لاَ يَسْمَعُونَ صَوْتَ الْمُسَخِّرِ [18].

كثيرًا ما يشتهي الأسرى الموت ليستريحوا من المذلة. وقد فضل شمشون أن يموت مع كل الذين كانوا يسخرون به عن أن يعيش يطحن “في بيت السجن” (قض 16: 21).

v     يبطل الموت كل شيءٍ. ليس فقط لا تعود توجد إمكانية لمساندة الشر، وإنما لا يعود حتى مجرد صوت الشر يصل إلى الأذنين.

القديس يوحنا الذهبي الفم

الصَّغِيرُ كَمَا الْكَبِيرُ هُنَاكَ،

وَالْعَبْدُ حُرٌّ مِنْ سَيِّدِهِ [19].

بالموت يتساوى الكل المُسخر مع الذي تحت السخرة، الكبير مع الصغير. يرقد الكل معًا في القبر الذي لا يميز بين هذا وذلك.

v     لا يستطيع أحد أن يفلت من سلطانه، ليس عبد ولا حر. كل الأمور البشرية تبيد بالموت: الغنى كما الكرامة. عدم التساوي في هذه الحياة الحاضرة ضخم. عظيمة هي الحرية بعد رحلينا إلى هناك.

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     أضيف: “والعبد حُر من سيده“، إذ مكتوب: “كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية” (يو 34:8)… في هذه الحياة الحاضرة يهرب العبد بالفعل من سيده، لكنه ليس حرًا منه… أما هناك فالعبد حر من سيده. هناك لا يعود يوجد شك من جهة غفران الخطية، عندما لا يعود تذَّكر الخطية يدين النفس. تصير النفس في أمان، فلا يرتعب الضمير بسبب الشعور بالجريمة، وإنما يتهلل بالغفران وتمتعه بالحرية,

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     يقود الموت إليه عبيدًا وسادتهم, وهناك لا يكرم السادة أكثر من خدمهم[173].

 القديس أفراهاط

  1. لغز بقاء الذين يشتهون الموت

في دهشة يتطلع أيوب إلى الذين يشتهون الموت فلا يجدونه، فإن الله يحوط حولهم كما بسياجٍ، ليمارسوا حياة الألم دون ادراك خطة الله من نحوهم.

عندما وجد أيوب أنه لا يجديه أن يتمنى لو لم يولد، أو لو كان قد مات حالما وُلد، نراه يشكو هنا من أن حياته استمرت باقية دون أن تُقطع، صرخ لطول فترة التجربة. وقد برر رغبته الشديدة في الموت بالآتي:

1- كان يحس بصفة مستمرة بالتعب وسط ضيقاته الشديدة التي كانت تبدو إنها ستظل مستمرة.

2- حتى في أيام رخائه الأولى كان دومًا يخاف من المتاعب، ولذلك لم يكن قط يحس بالراحة، ولذلك قال “لم أطمئن، لم أسكن، لم استرح”.

مع شهادة يعقوب الرسول لأيوب “قد سمعتم بصبر أيوب” (يع 5: 11)، ومع احتماله كل هذه التجارب دون أن يخطئ، ومع ما رآه على ملامح أصدقائه من حزنٍ شديدٍ على حاله فتح فاه لينطق. بدأ يشتكي من أنه وُلد، وأنه لم يمت حين وُلد، وأن حياته طالت في محنته. لقد صبر طويلاً، لكن لم يعد بعد يحتمل. فإنه مهما بلغ صبر الإنسان فليدرك أنه ضعيف ومعرض للسقوط. وكأن السفر ينذرنا مع الرسول بولس: “من يظن أنه قائم فلينظر لئلا يسقط” (1 كو 10: 12).

لِمَ يُعْطَى لِشَقِيٍّ نُورٌ،

وَحَيَاةٌ لِمُرِّي النَّفْسِ؟ [20]

يشكو أيوب هنا من أن حياته استمرت ولم تنقطع. إنه يتعجل الموت مرحبًا بقدومه. مع أن النور عطية صالحة، لكن في وسط مرارته حسب هذا النور يزيد من شقائه. شمعة حياته، وُهبت له لكي يرى ما عليه من شقاء، وكان خير له لو لم يكن له هذا النور.

v     كل الأبرار في أحزان في هذه الحياة (مز 19:34)، هؤلاء الذين قيل عنهم: “بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع 21:14). “أكلوا الرماد مثل الخبز، ومزجوا شرابهم بالدموع” (راجع مز 9:102). يرغبون في العبور خلال التجارب هنا شاكرين هذه الوسائل. إنهم هكذا في حزنٍ كداود يعلنون بمثل هذه العبارات: “أعوم في كل ليلة سريري، بدموعي أذوب فراشي” (مز 6:6).

