تفسير سفر أيوب ٣١ للقمص أنطونيوس فكري
تفسير سفر أيوب – الإصحاح الحادي والثلاثون
فيه يشهد أيوب لنفسه بالبر ويدافع عن نفسه من كل الجرائم التي نسبها له أصحابه ظلماً (مثال للإتهامات 6:22) وفي تبريره لنفسه كان يطلب أن يعاقبه الله بعقوبة مريرة لو كان قد فعل أي خطية من التي ينكر أنه فعلها. بل هو دافع عن نفسه بأن حتي لم يفعل خطايا سرية، أي خطايا لم يشهد أحد عليه أنه فعلها وبالتالي لا يستطيع أحد أن يحاسبه، ويذكر السبب أنه كان يخشي الخطية وهو أنه يخشي الله.
الأيات 1-12:
عهداً قطعته لعينى فكيف أتطلع فى عذراء. وما هى قسمة الله من فوق ونصيب القدير من الأعالى. أليس البوار لعامل الشر والنكر لفاعلى الإثم. أليس هو ينظر طرقى ويحصى جميع خطواتى. إن كنت قد سلكت مع الكذب أو أسرعت رجلى إلى الغش. ليَزِنِى فى ميزان الحق فيعرف الله كمالى. إن حادت خطواتى عن الطريق وذهب قلبى وراء عينى أو لصق عيب بكفى. أزرع وغيرى يأكل وفروعى تستأصل. إن غوى قلبى على إمرأة أو كمنت على باب قريبى. فلتطحن إمرأتى لآخر ولينحنى عليها آخرون. لأن هذه رذيلة وهى إثم يعرض للقضاة. لأنها نار تأكل حتى إلى الهلاك وتستأصل كل محصولى.
في الآية (1) “عهدا قطعت لعيني فكيف اتطلع في عذراء”. شهوة الجسد ومحبة العالم هما صخرتان يسقط عليهما الكثيرين وهنا يدافع أيوب عن نفسه أنه لم يسقط منهما. وفي هذه الآية يدافع عن نفسه في أنه لم يشته إمرأة قريبه، ولا أي إمرأة، بل كان أميناً لزوجته. وهو حافظ علي نفسه من أول خطوات الخطية وهي النظرة، فمن يريد أن يحفظ قلبه طاهراً فليحفظ عينيه أولاً فهي الطريق والمدخل إلي القلب. ونلاحظ أن أيوب كان يتكلم هنا بروح العهد الجديد وتعاليم السيد المسيح “ من نظر إلي إمرأة ليشتهيها فقد زني بها في قلبه”. وأيوب أمسك عينيه عن أن تنظرا لتشتهيا حتي لا يضرم شهوات قلبه وفي (2) “و ما هي قسمة الله من فوق ونصيب القدير من الاعالي”. يقول لماذا فضل أن يعيش طاهراً، ومنع نفسه من التطلع في عذراء، لأنه عرف أن كل خطية تغضب الله تمنع عنه بركات السماء. وما هي قسمه الله من فوق= أي ماذا يتوقع الخاطئ من بركات السماء، الخاطئ لا ينتظر بركات سواء أرضية أو سماوية بعد الموت.
وفي (3) “اليس البوار لعامل الشر والنكر لفاعلي الاثم”. هنا إجابة السؤال ما هي قسمة الله من فوق (آية 2) والأجابة البوار عوضاً عن البركة. وقد يستهتر الخاطئ بنتائج الخطية ولكن نصيب سدوم وعمورة تشهد بأن الخطية نتائجها مرعبة. وفي (4) “اليس هو ينظر طرقي ويحصي جميع خطواتي“. هو يشعر بأن الله عينه عليه دائماً ولا يخفي عليه شئ، وهكذا كان يوسف (تك 9:39). هنا أيوب يعلن إيمانه بالله الذي لا يخفي عليه شئ، أي أن معرفته غير محدودة. وهو يحصي جميع خطواتي= أي أن الله يزن كل عمل من أعمالي، ويحاسبني علي ما هو صالح أو ما هو الشرير.