أما أن الأبرار يشتهون الموت، إذ “ينقبون عنه كما عن كنوز”، فإن إيليا يؤكد لي ذلك بالعبارات: “كفى الآن يا رب، خذ نفسي لأنني لست خيرًا من آبائي” (1 مل 4:19).

أيضًا صادق بولس على هذا عندما أراد تلاميذ قيصرية أن يمنعوه من الصعود إلى أورشليم، إذ قال: “ماذا تفعلون؟ تبكون وتكسرون قلبي، لأني مستعد ليس أن أربط فقط، بل أن أموت أيضًا في أورشليم (أع 13:21).

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     الذين يعيشون في الملذات يهابون الموت، أما الحزانى فيترجونه لكي يرحلوا سريعًا.

الأغنياء يهابون الموت، والفقراء يشتهونه لكي يستريحوا من أتعابهم.

الأقوياء يرتعبون عندما يذكرونه، والمرضى يتطلعون إليه في رجاء ليستريحوا من آلامهم[174].

الأب أفراهات

v     عندما يُصاب الصالحون بشرورٍٍٍٍٍٍٍٍٍ والأشرار بالخيرات، هذا ربما لأجل نفع الصالحين كي ينالوا عقوبة (تأديبًا) هنا إن كانوا قد أخطأوا في شيء، حتى يتحرروا تمامًا من الدينونة الأبدية. ويجد الأشرار خيرات هنا تُقدم خلاصًا لهم في هذه الحياة حتى يُسحبوا إلى العذابات القادمة الكاملة. لهذا قيل للغني وهو يحترق في جهنم: “يا ابني اذكر إنك استوفيت خيراتك في حياتك وكذلك لعازر البلايا” (لو 16: 25)…يسير القديسون في رعبٍ أعظم خائفين من ترف هذا العالم أكثر من المخاطر.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     من جهة الراحة، ماذا نجد في العالم سوى حربًا دائمة مع الشيطان، وصراعًا في معركة دائمة ضد سهامه وسيوفه؟! حربنا قائمة ضد محبة المال والكبرياء والغضب وحب الظهور، وصراعنا دائم ضد الشهوات الجسدية وإغراءات العالم.

ففكر الإنسان يحاصره العدو من كل جانب، وتحدق به هجمات الشيطان من كل ناحية. وبالجهد يقدر للفكر أن يدافع، وبالكاد يستطيع أن يُقاوم في كل بقعة. فإن استهان بحب المال، ثارت فيه الشهوات. وإن غلب الشهوات انبثق حب الظهور. وإن انتصر علي حب الظهور اشتعل فيه الغضب والكبرياء، وأغراه السُكر بالخمر، ومزّق الحسد وفاقه مع الآخرين، وأفسدت الغيرة صداقاته.

هكذا تعاني الروح كل يوم من اضطهاداتٍ كثيرةٍ كهذه ومن مخاطرٍ عظيمةٍ كهذه تضايق القلب، ومع هذا لا يزال القلب يبتهج ببقائه كثيرًا هنا بين حروب الشيطان! مع أنه كان الأجدر بنا أن تنصب اشتياقاتنا ورغباتنا في الإسراع بالذهاب عند المسيح، عن طريق الموت المعجل. إذ علمنا الرب نفسه قائلاً: “الحق الحق أقول لكم أنكم ستبكون وتنوحون والعالم يفرح؛ أنتم ستحزنون، ولكن حزنكم يتحول إلي فرح” (يو20:16).

من منّا لا يرغب في أن يكون بلا حزن؟!

من منّا لا يتوق إلى الإسراع لنوال الفرح؟!

لقد أعلن الرب نفسه أيضًا عن وقت تحويل حزننا إلي فرح بقوله: “ولكن سأراكم أيضًا فتفرح قلوبكم ولا ينزع أحد فرحكم منكم” (يو 20:16). مادام فرحنا يكمن في رؤية المسيح… فأي عمى يُصيب فكرنا، وسخافة تنتابنا متى أحببنا أحزان العالم وضيقاته ودموعه أكثر من الإسراع نحو الفرح الذي لا ينزع عنا؟![175]

v     يا له من نفع نقتنيه بخروجنا من هذا العالم!

لقد حزن التلاميذ، عندما أعلن لهم المسيح أنه سينطلق، فقال لهم: “لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلت أمضي إلي الآب” (يو 28:14)، معلِّمًا إيانا أن نفرح عند رحيل أحد أحبائنا من هذا العالم ولا نحزن، متذكرين حقًا قول الرسول الطوباوي بولس: “لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح” (في 21:1).

نحسب في الموت أعظم ربح، الأمر الذي لا نقدر أن نقتنيه بواسطة شباك هذا العالم أو نجتنيه بواسطة خطايا الجسد ورذائله. فبالموت نترك الأتعاب المؤلمة ونتخلص من أنياب الشيطان السامة، لنذهب إلي دعوة المسيح لنا متهللين بالخلاص الأبدي[176].

الشهيد كبريانوس

الَّذِينَ يَنْتَظِرُونَ الْمَوْتَ وَلَيْسَ هُوَ،

وَيَحْفُرُونَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنَ الْكُنُوزِ [21]

بقوله : “يحفرون عليه أكثر من الكنوز” يكشف عن استعداده لبذل كل إمكانية للبحث عن الموت كمن يبحث عن أعظم كنز يقتنيه.

لم يفكر أيوب قط في الانتحار بالرغم من بحثه عن الموت بأية تكلفة، فإن حياته في يد إلهه، ليس له أن ينهيها بنفسه.

v     أولئك الذين يطلبون الإماتة بكمال يبحثون عنه كمن ينقبون عن كنوز خفية، فكلما اقتربوا بالأكثر إلى هدفهم أظهروا غيرة أعظم في العمل.

البابا غريغوريوس (الكبير)

v     إن موت الأبرار صار رقادًا، بل صار هو الحياة.

 القديس باسيليوس الكبير

تطلع القديس غريغوريوس النزينزي إلى أخته الأكبر منه القديسة جورجونيا كنموذجٍ حيٍّ للمسيحي، وقد تأثر بها جدًا إذ كان مغرمًا بتقواها وورعها. وأوضح كيف استعدت للموت بلا خوف، بل اشتاقت إليه:

v     موطن جورجونيا كان أورشليم العليا (عب 22:12، 23)… التي يقطنها المسيح، ويشاركه المجمع وكنيسة الأبكار المكتوبين في السماء…

v     كل ما استطاعت أن تنتزعه من رئيس هذا العالم أودعته في أماكن أمينة. لم تترك شيئًا وراءها سوى جسدها. لقد فارقت كل شيء من أجل الرجاء العلوي. الثروة الوحيدة التي تركتها لأبنائها هي الإقتداء بمثالها، وأن يتمتعوا بما استحقته.

v     هنا أتكلم عن موتها وما تميزت به وقتئذٍ لأوفيها حقّها… اشتاقت كثيرًا لوقت انحلالها، لأنها علمت بمن دعاها وفضّلت أن تكون مع المسيح أكثر من أي شيء آخر على الأرض (في 23:1).

تاقت هذه القديسة إلى التحرر من قيود الجسد والهروب من وحل هذا العالم الذي نعيش فيه. والأمر الفائق بالأكثر أنها تذوقت جمال حبيبها المسيح إذ كانت دائمة التأمل فيه.

كانت تعلم مسبقًا ساعة رحيلها عن هذا العالم، الأمر الذي ضاعف من فرحتها. ويبدو أن الله أعلمها به حتى تستعد ولا تضطرب حينئذٍ.