وفيي (5) “ان كنت قد سلكت مع الكذب او اسرعت رجلي الى الغش”. يبرئ أيوب نفسه من أنه حصل علي أي ثروة بالغش أو الكذب. فهو يؤمن أن كل ما حصل عليه بالغش لابد وسيضيع. وفي (6)”ليزني في ميزان الحق فيعرف الله كمالي“. من ثقته في أمانته يود لو وزن الله كل خطواته ليعلن بره ويكون له هذا كرامة. هنا هو يستشهد الله علي صدق قوله وهذا يعني ضمناً أن الله قد ظلمه إذ أتي عليه بهذه الألام. وفي (7) “ان حادت خطواتي عن الطريق وذهب قلبي وراء عيني او لصق عيب بكفي”. يقول أنه لم يحد عن طريق الأمانة بل ربط نفسه بطريق البر، وقلبه لم يسير وراء شهوة عينيه، ولم يشتهي ما لغيره. ولم يلطخ يديه بأي شئ خاطئ، أي لم يحصل علي شئ بعدم أمانة، ولم يحتفظ بشئ ليس له، ولم يلطخ يديه بأجرة عبيده الذين لم يظلمهم، وكان يدفع أجرتهم ولم يحجزها عنهم. ولاحظ قولهذهب قلبي وراء عيني= أخلاقيات أيوب علي مستوي العهد الجديد. فهو لا يحسب الخطايا التي ينفذها فقط أنها خطايا، بل يحسب علي نفسه ما فكر فيه في قلبه أيضاً. وفي (8) “ازرع وغيري ياكل وفروعي تستاصل“. يقول أنه لو كان قد فعل أي خطية فليعاقبه الله بأن يخسر كل شئ.
وفي (9) “ان غوي قلبي على امراة او كمنت على باب قريبي”. إن غوي قلبي إمرأة= نري أن كل الخطايا منبعها قلب مخدوع. ولم يكمن علي باب قريبه= أي لم يدبر للزنا مع زوجته. فلتطحن إمرأتي لآخر= أي تصير عبدة لسيد أخر، والعبدة أو الجارية هي سرية لسيدها، له الحق أن يضطجع معها ولينحن عليها أخرون= أي إذا كنت فعلت هذا مع إمراة قريبي فليفعل هذا مع إمرأتي. وفي(11) “لان هذه رذيلة وهي اثم يعرض للقضاة”. في نظر أيوب أن الزنا جريمة حقيرة فهي تغيظ الله وتأتي علي الإنسان بالخراب (روحياً وجسدياً). ولنري الخراب الذي أتي علي بيت داود بسبب الزنا مع بثشبع. وهذه الجريمة تميت الضمير وتحرم الإنسان جميع الأفراح الطبيعية وتبعده عن الله. وفي (12)“لأنها نار تاكل حتى الى الهلاك وتستاصل كل محصولي”. نراه يصور الزنا علي أنه نار تأكل حتي الخراب النهائى. والشهوة نار للروح تحرق من تسيطر عليهم وتتحكم فيهم، وتذهب كل تعزياتهم تماماً، بل هي تشعل نار غضب الله الذي يؤدي لخراب النفس الأبدي. فالشهوات المشتعلة تأتي بالأحكام النارية ضد الإنسان (سدوم وعمورة).
الأيات 13-23:
إن كنت رفضت حق عبدى وأمتى فى دعواهما علىَ. فماذا كنت أصنع حين يقوم الله وإذا إفتقد فبماذا أجيب. أوَليس صانعى فى البطن صانعه وقد صورنا واحد فى الرحم. إن كنت منعت المساكين عن مرادهم أو أفنيت عينى الأرملة. أو أكلت لقمتى وحدى فما أكل منها اليتيم. بل منذ صباى كبر عندى كأب ومن بطن أمى هديتها. إن كنت رأيت هالكاً لعد اللبس أو فقيراً بلا كسوة. إن لم تباركنى حقواه وقد إستدفأ بجزة غنمى. إن كنت قد هززت يدى على اليتيم لما رأيت عونى فى الباب. فلتسقط عضدى من كتفى ولتنكسر ذراعى من قصبتها. لأن البوار من الله رعب علىَ ومن جلاله لم أستطع.
في (13) “ان كنت رفضت حق عبدي وامتي في دعواهما علي”. نجده ينصف عبيده ويعطيهم حقوقهم، حتي لو إشتكوا منه هو. فهو لم يعتبر عبيده مجرد شئ يقتنيه وفي (14) “فماذا كنت اصنع حين يقوم الله واذا افتقد فبماذا اجيبه”. نجد عدله مع عبيده راجع لخوفه من الله وفي (15)“اوليس صانعي في البطن صانعه وقد صورنا واحد في الرحم”. هنا نظرة مسيحية لنظام العبيد، فهو وعبيده لهم سيد واحد هو الله. إذاً هم جميعاً، هو وعبيده إخوة. أما العهد القديم فقد أباح العبودية، ومن قول أيوب هذا نفهم أن نظام العبودية ليس بحسب قصد الله حين خلق الإنسان، فها هو إنسان من العهد القديم وقبل الناموس ويتكلم كلاماً فيه الفكر الصحيح عن العبيد وعلاقتهم مع سادتهم وأنهم إخوة (غل 28:3). بل هو صنع له أصدقاء بمال الظلم وفي (16) “ان كنت منعت المساكين عن مرادهم او افنيت عيني الارملة”. يدافع عن نفسه فيما قاله أليفاز، فقد إتهمه أليفاز بأنه يظلم المساكين والأرامل، ويقول أنه كان يلبي لهم رغباتهم= لم يمنع مرادهم.