قضت كل حياتها لتغتسل من الخطية وتسعى لإدراك الكمال. ونالت موهبة التجديد المستمر بالروح القدس وصارت ثابتة فيه بحسب استحقاق حياتها الأولى…

لم تغفل عن التضرع من أجل زوجها أيضًا حتى يُدرك الكمال، وقد استجاب الله لطلبتها إذ أرادت أن يكون كل ما يمت لها بصلة في حالة الكمال الذي يريده الله منا، فلا يكون شيء ناقصًا أمام المسيح من جهتها.

وإذ جاءت النهاية أدلت بوصيتها لزوجها وأولادها وأصدقائها كما هو المتوقع من مثل هذه القديسة المحبة للجميع.

كان يومها الأخير على الأرض يوم احتفال مهيبًا، ولا نقول أنها ماتت شبعانة من أيام بني البشر، فلم تكن هذه رغبتها، إذ عرفت أنها أيام شريرة تلك التي بحسب الجسد وما هي سوى تراب وسراب. وبالأحرى كانت شبعانة من أيام الله… وهكذا تحررت، بل الأفضل أن نقول أنها أُخذت إلى إلهها أو هربت أو غيرت مسكنها أو أسلمت وديعتها عاجلاً.

في وقت نياحتها خيّم صمت مهيب، وكأن مماتها كان بمثابة مراسيم دينية.

رقد جسدها وكأنه في حالة شلل بعد أن فارقته الروح، فصار بلا حراك.

لكن أباها الروحي الذي كان يلاحظها جيدًا أثناء هذا المنظر الرائع شعر بها تتمتم واسترق السمع، وإذ به يسمعها تتلو كلمات المرتل: “بسلامة اضطجع أيضًا وأنام” (مز 8:4). مبارك هو من يرقد وفي فمه هذه الكلمات.

هكذا ترنمتِ أيتها الجميلة بين النساء، وصارت الترنيمة حقيقة. ودخلتِ إلى السلام العذب بعد الألم، ورقدتِ كما يحق للإنسانة المحبوبة لدى الله التي عاشت وتنيحت وسط كلمات الصلاح.

كم ثمين هو نصيبكِ! إنه يفوق ما تراه العين في وسط حشدٍ من الملائكة والقوات السمائية، إنه مملوء بهاءً ونقاوة وكمالاً!

يفوق كل هذا رؤيتها للثالوث القدوس، فلم يعد ذلك بعيدًا عن الإدراك والحس اللذان كانا قبلاً محدودين تحت أسر الجسد.

أرجو أن تقبل روحك هذا المديح مني كما فعلت مع أخي قيصريوس. فقد حرصت على النطق بالمديح لإخوتي.

القديس غريغوريوس النزينزي

v     الموت بالنسبة للذين يفهمونه خلود، أما بالنسبة للبلهاء الذين لا يفهمونه فهو موت.

يجب علينا ألا نخاف هذا الموت، بل نخاف هلاك النفس الذي هو عدم معرفة الله. هذا هو ما يرعب النفس بحق!

v     يستحيل علينا أن نهرب من الموت بأية وسيلة. وإذ يعرف العقلاء بحق هذا، يمارسون الفضائل ويفكرون في حب الله، ويواجهون الموت بلا تنهدات أو خوف أو دموع، مفكرين في أن الموت أمرٌ محتم من جهة، ومن جهة أخرى أنه يحررنا من الأمراض التي نخضع لها في هذه الحياة.

القديس أنطونيوس الكبير

الْمَسْرُورِينَ إِلَى أَنْ يَبْتَهِجُوا الْفَرِحِينَ عِنْدَمَا يَجِدُونَ قَبْرًا [22].

v     هكذا كان بولس يرى أولئك التلاميذ كأموات وكمن دُفنوا في قبر التأمل، هؤلاء الذين قال لهم: ” قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله” (كو 3:3). من يبحث عن الموت يبتهج عندما يجد القبر، لأن من يرغب في الإماتة يتهلل بالأكثر عندما يجد راحة التأمل، فإنه إذ يموت عن العالم، يستتر ويخفي نفسه في حضن الحب الداخلي عن كل اضطرابات الأمور الخارجية.

البابا غريغوريوس (الكبير)

لِرَجُلٍ قَدْ خَفِيَ عَلَيْهِ طَرِيقُهُ،

وَقَدْ سَيَّجَ اللهُ حَوْلَهُ [23].

لم يكن له أمل في تحسين حاله؛ لم يرَ بابًا للنجاة، ولا طريقًا يسلكه، إذ كان الله قد سيَّج حوله، فصار كمن في موضعه عاجزًا عن الحركة. وكما قيل في هوشع: “هأنذا أُسيج طريقك بالشوك، وأبني حائطها حتى لا تجد مسالكها” (هو 2: 6). وكما صرخ إرميا: “سيَّج طرقي بحجارة منحوتة، قَلَبَ سبلي” (مرا 3: 9).

v     حتى الموت دخل كثمرة للخطية، ومع هذا فإن سمو الله وحنوه وعنايته الفائقة حولت هذا لصالح جنسنا. أي ثقل يحمله الموت، أخبرني؟ أليس هذا هو تحرر من المتاعب؟ أليس الموت تحرراً من الاهتمامات؟ أما تسمع أيوب يمدحه بالكلمات: الموت هو نجدة للإنسان، طريقة مخفية[177].

القديس يوحنا ذهبي الفم

v     “قد خفي عليه طريقه“، بمعنى سوف لا يعرف متى أو بأية وسيلة يكون رحيله من هنا. فإن الله يخفي عنه هذه المعرفة. بمعنى أنه لا يسمح له بالمعرفة، حتى ينتظر البشر الموت كل أيامهم. وبهذا يستعدون. يخفي الله هذا لأجل نفعنا العظيم، لكي يهبنا الفرصة أن نتمم ما أمر به تلاميذه: “اسهروا إذا لأنكم لا تعلمون في أية ساعة يأتي ربكم” (مت 42:24).

الأب هيسيخيوس الأورشليمي

v     أعزائي الإخوة الأحباء … يلزمنا أن نأخذ في اعتبارنا أننا نتأمل إلى ما شاء الله لنا أن نترك العالم، فإننا نعيش الآن كضيوفٍ وغرباءٍ.

ليتنا نحب اليوم المعين لنا، الذي فيه نتحرر من فخاخ العالم، ونعود إلى الفردوس والملكوت …

لأنه أي إنسان وُضع في بلدٍ غريبٍ أما يريد أن يسرع في العودة إلى بلده؟! ومن من الذين يسرعون في العودة (بحرًا) إلى أصدقائهم لا يرغبون في ريح موافقة حتى يلتقوا سريعًا بأولئك الذين هم أعزاء عليهم؟!

إننا نتطلع إلى الفردوس كبلدنا… والآباء (البطاركة) كآباء لنا، فلماذا لا نسرع بل ونجرى، لكي ننظر مدينتنا ونحيي آباءنا؟! فإن لنا أعزاء كثيرين جدًا ينتظروننا. لذلك أية سعادة تغمرنا وإياهم عندما نجتمع سويًا؟!

 أي سرور في الملكوت السماوي حيث لا نعود نرهب الموت؟! وأية سعادة لذيذة دائمة بحياة أبدية؟!

هناك توجد الشركة المجيدة مع الرسل، هناك يوجد جوقة الأنبياء المتهلّلين، هناك جموع الشهداء غير المحصيّين، المتوجين بالنصرة في صراعهم ضد الشهوات، هناك جموع البتوليّين الفائزون الذين قهروا شهوات الجسد بعفتهم… هناك الرحماء مكلّلين، هؤلاء الذين صنعوا البرّ بإطعامهم الفقير ومساعدتهم له، وقد حفظوا وصايا الرب، وحوّلوا ممتلكاتهم الأرضية إلى كنوز سمائية.

إذن لنسرع إلى هؤلاء الإخوة الأحباء بشوقٍ عظيمٍ. ليتنا نود الوجود معهم ونسرع بالمجيء إلى المسيح.

لينظر الله إلى شوقنا العظيم، وليتطلع المسيح الرب إلى هدف ذهننا وإيماننا، هذا الذي يقدم الجزاء العظيم الذي لمجده للذين لهم رغبة عظيمة في تكريمه[178].