أو أفنيت عيني الأرملة= لم يكن ينتظر الأرملة أن تطلب منه، بل كان يفهم من نظرة عينيها إحتياجها ويلبيه، أو لم يكن يتركها تنتظر عبثاً. وفي (17) “او اكلت لقمتي وحدي فما اكل منها اليتيم”. كان يأكل مع اليتامي وفي (18) “بل منذ صباي كبر عندي كاب ومن بطن امي هديتها”. نجده يربي اليتامي كأب لهم. ومن بطن أمي هديتها= المقصود أنه تعلم أعمال الرحمة علي اليتامي والأرامل من بطن أمه، هو مولود بها، منسوجة في طبيعته.
وفي (20، 19) “ان كنت رايت هالكا لعدم اللبس او فقيرا بلا كسوة، ان لم تباركني حقواه وقد استدفا بجزة غنمي”. لم يترك عارياً إلا وكساه، وحينما إستدفأت حقواه باركه الفقير أي دعا له بالبركة. وفي (21) “ان كنت قد هززت يدي على اليتيم لما رايت عوني في الباب”. هززت يدي علي اليتيم= اي لم أظلم يتيم، أو رفعت يدي عليه لأؤذيه أيام مجدي= لما رأيت عوني في الباب= حينما كان القضاة يلتفون حولي والكل يتمني رضائي، لم أستغل معارفي في ظلم أحد. وفي (22)“فلتسقط عضدي من كتفي ولتنكسر ذراعي من قصبتها”. لو كان قد إضطهد أرملة أو يتيم لتصبه أمراض صعبة فلتسقط عضدي= يتعفن لحمي علي عظامي.
وتنكسر عظامي= وأيوب رأي أنه من العدل أن الذراع الذي إرتفع علي مسكين يكسر. وفي (23) “لان البوار من الله رعب علي ومن جلاله لم استطع“. هو لم يظلم أحد لخوفه من الله وعقوباته علي الظالم. فالظالم يتصور أنه لا يوجد من هو أعظم منه ليحاسبه، أما أيوب فيشعر أن عيني الله عليه كل اليوم
الأيات 24-25:
إن كنت قد جعلت الذهب عمدتى أو قلت للإبريز أنت متكلى. إن كنت قد فرحت إذ كثرت ثروتى ولأن يدى وجدت كثيراً.
في (24) “ان كنت قد جعلت الذهب عمدتي او قلت للابريز انت متكلي”. أيوب كان عنده أموال كثيرة، لكنه لم يكن يتكل عليها. وهذه الآية هي نفس تعليم السيد المسيح (مر 24:10). أما من يتكل علي أمواله فهو عابد وثن، ولا يمكن لأحد أن يعبد سيدين الله والمال. (راجع كو 5:3) وبنفس المفهوم في (25) “ان كنت قد فرحت اذ كثرت ثروتي ولان يدي وجدت كثيرا“. كان أيوب لا يفرح بزيادة أمواله.
وفي الأيات (26-28) “ان كنت قد نظرت الى النور حين ضاء او الى القمر يسير بالبهاء،وغوي قلبي سرا ولثم يدي فمي، فهذا ايضا اثم يعرض للقضاة لاني اكون قد جحدت الله من فوق “.
ينفي عن نفسه تهمة الوثنية. وأنه لم يمارس أي طقوس وثنية ولا إنحراف قلبه وراءها يوماً. وكانت عبادة الشمس والقمر منتشرة أيام أيوب والإغراءات كثيرة في أمثال هذه العبادات. أما أيوب فلم يكن ينظر للشمس ولا للقمر كألهة يبهر بها بل كمخلوقات الله. فهو ينظر لخالقهم ويسبحه علي أعماله العظيمة. [عبادة الأجرام السماوية هي أقدم عبادة، والأجرام السماوية يسمونها TSABA ومنها عبادة الأجرام السماوية SABAISM وكرد علي هذه العبادات أطلق اليهود علي الله رب الصباؤوت فهي خليقته وهو ربها وخالقها]
لثم يدي فمي= علامة وثنية كانت منتشرة لتوقير الشمس والقمر. [وربما نشأت من أن الوثنيين كانوا يقبلون العجول هو 2:13 + 1مل 18:19. ولأن الإنسان لن يصل للشمس والقمر فكان يقبل يده عوضاً عن تقبيل آلهته الشمس والقمر] وأيوب يري أن من يفعل ذلك يستحق حكم علني من القضاة (آية 28) “فهذا ايضا اثم يعرض للقضاة لأني اكون قد جحدت الله من فوق”. ليرتدع الجميع.