الشهيد كبريانوس

لأَنَّهُ مِثْلَ خُبْزِي يَأْتِي أَنِينِي،

وَمِثْلَ الْمِيَاهِ تَنْسَكِبُ زَفْرَتِي [24]

صار أنين أيوب الخبز اليومي الضروري، لا يعيش بدونه. أحزانه تتكرر بانتظام وكأنها وجبات طعام يقتاتٍ بها. صارت تنهداته أشبه بنهرٍ ممتلئٍ يفيض بالأحزان بلا توقف.

v     إن كانت كل الخليقة ستنحل وهيئة هذا العالم تتغير، فلماذا نتعجب ونحن جزء من الخليقة أن نشعر بألمٍ عامٍ شديدٍ ونُسلم لأحزان يسمح لنا بها إلهنا حسب قياس قوتنا، ولا يسمح لنا أن نُجرب فوق ما نستطيع، بل مع التجربة يعطينا المنفذ لنستطيع أن نحتملها؟[179]

v     يأمر الرب: “لكل شيء مقاييس وأوزان” (حكمة 11: 20)، ويجلب علينا تجارب لا تزيد عن قوتنا في الاحتمال، إنما يجرب كل الذين يحاربون في طريق الدين الحقيقي بالحزن، ولا يسمح لهم بالتجربة فوق ما يقدرون أن يحتملوا. يعطي دموعًا للشرب بمقياس عظيم (مز 80: 5) لكل الذين ينبغي أن يظهروا أنهم وسط أحزانهم يحفظون شكرهم له[180].

v     إني مقتنع أنه إن وُجد صوت يحرك الله الصالح فإنه لن يجعل رحمته بعيدة، بل يعطي مع التجربة المنفذ لتستطيعوا أن تحتملوها[181].

القديس باسيليوس الكبير

لأَنِّي ارْتِعَابًا ارْتَعَبْتُ فَأَتَانِي،

وَالَّذِي فَزِعْتُ مِنْهُ جَاءَ عَلَيَّ [25].

يبدو أنه كان في أيام رخائه يخشى أن تحل به الكوارث، لذا يقول: “ارتعابًا ارتعبت فأتاني، والذي فزعت منه جاء علّي” [25].

v     مادمت أنا هنا، مادمت في هذا العالم، مادمت أحمل جسدًا مائتًا، مادمت أتنهد بين علل العصيان، مادمت وأنا واقف أكون “في خوف لئلا أسقط”، مادام صلاحي وشروري مهددة بعدم الاستقرار، فإن حياة الإنسان كلها معًا باطلة[182].

 القديس أغسطينوس

v     لو حُصر رجاء المسيحيين في حدود هذه الحياة لكان نصيبنا مرًا بحقٍ، إذ يحصر في الجسد قبل الأوان (أوان الأبدية)، أما إن كانت لهم محبة الله وتعتزل نفوسهم قيود الجسد، فإنهم يحسبون ذلك بداية الحياة الحقيقية، فلماذا تحزن كمن لا رجاء لهم؟ إذن فلتسترح ولا تسقط تحت متاعبك، وإنما لتظهر نفسك أسمى من المتاعب ومترفع فوقها[183].

v     أيها الأحباء، هل التجربة صعبة؟ دعونا نحتمل المصاعب، لأنه ليس أحد يتجنب الرماح وتراب المعركة يفوز بالإكليل. هل العدو يخدعكم، وحربه بلا فائدة؟…

v     هذه التجارب متعبة، لأنها تخدم الرب. إنها ضعيفة، لأن الرب قد مزج شرهم بالضعف. لكن دعونا نحذر من صراخنا بصوت عالٍ بسبب ألم قليل. إننا بهذا نكون مدانين. إذ تحرمون أنفسكم من المكافأة الأبدية التي تُعطى للأبرار.

أنتم أبناء الذين اعترفوا بالمسيح. أنتم أبناء الشهداء. لقد قاوموا حتى الدم ضد الخطية. لذلك اجعلوا أمثلة من هؤلاء قريبة وعزيزة لديكم لتصبحوا شجعان لأجل مسيحيتكم.

ليس فينا من يُقطع جسده من الجلد… لم يعانِ أحد منا من مصادرة مسكنه… لم نُسق إلي المنفى، لم نسجن… إذن ما حجم المعاناة التي تكبدناها… حقيقة ربما نعتبر مصدر ألمنا هو أننا لم نعانِ شيئًا. وأننا غير مستحقين لآلام المسيح[184].

القديس باسيليوس الكبير

لَمْ أَطْمَئِنَّ وَلَمْ أَسْكُنْ وَلَمْ أَسْتَرِحْ،

وَقَدْ جَاءَ الْغَضَبُ [26].

يرجع بذاكراته إلى ما قبل التجربة ليرى أنه لم يكن مطمئنًا، إذ كان يخشى أن تحل به كارثة، لكن هذا لم يدفعه إلى الاستكانة ولا إلى الخمول، بل كان يعمل ساهرًا في جدية.

v     الإنسان غير الحذر الذي يتمتع بالرخاء، ويسود على أعدائه، ويُمتدح ويُعجب منهم، يحتاج إلى من يشفق عليه أكثر من أي إنسان آخر. في الحقيقة إذ لا يتوقع أي تغير لا يقدر أن يواجه حتى مشكلات الرخاء بلياقة. فعندما تحل به أوقات صعبة يرتبك ويحبط بسبب عدم حذره ولأنه غير عملي. أما أيوب فعلي العكس لم يكن هكذا، بل حتى في رخائه كان يتوقع كل يوم الأوقات الصعبة… يقول آخر: “في وقت الشبع أذكر وقت الجوع، وفي أيام الغنى أذكر الفقر والعوز”. (سيراخ 18: 25)[185].

القديس يوحنا الذهبي الفم

v     ما حزن عليه أيوب ليس الأمور التي تخيلها أصحابه، إنما كانت نفسه في رعبٍ آخر، من عدم معرفة إن كان العدو يسلبه غناه الداخلي، إن كان قد استطاع أن ينهب منه الأمور الصالحة، التجريد الذي يُحسب كارثة عظمى. من أجل هذا اشهد أيوب علانية: “لم اطمئن ولم أسكن، ولم أسترح، وقد جاء الزجر عليٌ” [26]. إنه لم يعرف السلام، إذ كان مضطربًا بسبب أولاده. “لم يكن في هدوءٍ (سكونٍ)” إذ قدم كل يومٍ ذبائح عنهم (أي 5:1). لقد حل الزجر (السخط) عليه، إذ فقد أبناءه في وقت واحد وثروته وصحته الجسدية. فإنه حتى عندما يكون البار بارًا جدًا، إن كان يُسر الله في كل الأمور، يستحيل عليه أن يعيش دون أن يتعرف على التجارب في هذا العالم (يع 2:1). لا يقدر أن يوجد دون أن يعرف حزن هذا العالم، وذلك كما قال الرب لرسله (يو 6:16-22). يقول بولس نفسه: “جميع الذين يريدون أن يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يضطهدون” (2 تي 12:3).. وقال المسيح من جانبه: “ثقوا، أنا قد غلبت العالم” (يو 33:16). مرة أخرى قال: “من يصبر إلى المنتهى يحيا” (راجع مت 22:10، 23:24)، بقوة الآب والابن والروح القدس.

 الأب هيسيخيوس الأورشليمي

لم تعد شهوة الموت صادرة عن الهروب من الضيق والتجارب. فالمسيحي الحقيقي كعضوٍ حيّ مرتبط بالرأس يسوع المسيح، يقبل سمات المسيح المصلوب الذي قبل الموت بإرادته، فيعشق الألم ويبحث عنه ويشتهيه حتى الموت، لا لأجل الألم في ذاته، ولا هروبًا من العالم، بل لأنه علامة شركة الحب الحقيقي والوحدة بين العريس المتألم المصلوب وعروسه. هكذا انطلق الصليب بالألم كما بالموت بالنسبة للمؤمن الحقيقي من كونه علامة الخطية ودلالة حجب الإنسان وحرمانه من الله مصدر السعادة ليصير علامة حب وشركة. فيقول الرسول بولس: “حاملين في الجسد كل حين إماتة الرب يسوع” (2 كو 10:4). ويؤكد أنها آلام المسيح: “لأنه كما تكثر آلام المسيح فينا، كذلك بالمسيح تكثر تعزيتنا أيضًا” (2 كو 5:1).

v     إذ بسط يديه على الصليب طرح رئيس سلطان الهواء الذي يعمل في أبناء المعصية (أف 2:2)، مهيئًا لنا طريق السماوات.

v     حين رُفع جسده إلى العُلا ظهرت الأمور التي في السماء[186].