الأيات 29-40:
“ان كنت قد فرحت ببلية مبغضي او شمت حين اصابه سوء، بل لم ادع حنكي يخطئ في طلب نفسه بلعنة، ان كان اهل خيمتي لم يقولوا من ياتي باحد لم يشبع من طعامه، غريب لم يبت في الخارج فتحت للمسافر ابوابي، ان كنت قد كتمت كالناس ذنبي لاخفاء اثمي في حضني، اذ رهبت جمهورا غفيرا وروعتني اهانة العشائر فكففت ولم اخرج من الباب، من لي بمن يسمعني هوذا امضائي ليجبني القدير ومن لي بشكوى كتبها خصمي، فكنت احملها على كتفي كنت اعصبها تاجا لي، كنت اخبره بعدد خطواتي وادنو منه كشريف، ان كانت ارضي قد صرخت علي وتباكت اتلامها جميعا، ان كنت قد اكلت غلتها بلا فضة او اطفات انفس اصحابها، فعوض الحنطة لينبت شوك وبدل الشعير زوان تمت اقوال ايوب”.
أيوب لم يكن ينتقم من أعدائه، وكان لا يشمت فيهم إن أصابتهم بلية وهذا ما قيل في أم 17:24، 18 + 21:25. من يشمت بعدوه يلحقه بالخراب. اما في العهد الجديد فالمسيح طلب “أحبوا أعدائكم”. وكان فكر أيوب بذلك أرقي من فكر الفريسيين الذين نادوا بأن “حب قريبك وإكره عدوك مت 43:5. وفي (30) ” لم يطلب أي لعنة تصيب أحد أعدائه. وفي (31) نري مثلاً كيف يربح إنسان أصدقاء بمال الظلم. وفي (32) نجد أن إضافة الغرباء التي عملها إبراهيم ولوط وأوصي بها معلمنا بطرس في العهد الجديد، قام بها أيوب (1بط 9:4) وفي (33) يدفع عن نفسه تهمة الرياء، فهو لم يظهر غير ما يبطن. وهذا ما إتهمه به صوفر 12:20. وفي (34) يدفع عن نفسه تهمة الجبن، فهو لم يرهب أحداً مهما كانوا جمهوراً. وأنه لمن الجبن أن نخفي الحق، أو نكتم شهادة الحق حين يجب أن نعلنها، أو لا نعطي المظلوم حقه خوفاً من الجمهور. فأيوب كان يخاف الله ولا يخاف صياح الظالمين. وروعتني إهانة العشائر= هو لم يرهب إهاناتهم بل شهد للحق حتي وإن أزعجهم ذلك فأهانوه وفي (35) يرفع أيوب قضيته لله. فهو عرض كل قضيته وأثبت براءته. هوذا إمضائي كأنه يوضع علي طلب رفع الدعوي أمام الله، وينتظر إجابة منه= ليجبني القدير.
وفي (36) لو وجد شكوي كتبها خصم له، أي لو أدانه أحد بأي خطية أحملها علي كتفي أي أتحمل كل نتائجها وعقوباتها، أما لو ظهرت برائتي من هذه الشكوي= كنت أعصبها تاجاً لي= تاج يكلل كل أعمال بري. لقد بالغ أيوب في كماله وكان هذا رداً علي أصحابه الذين بالغوا في إدانته. وفي (37) من تأكده من براءته وكماله كان مستعداً أن يعطي لمقاوميه تقريراً عن كل خطوة من خطوات حياته. فهو لا يخجل من أي تصرف بل كان يدنو منه كشريف.
وفي الأيات (38-40) يقول أن أرضه لم تصرخ عليه، أي هو لم يظلم أحد ليغتصبها (حب 9:2-11). وصراخ الأرض هنا كأنها تطلب الإنتقام من الظالم، وكأن الأرض شاهدة ضد الظالم وتدينه بصراخها. ثم يصور الموضوع بصورة شعرية فيضيف= وتباكت أتلامها(خطوط حرثها بحسب الترجمة اليسوعية). أي أن الأرض كلها تبكي لو كان حدث ظلم لصاحبها. أطفأت أنفس أصحابها= قتل مالك الأرض ليغتصبها كما حدث مع نابوت. وأكلت غلتها بلا فضة= أي إشتري الأرض ولم يغتصبها وفي (40) الحكم الذي يصدره علي نفسه لو فعل أي من الأخطاء المذكورة.
تمت أقوال أيوب= أنهي أيوب دفاعه عن نفسه هنا. ولن يظهر أيوب ثانية في الحوار إلا حين يعترف أمام الله بأنه خاطئ.
تفسير أيوب 30 | تفسير سفر أيوب | تفسير العهد القديم |
تفسير أيوب 32 |
القمص أنطونيوس فكري | |||
تفاسير سفر أيوب | تفاسير العهد القديم |