v     بعد قيامة مخلصنا الجسدية، لم يعد يوجد سبب للخوف من الموت. الذين يؤمنون بالمسيح يطأون على الموت كأنه لا شيء، مفضلين أن يموتوا بالحري عن أن ينكروا الإيمان بالمسيح. فإنهم مقتنعون أن الموت لا يعني دمارًا بل حياة، خلال القيامة يصيرون غير قابلين للدمار…

الدليل الواضح على هذا هو أنه قبل الإيمان بالمسيح كان الناس يتطلعون إلى الموت كموضوعٍ مرعبٍ، كشيءٍ يجعلهم جبناء. وما أن قبلوا الإيمان وتعليم المسيح، حتى صاروا على العكس يحسبون الموت أمرًا صغيرًا يدوسون عليه، ويجعلهم شهودًا للقيامة التي حققها المخلص ضد الموت[187].

البابا أثناسيوس الرسولي

v     بعد أن جاء المسيح ومات لأجل حياة العالم لم يعد ُيدعى الموت موتًا بل نومًا ونياحًا[188].

v     أما تعرف كيف أصلح الصليب أخطاء كثيرة؟ ألم يحطم الموت، ويمسحُ الخطية، وينهى قوة الشيطان، وُيشبع كيان جسدنا الصالح؟ ألم يصلح العالم كله، ومع هذا لا تثق أنت فيه؟[189]

v     من يخبر عن أعمال الرب القديرة؟ (مز 2:105) من الموت صرنا خالدين، هل فهمتم النصرة والطريق التي بلغتها؟ تعلموا كيف اُقتنيت هذه الغلبة بدون تعب وعرق. لم تتلطخ أسلحتنا بالدماء ولا وقفنا في خط المعركة، ولا جُرحنا، ولا رأينا المعركة لكننا اقتنينا المعركة. الجهاد هو مسيحنا، وإكليل النصرة هو لنا.

ما دامت النصرة هي لنا، إذن يليق بنا كجنودٍ أن نرتل اليوم بأصوات مفرحة بتسابيح الغلبة. لنسبح سيدنا قائلين: “قد أُبتلع الموت إلى غلبة. أين غلبتك يا موت أين شوكتك يا هاوية؟” (1 كو 54:15-55)[190].

القديس يوحنا الذهبي الفم

 

من وحي أيوب 3

لأمت، فأحيا معك!

v     أرى في كل مولودٍ حديثٍ صورة حية لميلادي،

يُولد ليصرخ مع دخوله العالم،

وكأنه قد خرج إلى وادي الدموع!

مَنُ من البشرية لا يحمل نيرًا؟

أيوب البار سبّ يوم ميلاده،

وإرميا صرخ: “ويل لي يا أمي لأنكِ ولدتِني”.

والمرتل يئن قائلاً: “إلى أي باطل خلقت بني البشر؟”

إن كانت هذه صرخات رجال الله الأتقياء،

فماذا أقول؟ وبماذا أتكلم؟

v     طٌردنا من الفردوس المبهج،

وصرنا كمن في ظلمة ليلٍ لا تزول.

انقطع رجاؤنا في أن يشرق علينا نور النهار.

صارت أيامنا مملوءة بالأنين.

كثيرًا ما نصرخ مع البار أيوب:

لماذا لم نمت، ونحن بعد في الرحم؟

لماذا لم نسلم الروح حالما وٌلدنا؟

v     شكرًا لكِ يا شمس البرّ العجيب!

أشرقت على الجالسين في الظلمة.

بل ونزلت إلى أرضنا وشاركتنا آلامنا.

الآن فيما أنت هو مُجرب تعين المجربين!

لأحمل الصليب مادمت قد حملته!

لأقبل العار، وأٌطرد خارج المحلة،

فأجدك هناك مصلوبًا بين لصين،

محصيًا بين الأثمة،

وأنت القدوس وحدك!

تلذ لي الآلام مادمت أنت معي،

ويتحول لي القبر سماءً، مادمت سكنته!

v     لأمت، فأحيا معك.

الآن فيك تستريح نفسي!

أنت سعادتي وبهجة قلبي.

أنت فرحي وسلامي وكنزي!

أنت هو الكل لي.

فاصل

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى